حب الوطن يخلد كل حب
اختلفت أغراض الشعر وتعددت مدراسه ومذاهبه إلا أن الشعراء باختلاف مشاربهم وافكارهم وطروحاتهم وتطلعاتهم أجمعوا على شيء واحد هو الوطن وحب الوطن، فكان الحنين إلى الأوطان وذكر الديار قاسماً مشتركاً بين الشعراء والأدباء. والشعر العربي حافل بقصائد عديدة تغزلت عبر أبياتها الشعرية بحب الوطن والحنين إلى الديار والأرض فيندر أن نجد قصيدة عربية إلاّ وبها حنين إلى الوطن حتى احتل الوطن الجزء الأكبر من قصائد الشعراء مقارنة بقصائد الحب والغزل.
قال الجاحظ في رسالة الحنين إلى الأوطان: كانت العرب إذا غزت أو سافرت حملت معها من تربة بلدها رملا وعفرا تستنشقه.
والوطن في اللغة العربية كما جاء في لسان العرب: هو المنزل الذي يمثل موطن الإنسان ومحله، ووطن المكان وأوطن أقام متخذا إياه محلا وسكنا يقيم فيه، فالوطن هو المكان الذي ارتبط به الإنسان، فهو مسقط الرأس، ومستقر الحياة، وسكنه روحاً وجسداً، وهام به حباً وحنيناً، فحب الوطن والالتصاق به وحب البقاء فيه من الأمور الفطرية لدى الإنسان.
من يقرأ شعر حسن حجازي قراءة عابرة يظنه بسيطا، وسبب ذلك سلاسة التعابير، ورقة المفرادت الشعرية التي يستخدمها الشاعر، بالإضافة إلى دقة التصوير والبعد عن التعقيد، ومألوفية كثير من العناصر التي تشكل قصائده وأبيات شعره،فهي تخاطب عاطفة ومشاعر وأحاسيس القارئ والمستمع، معتمدا على الايقاع الحركي للمفردات المشحونة بالغضب والشجب حيانا، وبالسخرية حيانا آخر والتي تخلقها الفكرة في محاولتها للتأثير على المسارات الاجتماعية فاللغة بفنونها المختلفة طريق التأثر علم المعقول أو علم المثل في الحس، وأداة لذلك التأثير، وينحصر نجاح الفنان في نتاج محاكاة الأشياء على حقيقتها، وفي هذا يتجلى مجهود الفنان ويؤتي ثماره على أن المحاكاة الحقيقية لإغناء فيها عن الحقيقة، فليست سوى خطوة للإقتراب من الحقيقة إذا كانت تلك المحاكاة صحيحة.
أما الموضوعات التي يتناولها شاعرنا كثيرة جدا بحيث يصعب حصرها، فهناك قصائد عن أشخاص يرتبط بهم الشاعر بعلاقات إنسانية واجتماعية، وقصائد رومانسية ومناجاة، وقصائد حب، إلا أن شاعرنا في مجموعته الشعرية "فى انتظار الفجر " قد أختار أن يكون صوت الشعب حاملا هموم الوطن والمواطن دون إغفال أهم القضايا التي تواجه الإنسان العربي والتي شكلت هما من الهموم القومية فاثارت قريحته الشعرية، فكانت قضية فلسطين والعراق وهموم الوحدة العربية حاضرة في مجموعته.
يصوغ حسن حجازي شعره من الواقع العربي الراهن المليء بالقهر والجراح عندما يتوحد عنده الألم بين الأقصى والمواطن الفلسطيني والطفل الفلسطيني ويبكي ما وصلنا إليه:
اليومَ نهارى حزين ْشجرُ الزيتون ِ حزين ْولدى يفترشُ الأرض َيسأل ُ عنْ شجر ِ الياسمين ْاغتالته ُ ايدى الغاصبين ْإلى أن يقول:لم يعد بالبيت ِ طحينوالحليب لأطفالي الجوعىجف من ضرع السنينوأمتي في سباتِتشجب وتسب وتدين!
أما الأسباب الحقيقية التي أدت إلى هذا الوضع المأساوي وحالة العجز والتردي: محاربة الإبداع وقتل المواهب وتفشي ظاهرة النفاق
فى بلاد ٍتأكل ُ فيها الكلابَُ المواهبتجيد ُ الرقصَ على الموائدومغازلة َ السلطانفى بلاد ٍتجيد ُ نسجَ الأكفانتجيد ُ تسفيه َ الأحلاملو بقيت لنا أحلام
وتغليب المصالح الفردية على حساب المصلحة الوطنية العليا والإستهتار بحياة وتاريخ ونضال وتضحية الشعب، مستخدما نضال الشعب الفلسطيني كرمز لنضال الشعوب
ماذا تقول يا أبا عباس؟وأنتَ أيضاً يا أبا هنية؟ماذا تقولانلدماء ِ الشهداءلأصحاب ِ القضيةلأطفال ِ الحجارةلأصل ِ الحضارة؟ماذا تقولانللطين؟للمساكين؟لأهل ِ المخيمات؟لأصدقاء ِ الشتات؟لدير ياسين؟لأبطال ِ حطين؟لشهداء ِ فلسطين؟للأسرىللأراملللركعللرضع؟ماذا تقولان
ويرثي حالنا بحزن سوداوي بلغة " أنا الذاتية " والتي تمثل حالة اللاشعور الفردي والذي هو جماع مكتسبات الإنسان خلال حياته كفرد. فاللاشعور الفردي يحفز عمليات استبصار الذات الغريزية عند مستوى الهو لكي يتم تصوير العملية الأولية باعتبارها عملية لاشعوريه تجهل أو ربما تتجاهل حدود الزمن والمكان مستشعرة بمبدأ اللذة والألم فتندفع من خلالها " أنا الذاتية " الموجودة ضمنا تجاه اللذة وتتباعد عن الألم بالتفريغ عن طريق تكوين صورة شعرية
فانتحرَ طيري الأخضرواسودت فى عيني الشمسبين َ سكون ِ الرمزتحت َ نيران ِ العجزمن خيول ِ الفُجَاءةلمَا عادت بغير بشارةتجعلني أنتظر ُ الغد!
والإفلات والهروب من الواقع والتمرد عليه واللجؤ إلى البحث عن امل أو فجر جديد حتى لا تنتهي الرغبة غير المشبعة إلى الاحباط
ويسكن ُ فى القلب ِ الهَمإلى أن يأتي اليومالمتمم َ لذكرى النصرلينهي أياماً للذلإلى يأتي هذا اليومسأكتبُ فى عينيك ِأحلى أبياتِ الشعرلكن هل يشرق ُ علينا الفجر؟!حتما ً سيشرق ُ عليناألف ُ فجر ٍوفجر!!
فالوطن يستمد قوته بابنائه الأوفياء الذين يبذلون لأجله الغالي والنفيس وهانت عليهم ارواحهم فداءا لوطنهم وذودا عنه في لذة وإقدام وبالتالي هذا هو التعبير الصادق عن حب الوطن ليس بالكلام والخطابات الجوفاء
هم زرعوافى الدربِالورد ,هم غرسوافي الظلمة الغدهم ضحوابأمانيالعمر ,هم ذهبوالنبقى نحن!
ويبقى الهم الوطنى بلده مصر نراه يناجيها يداعبها يلاطفها وأحيانا يسخط عليها ويتمرد عليها
فمصر تتمثل لحسن حجازي الأم والزوجة والأبنة والحبيبة والرفيقة حين يقول لها في
قصيدته " تحذير ":
عودي بالإلهام ِيا حسناء الزمان ِعودي بالحلم ِ الأخضربالقمح ِ الأصفربحلم ِ الأشقياء!
لحد علمي القصيدة مكتوبة من الثمانينات كأنه يتنبأ بما يحدث الآن بضمير الأبن , بضمير الشاعر, بما تشهده الساحة المصرية والعربية الآن من مشاكل حياتية صعبة تمس المواطن البسيط , فنجده يقول في نفس القصيدة:
حتى الآنلستُ منك ِولستِ منيفنحنُ فى الحبِ غريماننتلهى بالأيامنتسممُ بالأوهامفى دوران الساعاتفى انتحار الأمسياتبغير لقاءوحنين ِ الذكرياتيسري فى الأعماقيقتلعُ منا الجذورفنمضي بغيرِ جذورتتقاذفنا الريحلا ندرى أين!صحا بقلبي السندبادأتهيأ للرحيلفعودينيوإلا صلبتك ِبين دفاترِ نسياني!
وكذلك في قصيدته:
"بعد العودة " نراه مهموما بالمشاكل اليومية للمواطن المصري البسيط حين يقول:
كنت ُ عزمت ُ أن أطوي السبع بحورلآتيك ِ بسر الورد ِ المؤتلق ِ الحسنلآتيك ِ باللؤلؤلةِ الأملتزينَ أجمل نحرتحرس أغلى الثمراتإن عمَ الليلأو غدر الشطكنت ُ عزمت ُ أن آتيكِبالأقمار السبعة المزروعة ِ وردأن آتيكِ ببقراتِ يوسف الِسمانلترعى حقول الحنطة عند الشط
نعود هنا للحنطة للقمح لقوت الأشقياء للأيام العجاف التي ندعو الله أن يحفظ مصر منها على الدوام وأن يرسل لها يوسف وألف يوسف.
إين يذهب لا مفر من الهجرة وصلبها بين دفاتر الذكريات كنوع من الهروب من الواقع المرير.
لكن حسن حجازي رغم قنوطه ويأسه يقرر أنه ثمة أمل في غد ٍ أفضل كما يبدو ذلك في نهاية قصيدة من أجل عينيك ِ حينما يقول:
من أجل ِ عينيك ِأجوب ُ وادي الصبروأحضرُ لك ِ الفجرفى ليلة ِ حب ٍ ورديةتسامرنا فيها النجومويزفنا البدر!
يتمتع حسن حجازي بحاسة رأئعة في توظيف التاريخ سواء الإنساني عامة والعربي بصفة خاصة نجده يتقن المعارضة ولكن بشكل جديد يوظف ما يعرف بنظرية القناع وذلك عند معارضته لنونية بن زيدون الشهيرة في قصيدته " أكانت تدري" وفي وإهدائها لولادة بنت المستكفي ولم يكتف بالأسم ولكن قام بتوظيف رأئع للدلالة للبكاء وفضح الحلم العربي الذي تعسر في ولادته والذي تأخر كثيراً:
أكانت تدريأنى والشعرُوزمني المائج ُفى بحورِ التسكع ِأنى سأكتبُ عنهاأكانت تدري؟!أكانت تدريوالقَابلة ُووِلادَة ُ مسخ ٍ أسوديقتل ُ فى الرضيع ِ حلماًكان َ سَيولَديحمل ُ معه ُ سيفاً للنصر ِأو للتذكار!ثم حرفية الإقتباس والتوظيف الواعي للتراث الشعري:أكانت تدريوَلادَة ُ بنتُ المستكفيوقد " أَضْحَى التَّنَائِي بَدِيْلاً مِنْ تَدانِيْنا "أننا لأجلها عشقنا "لوركا "و "دون كيشوت "وغرناطةوحلبات ِ الثيران ِ الداميةحبا ً فيهاوننتظر ُ معها حلماً عربيا ًيجمعُ شتات أمة صابرةعلى شطِ النيل ِما كانت أبداً صاغرةوقد " جاوزَ الظالمونَ المدى "ِولكن " سيشرق ُ الفجر ُ على أمة ٍلغير ِ وجه ِ الله لم تسجد ِ "!
ثم اللعب على الرمزية في قصيدة حورس بين الواقع والحلم يندد فيها بالظلم الذي تعرض له الإنسان المصري من فجر التاريخ من بناء الإهرام للملوك لتوريد ما توجد به أرضه لسكان القصر ثم لحفر القناة.. قناة السويس بدمه وعرقه.. ثم بعد تحرير سيناء وبزوغ نجم الإنفتاح الإقتصادي ومعاناة المواطن المصري البسيط وعبر القصيدة يرمز للحلم المصري بحورس..القصيدة كتبها حسن حجازى أوائل الثمانينات فكأنه مثل بقية الشباب المصري الذين كانوا يراهنون على الزعيم محمد حسنى مبارك وما زالوا مؤمنين به حيث عادت وقتها الأرض وبدأت مصر تجني ثمار النصر وعودة سيناء فربط بين مصر مبارك ومصر حورس في توظيف جيد للأسطورة المصرية فنجد " إيزيس " تجوب الوادي. ونجد " ست " إله الشر " ونجد " أوزوريس " ليربط فجأة بين الواقع المر في بداية الثمانينات ورجال الأعمال الذين تفنن بعضهم في كسب الأموال وامتصاص دم الشعب المصري الذي لم يكد يفيق من آثار الحرب التي تحملها فى شجاعة وصبر وإخلاص:
خمسة ُ آلاف ِ عامبنيت ُ الأهرامَ على كتفيحجراً حجرانحت ُ الصخر َقتلت ُ الصبر َتخطيت ُ المحالالهرم ُ الأكبريا اكبر َ شاهد َ ظلم ٍ للإنسانالهرم ُ الأكبركفاك َ عبثا ً واخرجْ مرةتابوتا ً من أبناءِ الشعبِقد خُلِد ْالهرم ُ الأكبريا مأساة التاريخيأتيك َ العالم ُ يسعيما يدرى أنك َ تحوياطنان ُ الدموجبال ُ الهمأيها العالم ُعندما تأتينيى فلتبكي!عندما نجده يقول في مرارة:عادت أرض ُ الفيروزورحلً عنا الهكسوسلكن الوادي مُنهك بعد َ الحربيئن ُ تحت َ نخيرِ السوساليوم عدوي منيمن بيتيتربى داخل بيتيلا يمتص ُ إلا الدم ْالدم ُ القاني من أطفاليوفى المساء يشاركني صلاتي!
وبعد هذا المرور العابر فى شعر حسن حجازي الذي أحسب أن ما اقدمه هنا هو بداية للغوص في خضم هذا العالم الشعري والصوت العربي الأصيل الذي أعتبره نموذجا َ للشاعر العربي الملتزم الواعي لواقع أمته وشعبه ودينه.
والشاعرالحق ضمير الامة وصوتها فهوالذي يعيش حياته وسط الناس والاحداث فيتفاعل مع الناس والاحداث، ويشاركهم أفراحهم وأتراحهم، تطلعاتهم وطموحاتهم، ويبث الأمل في النفوس إزاء المصائب بالكلمة الشعرية التي تخاطب الروح والوجدان
وحسن حجازي في مجموعته الشعرية "فى انتظار الفجر " أراد أن يكون شاهدًا، وراصداً للأحداث، محبا لوطنيته ومعتزا بتاريخنا العربي المجيد
لا تسلني عن صلاحِ الدينولا تسلني عن حطينقبل أن تصبح َ أنت َوأصبح ُ أناصلاح الدينبعدها فقط يمكننا أننصلي معاًفي فلسطينونعيد َ أمجاد َ حطين
وختاما نقول: الشعر، حقا، كان ولم يزل هو ديوان العرب.