حدود السراب
لمّا فصلت العير شطر الحدود الغربية هبّ نفَـس من نسيم نديّ تحرك له قلب سعيد، و ذكّـره بأيام خلت من عمره في السجن اغترب فيها بضعة أعـوام أتت عليه بعدها سنوات عجاف ممتصة كعظم رميم ، لم يتمكن فيها أن يندمج في دائرة التهريب و السوق السوداء كما عهد .
كان جالسا يومها في خمّـارة النصرانية وتضوّر الذئاب يترامى إلى المسامع وعواء الكلاب مع نسيمات الغروب تنحدر من الجبال المحيطة بالبلدة و من وهدان الغرب القصيّة . و كان الجوّ في الحانة متلبّـدا و السكارى مبثوثون في القاعة متهالكون على كراسيّـهم و الأصوات ... ضحكات وشتائم تعلو و تخبو كنار المدفأة التي يرمقها في أيام الثلج و القرّ الغريبة هذه .
كان سعيد يترشّف غبوقه المرّ مرارة خيبته – وهو الذي لم يألفه كذلك- و يأسف لهوانه على رفقته و يلعن اللحظة التي أغرته بالدخول إلى هذا المكان الموبوء
وعرّفته بعالم التهريب ... كانت الساعة فوق رأسه تعدّ أنفاسه المضطربة وتحسب عليه كؤوس الخمرة التي أترعها وسجائر "الهافانا" التي أحرقها دون نشوة ...
سرح سعيد مع همومه و أغرب فيها يتبع دخان سيجارته و طفق يقلّب المسألة من وجوهها المختلفة و فرضياتها المتشاكسة علّـه يلمح من خلال الثلوج ممرّا يوصله إلى ما وراء الغروب . عاجله صديق الصبا و التهريب معْمر الأعرج بهمزة ثمّ قال له وصبّ كأسا ذهبية الأنفاس:
– أشرب ، أصلحك الله ، ستجد لها حلاّ عن قريب .
صعّـد سعيد في صاحبه نظره وصوّب بعين يشوبها اليأس والحزن ، وأطلق لسانا كالرصاص سليط:
ــ ويلك يا عفر الأدغال ... البضاعة توشك أن تتعفّـن وتنقضي المهلة ويبين الأجل ، فيبطل السفر وأخسر رأس المال .
أجاب الأعرج قائلا :
– هوّن عليك ، ستأتي العير مع انقشاع السماء وانفراج الطريق من وحل
الثلوج .
كان سعيد عصبيّ المزاج فاحش اللّسان غائر العينين نحيلا ، يقال إنه سقط على يافوخه وهو رضيع في الوادي حين كانت أمه الشمطاء تحمله زقفونة تحتطب،
فبقي زمنا فاقدا مداركه يشوبه تهيّج دائم ولـوثة جنون ...
ثمّ حدّق سعيد في صاحبه غيظا – وهو الّذي عرّفه بتاجر التهريب- وأمعن فيه النظر حَـنِـقا و ألقى نفاثة صدره المحترق في وجهه و قال:
– تـبًّا لك ... أنت سبب مأساتي ، كنتُ أعمل بمفردي فأنزلتَ عليَّ هذه البلية في ساعة ضيق نحيسة.
نظر إليه صديقه في حُـنُـوّ خُـلّـب و أردف قائلا:
– لا عليك ... أكظم غيطك ، لم يبق من دينك إلاّ هذه البضاعة ثمّ تنعتق منه تماما .
فزفر سعيد تأوّها في شبه انتكاس و واصل قائلا :
ــ آهٍ من الحاجة تلجئ المرء إلى ما يكره ، أعرف ذلك الشرّير يستعبد مدينيه و لا يعتقهم إلاّ و دماؤهم ممتصة و جهدهم مستوفى أضعافا .
ثمّ صمت هنيهة يشرب دخان السيجارة بعصبية و عيناه الغائرتان تتشوّفان الغيب من وراء نيران المدفأة . و عنّ له خاطر ، فذبّ من مكانه كالبرق ، وأسرع مُـيمّما باب الحانة و فؤاده في حنجرته هواء غضب يغلي حميما ...
لقد كان مع طباعه الشرسة هذه و نفسه النفور ، بعيد الغور يقظ الفطنة جريئا على الباطل...
كان الجوّ في خارج حانة النصرانية قد أظلمت سُحبه و ثقل صقيعه ، وفرّت
منه الكائنات رغم هدوئه الظاهر و رعده النائي الكامن في الغرب .
أغلق سعيد
الباب تاركا الدفء و عطر الخمور و صحبه ، و قطع له سبيلا إلى المنزل خلال الثلج الكثيف . دخله دون سلام فوجد كالعادة أمّه تضع العشاء على المنضدة و تنادي أباه و أخته الصغرى . لم تعره أدنى اهتمام فهي عليمة بأدوائه، فلا جدوى من سؤاله الآن ... و لكن دمعة كَمَد و إشفاق تسيل من عينيها حرقة على ابنها ، وهي الّتي ربّته على عشق ثرى بلدته و حذّرته مرارا من أهوال الحدود الغربية و ذئابها الضارية و كلابها العاوية و عسسها المتنمّر،
وقد دأبت هذه الأمّ أن تعيد على مسامعه المثل السائر " ما يأتي من الغرب لا يسعد القلب" ...
اتجه سعيد حين دخوله إلى غرفته لا يلوي على أحد و استلقى على فراشه ، فاختطفته الحدود والثلوج و نخاسه و شرد كيانه في الوادي ينسلّ منه إلى الضفة الغربية من الحدود ، حتى حمله ثقل رأسه خمرة و نعاسا إلى سماء صيف لا يكدّر نقاءها غيم و إلى مروج ذهبٌ بساطها و إلى جدول ماؤه تسنيم، وهو يرتع فيه مع شويهاته خالي البال آمن النفس ...
جلس الأب في أريكته قرب المدفأة و أشعل غليونه يتلذّذ تِبغه و يقصّ على ابنته باقة من أساطير الزناتي خليفة ، و الأمّ قبالتهما ترفأ جواربا صوفية ...
سكنت الأصوات في المنزل وخبا سعير نيران المدفأة و عاد الجوّ في الخارج إلى التعكّر ... وأحسّ سعيد بقشعريرة بردٍ تكفن جسده النحيل و تجمّد دمه فاستفاق من سِـنته و أصاخ إلى المنزل بأذنٍ مرهفة حذرة ، ثمّ اطّلع من الشباك إلى بوادر عاصفة تُـنبئ بالقدوم ...
ابتدر خزانة متاعه فأخرج منها كيسا ما إنّ محتوياته لتنوء بالعصبة أولي القوّة ،
فألقاه على غاربه بعد أن لبس معطفه الجلديّ و خلص إلى الحديقة من غير أن يرى أمّه كعادته وهو يسوق كلبه الأغبر ، و توغّل في الثلج و الظلام الزمهرير دون أن تخامر ظنّه أدنى فكرة بسوء المنقلب في هذا الطقس البائس .
سلك سعيد طريقه إلى الجبل ثمّ انحدر إلى الوادي الغربيّ فهو في هذه الأيام أضمن السبل لمجاوزة الثلوج و الحدود و العسس . كانت الصخور في الوادي منثورة على جنباته تحسبها
معلّقة و قد أثقلها الدجى و الصقيع .
وكان سعيد يجاهد قسوات الطبيعة و كلبه يلهث في صمتٍ بين يديه لا يُرى
عليه نصبٌ و لا يُبدي أدنى تأوّهٍ .
و كان الجوّ يزداد عبوسا و حَنَقا كلّما أدغل أكثر غربا ؛ وهو يعالج رجليه في
وحل الثلوج و عفن الطين ، يقتلع الواحدة فتعلق الأخرى حتى اعترضته هاوية لم ينتبه إليها ... ولم يعِ إلاّ وهو ملقى في سفحها و قد تورّمت رجله و انتُـقع
لونه و غار الدّم في عروقه المتجمّدة و برِق بصره ذاهلا .
قلّب عينيه الغائرتين في السماء غضبانَ أسفا لعلّ نجمه يظهر فيرشده الطريق ،
و سرعان ما هزَم الرعد بقوّة و عنف يصمّ الأفق و يزلزل الجبال و الوهاد ،
و قصف البرق نيرانه فاندكت الأشجار و الصخور كالعهن المنفوش تذروه رياح الغرب في جنون محموم ترجم سعيدا ... لملم قواه وطاقته و نفض عنه الثلوج
و مخاوفه ، ثمّ تحامل على نفسه المكلومة و رجله الأليمة و رام الوقوف... لكنه انهار على الثلج صعِقا فانهال عليه كيس البضاعة و رميم الأشجار و الصخور..
وهو في غيبوبته كان سعيد يشمّ أريج الأقاحي و روائح الشويهات ترعى عشب الربيع في مروج بلدته الحبيبة، و غداَ معها يرتع قرب ساقية الماء ... و تضوّر الذئاب و عواء الكلاب لا يزال يصل إليه من الأدغال الغربية و قممها الثلجية و نفَس من نسيم ندي يدغدغ قلبه الكليم ...