الخميس ١٥ أيار (مايو) ٢٠٠٨

تعليم الطِّبّ بالعربيّة

بقلم: عبد الله بن أحمد الفَيفي

ذكرنا في المساق السابق أنه، في ضوء التحدّيات الراهنة للعرب في لغتهم، وفي ظلّ عولمة(أمركة) مستكلبة، تسعَى إلى عولمة النفوس والعقول، كان لا بدّ أن يكون التعليم هو خطّ الدفاع الأوّل عن هويّة الجيل المتعلّم.. فهل كان كذلك أم هل سيكون؟

ولا تمكن الاستهانة- في هذا السياق- بأهميّة أن تكون اللغة العربيّة هي لغة التعليم في مواد المراحل التعليميّة كافّة، بما في ذلك المرحلة الجامعيّة، إلاّ إذا اقتضت الضرورة العلميّة التعليم بلغة أجنبيّة، ويدخل في ذلك تعليم الطبّ والعلوم الطبيعيّة. أليست التجربة السوريّة شاهدة على نجاح تعليم الطِّبّ باللغة العربيّة؟ أم الطبيب السوريّ الذي دَرَسَ الطِّبّ بالعربيّة يقلّ عن الطبيب العربي الآخر الذي تعلّم الطِّبّ باللغة الانجليزيّة؟ كلاّ.. هذا إنْ لم يكن أكثر استيعابًا وتفوّقًا في مجاله.

لا يشكّك في هذا إلاّ مدافع عن التعليم بالانجليزيّة، وبأيّ حجّة، مهوّل من القصور في متابعة المستجدات الذي سينجم لو عُرّب تعليم الطِّبّ، وكأن هذا يفترض أن المنادين بتعليم الطِّبّ بالعربية لا يفقهون ما يفقه، ولا يرون ضرورةَ تمكّن الطبيب من لغة أخرى إلى جانب العربيّة، تتيح له الحضور العلميّ في المجال العالميّ، لمتابعة ما لدى الآخرين والإفادة منه. وهذا ما لم يقل به أحد، ولم يره أحد، ولاسيما في مجال الطِّبّ. ليس إلاّ لهوًى في نفسه يحاجج بهذا إذن من أُشرب لغةً غير العربيّة؛ وللّغات سِحر لا يماثله سِحر، وهناك تكمن الخطورة. اللغة كالأُمّ لطفلها، لا يملك من رضع حليبها تصوّر الحياة في كَنَف أمومة أخرى. تلكم هي اللغةّ! أمّا مَن له غَرَض ذهنيّ وراء هذا الحِجاج، أو به عشق اغتراب، أو يعتوره رُهاب من العربيّة، ربما لأسباب غير لغويّة- فإذا هو يهرف بما يقول عن غير بيّنة، ولا حجّة علميّة، ولا وعي بطبيعة اللغات والتعلّم- فلا إثم عليه، ولترتفعي عنه يا أقلام!
ثم إني أُحبّ أن أدع الحديث في هذا الشأن لطبيبٍ، لا لمتخصّص في العربية وآدابها مثلي، ما فتئ متَّهمًا بالتعصّب الأعمى للغته، والمبالغة في عشقها، والتهويل من عواقب ما يحدث اليوم بحقّها. وتلك جملة من الشتائم لا أستغرب أن توجّه إليّ في زمننا العجائبي هذا! سأدع الحديث في هذا إلى طبيب، ألا وهو (الدكتور زهير بن أحمد السباعي). هل تقبل مؤسّساتنا التعليميّة شهادته؟

ما أظنّ أحدًا يشكّك في علميّة الرجل وموضوعيّته وتجربته الميدانيّة. ذلك الطبيب الذي كان يخلب الألباب في برنامجه التلفازي بأدائه الساحر، الذي كان يستقطب لمشاهدته كل الشرائح، بما في ذلك الأطفال، وكنتُ من متابعيه هؤلاء منذ الطفولة. ويكمن السرّ، ولا غرو- إلى مهاراته الشخصيّة المختلفة- في لغته الحيّة، السهلة، الجميلة. يقول في كتابه القيّم "تعليمنا إلى أين؟: رسالة إلى الأُمّة العربيّة"، (الرياض: العبيكان، 1428هـ= 2007م، ص82- 83):
"تساءلتُ زمنًا عن لغة التعليم في كليّات الطبّ: هل من الأَولى أن تكون اللغة العربيّة أم الانجليزيّة. بعد بحثٍ مستفيض وتجربة، آمنتُ بأن الأفضل هو تدريس العلوم الطبيّة باللغة العربيّة...

ولاستكمال بحثي حول الموضوع قمتُ بإجراء دراسة بين طلاب الطبّ وأطباء الامتياز والأطباء المقيمين بجامعة الملك فيصل، وجدتُ من خلالها أن سرعة قراءة نصّ باللغة العربيّة تزيد عن سرعة قراءته باللغة الانجليزيّة بنسبة 43%، وأن مدى استيعاب القارئ للنصّ باللغة العربيّة فاق مدى استيعابه لنفس النصّ باللغة الانجليزيّة بنسبة 15%، وبحساب البُعدين الكمّي (سرعة القراءة) والكيفي (مدى الاستيعاب) نجد أن نسبة التحسّن في التحصيل العلمي تصل إلى 64% بين أطباء الامتياز والأطبّاء المقيمين وإلى 80% بين طلبة الطبّ"

