تسامح على جثث العرب والمسلمين
أغرب ما يواجهنا الآن هو تلك الدعوات التي لا تنفك تحدثنا ليل نهار عن التسامح وقيمته وأهميته. ففي سياق قتل الفلسطينيين وتشريدهم ومنعهم من حق الدفن على حد تعبير أحد الحقوقيين الفلسطينيين مازال البعض يروج لمسألة التسامح المبتذلة، مستدعيا أن العرب قتلة، وأن المسلمين إرهابيون، وأننا لا نمارس في حياتنا إلا العنف والتدمير والرغبة في سحق الآخرين. وإذا كان المرء يفهم دعاوى الأقلام الغربية من وراء ترويج هذه الجوانب الحقيرة عن العرب والمسلمين، فإن اللافت للنظر والمثير للريبة والشك في الوقت نفسه هو تلك الأقلام العربية التي تروج لتلك المقولات وتدعونا ليل نهار لممارسة التسامح والالتقاء مع الآخر المختلف دينيا وحضاريا. ولا يدري المرء ما يمكن أن يحدث للفلسطينيين أكثر مما يحدث الآن حتى يتجرأ هؤلاء الداعين إلى التسامح لكي يتهموا إسرائيل وأمريكا بالإرهاب والقتل والنازية. على الأقل كنا نتمنى منهم أن يضعوا العرب والمسلمين وإسرائيل وأمريكا في سلة واحدة حتى لا نشعر بالغبن والظلم وحتى تنتفي عنهم تهمة التواطؤ والجبن وربما الخيانة.
وعلى ما يبدو أن الداعين لمسألة التسامح هذه لا يشعرون بما يحدث حولهم ولا يثيرهم ما يحدث للفلسطينيين، ولديهم أجندات مختلفة عما يستشعره جموع المواطنين في عالمنا العربي. واللافت للنظر هنا أن البعض من الأقلام المنتمية بشكل خاص إلى الأقليات في عالمنا العربي مازال يمارس صفاقته ولا يحيد قيد أنملة عن مشاريعه المغتربة وعن أهدافه المتمثلة في النيل من العرب والمسلمين في كل وقت وأوان. بل إن البعض لا يتورع عن الترحيب بالأساطيل الأمريكية القادمة إلى المنطقة ويبارك ضربها لسوريا وعقابها، ولا يتورع عن دق الأسافين في سبيل إفشال القمة العربية نكاية في سوريا وفي العرب. وهذا البعض، رغم قلته العددية، يبرز كما لو كان هو سيد الموقف وصاحب القدرة على طرح الرؤى والأفكار في عالمنا العربي. فأقلامهم المسمومة تملأ كافة المواقع عبر الإنترنت، كما أن الكثير من الصحف تفرد لهم المساحة تلو المساحة في ظل الموجة الغريبة التي تمارسها الحكومات العربية بخصوص التسامح والالتقاء بالآخر الغربي، سواء جاء ذلك عن قناعة أو قبولا للضغوط الغربية، الأمريكية منها على وجه الخصوص.
إن الدعوة للتسامح يجب أن تكون مشروطة بالقوة، فلا يوجد تسامح ضعيف وخانع ومتدني. علينا أن نستبدل الكلمة في هذه الحالة إلى الخنوع والخضوع. فهذا النوع من التسامح الذي يدعو إليه المرتبطون بالأجندة الأمريكية تحقيقا لمصالحهم الضيقة وخياناتهم المتواصلة لن يفضي سوى إلى المزيد من الخنوع والاجتراء على العرب والمسلمين. صحيح أن أوضاع العرب لا تسر أحد، سوى هذه الأقلام بالطبع، إلا أن هذا لا يعني الاستسلام الكامل لكل ما يحدث حولنا من مؤامرات ودسائس ورغبات عارمة يخطط من أجلها البعض للمزيد من إضعاف المنطقة وإدخالها في معترك الهيمنة والتقسيمات الأمريكية. كما أن تلك الدعوات لا محل لها من الإعراب الآن في ظل حالة القتل الباردة التي يتعرض لها الفلسطينيون. فلم نسمع من أي من هذه الأقلام أي شجب أو إدانة لعمليات القتل الأخيرة في غزة اللهم إلا إذا اعتبرت هذه الأقلام أن الفلسطينيين الذين قتلوا لا ينتمون للجنس البشري أو الإنسانية من قريب أو بعيد. ففي ظل عمليات القتل هذه يكتب البعض عن الحور العين في الإسلام ويكتب البعض الآخر عن ملابس المحجبات ورائحتهن، وكأن مصائب العالم كلها قد وقفت عند مثل هذا التناول السفيه والصفيق للعرب والمسلمين. إن الاقتصار على حالة الكراهية للآخر العربي والمسلم تغلق بصائر هذه النوعية من الأقلام، وتمنحهم رؤى مسبقة محددة تتمثل في النيل منه في أية فرصة وعبر أية مساحة من الكتابة. وهى حالة أقرب للمرض النفسي تستدعي المزيد من التحليل والتعمق في أبعادها المختلفة عبر الوقوف عند المزيد من القراءة المحللة لهذا الخطاب الكاره.
ولا تخلو الدعوات إلى التسامح والحديث عن الكثير من السلبيات في العالم العربي من نوازع خبيثة من قبل هذه الأقلام. وعلينا أن نأخذ ما يحدث في لبنان الآن من خلافات كمثال على النوايا الخبيثة التي يروج لها البعض بشكل علني أو خفي. ففي ظل الدعوات المحمومة التي يحاول أن يفرض من خلالها المعتدلون العرب الجدد أجندة السياسة الأمريكية على لبنان يبرز البعض ليتحدث عن لبنان بوصفها معقل الحضارة العربية والتنوير، وأن لبنان هي النموذج الأمثل للتعايش الثقافي والإنساني في العالم العربي. واللافت للنظر هنا أن أي انفجار يحدث في لبنان، مع إدانتنا له، يرتبط بتلك الحالة الإعلامية الضخمة من الإعلام العالمي، بما في ذلك شجب القادة الكبار وانعقاد مجلس الأمن على وجه السرعة مع ما يرتبط بذلك من تنديد وإدانة. يصور البعض نفسه في لبنان من موقع ذيليته للآخر الأمريكي الإسرائيلي أنه حامي الحضارة والقيم الإنسانية وأنه غير معني بالحرب أو القتل أو الأشلاء. ولا يتم ذلك من أجل النزعة الاستعراضية لدعاة الحضارة اللبنانيين لكنه يتم من أجل التذكير بدموية سوريا وضرورة حصارها ومهاجمتها. تماما مثلما يفعل سيناريو الكتابات التي تنتمي لأبناء الأقليات في عالمنا العربي حينما يتحدثون عن التسامح وأهميته ثم يعرجون مباشرة للنيل من العرب والمسلمين وتوجيه سهام العدوان لهم.
من الممكن عدم الرد على هذا الكتابات ومواجهة هذه الأقلام من موقع تفاهتها، رغم ادعاءاتها المتواصلة بأنها صاحبة مشروع حضاري مستنير ودعواتها المستمرة لقيم الليبرالية الجديدة على الطريقة العربية. لكن الواقع يثبت يوما بعد يوم أنه من الضروري مواجهة وفضح هذه النوعية من الكتابات. كما أنه من الضروري التناول الواعي لها والوقوف منها موقف العدو الذي يجب أن نستفيد مما يقول حتى لو أصابتنا مقولاته بالإحساس بالغبن والظلم من ناحية وبالغثيان من ناحية أخرى. تستدعي المرحلة الحالية والواقع العربي المنهزم الدراسة الهادئة الرصينة لكل ما يحدث حولنا، وتحليل كافة الكتابات التي تعادي الواقع العربي الإسلامي، من موقع كيفية مواجهتها والوقوف ضدها بقوة وحسم وعقلانية.
من الضروري في المرحلة الراهنة وجود مشروع قومي يتبناه المثقفون الحقيقيون من كافة التيارات الوطنية، بحيث يتوخى هذا المشروع الصراع الحضاري المفتوح والمتواصل واضعا نصب أعينه تلك الكتابات العدوانية التي لن يهدأ لها بال ولا يجف لها قلم إلا عبر فرض التسامح على جثث العرب والمسلمين. اللهم بلغت اللهم فاشهد.