الأربعاء ١٥ نيسان (أبريل) ٢٠٠٩
بقلم ناهض زقوت

حرية الوطن أم حرية المرأة

عائشة عودة.. وأحلام بالحرية

من حق كل إنسان مستلب أن يحلم بالحرية، فالأحلام بالحرية متعددة المستويات والرؤى، فثمة أحلام بالحرية على مستوى الفكر، والحق في التعبير، والإبداع، والكتابة، وحرية من العادات والتقاليد والأعراف السائدة، وتخلف المجتمع، وثمة حرية للمرأة، وأخرى للرجل، وحرية من المعتقل، والاهم هي حرية الوطن. ولكن يبقى قول الكاتب الكبير يوسف إدريس "لو وزعت الحرية الممنوحة في الوطن العربي لا تكفي لكاتب واحد" حقيقة ماثلة للعيان على مدى الظلم الذي وصلت إليه الأمة العربية على مستوى إبداعها.

ونحن في هذا الكتاب إزاء حرية من نوع خاص، تتمثل في حرية الوطن وحرية المرأة معا. وهذا الموضوع تميز في الأدب الفلسطيني، وخصوصا لدى الكاتبات الفلسطينيات، فثمة العديد من الروايات التي ناقشت حرية الوطن وارتباطها بحرية المرأة، وبناء على رؤيتهن لا يمكن أن يتحرر المجتمع الفلسطيني من قيد الاحتلال، إلا إذا تحررت المرأة من قيودها الاجتماعية.

لكن هذه الرؤية النسوية لم تأت دفعة واحدة لدى الكاتبات الفلسطينيات، إنما تطورت أبعادها بعد قراءة الواقع الفلسطيني بكل مكوناته الاجتماعية. نأخذ مثلا "سحر خليفة" وهي خير من يمثل هذه الرؤية. حينما كتبت سحر خليفة روايتها الأولى "لم نعد جواري لكم" (عام 1975) ناقشت حرية المرأة وفق المفهوم العام لحريتها المرتبطة بالمساواة مع الرجل، ولم تتطرق إلى مسالة الربط بين حرية المرأة وحرية الوطن. ولكن بعد نضوج تجربتها من خلال الاحتكاك المباشر بالواقع النسوي وبالواقع الفلسطيني بشكل عام، كتبت في الثمانينات روايتيها " الصبار وعباد الشمس" لتطرح من خلالهما رؤيتها، بان حرية المرأة لا يمكن أن تنفصل عن حرية الوطن. وهذه الرؤية أصبحت كالمعتقد لدى الحركات النسوية الفلسطينية.

ويأتي كتاب "أحلام بالحرية" لعائشة عودة، والصادر في طبعته الأولى عن المؤسسة الفلسطينية لدراسة الديمقراطية (مواطن) ـ رام الله 2004. وفي طبعة ثانية عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر ـ بيروت 2005. ليطرح هذه المسالة في شكل جديد، وهذا ما يميزه.

إن الكتاب يسجل تجربة "عائشة عودة" على أربعة مستويات متداخلة: حريتها الشخصية وأحلامها بامتلاك المسؤولية الفردية، وحرية المرأة من قيود المجتمع وعاداته وتقاليده، وحرية الوطن من الاحتلال، وحريتها من المعتقل. ويعد هذا الكتاب من الأدب التسجيلي أو أدب التجربة الشخصية، وهو الأدب الذي يحكي عن تجربة مر بها الكاتب في حياته، وليس بالضرورة أن يستعرض فيها كل التجربة إنما بعض ملامحها البارزة والمهمة والمؤثرة.

تمثل تجربة المعتقل أو السجن من أكثر التجارب الفلسطينية اتساعا، وأشدها عمقا وألما. فقد مر بهذه التجربة الآلاف من النساء والرجال الفلسطينيين، وانعكست بدورها على ذويهم ومحيطهم الاجتماعي. وسجل الأدب الفلسطيني عشرات التجارب الإبداعية في أدب المعتقلات، وهي في اغلبها تجارب شخصية، مثل: روايتي "الزنزانة رقم 7، وتحت السياط" لفاضل يونس، و"قفص لكل الطيور" لخضر محجز، و"ظل الغيمة السوداء" لشعبان حسونة، و"ستائر العتمة" لوليد الهودلي، و"شمس الأرض" لعلي جرادات، و"قهر المستحيل" لعبد الحق شحادة، والعربة والليل لعبد الله تايه، وغيرها.

ولم يكن الشعر بعيدا عن هذه التجربة، فكل شاعر دخل المعتقل الإسرائيلي سجل تجربته في قصيدة أو ديوان، مثل: ديوان "زمن الصعود" للمتوكل طه، و"ترانيم خلف القضبان" لعبد الفتاح حمايل، و"المجد ينحني أمامكم" لعبد الناصر صالح، و"حوافر الليل" لفايز أبو شمالة، و"أوراق محررة" لمعاذ الحنفي، و"الجراح" لهشام عبد الرزاق، وغيرها. كذلك القصة القصيرة.

ومع هذا، تبقى تجربة المعتقل في الأدب الفلسطيني ناقصة، اذ لم تسجل بما يكفي من اغلب جوانبها، فهي تجربة غنية بالأحداث والمواقف والبطولات والتداعيات والآلام والجروحات، والأبعاد الإنسانية، والأبعاد الإجرامية للمحتل، والممارسات السادية والعنصرية للمحقق الإسرائيلي، والعلاقات داخل المعتقل سواء بين المعتقلين أنفسهم أو بين المعتقلين والسجان الإسرائيلي.

لقد تعودنا على قراءة التجارب الشخصية في أدب المعتقلات التي يكتبها الذكور، لأنه نادرا ما تكتب المرأة الفلسطينية المناضلة تجربتها لأسباب اجتماعية. إلا أننا ـ في هذا الكتاب ـ أمام تجربة غنية وفريدة، تتحدى المجتمع، وتقدم المرأة بكل تكويناتها الإنسانية والبطولية، في مواجهة المجتمع بكل الرواسب الكامنة فيه، والمحقق الإسرائيلي بكل عنصريته وساديته، كل هذا في سبيل قضية آمنت بها وناضلت من اجلها، ودفعت الكثير في سبيلها.

عائشة عودة من مواليد قرية دير جرير قضاء رام الله، وتنتمي إلى عائلة مناضلة عانت كثيرا من ممارسات الاحتلال، أخيها عاش مطلوبا للاحتلال وهرب إلى الأردن، وخالد ابن عمها مطلوبا للاحتلال وقضي ثلاثة عشرة سنة هاربا في الضفة الغربية، واحمد عودة ابن عمها وزوج أختها معتقل ونسف الاحتلال بيتهم. وقد عملت مدرسة رياضيات وعلوم قبل اعتقالها، انضمت إلى حركة القوميين العرب في المرحلة الثانوية، وبدأت نضالها في صفوف الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين منذ الأيام الأولى لاحتلال عام 1967، اعتقلت في أوائل مارس / آذار عام 1969، بتهمة وضع عبوة ناسفة في مطعم إسرائيلي (السوبر سول) عام 1968، وحكم عليها بعد تعذيب شديد بالسجن مؤبدين وعشر سنوات. أبعدت عن ارض الوطن في أول عملية تبادل للأسرى بين منظمة التحرير الفلسطينية وإسرائيل فيما عرف بـ(عملية النورس) عام 1979. وعادت إلى ارض الوطن مع كوادر منظمة التحرير في عام 1994، وأقامت في قطاع غزة لمدة عامين قبل أن تستقر في مدينة رام الله. وهي عضو في المجلس الوطني الفلسطيني منذ العام 1981.

يعتبر كتاب "أحلام بالحرية" الجزء الأول من تجربة اعتقال فتاة فلسطينية، كما جاء في الصفحة الأولى للكتاب، وينتهي بنهاية التحقيق معها وانتقالها على غرف المعتقل بانتظار المحاكمة. وهي تعكف الآن على تسجيل الجزء الثاني من هذه التجربة. كما صدر لها مجموعة قصصية بعنوان "يوم مختلف".

يكتسب هذا العمل أهميته الخاصة من كونه يؤرخ للحظة تاريخية شكلت الملامح الأولى لمشاركة المرأة الفلسطينية في الثورة والنضال ضد الاحتلال، ولم تعط هذه التجربة الاهتمام الذي تستحق رغم أهميتها في تاريخ النسوية، وفي اغناء الذاكرة الجماعية للشعب الفلسطيني.

يأتي الكتاب على شكل فصول، وكل فصل يستعرض جانبا من جوانب التجربة، وهذا لا يعني الانقطاع بين الفصول، إنما نلمس التداخل بينهما بكل قوة وانسجام، لتشكل في النهاية التجربة التي خاضتها عائشة عودة. وكانت عناوين الفصول كالتالي: أحلام بالحرية، منتصف الليل، التحقيق، اعتراف وما بعده، ويتشقق الجدار، استئناف الحياة، زقزقة، مع المجموعة.

وعبر (158) صفحة، استطاعت الكاتبة أن نزاوج بين قضيتها الوطنية وقضيتها النسوية بصورة خلاقة، بحيث جعلتهما عنوانين متلازمين مع حريتها، تستمد من الثانية القوة والصلابة والتحدي، ومن الأولى القدرة على التفكير بالانعتاق والتحرر والحلم بالمستقبل، وتلمس طريقها نحو حريتها الشخصية التي لن تكتمل إلا بحرية وطنها.
والسؤال الذي يطرح نفسه قبل الدخول في بنية النص، خصوصا أن تسجيل هذه التجربة يأتي بعد 35 عاما من وقوعها. ما الحد الفاصل بين زمن الحدث وزمن الكتابة؟ فزمن الحدث في عام 1969، وزمن الكتابة في عام 2004. فهل كان لزمن الكتابة تأثير مباشر على زمن الحدث، أم حافظ الحدث على قوة تأثيره، وقوة حضوره في ذاكرة الكاتبة؟ .

لقد سجلت "عودة" تجربتها في التحقيق بمنتهى الصدق والشفافية الإبداعية، وبشجاعة نادرة، ولا تتردد في تسجيل لحظات الضعف الإنساني، إلى جانب الصمود والمواجهة. لهذا يعيش القارئ تجربتها بكل أناتها وآلامها وأفكارها وهواجسها ومخاوفها.
البحث عن الحرية:
تفتتح تجربتها على مشهد مأساوي حزين، وهو مشهد وداع الأخ المسافر إلى "ما وراء سبع بحور"، وهى أمام هذا المشهد قوية صابرة لم تذرف الدمع كالأخريات، لأنها لم تكن في سياق المشهد إنما خارجه على مستوى الخيال، إذ كانت مأخوذة بعالم من الحرية: " أمي وأخواتي يبكين خوفهن وقلقهن، أما أنا، ورغم القلق الكامن في وعيي من المستقبل الغامض والمخيف، كنت لحظتها، مأخوذة بعالم من الحرية والروعة، انبثق داخلي وصنع لروحي أجنحة، تطير خلف تلويحة يد أخي المودعة، ترف كجناح حمام يطير نحو أفق بعيد".

هذا العالم كان هاجسها ويلخص مكونات شخصيتها ويسبر أغوار النفس لديها، فهي منذ سنوات شبابها تحلم بامتلاك الحرية، الحرية التي تتحمل فيها المسؤولية وحدها دون رقيب أو حسيب، إلا أنها كانت تصطدم دائما بالنقص الذي يسربل شخصيتها، فهي بنت وليست ولد، والبنت تلزمها قيود وعادات وتقاليد وأعراف، أما الولد فهو حل منها، وله الحرية كأخيها يسافر حيثما يشاء لأنه يمتلك حريته: "يا لروعة الحرية التي يمتلكها أخي، يا لروعة حياته، سيركب البحر وسيصل إلى بلاد بعيدة ومجهولة، يكتشفها، يتجول فيها وحده، وحده حرا، هكذا كالطير، يا لروعة ذلك. هل استطيع امتلاك حرية مثل أخي؟ أسافر وحدي وأتجول في عوالم مجهولة وحدي؟ آه ما أروع الحرية. لكن لن يسمح لي أهلي، ماذا لو كنت ولدا أو بلا أهل؟ هل سأصبح حينها حرة مثل أخي؟ أسافر وحدي؟ أقرر وحدي؟ أتحمل المسؤولية وحدي".

هذه الأبعاد النفسية والأحلام تجذرت في اللاوعي لديها، وأصبحت هي المحرك لشخصيتها وسلوكها المجتمعي، ولا تمل من استحضار أحلامها بامتلاك الحرية يوما ما.

وتعود هذه الأبعاد النفسية إلى العلاقة الجدلية القائمة على التمايز بين الذكر والأنثى في المجتمع، وتلك العلاقة خلقت لديها إحساسا بالنقص والدونية، لكثرة ما واجهته من تصنيفها كأنثى اقل شانا من الرجل وخصوصا داخل عائلتها. وهذا الإحساس تكون لديها منذ أن كانت في الصف الرابع الابتدائي، وتقدم مبرراتها لهذا الإحساس بناء على موقف عمها، حينما جاءته بالشهادة متفوقة في كل المواد، فقال لها: "بس يا خسارة انك بنت". فصدمها منطق عمها، وحينما سألته عن الفرق بين الولد والبنت، قال: "نفرض انك أكملت تعليمك وتوظفت بعيدا عن البلد، لا نستطيع تركك تسكنين لوحدك، لازم حد من اهلك يسكن معك. بس الولد يسكن لوحده وما بنتغلب فيه وما بنخاف عليه". ورغم كل محاولاتها لإثبات جدارتها وتفوقها، إلا أنها أمام مبررات عمها في رؤيته / أو رؤية المجتمع " بنظل متغلبين مع البنت" زادت حدة انكسارها، إلا أنها لم تستسلم ورفضت منطقه.

وكان عليها التحدي والمواجهة لتثبت المنطق الخطأ في هذا التميز "منذ ذلك الحين، سكنني رفض مطلق لمنطق التمييز ذاك، وتحول الرفض إلى معركة دائمة أديرها بصمت وبشكل تلقائي بيني وبين المنطق الذي يجعلني اقل قيمة وأكثر عبئا من الولد أو الرجل لكوني فتاة، وبحثت دائما عن التفوق لأثبت أنني لست اقل من الولد، ورغبت في خوض الحياة والتجارب التي يخوضها الولد ثم الرجل نتيجة إصراري على رفض الدونية التي يلبسني إياها المجتمع".

لهذا نلمس لديها العديد من المواقف والآراء التي توجه فيها الإدانة للرجل على مواقفه، كأنها تسخر منه وتعريه، وتعري منطق الرجولة الذي يتباهى به أمام المرأة، في محاولة منها لكي تثبت للقارئ ولنفسها أن الرجل ليس أكثر منها قوة وصلابة ومسؤولية. فالرجال في نظرها "يتركون البلد والنساء تبقى".

فهذا أخوها الذي سافر لبلاد الغربة، ترك العائلة لمصير مجهول بعد أن "رهن البيت لوكالة نعواس للسفر" دون أدنى إحساس بالمسؤولية على مستقبل أمه وأخواته، كأنه يبحث عن مصيره، ويترك الآخرين ليتدبروا مصيرهم: "أمي لم تتوقف عن البكاء... كانت أمي ترتعد خوفا من المستقبل. ماذا لو حصل لابنها الوحيد مكروه لا سمح الله؟ أو نسيها وبناتها ونسي البلاد كلها؟ ما الذي سيحل بها وببناتها إذا حضر "نعواس" بعد ستة أشهر واستولى على البيت ورمى بنا إلى الشارع؟ أتصبح هي وبناتها لبلا رجال وبلا سند وبلا بيت كذلك؟ . انه يسافر ويتركها مرهونة لقدر ترتعد فرائصها منه خوفا، فكيف ستكف عن البكاء؟".

وكذلك ابن عمها "خالد" المناضل الذي فضل الاختباء والمطاردة، خوفا من المواجهة والاعتقال. وذلك حينما حاصر الجيش منزليهما يريد اعتقالهما، وكانا الاثنين خارج المنزل، وتقابلا في الطريق لمناقشة كيفية التصرف، تقول: "أقف مع خالد، ابن عمي، على حافة مستقبل غامض ومجهول، زاخر بالصعوبات والتحديات، وعلي أن أقرر تحمل المسؤولية وحدي، وأواجه الصعوبات والتحديات وحدي. ها أنا أقف مع ابن عمي على قدم المساواة، واتخذ قرارا يعاكس قراره مائة وثمانين درجة، هو يقرر الاختفاء، وأنا أقرر المواجهة، هو يتجه شرقا نحو البلدة القديمة، وأنا اتجه غربا نحو بيتنا المحاصر بجنود الاحتلال".