وفي تعليل الهَوَس المرَضيّ الذي يعيشه مجتمعنا العلمي والثقافي بالانجليزيّة- والذي يقف حَجَر عثرةٍ في تقبّل الحقيقة، وعُقدة نقصٍ في تصديقها- وكأن الإنسان لم يعد ممكنًا أن يتعلّم ولا أن يفكّر ولا أن يبدع، ولا أن يكون شيئًا مذكورًا في هذا العالم، إلاّ بها، يقول: "هذا يؤكّد ما ذهب إليه ابن خلدون في مقدّمته: "إن النفس أبدًا تعتقد الكمال في من غَلَبَها وانقادت إليه. إمّا لنظرة بالكمال بما وَقَر عندها من تعظيمه، أو لما تُغالط به من أن انقيادها ليس لغلب طبيعي وإنما هو لكمال الغالب". وأيضًا ما ذهب إليه ابن حزم بقوله: "إن اللغة يَسْقُط أكثرُها ويَبْطُل، بسقوط أهلها ودخولِ غيرهم في مساكنهم"." والسباعي يحيل القارئ إلى عمله الآخر المنشور عن طريق (نادي المنطقة الشرقية الأدبي، 1996)، بعنوان "تجربتي في تعليم الطبّ باللغة العربيّة

هذا شاهد من أهل الطّبّ، ينطلق من البحث العلميّ، ومن براهين الأرقام، لا من قيل وقال، ولا من هوى النفوس وانحيازات العقول.
أنقول: إن الرجل متعصّب؟ أم نقول: إنه يغالط حقائق تجلّت لبعض زملائه كالشمس في رابعة النهار، أو في رائعته، فلم يرها هو كما يرون؟ أم نقول: إنه طبيب رجعيّ، جاهل بالعصر؟ أم نصنّفها: وجهةَ نظر، لا تُناقش، ونستريح؟

هنالك مشكلة ما، إذن، ولست وحدي- بحمدالله- مجنون اللغة العربيّة، ولا المتعصّب لها إلى درجة الهَوَس، والوسوسة القهريّة/ الرجعيّ، المتقوقع، المقعي لعصره؛ فمعي فريق من كبار الأطباء الرجعيّين!
لذلك أسأل: أيُّ مستشارين في شأن تعليمنا العالي، أو العامّ، يُستشارون في تقرير مثل هذه الشؤون الدقيقة والبالغة الخطورة، ليُحسم فيها القرار بين عشيّة وضحاها؟

وهل هناك في تعليمنا كلّه استراتيجيات مبنيّة على حقائق علميّة، وتجارب حقيقيّة، واستقراءات ميدانيّة؟ أم هي محض اجتهادات، وتجارب، تصيب أو تخيب؟ بل ربما كانت محض "تصنيفات"، تطرأ على بعض الأذهان، فإذا هي تطلّ بين وقت وآخر منذ سبعين عامًا، بحسب التوقيت والأجواء واتجاهات الريح؟

أمّا من يرى ضرورةً لا مناص منها، وإن طال السّفر، لتعليم الطبّ والعلوم الطبيعيّة بالانجليزيّة، وهو- شخصيًّا- يكاد لا يقيم جملة عربيّة سليمة، لا من لوثة العجمة ولا من خطأ في العربيّة، "فلا يرحل رَحْلَه مَن ليس معه!"، إنما جاء مدافعًا عن حاله وحال أمثاله!
ومع هذا، فلْنَقُل: إن التدرّج سُنّة؛ إذ لا يمكن القول: من الغَد لا بُدّ أن يصبح كل التعليم باللغة العربيّة. ولكن.. أيمكن التدرّج في عالم القفزات العشوائيّة العربيّة؟ أيّ إيمان بالتدرّج في عالم لا تحكمه المؤسّسات بل الشخصيّات، كلما جاءت أُمّةٌ قلبت الهرم وجلست عليه ردحًا من الدهر لا يعلم مداه إلاّ الله الواحد القهّار، حتى يأتي الخَلَف ليدّعي أنه سيعيد الهرم سيرته الأُولى، ومن ثم يعيد ابتداع العجلة؟! هل خَطَت دول الخليج- مثالاً- أيّ خطوة جادّة إلى الأمام نحو التعليم بالعربيّة، كما كان يفترض منذ خمسين عامًا؟ كلاّ، بل إن الاتجاه ماضٍ بدأب إلى التعجيم- كما يسمّيه أستاذنا الدكتور أحمد الضبيب- بدل التعريب، وبمثابرة في تأصيل استلابنا اللغويّ العجيب بين الأُمم، وإلى يوم القيامة. كما هو ماضٍ- على المستوى الثقافي والاجتماعي- إلى ارتداد الجزيرة والخليج إلى سنين العمَى والعامّيّة، ومضارب القبليّة ومراتع التخلّف، باسم التراث وإحياء ما اندفن منه في التراب، بدل ما كان مفترضًا من نشر التعليم، ومحو الأُميّات بأضربها المختلفة، والترفّع عن العصبيّات اللهجيّة، أو القَبَليّة، أو القُطريّة، والنظر إلى المصالح العربيّة العُليا، والقواسم المشتركة الجامعة، لا إلى النبش في الماضويّات عمّا يفرّقنا لسانًا وثقافة ومجتمعًا. كان مفترضًا- بعد مشوارنا المضني- الانطلاق إلى بثّ الاستنارة بين الناس، والتحديث المديني، والالتفات إلى ميادين العلوم، والصناعات، ومتطلّباتهما المعاصرة، الندّيّة لا التبعيّة، وأُسّ تلك المتطلبات: السعي- بلا ارتكاس ولا يأس ولا انهزاميّة- لجعل اللغة العربيّة لساننا القوميّ الحيّ اليوم، والمنافس مستقبلاً، لا في الشعر ولا في الأدب وحدهما، ولكن كذلك في العلم، والصناعة، والتقنية

(ولهذا آليّاته التي سيناقشها المساق الآتي، بإذن الله)

بقلم: عبد الله بن أحمد الفَيفي

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء او المديرات.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى