الأربعاء ١٨ نيسان (أبريل) ٢٠٠٧
قصة قصيرة
بقلم بسام الطعان

جحشولوجيا

الساعة تجاوزت العاشرة بقليل ، والشمس التموزية لا تتعب من إرسال أشعتها الحارقة ، والرجل الخمسيني ، يرتدي ثوباً رمادياً ممزقاً من أطرافه، وسترة عسكرية سميكة وعتيقة، تنقصها الأزرار الذهبية والأوسمة والنياشين، يعتمر كوفية بيضاء مزينة بخرائط من الوسـخ، وعقالاً مائلاً إلى اليمين، ينتعل حذاءً بلاستيكياً بلا جوارب، يمتطي حماراً أبيض مجهول النسب، يســـير في شوارع البلدة، وفي حضنه جهاز تلفاز عتيق ، يمسك به بيد، وبالأخرى رسن الحمار الذي يسير ببطء ويحن إلى قشر البطيخ.

مع هذا الديكور الذي تلبسته الشوارع ، اتسـعت العيون ، انفتحت الأفواه، تعالى الضحك, وكثرت التعليقات:
"جحشولوجيا"
"التكنولوجيا والتخلف"
"الإرسال الحماري"
"أعزائي المشاهدين، والآن أترككم مع الحلقة الأولى من مسـلسل الحمار التلفزيوني"
"......"
الرجل لم يبال بشيء، وإنما راح يوعز إلى رفيقه أن يسـرع وذلك بوكزات متلاحقة من كعبيه على جانبي بطنه المنتفخة.
"هش..هش"
وقف أمام ورشة لإصلاح الأجهزة الكهربائية في ســـوق البلدة، مسح نافورة عرقه بطرف كوفيته, أرسل نظراته إلى داخل الورشة، وحين شاهد شخصا جالسا خلف طاولته ويعبث بجـهاز راديو، ناداه بصوت آمر:
 تعال يا معلم.. تعال ساعدني.
ترك" الخبير الاستراتيجي" ما بيده , نظر بدهشـة إلى المنظر، ابتسم, هز رأسه, ثم تقدم باتجاهه:
 ماذا تريد؟
 هذا التلفاز معطل.. أصلحه بسـرعة فأنا قادم من قرية بعيدة.
اقترب منه محاولاً حمل الجهاز إلى الداخل ، لكن الحمار أفرغ فجأة ما بداخل بطنه، فكاد يتقيأ وهو يتراجع مذعـوراً إلى الوراء، لم يجرؤ على الاقتراب مرة أخرى ، فاكتفى بالصياح والاحتجاج ، الحمار لم يكترث وظل يفرغ ما بجوفه أمام الرصيف اللامع ، أما صاحبه فضحك بعذوبة وقال:
 إنه حمار.. هل تساوي عقلك مع عقله؟!
ثم أضاف بشيء من السخرية:
 يبدو أن الحمار أذكى منك.
ما إن سمع هذه الجملة حتى احمّر وجـــهه، انتفخت أوداجه، وقال كلاماً ما كان يجب أن يقوله، أما الرجل فتغيرت كل ملامحـــــه، بدا مثل من يتسلح بكراهية الطيبة، وفجأة رشه بسـيل من التوبيخات مع بعض الشتائم الرنانة.
ولما بلغ الحنق مرحلة متفجرة، والروث يخرج منه البخار ويلطخ رؤيته، قال بعصبية وغضب:
 اذهب من هنا.. لن أصلح جهازك.
فجأة نهق الحمار وكأنه يحتج مثل صــــاحبه، فهو عكس كثير من البشـــر يفهم معنى الوفاء، ثم راح يهز ذيله, يحرك أذنيه كرادارين، ويقول في نفسه:"سأرفسه.. سأحطم أسنانه وحنكه إذا اقترب مني".
شعر الرجل بالإهانة، فنزل عن ظهر الحمار، وراح يســـــدد إلى صاحب الورشة نظرات صاروخية ، ثم بصق عليه وهو لا يزال يمسك بجهازه"الانتيكا".
حين تعالت صيحات الاثنين ، تجمع أمام الورشـــة كل أصحاب الدكاكين والعربات والمتســــوقين، فبدت وكأنها الفرن المناوب في ليلة العيد.

جحافل الغضب سيطرت على صاحب الورشة ، فحمل سـلاح اللسان البذيء ودخل بشجاعة أرض المعركة، فما كان من الآخر إلا أن خطف عقاله النائم فوق رأسه وحاول الهجوم، لكن التلفاز ســـقط على الأرض وتحطمت شاشته، نظر إلى الحطام المتناثر، أحس بأن قلبه قد انشـطر إلى فلقتين ، بدا مثل حـوت غاضـــب في موج صاخب، وبسرعة غير متوقعة, هجم على الخبير الذي لم يستطع أن يخلص نفسه إلا بعد أن انتشرت أياد كثيرة من حوله وســــحبته بقوة إلى الوراء, غير أن الرجل لم يشـــــف غليله، ظل يهــــــدد ويتوعد ويطالب بجهاز جديد بدلاً عن جهازه الـ"سيرونيكس" القديم.
حاول الهجوم مرة أخرى ، لكنه كان محاصـــــرا بين الأجساد والأيدي، فرفع سبابته وقال موجــــها كلامه للخبير الذي كان جالسا على الرصيف ومشغولا مع أنينه:

 "وينك يا ... أنا رايح بس راجعلك".
نهض دفعة واحدة وقال بغضب أقوى من غضبه:

" روح بلط البحر".
فلم يرد هذه المرة، وإنما دفـــــع كل من حوله، امتطى حماره، ثم أرسل له شيفرته ففهمها بســــــــــرعة وانطلق باتجاه القرية, وظلت التعليقات ترتفع في سماء البلدة حتى اختفى.

صباحاً, استأجر شـاحنة صغيرة من قرية مجاورة ، حشر فيها أبناء عشيرته الميامين الذين تســـلحوا بالعصي الغليظة، وآن توقفت الشاحنة أمام الورشة ، قفز الواحـد تلو الآخر كالقرود، هو وعلي وعمر وجاسم وحميد وحامـد وســـالم وسليم وحسن وحسين وأحمد ومحمد ومحمود وخميس وجمعة ورجب وشـــعبان ورمضــان ، ثم هجموا على الورشـــة وارتفعت أصــــوات التكسير وكأن زلزالاً قد وقع.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى