سباق ووهم وهستيريا
– يا الله ما أجمله! إنه لي. صاحت زوجة البقال.
– ولماذا لا يكون لي؟ أنا رأيته أولا. قالت زوجة الفلاح بغضب.
– يا محلوقة الشعر، كيف يكون لك وأنا التي خطفته أولا؟ ردت عليها زوجة الحائك.
صهيل الاحتجاجات والصيحات رج الفضاء، بدت العيون شرسة، انتفضت الأيدي واستعملت كل قوتها للظفر به، وقبل أن تبدأ مسابقة شد الشعر قالت إحداهن:
– لنذهب إلى (الملا علي) فهو رجل حكيم وعادل.. ليكن حكماً بيننا.
في بيته كان الملا علي يمسحهن بنظراته ويقول في داخله أشياء كثيرة.
قالت زوجة الفلاح:
– كنا في البرية نبحث عن العكوب [1]، وحين لمحت شيئا لامعا، قلت لهن ـ ويا ريتني ما أخبرتهن بذلك ـ انظرن إلى هناك، ما هذا الشــيء الذي يلمع؟ ثم هرعت إليه فوجدت هذا الخاتم الماس، إنه ثمين وهو لي ولن اتركه لأحد، أليس كذلك يا ملا؟
استقبلت زوجة البقال كلامها بسخرية واستهجان:
– نحن الثلاث كنا معاً، شاهدناه معا، هرعنا إليه معا، وكل واحدة منا تريد أن يكون لها وحدها، لذلك جئنا إليك لتحكم بيننا يا ملا.
هبت عاصفة بالهرج والفوضى، وكادت تحول الجدائل إلى كومة من الشعر لولا أن الملا سد أذنيه وعاند عنفوان العاصفة:
– القضية صعبة، ولا أريد أن اظلم إحداكن، لذلك على كل واحدة أن تقوم بعمل غريب حتى يكون الخاتم نصيبها.
امسك عن الكلام للحظات وهو يلعب بسبحته، ثم أضاف لكن بصوت مرح:
– من تستطيع أن تخدع زوجها، تتغلب علي، تجعله مسخرة بين الناس، وتقنعه بأنه واهم أو مجنون، سيكون الخاتم من نصيبها، والآن اعطني الخاتم، سيظل عندي، وبعد الامتحان سأقدمه لمن تستطيع تنفيذ ذلك.. اتفقنا؟ هيا إلى بيوتكن ولا أريد أن أرى وجوهكن ألا بعد ثلاثة أيام.
ولأن الخاتم ثمين ولا تحلم به امرأة في القرية كلها، صممت كل واحدة على أن يكون من نصيبها مهما كلفها ذلك من تضحيات.
في الصباح قالت زوجة الفلاح لزوجها الذي كان يتدثر بجو دافئ ومنعش ويحلم بموسم وفير:
– اذهب وتناول فطورك.. وضعته تحت الشجرة.. أنا سأسقي الزرع ريثما تنتهي من طعامك.
كان الزوج يتناول طعامه بشهية ويستمع إلى طنين فرقة حشرات الأرض كثيرة الألحان، أما هي فكانت تنظر من حولها تارة، والى زوجها تارة أخرى، وحين تأكدت من انه لا يبالي بها، بدأت مهمتها بسرعة قياسية، ثم حملت الرفش وكأن شيئا لم يكن.
عاد الزوج إلى عمله أكثر نشاطا، فذهبت وجلست تحت الشجرة والخاتم الجميل لا يفارق مخيلتها، بينما نظراتها مثبتة على الزوج المشغول بالسقاية، ولم تمر سوى دقائق حتى ناداها بدهشة وهو لا يصدق ما يرى:
– تعالي يا (درة) تعالي.. تعالي وشوفي «هالشوفة»
ولأنها تعرف تماما ما هي الشوفة لم تتحرك من مكانها.
– وتعالي وانظري إلى الساقية، إنها مليئة بالسمك!
رنت إليه بخطوات رشيقة ناعمة وهي تقول بتعجب:
– سمك! الساقية مليئة بالسمك؟! سبحانك يا رب، هذه من عجائب الدنيا!
بقي الزوج واقفا في مكانه يســيطر عليه الذهول، بينما راحت الزوجة تلم الأسماك بسرعة وتنشر من حولها الكلام:
– سنأكل غذاء شهياً.. إنها من نصيبنا.. رزقنا.. إياك أن تخبر أحدا بذلك لكي لا يتهمك بما لا تريد.
في الطريق إلى البيت كانت همساتها تسـقط في أذنها: «الخاتم لي ولن تأخذه غيري مهما حصل.»
ظل الزوج يسبح في سواقي الصمت والحيرة، بدا مثل من يقع في متاهات مظلمة، ذهب بأفكاره بعيداً، ولم يعد له هم سوى معرفة كيفية وصول الأسماك إلى الساقية.
بدت الشمس اكثر نشاطا، وكان جسمه ينز عرقاً ساخناً، شــعر بشيء من التعب، فغسل وجهه، بلل شعره ورقبته وهو يتمتم: «لحسن الحظ أن وقت الغداء قد حان.. الأفضل أن أعود إلى البيت.»
اسكت المحرك دون أن يكمل السقاية، واصل سيره بخطى بطيئة وذاكرة تلمع فيها الأسماك، خيـّل إليه انه يسمع صوتاً يقول له: «في كل صباح ستجد الساقية مليئة بالأسماك».
هز رأسه وتمتم مرة أخرى: «لا بد انه صادق.. عجائب الدنيا كثيرة والله كريم يرزق من يشاء».
كان يتناول طعامه بنهم، ومع كل لقمة كان يتساءل في داخله عن كيفية وصول الأسماك إلى أرضه، فكانت تهزمه الأجوبة ويرهقه التفسير، أما الزوجة فكانت تجلده بنظراتها وهي تقدم له قطع اللحم الناضجة.
مسح فمه بباطن كفه، تجشأ وطقطق رقبته، تثاءب:
– سأرتاح قليلا حتى يبرد الجو، ثم اشرب الشاي واذهب إلى عملي.
توارى داخل الغرفة، فنهضت الزوجة بخفة وراحت تلملم بقايا الطعام، ولم تمض دقائق حتى لم يبق منه أي أثر، ولكن بقايا البطاطا المسـلوقة توزعت على الأرض.
– الطعام كان لذيذاً أليس كذلك؟ قال الزوج وهو يشرب الشاي وينفث دخان سيجارته.
– أي طعام؟ ردت وهي تمط شفتيها وتجعد وجهها.
– ماذا جرى لك يا حرمة؟السمك المشوي الذي أكلناه قبل قليل!
ضحكت ملء أشداقها فبانت أسـنانها المصفرة، وبعد أن هدأت قالت بسخرية:
– سمك؟! من أين لنا بالسمك؟ وهل تسمي البطاطا المسلوقة سمكاً؟!
صوب سهام نظراته إليها وبدا مثل من يسمع كلاماً عجيباً:
– بطاطا؟! يا حرمة يا مهبولة ألم نجد سمكاً بين الزرع في الساقية؟
بسملت وحوقلت، ثم اندلعت زوبعة من الولولة تسبقها دموع مليئة بالكذب:
– يا ويلي يا ويلي يا ويلي.. الحقوني يا ناس.. اسمعوني.. زوجي جن زوجي جن..
أما زوجها فلحق بها وهو يردد:
– اسكتي يا جنية.. فضحتينا.. سودّك الله.
لم تمض دقائق معدودة حتى تجمع من حولها كل من سمع أغنيتها، وقبل أن يسألها أحد عن السبب في صيحاتها التفتت إليهم:
– زوجي يقول انه رأى سمكا كثيرا في أرضنا بين الزرع، ثم يصر على أنني جئت بالسمك إلى البيت، ويصر اكثر على أننا أكلنا سمكا مشوياً.
تطلع أحدهم إلى الزوج الذي مزقته مدية الحيرة، ويبدو مثل قرية ضربها زلزال عنيف، وحين لاحظ أن الغضب يشع من عينيه المدججتين بالأسـلحة الفتاكة خاف أن يتكلم.
قال آخر وهو يبتسم بخبث:
– رأيت الأسماك في الساقية.. بين الزرع؟!
انزل عن كتفيه حمولة القهر وقال بقلب مهترىء:
– نعم وجاءت بها إلى البيت وأكلناها.. صدقوني يا ناس، أنا لا أهلوس، زوجتي هذه أصابها مرض جنون البقر.
لطمت وجهها، ثم جعلت من غطاء رأسها ميكرفونا وغنت مرة أخرى:
ـ زوجي جن...
صب عليها ألف لعنة، وبحركة سريعة خطف عقاله النائم فوق رأسه، فصحا العقال وارتجف مذعورا بين يديه، حاول أن يمسك بزلاعيمها، لكنها تحركت بخفة قطة مبتعدة عنه وتمترست خلف إحدى جاراتها.
حين أضحت في مأمن من عقاله الذي انتفض وتحول إلى ثعبان على شكل طريق إسفلتي باتجاهين قالت:
ـ أرجوكم ادخلوا إلى بيتي، فإذا وجدتم أي أثر للسمك الذي لم يدخل بيتنا منذ ثلاث سنوات، حينها بإمكانكم أن تقولوا عني مجنونة.. طعامنا كان بطاطا مسلوقة ولا ادري لماذا يصر على أننا أكلنا سمكاً!
دخل الرجال والنساء إلى البيت وبدأوا يفتشون الغرف والصالون والمطبخ وحتى قن الدجاج والزريبة مثل كلاب بوليسية، فلم يعثروا إلا على بقايا البطاطا المسلوقة وهي متناثرة هنا وهناك.
ظهرت امرأة في سوق البلدة برفقة رجل وهي بكامل زينتها ومباهجها واكسسواراتها على غير عادتها، تعمدت أن تمر مع الرجل من أمام دكان البقال ليراها وهي برفقة رجل غريب، كانت تشــرّق وتغرّب، وفي كل مرة تظهر بشكل مختلف، مرة تشبك يدها في يده وتطلق الضحكات الخفيفة، ومرة تضع يدها فوق كتفه وتقول له النكت فيضحك بصوت عال، ومرة كفها ترتاح في كفه وهما يسيران كعاشقين صغيرين.
ما إن وقعت نظرات البقال عليها حتى هب واقفاً كأن عفريتا قد انبثق أمامه، لقد صعقه المنظر، جمده، وحوله إلى كائن تستــعد روحه لأن تهرب منه.
كلما كانت تمر من أمامه، كان يشعر بالاختناق وهو يتأمل المشهد بكثافة، بغتة استبد به الانفعال، غرق في بحر الوسواس، لكن وقبل أن يشتعل بنار الهلوسة تساءل بصوت كالفحيح: «معقول أن تكون زوجتي؟» وسمع قهقه من داخله: «يا لرأسك الفارغ، هل رأيت زوجتك مرة وهي بهذه الغرابة؟ ثم ماذا ستفعل مع هذا الرجل الغريب؟»
غابت المرأة ومن معها فعاد وجلس على دكة قلبه الطعين، ظل يتأمل المسافات السائرة أمامه بسياراتها وأشخاصها، بعرباتها ودوابها، بالوجوه السمراء والصفراء، بالأتربة المتطايرة في الهواء، التي تسد منافذ التنفس،
كل شيء من حوله يتحرك وهو متخشب كالصنم لا يتحرك فيه شيء إلا غمازاته الحزينة.
قبل أن تصبح حواسه كائنات خرساء وعوراء لا تفهم بعضها قال في نفسه: «يجب أن اذهب إلى البيت لأتأكد وارتاح، فإذا لم تكن زوجتي في البيت فهي التي كانت مع الرجل.. نعم إذا كانت هـي يجب أن أطلقها قبل أن تجلب لي الفضائح». ولكن قبل أن يهرول إلى البيت دخل إليه الرجل الذي كان برفقة المرأة.
وزع نظراته في الأرجاء كافة وقال وهو لا يلتفت إليه:
ـ من فضلك.. أريد علبة السمنة هذه.
أراد أن يسأله عن المرأة غير أنه لم يجرؤ على ذلك، وبعد لحظات مريرة قال:
ـ العلبة الصغيرة أم الكبيرة؟
التفت إليه الرجل وتساءل باستغراب:
ـ وهل تحدثت إليك؟ إنني أتحدث مع هذا الرجل الذي يجلس إلى جانبك. أشار إلى الجهة اليمنى.
ربط الارتباك لسان البقال، بينما ذاكرته الباكية تبعث رائحة عفنة، تلفت من حوله فلم ير من يجلس إلى جانبه، لحظتئذ تشبث بتلابيب صبر وهمس لذاته: ماذا جرى لي اليوم؟ هل جننت أم أن هذا الرجل مجنون؟!
أما الرجل فظل يسال الرجل الآخر:
ـ هذه العلبة كم سعرها؟
بغتة تفجر صبره وتناثرت شظاياه في كل مكــان، اقترب منه والدمار والخراب يتحاوران في مخيلته، أمسك بكتفه وراح يهزه هزاً:
ـ انظر من حولك يا هذا، هل أنت معتوه؟ وهل ترى غير في الدكان؟
تطلع الرجل من حوله، وفجأة انكسرت تعابير وجهه، عصر رأسه بكلتا يديه وقال بهدوء:
ـ رأسي يكاد ينفجر، يبدو أنني بت أرى أشياء كثير في وقت واحد.
ثم جلس على كرسي صغير في وسط الدكان وأضاف:
ـ لا تؤاخذني يا أخي، فأنا بالأمس تعشيت (فجيّل*) ويبدو بسببه صرت أرى الشخص شخصين، لقد حذرتني زوجتي وقالت لي بعد أن أحضرته مع الخبيزة من البرية، لا تأكل الفجيّل، فإن من يتناوله يرى في اليوم التالي
الشيء أثنين، لكنني لم استمع إليها وصممت أن تطبخ الفجيّل.
ثم خرج بسرعة ولم يدع له مجالا للكلام.
حين صار البقال وحيدا، انسكب في أعماقه شعاع فرح وهو يضيء كنيزك يخترقها وينيرها، أقنع نفسه بأنه كان قابعا في قوقعة وهمية، أشعل سيجارة، سحب نفسا اشتاق له، فتح لنفسه (كازوزة) شربها على مهل وراح ينثر الكلام وكأنه يردد أغنية غير منسجمة الكلمات:«ها ها.. لذلك رأيت الرجل وكأنه يسير برفقة زوجتي.. الحمد لله لأنني لم أذهب إلى البيت، فلو ذهبت ولم أجدها لكنت طلقتها فورا وهي بريئة بالتأكيد.. أنا أيضا تناولت في العشاء( الفجيّل).. لعنة الله عليك يا فجيّل، انك تدوخ الإنسان.. ولكن لماذا لم تخبرني زوجتي عما يفعله بالإنسان؟ لا لا .. كانت زوجتي، أنا متأكد من ذلك.. لا لم تكن هي.. أنها...» قبل أن يتمكن منه الوسواس أرسل بصره إلى الشارع وكأنه يريد آن يرى شيئا مهما، لكنه لم ير ما هو غريب، حينئذ ثبت نظراته على دكان جاره المقابل له ، حدق فيه ملياً، فرآه لوحده خلف طاولته ويكتب في دفتره.
لم يعد يدري ماذا يفعل، مرت عليه دقائق منفعلات، لكنه كبح جماحها، خبئ الغصص المريرة وذهب إلى جاره اللحام، سأله عن الفجيّل ومضاعفاته، وبعد لحظات رجع إلى دكانه بجسد يطوقه الخجل، أما روحه فظلت ثكلى بدمع القهر مشغولة.
طلبت زوجة الحائك منه بعض النقود لتذهب برفقة جارتها إلى المدينة لشراء حاجيات لها، وحين عادت صار الزوج خرقة بالية، ينام لساعات طويلة، وحين يصحو يشعر بسعادة غامرة، لكن سعادته لم تكن تدوم أكثر من دقائق، فسرعان ما يسقط في دوامة التوهان من جديد.
عندما أتمت مهمتها على اكمل وجه، جلست إلى جانب زوجها الغارق في بحر النوم، وحين صحا تثاءب مرات كثيرة، ثم أغمض عينيه الصغيرتين الناعستين للحظات، ثم جلس مع كسله واسند رأسه إلى الحائط، ثم تطلع إليها وهو يتمطط:
ـ ياااااه .. أشعر بدوخة وجسمي كله متعب.
ـ كفاك نوماً فأنت منذ البارحة نائم مثل التنابل.
بعد أن شرب شايه خاطبها قائلاً:
ـ سأذهب غدا إلى المدينة لشراء خيوط جديدة، فالتجارة رابحة هذه الأيام.. لقد بعت كل البسط التي عندي.
زجرته بنظرة قاسية وتساءلت باستغراب:
ـ هل مازلت نائما وتحلم آم انك خرّفت؟ متى بعت البسـط؟! ألا تراها مكدسة فوق بعضها لا يسأل عنها أحد وكأنها برادع حمير؟
تطلع إليها برهة، ثم إلى البسط المكدسة، فرك عينيه قليلا وتثاءب، ثم تمدد وهو يقول ببطء:
يبدو أنني كنت أحلم، يا الله كم كنت سعيدا وأنا أبيع البسط للنسوة وخاصة أنهن لم يجادلن في السعر أبدا.. لعنة الله على هذه المهنة التي لا تجلب إلا وجع الرأس.. ياه أشهر..
وسرعان ما أغمض عينيه واستسلم لسلطان النوم.
شرحت كل واحدة للملا علي كيف وماذا فعلت بزوجها، وبعد أن فكر طويلا قال وهو يبتسم: زوجتي هي التي تستحق الخاتم، فهو مفصّل خصيصاً لأناملها الناعمة.