تداعيات مابعد الحداثة في التكوين الروائي
مع ظهور مصطلح ما بعد الحداثة، والحديث عن موت التاريخ أخذت الرواية تطرح أسئلتها المصيرية حول وجودها باعتبارها إحدى منجزات هذا التاريخ كما يدعي معتبروه، محاولة ومن خلال معتبري الجهة المقابلة ألا تموت بموته...محاولات كثيرة ومتباينة، بعضها يتأزم بأزمة الحداثة وبعضها يتـأزم بأزمة التاريخ وبعضها يتصور الموت ماثلاً لا راد له سوى الكتابة أو الانتحار بالكتابة وحدها.
هذا المنحى القلق بين اعتبار الحداثة وموتها، أو ما سينتج عن ذلك، أخذ في الرواية التونسية لدى حسن بن عثمان، مصطفى الكيلاني وربما لدى غيرهما ممن لم أقرأ، تجليات متميزة ومتمايزة في استشراف المستقبل المظلم طالما أن الحاضر لم يزل بلا أفق أو بالأحرى بلا مشاريع تفضي إلى أفق واضح يأخذ بأسباب الحضارة الحديثة سوى تلمس تصورات جديدة للكتابة الروائية، ربما تساعد على خلخلة البنى القديمة ولو برؤى شكلانية تتبناها الرواية أو تبدعها على أمل أن يبقى لها اعتبارها التواصلي أمام هذا السيل من البث الإعلامي بكافة أشكاله المرئية والسردية.بعد ذلك لا غرابة أن تعمل رواية "المشرط" للكاتب التونسي كمال الرياحي المعروف بنشاطه الدؤوب في مجالات السرد النثري نقداً وحواراً وقصاً، على تبني أطرف التصورات الممكنة لإبداعات ما بعد الحداثة ولا سيما ما يتعلق منها بكسر الايهام الايدولوجي أو الاعتماد على حقائق آنية، محلية، وعابرة لانشاء رؤية تفكيكية غالباً لا تفضي إلى قول آخر سوى كينونتها الابداعية بغض النظر عن قيمتها التداولية..
في هذا الصدد يمكن التنويه بالمادة التكوينية لرواية المشرط المؤلفة من مذكرات شخصية، نصوص قديمة، نصوص صحف وجرائد، لتحضر في الرواية بذاتها دون تدخل الراوي أو لأقل إن هذا ما يحاول الروائي أن يفتعله ولكن ليس بغفلة عن القارئ...ما لايغفله القارئ المطلع أيضاً أن مفتاح الولوج إلى رواية كمال الرياحي هو كتاب المقدمة لابن خلدون المفكر الأول في التاريخ الانساني الذي عالج باستبصار علمي – قد يختلف عليه – أسباب تطور الأمم، أسباب نشوئها وقوتها وانحدارها، لولا أن الرياحي لا يمسك هذا المفتاح ولا يلج ما ولجه ابن خلون بل يكتفي بطباق بلاغي ليبحث على طريقته الروائية في هذا الحال المنحدر الذي حال ويحول بين ناطقي العربية وتمثل ما جاء في مقدمة مواطنه ابن خلدون.
هذا الحامل المعرفي على اختزاله وانخذاله يتبدى كافياً لعقلنة الرواية أو سردها، على الأقل للملمة مقاطعها وشذراتها، وبالتالي حكاياتها المتناثرة التي تتطابق جميعاً في معنى التخلف وتداعياته، مستفيدا من أشكال روائية شهيرة احتفى بعضها، كرواية "امتداح الخالة" للروائي اللاتيني يوسا، بمؤخرة المرأة وزاوج بين السرد الروائي والفن التشكيلي كما يزاوج كمال في روايته هذه وإن لأهداف مناقضة.يسوغ هذا الطباق بين المقدمة والمؤخرة عدة أشياء في وقت واحد، فيرفع الحدث البسيط من مجرد مطاردة متمرد ما، يشهر مشرطه، مشرط طبيب، ليجرح مؤخرات النساء، إلى حدث أشمل يسائل تمثال ابن خلدون عن تحول الفكر العلمي وقراءته للتاريخ إلى مجموعة من الأكاذيب والخرافات لتحضر هلوسات التراث وشعوذاته بنصوصها المتباينة إلى جانب أخبار الصحافة ووسائل الإعلام بتحليلاتها التافهة لتتبادل ومذكرات الراوي السرد المتقطع ولكن المتجانس في الحديث عن المؤخرة بما هي خديجة كاسم يطلقه التونسيون على الاست لسبب ما، وبما هي دلالة على الحال الاجتماعية والثقافية المتردية لتأخذ تلك العقلنة الفنية مهمتها باتجاه آخر يعكس في مراياها المتعددة قاع المجتمع وسطحه بما هو نتاج للعلاقات المتحكمة والايديولوجية السائدة ساخراً من شكلانية الفكر وتسطحه إذا لم أقل اضمحلاله وتشوهه في عقل مريض غير قادر على التمييز جيداً بين الاشياء ودلالاتها فلا يجد في الحداثة سوى مؤخرات النساء ولا يجد في السياسة غير الطغاة ولا يجد في الحضارة سوى الصور والتماثيل.
أما كمال الرياحي والذي بدا متعاطفاً مع مؤخرة المرأة ومقدمتها بتعاطفه مع عاهرات روايته كان محقاً في التغطية على المجرم العادي الذي تطارده الشرطة ورجال الصحافة والاعلام، بعدم ايلاء الكشف عن هويته أهمية تذكر، لماذا؟
ربما لأن ما يرتكبه كمال بمشرطه الابداعي نفسه يبدو أعمق جرحاً وفظاعة طالما أنه يكشف عن مؤخرات هذا الزمان المترهل والمستبد ولا سيما المؤخرات الذكورية منها.
*- عن القدس العربي 1 جوان 2006