الاثنين ٧ تشرين الأول (أكتوبر) ٢٠١٩
بقلم حسن عبادي

توفيق زياد، بوصلة تتجدّد!

بدأت مشوار التواصل مع أسرى خلف القضبان ويكتبون لاهتمامي بأدب السجون، وهناك من بين القضبان سمعت من إحداهم نكتة بنكهة السخريّة السوداويّة القاتلة: "دخل أسير لمكتبة السجن سائلًا عن كتاب فأجابه السجّان: الكتاب ممنوع وغير متوفّر، لكنّ صاحبة في الزنزانة رقم 110"!!
تحدّثنا الكثير الكثير عن أدبنا المحليّ الذي شكلّ رافعة لهم؛ راشد حسين، توفيق زياد، حنا أبو حنا، محمود درويش، سميح القاسم، إميل حبيبي وغيرهم من الرعيل الأوّل، حدّثتهم بدوري عن كتّاب "اليوم"، أبدوا اهتمامًا ورغبة بالتواصل مع الأدب "الحديث" رغم السجّان والقضبان، ومن هناك جاءتني فكرة إيصال إصدارات كتّابنا لأسرانا وأطلقت عليها: "لكلّ أسير كتاب".

تبيّن لي أنّ الكتابة خلف القضبان متنفّس للأسير، تجعله يحلّق ليعانق شمس الحريّة؛ كتبت الصديقة الكاتبة حنان بكير: "من عتمة الزنازين يرسمون الوطن قوس قزح... هم في زنازينهم أكثر حريّة من الطلقاء ذوي النفوس الذليلة"، وكتب د. يوسف عراقي: "الحريّة هي حريّة الأفكار...بالرغم من أنّهم خلف القضبان فإنّهم أحرار بعكس الكثيرين خارج القضبان والذين هم أسرى بمواقفهم". نعم، إنّهم أسرى أحرار رغم القيود اللئيمة!

كان الروائي النصراويّ خليل بيدس من روّاد أدب السجون فلسطينيًا، وتلاه الكثيرون ومنهم على سبيل المثال، لا الحصر، الشاعر معين بسيسو في "دفاتر فلسطينيّة"، أسعد عبد الرحمن و"أوراق سجين"، وليد الهودلي و"ستائر العتمة"، الأسير حسام شاهين و"زغرودة الفنجان"، باسم خندقجي و"نرجس العزلة"، كميل أبو حنيش و"الكبسولة"، الأسير سائد سلامة و"عطر الإرادة".

لقاءاتي مع الأسرى الكتّاب أخذتني مجدّدا إلى ديوان توفيق زيّاد (دار العودة – بيروت)، وديوانه "أشدّ على أيديكم"، فاسمه ذُكر في غالبيّة اللقاءات، قرؤوه وحفظوه عن ظهر قلب ويحفظون أشعاره ويعتبرونه رمزًا وقدوة لهم، ووجدت أنّه كتب الكثير من القصائد خلال فترة اعتقاله وسجنه.

قصيدة "من وراء القضبان" (أيار 1958 سجن الرملة) :
"القوا القيود على القيود
فالقيد أوهى.. من زنودي
لي من هوى شعبي،
ومن حب الكفاح، ومن صمودي
عزم.. تسعَّر في دمي
نارًا على الخطب الشديد"

كان توفيق زياد واعيًا لهويته الفلسطينيّة، ورغم أسره والظروف الحياتيّة والسياسيّة أبان النكبة، لم يهادن ورأى في الكلمة نضالًا، كلّ من موقعه، كتب داخل السجن كلمته الحرّة ليحفّز رفاق دربه على الاستمرار بحمل شعلة النضال.

قصيدة "أشد من المحال" (حزيران 1958 سجن الدامون):

"يا إخوتي! أولا ترونَ الأفقَ
كالحلم الرقيق
هذي وجوهُ العائدين
تطلّ من رأس الطريق
ملء العيون السود
شيء كالجمانة، كالعقيق
هذا دمي.. هذا دم "الغرباءِ"
مسحور البريق
متشوقًا للأرض.. للزيتون..
للوطن العريق"

بعد النكبة شاع مفهوم "الأدب الملتزم" وكان توفيق زياد من ريادييّه، وبسبب الظروف التي سادت آنذاك وصراع البقاء جاء شعره مباشرًا، تحريضيًّا، شعاراتيًّا وخطاب منابر، ربّما تعويضًا عن الشعور بالهزيمة والخيبات المتلاحقة ليزرع الأمنيات والطموحات والأحلام محافظًا على الثوابت الأساسية.

قصيدة "14 تموز" (تموز 1958 سجن الدامون):

"أنا علّقت هذا الرأسَ،
كي يذكر من ينسى
أنا علقته.. والثأر يحيا
في دمي عُرسا..!!
وهذي النعلُ
كم داست على صدري.. على راسي
وهذا الكفُّ..
كم كانت تسدُّ عليّ أنفاسي
وهذا النّابُ..
هذا الأصفر المعوجّ كالفاسِ
ألم ينفث سمومَ الموتِ
في صحني وفي كاسي
وهذا الرأس..
هذا القالب المتحجّر القاسي
أنا علّقته حتى
أعيد اليوم أعراسي"

رغم اعتقاله ومكوثه خاف القضبان، حافظ على عروبيّته القوميّة فقال في قصيدة "جزيت النصر لانتفاضة 1958" (تموز 1958 سجن الدامون):

"أتسمعها تزغرد في دمائي
تحيات العروبة للّواءِ
يرفَّ مخضبا بدم الضحايا،
على أرز كأعمدة السماء
بما نفتديك ونفتديه
ومثلكما يجل عن الفداء؟!
جزيت النصر! ذكر من تناسى
"قناة الموت". ذكر من جديد
إذا اقتحموا الحدود فقد حفرنا..
قبور شبابهم.. عند الحدود!!"

صوّر المعاناة اليوميّة وحياة الأسر مع رفاق دربه شعرًا ليتنفّس ويوصل رسالته عالية مجلجلة فأنشد في قصيدة "سمر في السجن" (1959 سجن الدامون) :

اتذكّرُ ...إني أتذكّر...

"الدامون"، لياليه المرّة، والأسلاك
والعدل المشنوق على السّور هناك.
والقمر المصلوب على...
فولاذ الشبّاك
ومزارعَ...من نمش أحمر
في وجه السجان الأنقر
اتذكر...إني اتذكّر
لما كنا في أحشاء الظلمة نسمر
في الزنزانة...في "الدامون" الأغبر
نتنهّد لما نسمع قصة حب
نتوعّد عند حكاية سلب
ونهلّل عند تمرّد شعب...
يتحرر
يا شعبي..!!
يا عود الندِّ..!!
يا أغلى من روحي عندي
إنّا باقون على العهد.!!
لم نرضَ عذاب الزنزانة
وقيود الظلم وقضبانه
ونقاسي الجوع وحرمانه
إلّا لنفُكَّ وثاق القمر المصلوب
ونعيد اليك الحق المسلوب
ونطول الغد من ليل الأطماع
حتى لا تشرى وتباع!!..
حتى..
لا يبقى الزورقُ...
دون شراع!!..
يا شعبي ..!!
يا عود الندِّ..!!
يا أغلى من روحي عندي
إنّا ...باقون...على العهدِ..!!

رغم القهر ووحشة الزنزانة لم يساوم ولم يُهادن، صرخ في قصيدة "الحريّة أو الموت" التي كتبها أثناء اعتقاله:

"هذي أغنية
للعشرة آلاف سجينٍ في قلب سجونك
يا إسرائيل الكبرى
والصغرى …

هذي أغنية
للأيدي المسحوقة بالأغلال الدمويّة
تتحدّى الأغلال الدمويّة
لعيونٍ تتوقد خلف القضبان
للقامات المنتصبة
في قلب الزنزانات الوحشيّة
تتحدّى الزنزانات الوحشيّة .. "

قال لي الأسير ناصر أبو سرور: "الأديب يعيش أكثر من السياسي"، فالأدب يعمّر أكثر من السياسة وتحفظه الأجيال وتتناقله بينما السياسة تموت على الغالب مع صاحبها، وتبقى ذكرى توفيق زيّاد الشاعر خالدة في سجلّ فلسطين وتاريخها، والحركة الأسيرة تتذكّره وتذكره بالخير، تتناقل الصور والقصائد التي تحدّى بها الاحتلال وجبروته، أشعار حثّت على الصمود ورفض الاحتلال، محافظة على هويّة الأرض، عروبتها وفلسطينيّتها دون مهادنة ومساومة.
يبقى توفيق زّياد حاضراً بشعره رغم الغياب، وغيابه يشتدّ حضورًا يومًا بعد يوم .

(نُشرت المقالة في العدد الثالث، السنة الخامسة، أيلول 2019، مجلّة شذى الكرمل، الإتّحاد العام للأدباء الفلسطينيّين – الكرمل 48)


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى