هل لدينا أجيال جديدة؟!
العلاقة بين الأجيال علاقة حرجة وشائكة في كل المجتمعات الإنسانية. وكلما اتسمت هذه العلاقة بالندية والعمق والانتقال السلس والمرن بين الأجيال المختلفة كلما اتسمت مسيرة المجتمعات الإنسانية بالنضج والتقدم والإبداع.
فما يميز مجتمع عن آخر طريقته في التعامل مع الأجيال الجديدة ومقدار تسامحه مع أطر التفكير المطروحة. فكلما قبل المجتمع هذه الأطر وتعامل معها بالجدية المطلوبة وبالفهم والتقدير المتناميين كلما حازت تلك الأجيال على مكانتها، واستطاعت أن تعزز من وجودها، وتكشف عن أفكارها بكل وضوح وأمان.
ولا ترتبط هذه المسألة فقط بقدرة الأجيال الجديدة على التعبير عن نفسها وعن أطرها وأفكارها، لكنها ترتبط أيضا بقدرة الأجيال السابقة على الانسحاب وترك المساحة اللازمة للأجيال الجديدة للعمل والتعبير عن نفسها بدون ممارسة أي وصاية، ناهيك عن القمع والإقصاء.
وفي عالمنا العربي لا تتسم العلاقة بين الأجيال بالمستوى المطلوب من الحرفية والإبداع والتواصل. ففي ظل الهيمنة الملحوظة للبني التقليدية في أشكالها الاجتماعية والسياسية المختلفة تتحول الأجيال الجديدة إلى صور متكررة للأجيال السابقة. صحيح أنه لا يمكن الحديث عن جيل طبق الأصل من الجيل الأسبق له، لكنه يمكن الحديث عن انتقال لذات الأطر والصور المرجعية من جيل لآخر. وهو انتقال ظل محكوم بالعادات والتقاليد الماضية المدعومة من قبل الأجيال السابقة.
لا تعني مسألة الحديث عن الأجيال الجديدة الظهور البيولوجي لجيل ما ومحاولة التأطير الزمني لها، لكنها تتعدي ذلك إلى تكريس وجود هذا الجيل من خلال نتاجاته المختلفة وقدرته على كسب مساحة ما من الفضاء الاجتماعي المحيط به. وبقدر اتساع تلك المساحة بقدر ما يمكن الحديث عن تأثير حقيقي لأبناء هذا الجيل.
ما يحدث في عالمنا العربي لا يساعد على الانتقال السلس للقيادة والتحول من جيل لآخر. فما يحدث هو نوع من الاستنساخ يتم بحرفية شديدة تتأسس على القولبة الشاملة لكافة الأجيال الجديدة وفقا لتصورات الأجيال السابقة. ويمكن بنظرة سريعة عقد مقارنة بين طرق التفكير الخاصة بالآباء أو الأجداد مقارنة بما عليه الأبناء أو الأحفاد، حيث سيادة أطر التفكير التقليدية ذاتها، والنظرات الجامدة للواقع المحيط، وانتفاء القدرة على الحوار، وكيفية التعامل مع المرأة.
وتظهر حرفية الاستنساخ واضحة وجلية بالنظر للأجيال الأنثوية الجديدة مقارنة بالأجيال القديمة. فمن الجلي الواضح هذا التشابه الكبير بين الأجيال الحالية والأجيال الماضية، هذا إذا لم يحدث ارتداد بالنظر لرؤية العالم والتصورات المرتبطة به مقارنة بما كان عليه الحال لأمهاتنا وجداتنا.
وتساعد مجموعة من الأسباب على خلق أجيال جديدة تتسم بالإبداع والعمق والتحول عما كانت عليه الأحوال وأطر التفكير في الماضي.
تقوم الأسرة بنقل أكثر الجوانب تقليدية لذكورها وإناثها من الأبناء على السواء. ورغم انفتاح هذه الأجيال على طرائق جديدة في الملبس والمأكل والمشرب والتعليم والترفيه وحتى الانحراف إلا أن الذي يعنينا هنا هو التغيير في الجانب الفكري والنظرة للعالم. وهو ما لم يحظ بدرجة كبيرة من التغيير في ضوء ما تفرضه الأسرة العربية من أطر تقليدية عفا عليها الزمن لكيفية التعامل مع العالم وكيفية مواجهته. فالأسرة العربية تمتلك في الكثير من الأحيان وبنسب متفاوتة بين الدول العربية أحدث الطرز المادية المختلفة من مسكن وسيارة ووسائل ترفيه وسياحة داخلية وخارجية لكنها تظل الحاضن الأمين والرئيس لأكثر الأطر والتصورات تقليدية، وهو ما ينتقل بدرجة أو بأخرى للأجيال الجديدة.
وتساعد الأسرة على نقل تلك الأطر والتصورات بدرجة كبيرة أكثر من غيرها من المؤسسات الاجتماعية الأخرى من حيث امتلاكها للشرعية القائمة على خوفها على مصلحة الأبناء، وعلى رعايتها للقيم والفضيلة. تنقل الأسرة العربية من حيث لا تدري أطرا محافظة تقليدية للأجيال الجديدة تحت مظلة الفضيلة والأخلاق والحفاظ على الموروث، وهى هنا تمتلك السند والشرعية التي لا يستطيع أحد أن يجادلها فيها.
وتمثل الأسرة العربية التربة الخصبة الممهدة لعمل المؤسسات والنظم الاجتماعية الأخرى من أجل استنساخ أجيال جديدة على شاكلة الأجيال القديمة السابقة. تأتي المؤسسات التعليمية المختلفة على رأس تلك المؤسسات التي تتلقف الأجيال الجديدة لتكرس فيهم ما استدمجوه من أسرهم؛ حيث التعليم القائم غالبا على الصوت الواحد المرتبط بصوت المدرس، والمقررات التعليمية التي لا تساعد على الجدل والمواجهة والإبداع.
ورغم ما نسمعه في أحيان كثيرة عن تطوير لمناهج التعليم المختلفة إضافة إلى الأبنية التعليمية والمعامل الحديثة إلا أن هذا التغيير لم يصل حتى هذه اللحظة للعمق المطلوب، ولم يفرض تصورات وأطر نقدية جدلية حقيقية. ويعود ذلك إما لغلبة العقلية التقليدية على القائمين على هذا التطوير التعليمي وإما لهيمنة السلطة السياسية التقليدية على السقف المطلوب لتطوير العملية التعليمية.
ويلتقي مع المؤسسات التعليمية التقليدية ويكرس عملها سيادة أطر التفكير التقليدية سواء على المستوى الديني أو المستوى الفكري. فمن الملاحظ استشراء أنماط التفكير الغيبي في عالمنا العربي، وسيادة الإيمان بالفرد الواحد أيا كانت نوعية هذا الفرد سواء أكان رجل دين أو رجل سياسة أو حتى مفكر أو مصلح اجتماعي. إن الإيمان بالفرد الواحد يكرس التقليدية والجمود والثبات، ولا يسمح للأجيال الجديدة بالتمرد وطرح رؤاها الخاصة وظهور القيادات الجديدة من بينها.
أخيرا تأتي هيمنة الأطر السياسية المستبدة في الكثير من دول العالم العربي لتمثل المظلة التي تؤمّن استنساخ الأجيال الجديدة، كما تؤمّن للقوى السياسية المهيمنة الاستمرار والوجود. فبدون الفعاليات السياسية الحقيقية التي تؤسس للتغيير والإحلال السياسي تصبح فرص التمثيل السياسي معدومة سواء في الأحزاب السياسية أو عبر التمثيل السياسي وأجهزة الحكم المختلفة، وهو الأمر الذي يحتاج لجهاد طويل وحقيقي من كافة القوى الاجتماعية والسياسية في عالمنا العربي.