الجمعة ٦ تشرين الثاني (نوفمبر) ٢٠٠٩
بقلم صلاح محمود عثمان

تخاريف صيف

لا أدري ما الذي دفعني إلى الربط بين كلمة الحَر (كمقابل للبرد) وكلمة الحُر (كمقابل للعبد)! هل ثمة علاقة لُغوية بين الكلمتين، سواء من حيث الأصل والإشتقاق أو من حيث المعنى والمدلول، يتجاوز حدود التشابه اللفظي؟ أم أن الأمر لا يعدو أن يكون مجرد تخاريف عقلٍ ألهبته حرارة الصيف فراح يُهذي بحثًا عن حريته الضائعة؟.

ربما كان الافتراض الثاني هو الأقرب، لكن فكرة الربط بين الكلمتين استهوتني، ودفعني شغفي بها إلى مواصلة التحليل مستعينًا بما توافر لدَّي من معاجم اللغة، وما أستطيع رصده من وقائع ذات دلالة؛ ففي المعجم الوجيز: (حَرَّ) الماء والهواء وغيرهما – حَرَارةَّ: سخُن، فهو حارٌ، و(حَرَّ) الرجل – حِرَّةً وحرارة: عَطِشَ، فهو حَرَّانُ، وهي حَرَّي. و(الحُر): الخالص من الشوائب، والخالص من الرِق، والكريم (جمعها أحرار)، وهي حُرَّةٌ (جمعها حَرائِر). وفي مختار الصحاح: (حَرَّ) العبد يَحَر حَرَارًا (بالفتح) أي عَتَق، و(حَرَّ) الرجل يَحَر حُرية (بالضم) من حرية الأصل، و(حَرَّ) الرجل يَحَر حَرَّةً (بالفتح) أي عَطِش. وفي لسان العرب: قال الكسائي: شيءٌ حارٌّ يارٌّ جارٌّ وهو حَرَّانُ يَرَّانُ جَرَّانُ. وقال اللحياني: حَرِرْت يا رجل تَحَرُّ حَرَّةً وحَرارَةً؛ قال ابن سيده: أُراه إِنما يعني الحَرَّ لا الحُرِّيَّةَ. وقال الكسائي: حَرِرْتَ تَحَرُّ من الحُرِّيَّةِ لا غير. وقال ابن الأَعرابي: حَرَّ يَحَرُّ حَرارًا إِذا عَتَقَ، وحَرَّ يَحَرُّ حُرِّيَّةً من حُرِّيَّة الأَصل، وحَرَّ الرجلُ يَحَرُّ حَرَّةً عَطِشَ.

ثمة رابطة خفية إذن بين الكلمتين تؤرجح مدلولهما ما بين فتح الحاء وضمها، بل وتتماهي أحيانًا رغم التشكيل فنجد أنفسنا أمام المعنيين في الوقت ذاته!.

ويمضي بنا التحليل إلى وقائع تدعم فكرة الربط ذاتها؛ ففي (الحَر) «نتحرر» جميعًا من بعضٍ مما أثقل أجسادنا من ثيابٍ كانت تقينا برد الشتاء القارس؛ و«نتحرر» أيضًا من وطأة أعمالنا ولو لأيامٍ معدودات نقضيها على الشواطئ وفي الهواء الطلق بحثًا عن نسمات تستعصي أحيانًا علينا؛ و«يتحرر» أبناؤنا من ثقل التحصيل الدراسي وروتين الحياة اليومية وملل النصائح والتوجيهات المتكررة. وفي (الحَر) «تتحرر» حشرات الأرض من مكامنها لتحطم بياتًا شتويًا طويلاً؛ و«تتحرر» المادة الجامدة من روابطها الجزيئية لتختبر حالاتها السائلة والغازية ... إلخ. بل إن معظم الحروب والثورات والانقلابات العسكرية – ذات الصلة الوثيقة بمفهوم الحرية – كانت في أشهر الصيف الحارة (يونيو – يوليو – أغسطس)!.

لكن مهلاً، إذا كان ثمة ترابط بين معنى الحَر ومعنى الحرية، فهل يستوي القياس من جهة المعاناة؟ بعبارة أخرى، إذا كنا نعاني من الحَر هذه المعاناة التي تفوق احتمالاتنا أحيانًا، فهل يمكن أن نعاني من الحرية؟ هل يمكن للحرية أن تحطم روابط النظام الحياتي بكافة أبعاده كما تحطم الحرارة روابط الجزيئات المادية لتعم الفوضى التي يدعوها علماء الثرموديناميكا بالإنتروبيا؟ وهل يمكن للحرية أن تكشف عوراتنا الفكرية والسلوكية كما يكشف الحَر عوراتنا الجسدية؟.

توجهت بالسؤال إلى زوجتي وأبنائي الذين سئموا الحَر مثلي، بل وسئموا أيضًا هذياني الصيفي، لكن في صيغة أخرى: ماذا لو استيقظت صباح يوم وقلت لكم: أنتم اليوم أحرار ... إفعلوا ما شئتم بلا قيود ... فلا رقيب، ولا حساب، ولا قانون، ولا أدوار مفروضة لكلٍ منا في المنزل؟. وبعد إجابات ساخرة ومتنوعة، وبعد أفكار صاحبتها ضحكات متعالية، أيقنا جميعًا أنها ستكون الفوضي بعينها!. ولم نلبث أن ارتقينا بالسؤال درجة أعلى: ماذا لو طالعتنا الصحف ووسائل الإعلام المرئية والمسموعة ذات يومٍ ببيانٍ للحاكم يخاطب به جموع الشعب قائلاً: أنتم اليوم أحرار ... إفعلوا اليوم ما شئتم بلا قيود ... فلا رقيب، ولا شرطة، ولا محاكم ... لا حكومة، ولا سجون، ولا التزامات؟. حينئذ وجدنا أن النتيجة ستكون أفظع وأشد تدميرًا، لكن قادنا النقاش إلى تساؤلاتٍ أخرى: ألا يمكن بعد فترة زمنية – طالت أو قصرت – أن تتحول الفوضى إلى نظام (الفوضى الخلاَّقة كما تسميها الإدارة الأمريكة)؟ ألا يمكن للنفس الأمارة بالسوء داخل كل منا أن تتحول بعد إحساسها بالحرية وتفريغ الكبت الجاثم فوق صدورنا إلى نفسٍ لوَّامة، ثم إلى نفس مطمئنة؟.

يخبرنا علماء الثرموديناميكا أنك إن وضعت قدحًا من الشاي المغلي في غرفة مغلقة، فسوف تتوزع حرارة القدح بعد فترة على الغرفة بالقسطاس، ورغم عدالة التوزيع، فإنك لن تتمكن بحالٍ من الأحوال من جمع الحرارة مرة أخرى وردها إلى قدح الشاي، فيما يُعرف بحالة الاتزان أو الموت الحراري التي يمكن أن تنطبق على الكون بالإجمال، وحينئذ لن تكون هناك حياة، لأنه لن تكون هناك ببساطة أية مصادر للطاقة!.

هل تحررُنا إذن مجرد وهم؟ أم أن ثمة وسيلة أخري للحرية؟. أعلم أنني سأسمع من يستهجن مفهوم الحرية بمعنى اللانظام، أو بالمعنى المطلق المناقض لمقولة أن حريتي تنتهي حينما تبدأ حرية الآخرين، لكن هل تنجح أية وسيلة للحرية المنظمة في ظل هذا الفساد المستشري كالسرطان في مجتماعتنا، أم نحن في حاجة مؤقتة إلى الفوضى؟. هل نُبقي الوضع على ما هو عليه لمجرد رغبتنا في الحياة حتى ولو كانت منقوصة؟ أم أن الحياة هي الحرية حتى ولو كانت تكافئ الموت؟

هل ثمة إجابة؟

قال حكيم: لو كانت للذنوب رائحة لما احتمل أحدنا أن يقترب من الآخر، وأقول: لو كانت للأفكار في عالمنا العربي رائحة لتزكمت أنوفنا نتيجة فساد الكثير من هذه الأفكار؛ إنها أنفلونزا الأفكار التي قد تكون أشد خطرًا وأثقل وطأة من أنفلونزا الخنازير أو الطيور!.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى