ثــــرثـــرة لا معنى لها
أثناء قراءتى فى بعض كتب الدكتور محمد أركون أستاذ تاريخ الفكر الإسلامى بجامعة السوربون من أجل إعداد دراستى التى سبق نشرها فى بعض الصحف الألكترونية عن رأيه فى القرآن الكريم صادفتنى كلمة له سريعة عن الفيلسوف الجزائرى "بلديّاته" مالك بن نبى، ذلك الرجل الذى استطاع أن يحرز نجاحا كبيرا، فى ما خلّف من دراسات، فى تحويل دراسة التاريخ الإسلامى إلى علم ذى قوانين بحيث لا تقتصر قراءتنا له على مجرد الإلمام بالمعلومات، بل تتجاوز ذلك إلى استخلاص العبرة مما وقع فيه لا على الطريقة الوعظية القديمة رغم أهميتها، بل على طريقة علماء العلوم الطبيعية والرياضية ما أمكن، وفى هيئة معادلات وقوانين. وكانت الإشارة فى معرض حديث أركون عن القرآن والدراسات التى وضعها بعض المعاصرين من الكتّاب المسلمين عن كتاب الله الكريم، ومنها كتاب مالك بن نبى: "الظاهرة القرآنية"، فوجدته يتهم الكتاب بالضحالة والبعد عن ا! لروح العلمية ومحاولة العزف على أوتار المشاعر الدينية التى لا عقل لها، أو شىء من هذا القبيل.
وسرحتُ بفكرى مستغربا هذا الكلام الذى أقل ما يمكن أن يوصف به أنه بعيد عن الحقيقة تمام البعد، وفيه ظلم كبير لبن نبى ولكتابه القيم، لكنى سرعان ما فِئْتُ إلى نفسى وعقلى فلم أستطع أن أجد جوابا على هذا الاستغراب إلا أن الرجلين يمثلان نمطين مختلفين تمام الاختلاف: فأما مالك فمفكّر متحمس لدينه يتألم لأوضاع أمته ويحاول أن يطبّ لها ويأخذ بيدها من المستنقع الذى غاصت فيه أرجلها منذ قرون ولا تستطيع أن تتخلص منه، مؤمنا أن علاجها إنما يكمن فى استمساكها بالقرآن الكريم والحرص على هويتها الإسلامية، وأنها لو عادت إلى هذا الدين وفهمته وطبقته كما ينبغى أن يُفْهَم ويُطَبَّق فى هذا العصر بناء على ما يقتضيه منطق الدين والعقل ومنطق الحياة والطبيعة البشرية فهى حقيقةٌ أن تخرج من الورطة الحضارية التى ارتكست فيها، بأقل مجهود ممكن وأسرعه. وأما أركون فقد اختار أن يحمل على كاهله وِزْر التشكيك فى كتاب الله وإثارة الشبهات من كل لون فيه من خلال مغ! الطة الحقائق المعروفة، وتزيين الخروج على الملة واللحاق بأوربا لحاق التبعية والانقياد، مطنطنا فى تلك الأثناء بأسماء بعض العلوم الإنسانية الجديدة التى يعرف جيدا أنها تبهر كثيرا من "البُلْه" الآتين من دول العالم الثالث، ومنه عالم الإسلام، وناثرا مصطلحاته الغريبة التى من شأنها اجتذاب الآذان الضعيفة المناعة التى تظن أنه كلما كان الكلام غير مفهوم كان معنى ذلك أنه كلام عميق لا يستطيع أن يقدره حق قدره إلا ذوو الألباب. وفاتهم أنْ ليس كل ما يلمع ذهبا!
وشىء آخر: أن بن نبى لم يستطع أن يلتقطه المستشرقون لأنه لم يرض لنفسه أن يلتقطوه، وكان واعيا بما يفعلونه للإيقاع به وبأمثاله من شبان المسلمين ممن ساقتهم الأقدار للاقتراب من دوائرهم، وبخاصة فى فرنسا. وقد حكى لنا، رحمه الله، فى الجزء الثانى من كتابه الرائع الخطير: "مذكرات شاهد للقرن" بعض ألاعيبهم وأساليبهم لالتقاط من لا يبالون من شباب العرب والمسلمين بدين أو وطن، وكل همهم الوصول إلى المناصب والحصول على الأموال والشهرة والاستمتاع بالنساء، ثم فليذهب كل شىء بعد ذلك إلى الجحيم. ومن بين من جاء ذكرهم من هؤلاء المستشرق لويس ماسينيون، الذى كان يزعم أنه صديق للعرب وللمسلمين، والذى قال الأستاذ محمد لطفى جمعة (الكاتب والمحامى المصرى المعروف) عنه فى بعض ما كتب إنه قد اعتنق الإسلام، وهو ما سارعتُ إلى مناقشته فى مقدمة كتبتها لأحد كتبه قائلا إن مسألة كهذه لا يمكن أن نتقبلها بهذه البساطة، بل لا بد من دليل واضح مقنع، وبخاصة أن ما نع! رفه عن الرجل يقول عكس هذا. ثم وجدت جمعة نفسه قد عاد فى موضع آخر من كتاباته فأبدى تشككه فى الرجل، فعرفت أن اتجاه ذهنى فى هذه المسألة كان سليما بحمد الله. وبن نبى فى هذا يختلف تمام الاختلاف عن أركون، الذى قرَّبه الفرنسيون وعيّنوه فى جامعة من أعرق جامعاتهم، وهم يعرفون أنه استثمار نافع ومفيد أشد النفع والإفادة، إذ يمكن أن يكون مخلبا لاصطياد الطلاب العرب والمسلمين الذين تسوقهم الأقدار إلى الاحتكاك به فى محاضراته أو أثناء العمل فى رسائلهم العلمية تحت إشرافه، فينطلقون يمجّدونه ويعلون من شأنه دون تحفظ بل دون تفكير، وهو ما استفزنى فكتبت الدراسة التى لم يبعد بها العهد والتى نُشِرت فى بعض المجلات الألكترونية مؤخرا. لقد آلمتنى مزاعم الرجل التافهة المتهافتة ضد القرآن من أنه نتاج للمخيال الجماعى العربى لا وحى إلهى، وذلك رغم قلة إلمامه بالتراث الإسلامى وعدم تعمقه فى فهمه، مع الاستعاضة عن ذلك فى نفس الوقت بلَوْك كثير من العبارات التى لا رأس لها ولا ذيل، وسَوْق طائفة من المصطلحات العجيبة التى يريد بها أن يحرف العقول عن القرآن والإسلام، والتخفى وراء قدر من الغموض مقصود ليُوقِع فى رُوع القارئ المسكي! ن أنه بصدد فكرٍ عميقٍ لمفكرٍ عملاق، وهو ما يروّج له بعض من الطلاب الذين درسوا على يديه فى باريس وحصلوا على درجة الدكتورية فى تخصص غير تخصصهم الأصلى، وأخذوا يرددون دعاواه السخيفة فى الدين الذى أتى به محمد عليه السلام والكتاب الذى أُنْزِل عليه. وهل هناك خدمة أفضل من هذه يمكن أن يؤديها أى منا للغرب، الذى يعمل بكل قواه منذ أن بزغت شمس الإسلام حتى الآن على خنق نور الله، مستعينا بعلمائه وساسته ورحّاليه وصحفييه وإدارييه وعسكرييه ومستشرقيه ومبشريه، وبالاستعانة كذلك بتلامذته وحوارييه من بين أظهرنا؟
وقد بدأ اهتمامى بمالك بن نبى منذ أن كنت طالبا فى الجامعة، فقرأت له أنا وأصدقائى آنذاك كل ما وقعت عليه أيدينا من كُتُبه التى ترجم كثيرا منها الدكتور عبد الصبور شاهين. وقد راعنى وأعجبنى منها تلك الروح العلمية التى تريد أن تقنّن كل شىء، مما ذكّرنى بابن خلدون ومقدمته التى نحا فيها نفس المنحى، مع الفارق المتمثل فى أن بن نبى قد ركَّز كلامه وفكره الفلسفى على المجتمعات الإسلامية القديم منها والحديث، بخلاف ابن خلدون، الذى جاء كلامه فى هذا الصدد عامًّا يهدف من ورائه إلى أن يصدق على كل مجتمع مسلما كان أو غير مسلم. وهو ما كتبته فى مقال لى عن هذا المفكر الجزائرى حاولت نشره فى أواسط السبعينات من القرن الماضى فى مجلة "الإذاعة والتليفزيون" المصرية متشجعا بوجود الأستاذ أحمد بهجت على رئاسة تحريرها، وإن لم أستطع رغم ذلك أن أقابله (بل لم أره أو أتصل به حتى الآن)، إذ كنت فى كل مرة من المرات القليلة التى ترددت فيها على المجلة أقابل س! كرتير التحرير، الذى كان يبيع لى الكلام المعسول مستغربا (أو قل: مستنكرا)، فيما يبدو، أن يتجرأ شاب صغير لا هو فى العير ولا فى النفير على التفكير فى النشر فى أشهر مجلة فى مصر فى ذلك الحين وأوسعها انتشارا، لكنه فى ذات الوقت أخذ يسوّف فى مسألة النشر، إلى أن ضاق صدرى بعد المرة الثالثة، فصممت أن أذهب فأسترد المقال بأى ثمن، ولم يشفع للرجل، وكان مسؤولا فى وزارة الإعلام، أنه أخذ يطيب خاطرى ويؤكد لى أن أحمد بهجت قد أصدر أمره بنشر المقال، لكنْ كان العفريت قد ركبنى فلم أَلِنْ لكلامه، وأخذت عيناى تقذفان بالشرر، ورفضتُ أن أتفاهم أو أبقى معه لحظة، وصممت على أخذ المقال بأى سبيل، فلم يجد بدا من أن يناولنيه، وانصرفت دون أن ألقى عليه تحية الانصراف. وقد أعطيت المقال بعد ذلك للأستاذ نصر عبد اللطيف مدير التحرير فى مجلة "الهلال" قبل أن أترك مصر بعدها بقليل إلى بريطانيا فى بعثة للحصول على الدكتورية فى النقد الأدبى، ولم أعد أعرف عن مصير المقال شيئا، وبخاصة أن الدكتور حسين مؤنس قد تولى عقب ذلك رئاسة التحرير بعد الشاعر صالح جودت وغيّر من نظام المجلة ملغيا ملحق "الزهور" الذى كان الأستاذ نصر عبد اللطيف ينشر ل! نا فيه مقالاتنا بكل مودة ورقة وترحاب كشخصيته الكريمة رغم أنه لم يكن يعرف واحدا مثلى معرفة شخصية، لأفاجأ بعد عودتى من البعثة بعد ست سنوات (فى عام اثنين وثمانين) بأحد الأصدقاء يزفّ لى النبأ بأن مجلة "الهلال" قد نشرت المقال، فظللت أبحث عن العدد الذى ظهر فيه إلى أن وجدته.
وإنى لأذكر الظروف التى كتبت فيها المقال. لقد كان ذلك فى شقة الصديق المذكور بالإسكندرية حيث كنت، وأنا لا أزال فى العشرينات من عمرى، أسافر من قريتى "كُتَامة الغابة" فى محافظة الغربية إلى عروس البحر المتوسط كل صيفٍ وأنزل ضيفًا على أخى وأختى وصديقى هذا فأقضى هناك أوقاتا هانئة رغم قلة المال فى ذلك الوقت. وأذكر أنى انتهيت من المقال فى جلسة واحدة معتمدا على كتابين أو ثلاثة لمالك بن نبى وعلى الذاكرة أكثر مما اعتمدتُ على نصوص الكتب مباشرة. وكان يخيَّل لى حينها أننى أضحيت كاتبا كبيرا! ألست أكتب عن فيلسوف كمالك بن نبى، وأنتهى من كتابة مقالى عنه فى شوط واحد وأنا جالس ممددا بطول الأريكة فى بيت صديقى السكندرى؟ وقد أبرزتُ فى ذلك الفكرة التى كانت وما زالت تسكن عقلى منذ تعرفى بكتابات المفكر الجزائرى من أن مالك بن نبى هو فيلسوف القوانين التاريخية كابن خلدون، وإن لم أذكر الفرق الذى أومأ! ت إليه قبل قليل بين المفكّرَيْن. ويبدو أن هذه الفكرة هى التى شفعت للمقال عند الدكتور مؤنس، إذ كان، كما هو معروف، أستاذا للتاريخ، وكان مستغرقا فى أخريات حياته فى البحث فى أحوال المسلمين ومحاولة العثور على دواء لأمراضهم الحضارية والنفسية والاجتماعية من خلال الدين المحمدى العظيم مثلما كان يصنع مالك بن نبى، فنشره مشكورا رغم أنه لم يسمع بى لا قبل ذلك ولا بعده لأنى لم أعاود الكرّة فى محاولة نشر أى مقالات لى لا فى "الهلال" ولا فى غيرها من المجلات المصرية بعد الذى جرى، اللهم إلا مقالا فى مجلة "الشعر" منذ عدة أعوام نشره لى أحد الأصدقاء، وإلا مقالا آخر بعده فى مجلة "المصور" أرد فيه على أستاذ مصرى يعيش فى سويسرا منذ وقت طويل كنت وضعت كتابا عن رسالته التى حصل بها على درجة الدكتورية من فرنسا وشكَّك فيها فى أحداث السيرة وأخذ يتخيل من عند نفسه بدلا منها أحداثا ما أنزل الله بها من سلطان، فبدلا من أن يتعرض لأدلتى الصلبة التى نقضت بها فكرة كتابه المحورية وهلهلتُ ما تفرع منها من أفكار جزئية، وجد أن من السهل عليه الاكتفاء بمقال فى مجلة "المصوّر" يدّعى علىّ! فيه أنى مارست معه الإرهاب الفكرى وأنى استهدفت عقيدته بالتشكيك أو ما إلى ذلك مما لست أذكره بمضى الزمن، ظنا منه أن ذلك سيصرفنى عن التعرض له ولما كتب، فحبّرت ردا على هذا الذى كتبه متحديا إياه أن يدلنى على أى شىء فى كتابى يعضد ما ادّعاه علىّ، وحكّمت القراء فى المسألة تاركا لهم الرجوع للكتاب المذكور والبحث فيه عما يمكن أن يكون مصداقا لدعواه ضدى إن استطاعوا. وأغلب الظن أننى لو رجعت الآن للمقال الذى كتبته عن مالك بن نبى فلن أرضى عنه، أو على الأقل لن يكون له فى عينى ذلك البريق القديم، إذ لن يخرج فى أحسن الأحوال عن أن يكون تمرينا مبكرا لما أصبحت أكتبه فيما بعد ولا أستطيع مع ذلك أن أحس تجاهه بالرضا التام مهما بذلتُ فيه من جهد وتجويد. ولكن ما هذا الذى جرى يا ترى مما جعلنى أعزف عن التفكير فى النشر بالمجلات؟
بعد عودتى من بريطانيا إثر حصولى على الدكتورية من جامعة أوكسفورد عام 1982م بشهور جاءنى خطاب حكومى صغير أحسست، لا أدرى لماذا، عند تسلمه بشىء من الانقباض فى صدرى، ففتحته لأجد أنه من مأمورية الضرائب التى فى قصر العينى تطالبنى فيه بتسديد نحو سبعمائة جنيه عن المقالات التى أكتبها فى المجلات المصرية، وهو ما يعنى أننى كنت أكتب كل شهر فى كل مجلة من هذه المجلات مقالا طوال السنوات التى قضيتها فى بريطانيا، وأننى كونت ثروة من هذا النشاط، فى حين أن الحقيقة عكس ذلك تماما، فإنى لم أكن قد نشرت أى شىء منذ سفرى إلى المملكة المتحدة فى عام 1976م، ببساطة لأننى كنت خارج البلاد، فضلا عن انشغالى التام هناك بدراستى. وقد ذهبت ثانى يوم إلى مأمورية الضرائب وكُلّى اطمئنان إلى أننى متى أريتهم جواز السفر فسوف تنتهى المشكلة على الفور ويقولون لى: "نحن آسفون على هذا الإزعاج". ومن يدرى؟ ربما عوّضونى كذلك عما سببوه لى من توتر. ولكن من الواضح أننى كن! ت واهما، إذ إننا نتعامل مع إدارة حكومية تنتمى إلى العالم الثالث. فطلبوا منى أن أوافيهم بخطاب من كليتى تقول فيه إننى كنت فعلا بالخارج طوال السنوات الماضية التى يطالبوننى بتسديد ضرائب عما يُفْتَرَض أننى كتبته أثناءها من مقالات. ورغم استغرابى هذا الطلب لاعتقادى أن جواز السفر يجيب على ما يطلبون بأجلى بيان، علاوة على أنه لا يمكن أن يكذب بينما يمكن أن يزوِّر الواحد، لو أراد، مثل هذا الخطاب الذى يطلبونه، فقد قلت لنفسى: "بسيطة! تاهت ولقيناها". وذهبت للكلية فأعطتنى الخطاب المطلوب الذى سلمتُه بدورى للضرائب منتظرا أن يعتذروا لى عن وجع الدماغ الذى سببوه لى ظلما. لكننى كنت واهما مرة أخرى، إذ أحالونى إلى لجنة للنظر فى الخطاب والجواز، لتقول اللجنة لى بعد مدة لا أدرى كم طالت إننى ينبغى أن أدفع المبلغ مضافا إليه الفوائد. وعبثا حاولت على مدار سنتين أو أكثر أن أتفادى دفع هذا المبلغ الكبير عن عدة مقالات كان كل ما قبضته مكافأة لها هو بضع عشرات من الجنيهات لا تزيد عن الخمسين إلا قليلا... إلى أن وصلنى ذات يوم خطاب حكومى أصفر صغير، فانقبض قلبى مرة أخرى، وفتحته لأجدهم ينذروننى إنذارا نهائيا بالدفع خلال خمسة! عشر يوما أو يحجزوا على أثاث الشقة الذى أمرونى ألا أتصرف فيه، وإلا اتُّهِمْتُ بالتبديد. وكان المبلغ قد بلغ فى تلك الأثناء بسبب الفوائد ألف جنيه، وهو مبلغ ضخم جدا بالنسبة لواحد مثلى فى ذلك الحين من منتصف ثمانينات القرن الماضى. وقد شعرت بالعرق ينساب غزيرا من كل مكان فى جسدى، لا لفداحة المبلغ فقط، بل لما فى الأمر من غَبْنٍ جلف، فإنى لم أكسب من العملية كلها كما قلت إلا نحو خمسين جنيها من عدة مقالات لا راحت ولا جاءت ولا قيمة لها. لكن: هذا "ألله"، وهذه حكمته، وهذه هى الأوضاع فى بلادنا المحروسة، بينما يهرب اللصوص بالملايين التى سرقوها من جيبى وجيبك وجيوب الآخرين المساكين دون أن يهددهم أحد بشىء بل معززين مكرمين، وعلى خدّ كل واحد منهم بوسة (بوسة شرعية طبعا. أخويّة يعنى، وليست من التى بالى بالك). وأذكر أنى قضيت آنذاك "ليلة ليلاء" كما نقول نحن أساتذة العربى، الله يلعن العربى وسنينه الذى يغرى بكتابة مقالات لا معنى لها ولا فائدة من ورائها وتوقع فى مشاكل ضريبية من هذا النوع، ثم فى نهاية المطاف لا يقرؤها أحد إلا من يرومون إثارة الجدال والمماحكة!
وذهبت ثانى يوم من الفجر بعد أن ضاعفتُ جرعةَ الدعاء عقب الصلاة بأن يجىء الله بالفرج هذه المرة، ووصلت لمأمورية الضرائب التى أصبحتُ أحفظ موقعها ومكاتبها كما أحفظ بيتى، وسألت فى الاستقبال عن مكان تصدير الخطاب فقالوا لى: الأرشيف. وكان فى الطابق الأرضى على يمين الداخل، فدخلتُ فوجدتُ موظفا شابا يقضم شطيرة (شطيرة، وليس كما يتظرف السخفاء: "شاطر ومشطور وبينهما طازج")، فقت له وأنا أطلعه على الرسالة: من فضلك، من الذى أرسل لى هذا الخطاب؟ فقال على الفور بعد أن ألقى نظرة سريعة عليه: أنا. فقلت ضاحكا من شدة البلية: وهل ستحجزون فعلا على أثاث شقتى؟ فقال: نعم بكل تأكيد. فقلت وأنا لا أزال أضحك من فداحة الهم: وأين أنام أنا وأولادى إذن؟ فقال: ولكن هذه هى التعليمات، وأنا العبد المأمور. فتخيلتُ الفضيحة أم جلاجل التى ستتسبب لى فيها مأمورية الضرائب بين الجيران عندما يأتون ويقيمون مزادا علنيا للأنتريه وغرفة النوم والسفرة التى فى الشقة، وهى! أشياء ليست ذات قيمة. ثم من يدرى؟ربما أضافوا الأولاد أيضا إلى المزاد إذا لم تَكْفِ هذه الأشياء لتغطية المبلغ المطلوب. وتصورت أولادى وقد اشتراهم أحد الجيران وألحقهم باسمه ولم يعد لى فيهم نصيب ولا أستطيع أن أقول لهم: "ثلث الثلاثة كم؟" وهم يروحون ويجيئون أمام عينى، فقلت له كمن هبط عليه الإلهام فجأة: يا أخى الفاضل، دعنا من الرسميات والقانون، وتعال نتكلم من الناحية الإنسانية. فوجدته يتوقف عن الطعام لينصت، فشجعنى هذا على المضى فى الكلام، وقلت له الحكاية من "طق طق" لـ"سلام عليكم"، ثم عقبت قائلا: "والآن ضع نفسك فى مكانى، وقل لى من فضلك كيف تتصرف". وإذا به يضع الشطيرة جانبا (الشطيرة لا الشاطر والمشطور والطازج الذى بينهما كما يقول السخفاء للتهكم بلساننا القومى، بلاهم الله بمأمورية الضرائب كما بلانى وأرانى فيهم يوما) ويقول: تعال معى. فقلت له: إلى أين؟ فقال: لأحلّ لك المشكلة. قلت له وأنا غير مصدق، وفى نفس الوقت فرحان لأن أولادى لن يباعوا منى فى المزاد، هؤلاء الأولاد الذين كلفونى الكثير ووُلِدوا وتربَّوْا فى إنجلترا، و"يضربون بالقُلَّة" بلسان جون بول وينادوننى بــ"دادِى"، التى أصوّبها لهم قائل! ا: "ضاضِى لا دادِى" بحجة أن لغتنا هى لغة "الضاد" لا "الداد" (باختصار: أولاد عمولة، وليسوا شُغْل سُوق): هل من المعقول أن المشكلة التى حيرتنى طوال السنوات الماضية سوف تنحلّ الآن وبهذه السهولة؟ فأكد لى أنْ نعم. فقلت له (وأنا أكاد أطير من الفرح لولا أننى قلت لنفسى: انتظر حتى تنحل المشكلة فعلا، وبعدها يصير لكل حادث حديث كما نقول نحن أهل العربى، وعندك يا أبا خليل برج الجزيرة على مقربة منك يمكنك أن تصعد فوقه وتطير كما تحبّ وتفعل مثلما فعل عباس بن فرناس فتنزل على جذور رقبتك بالطريقة التى تُشْمِت بك أمة محمد وعيسى وموسى جميعا): الله ينعم عليك! ولكن لم لا تنتهى من الشطيرة أولا؟ (الشطيرة لا الشاطر والمشطور والــ... إلخ كما يـقول الــ... إلخ للتهكم بالــ...إلخ أيضا). فقال بارك الله فيه: دعنا من الشطيرة الآن (بطبيعة الحال حتى أكون صادقا، فالكذب خيبة، لقد قال: "الساندويتش". ولم يكن من اللياقة ولا اللباقة فى شىء كما لا يخفى عليكم، ولا كان عندى نفس، أن أنبهه إلى أن الصواب هو أن يقول: "شطيرة". ألا لعنة الله على الشطيرة والساندويتش معا! هل هذا وقته؟).
المهم: أخذنى الشاب ابن الحلال فى المصعد إلى السيدة التى كانت تتولى ملف الضرائب الخاص بى والذى كانت مشكلته فى ذلك الوقت قد صارت أعقد من مشكلة الملف النووى للعراق وإيران وكوريا الشمالية (التى منها صديقى "ريانج" الكافر) جميعا، ولم يبق إلا أن تقرر أمريكا ومعها بريطانيا وأستراليا ضربى بالقنابل والصواريخ بكل أنواعها أثناء المزاد العلنى، لينبرى الفصحاء ممن يحملون أسماءنا ويدينون رسميا بديننا ويتكلمون لغتنا (لغة الشاطر والمشطور وبينهما ما تعرفون فلا داعى لتكملة الكلام)، وهم الآن أكثر من الهم على القلب ويعرضون خدماتهم بحرارة فى كل مجلة وجريدة ورقية أو ألكترونية وفى كل إذاعة مرئية أو صوتية، فيتهموننى بالإرهاب والكباب والهباب وتقطيع الرقاب واستحقاق العقاب والعذاب بسبب التخلف الدينى (أى الإسلامى طبعا، وهل هناك غيره؟) وتعكير صفو الأمن الدولى، ويطالبون بمحوى من على الخريطة محوا تاما لا يبقى ولا يذر إكراما للأمريكان والأسترال والإنجليز. يا حفيظ، يا حفيظ! شىء يجنّن، شىء يغيظ! وكل هذا من أجل شوية "لحاليح" لا تساوى شيئا بجنب الملايين والمليارات التى يسرقها اللصوص الذين لا يستطيع أن يحملق فى وجوههم أحد من هؤلاء الأذيال الأنذال، وإلا كان مصيره النكال والوبال والضرب بالنعال! لكن ماذا تقول فى الضمير الحَرِج والعَسِر للمتدلّهين فى غرام أمريكا؟ حساسيتهم الأخلاقية حساسية من الطراز الأول! أم تريدونها فوضى؟ لا يا سادة، ألم تسمعوا بقول الشاعر الشاطرىّ المشطورىّ الطازجىّ وهو يقول:
لا يَسْلَم الشرف الرفيع من الأذى *** حتى يُراق على جوانبه الدَّمُ؟
فلماذا إذن المعاظلة؟ أومن يقول الحق فى هذه البلاد كِخّة؟
وعند وصولنا فاتَحَ الرجلُ الطيبُ الموظفةَ المسؤولةَ عن الملف النووى الإبراهيمى "مسز إكس" (على وزن هانز بليكس) فى الموضوع فقالت له إنها تعرف القصة، وإن عليه (أى علىّ أنا العبد لله) أن يدفع الألف جنيه... إلى آخر ما تعرفونه الآن أكثر منى من كثرة ما تابعتم الموضوع على شاشات التلفاز وفى الصحف ومحطات الإذاعة المحلية والعالمية، فما كان منه إلا أن قال لها بكل بساطة وعبقرية: "دعيك مما فات، وخلِّنا أولاد اليوم، وابدئى معه من هذه اللحظة، وخذى أقواله فى كل ما تحتاجين أن تكتبيه فى التقرير". يعنى أننى سأكون مصدر المعلومات المطلوبة منى. والعجيب الغريب أنها استجابت لما قال! الله أكبر! ولماذا لم يكن الكلام هكذا من الأوّل؟ إذن لَكُنّا وفّرنا الوقت الذى ضاع، والأعصاب التى تهرّأت، والمال الذى أُهْدِر على البنزين والزيت الذى أكلته السيارة، ودوخة البحث كل مرة عن مكان أضع فيه سيارتى لحين الانتهاء من السبع دوخات فى متاهة الضرائب! ثم بع! د كلمتين من هنا وكلمتين من هناك، وحسبة ولا حسبة برما (وبالمناسبة فبرما هذه لا تبعد عن قريتى أكثر من ثمانية كيلومترات، وتقع فى منتصف الطريق بينها وبين طنطا)، أعطتنى ورقة لأدفع المبلغ الذى يجب علىّ أن أسدده فى الخزينة. ترى كم كان هذا المبلغ أيها القارئ الكريم؟ أحد عشر جنيها وكسور! يا أخى قل: اثنا عشر جنيها، وخَلِّ الباقى لأجلك، فما بين الجيّدين حساب. لا والله يا أخى القارئ لن يرجع الباقى إلى جيبى، فهو لك حلاوة البراءة! وذهبتُ ودفعتُ وعدتُ ونزلت مع الرجل الطيب وأنا أتوقع أن يلمح لى بشىء لقاء هذه الخدمة العظيمة التى لم تكن تخطر لى على بال، لكن الرجل الطيب لم ينطق ولم يلمح، فحاولت أنا أن أومئ، لكن الرجل الطيب ولا هو هنا. فأخذت أشكره وأطيل الشكر على عادتى مع كل من أدَّى إلىّ معروفا وأعود فأشكره من جديد متوقعا أنه سوف يستجمع شجاعته ويقول أى شىء. لكن يبدو أن الجرعة المضاعفة من الدعاء فى أعقاب صلاة الفجر قد آتت مفعولها، فمد الرجل الطيب يده يصافحنى إيذانا لى بالانصراف مطمئنّا أنه لا شىء مطلوب منى لا تحت الترابيزة ولا فوق الترابيزة، ثم دخل واستأنف أكل الشطيرة (الشطيرة لا الشاطر ولا المشطور ولا! الطازج الذى بينهما يا مفترين الكذبَ على المجمع اللغوى مثلما يفترى الكذبَ على المقاومة والمتدينين المسلمين من يواطئون أمريكا على إجرامها وفحشها). سبحان الله! وأين كان هذا الرجل الطيب من البداية؟ ولماذا لم يخطر لأى من الذين تعاملت معهم على مدار السنتين وزيادة الماضيتين أن يفكر بهذه الطريقة العبقرية والبسيطة والعادلة فى آن؟ وكيف يستطيع هذا الرجل الطيب الجالس فى الأرشيف أن يحل المشكلة بتلك المهارة وتلك الثقة، ولا يستطيع الموظفون المختصون والمديرون الذين فوقهم واللجان التى تشكلت أن يصنعوا مثل صنيعه؟ بل كيف استجابت الموظفة لتوجيهه ولم تأخذها العزة بالإثم فتصر على موقفها، ومن لا يعجبه الكلام فليشرب من البحر (الشارب هو أنا بطبيعة الحال، أم هناك رأى آخر؟)؟ حكمتك يا رب! تضع سرك فى أضعف خلقك!
أخذنى الكلام فنسيت أن أقول لكم إنهم، عندما شكلوا لجنة لدراسة حالتى، كلفونى أن أدور على كل المجلات المصرية (والحمد لله أنْ لم يطلبوا منى أن أدور أيضا على مجلات الوطن العربى كله) وأحضر من كل منها بيانا بما يمكن أن أكون قد أخذته منها من مكافآت (أى بصريح العبارة "كعب دائر")، ولكنى اكتفيت بالمجلات التى تعاملتُ معها فعلا لا كل المجلات كما طلبوا، وإلا لكنت لا أزال إلى يومنا هذا أجمع تلك البيانات ومعى عسكرىّ أُمّىّ لا يعرف الرحمة ولا يمكن التفاهم معه: ننتقل من قطار إلى قطار، ونرتحل من قسم شرطة فى كل محافظة إلى آخر وقد رُبِطَت يده بالقيد الحديدى فى يدى كيلا أهرب قبل أن أدفع الأحد عشر جنيها وكُسُورا التى كانت فى ذمتى للحكومة والتى كانت كفيلة بإصلاح أحوال ميزانية الدولة آنذاك، فإن أحدا لا يدرى أين تكون البركة حسبما قال سيدنا رسول الله! كما نسيت أيضا أن أخبركم أننى لم أغادر مأمور! ية الضرائب فى ذلك اليوم إلا بعد أن مزقت البطاقة الضريبية ستمائة ألف حتّة بعدد الحِتَت التى دعا السودانىُّ (المفقوعُ المرارة مما وقع له من سرقة محفظته فى قلب القاهرة) أن يمزق الله دولة السودان ومصر إليها بعد أن كان يهتف من أعماق قلبه قبلها مباشرة وبعُلُوّ حِسّه أن السودان ومصر حِتّة (هِتّة) واحدة! ثم رميتها بعد ذلك فى صندوق الزبالة كما لا أحتاج أن أقول. وكان هذا آخر عهدى بكتابة شىء فى أية مجلة مصرية بفلوس، اللهم إلا المقال الوحيد الذى أشرت إليه قبل قليل. ثم ألغيت الضرائب على الكتب والمقالات بعد ذلك بقليل! عجايب! بعد خراب بصرة؟ أما كان من الأول؟