وفي المعتقل تدين الرجال الذين يعترفون على زملائهم، وتحقر من سلوكهم وتصرفهم. كما هي نفسها شعرت بالاهانة والانكسار حينما تواجهت مع احد الشباب الذين اعترفوا عليها، ورغم إنكارها لهذا الاعتراف كنوع من التحدي لجلادي الاحتلال، إلا أنها شعرت بتلقيها "صفعة أقسى من كل الصفعات والركلات والخبطات التي انهالت عليها قبل ذلك". فهي لم تكن تتصور انكسار الرجل وضعفه أمام المرأة أو أمام المحققين "كيف للرجال إلا أن تصمد؟ كيف يقبل لنفسه الانكسار؟ كيف تجرأ أن يبدو أمامي معترفا وضعيفا". أن إحساسها بالدونية أمام الرجل يدفعها إلى مزيد من التحدي والمواجهة، لكي تثبت لكل من كان يعايرها بأنوثتها بأنها أقوى من الرجل، فتذكرت عمها ـ وهي تسمع اعترافات الرجال وانكسارهم ـ وموقفه منها وإيمانه بتفوق الرجال على النساء، تقول: "كنت تؤمن بتفوق الرجال على النساء، لو كنت حيا لوضعت أمامك حقائق تعمل على تغيير رأيك، الرجال لا يتفوقون على النساء، ولا يعتمد عليهم أكثر، اصمدي يا عائشة، وعلى العالم أن يقتنع أن الرجال ليسوا أفضل من النساء".


الطريق إلى الحرية:

وإذا كانت أهدافها من الحرية قبل هزيمة حزيران عام 1967، هي السفر والتجوال في العالم، وأن تثبت حضورها في المجتمع بامتلاك الحرية الشخصية وتحمل المسؤولية الفردية كالرجل. إلا انه بعد عام 1967 تغيرت أحلامها وزادت تحدياتها للمجتمع وقيوده، وأصبحت تبحث عن حرية من نوع خاص، تثبت فيها حضورها كأنثى، وتتحدى فيها الرجل. " هل أودع أحلام السفر والتجوال واستبدلها بأحلام المواجهة والبقاء على ارض الوطن؟ أليست الحرية قرارا؟ قرار الالتصاق بالوطن والدخول في صميمه؟ قرار مواجهة العدو حد الالتحام وخوض المجهول رغم الصعاب".

وفي المرحلة الثانوية انضمت إلى حركة القوميين العرب، ومن ثم إلى الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، وشكلت مع زميلاتها في الدراسة خلية ثورية بقيادة المناضلة "لطيفة الحواري". دون علم من الأهل لان موقفهم كان بالنسبة لها معروفا، هو الرفض التام لدخول المرأة معترك النضال: "ديري بالك يمه من الأحزاب، في بنات بورطوك، ابعدي عن السياسة، السياسة خراب بيت". وحينما اكتشفت والدة لطيفة الهدف من وراء اجتماعاتهن في منزلها، أعلنت الحرب عليهن وطردتهن من المنزل، وعندما انتقلن إلى منزل أخي لطيفة المغلق لاحقتهن بالطرد أيضا، فقررت عائشة مواجهتها بعد أن صرخت في وجوههن: "ألم أحذركن أنكن تلعبن في النار"، فقالت لها عائشة: "ولكن يا خالتي كيف لنا أن نغير واقعنا"، فردت عليها بان دولة الاحتلال لا ترحم وطريق السياسة طريق هلاك، فما كان من عائشة إلا أن قالت لها "إذا خفنا وخاف غيرنا فمن سيغير".

والتغيير هنا غير مرتبط بواقع المرأة فقط بل بالتغيير من واقع الاحتلال، لهذا تقدم "عودة" أسباب التحاقها بالمقاومة، والتي نكتشف من خلالها عن رؤية مختلفة عن رؤيتها للتحرر من عقدة الأنثى، وبما يؤكد اختيارها للطريقين، وليس إحساسها بدونية المرأة فقط أمام الرجل كان الدافع إلى اختيارها لطريق النضال، إنما ما شاهدته ولمسته من ممارسات الاحتلال، وكانت مذبحة دير ياسين الحافز الأقوى لديها بحكم ارتباطها بالموضوع، فقد كانت خالتها من سكان القرية وكانت تقوم مع أسرتها بزيارتها، ولها ذكريات مع أولاد وبنات خالتها، وحينما وقعت المذبحة كان عمرها آنذاك أربعة أعوام، وذهبت مع والدتها إلى المزرعة الشرقية حيث بيت أخوالها، وهناك استمعت إلى قصص وأحداث عن دير ياسين، وكانت تخزن ما تسمعه في ذاكرتها العميقة: "توالى سرد القصص، وكان الجميع ينتحب، وأذني تنفتح على أقصى إمكاناتها، وادخل كل كلمة وكل قصة إلى بئر عميق في قلبي وذاكرتي. لقد استقرت هناك في المكان القصي حيث تنبع منه كل التوجهات والأحلام".

وهذه التوجهات والأحلام المخزونة تحولت مع الزمن إلى فعل نضالي، فعندما يسألها المحقق الإسرائيلي عمن أرسلها لوضع العبوة الناسفة، تقول في حوار داخلي: "هو لا يدرك أن أحدا غيرهم لم يرسلني لعمل شيء. ولكنهم هم منذ طفولتي فعلوا ذلك. منذ تفتح وعيي، منذ أن رأيت أسرة خالتي وأهالي دير ياسين في الأيام الأولى من تشردهم، وأنا احلم بالقتال لإعادتهم إلى قريتهم وإعادة اللاجئين إلى بيوتهم ومدنهم وقراهم، كثيرا ما حلمت بقيادة الجيوش لتحرير فلسطين".


الوصول إلى المعتقل:

شاركت عائشة عودة، كما ذكرنا، في عملية فدائية، كانت هي السبب في اعتقالها، وحينما جاء الجنود إلى منزلها لاعتقالها وكانت خارجه، ولكنها عرفت أن البيت محاصر والجنود يجرون تفتيشا بداخله، ويسألون عنها، مما جعلها تقف أمام خيارين: الاختفاء ام المواجهة، وحين قفز إلى ذهنها خيار الاختفاء، استعرضت تجربة أخيها ورفيقتها وداد قمري في الاختفاء وما واجهوه من صعوبات... فقررت "لا، لن اختفي، لن اهرب". وحين استعرضت تجربة الاعتقال، استعرضتها من خلال رفاق دخلوا المعتقل وواجهوا حقيقة الاعتقال والتعذيب... لمست في تجاربهم الصمود في وجه المحتل / المحقق، كما قالت لها لطيفة الحواري: "أن الصمود ممكن، وان العدو ليس قويا كما نراه من الخارج". ورغم أن هذه التصورات والتجارب منحتها بعض القوة والصمود على المواجهة، "لن أموت من الضرب، والضربات التي لا تميتني، تقويني". إلا انه كان ثمة ما هو أقوى من تلك التجارب، وهو محاولة إثبات الذات أما الآخرين وخصوصا الرجال: "ها أنا ادخل في كبرى المعارك التي يدخلها الرجال، وها أنا وإياهم أمام الاختبارات نفسها، وعلى التفوق في الاختبار".

إن الحالة النفسية المسيطرة عليها وشعورها بعقدة الأنثى، جعلاها ترفض الهروب كما فعل ابن عمها خالد، وقررت العودة إلى البيت ومواجهة مصيرها وبكل استسلام للحالة النفسية تقول: "تصورت أن اعتقالي أصبح قدرا لا راد له، وكالمؤمنين الذين يستقبلون القدر بصبر، أردت أن استقبل اعتقالي كذلك". لهذا تشير إلى استغراب الجنود حينما رأوها عائدة إلى البيت ولم تهرب، قال لها الجندي: "أرأيت لقد امسكنا بك بسرعة، أنت مطلوبة لجيش الدفاع، فردت عليه: اعرف، ولهذا أنا قادمة، اسقط في يده، وبان استغراب على وجهه". كان هذا الموقف أول مراحل صمودها ومواجهتها للمحتل.

وبعد ركوبها سيارة الجيش معتقلة، تصف حالة أمها في تلك اللحظات...، مما جعلها تعيد اكتشاف علاقتها بأمها، التي كانت دائما على النقيض منها...: "لم يسبق أن رأيت أمي في مثل هذه الفجيعة، كانت تندفع بغريزة كبركان متفجر". تسجل الكاتبة هنا موقفا في غاية الأهمية، يتمثل في خروج الأبناء عن أعراف العائلة في مسألة النضال: "لم أفكر بها (تقصد أمها) عندما قررت العمل في مقاومة الاحتلال. وقررت مواجهة الاعتقال هذا اليوم ولم أضع رد فعلها ومعاناتها في الاعتبار، لم يكن لهذه التفاصيل حساب. هل كان ذلك قسوة؟ أم شوق الشباب واندفاعه لصناعة التاريخ؟ ". إن الأخذ بهذه التفاصيل من وجهة نظرها يعتبر خيانة للأهداف الكبيرة التي نذرت نفسها لها، وهي حريتها وحرية شعبها.

كما تعود بذكرياتها إلى بيت العائلة، هذا البيت الذي سيتحول لاحقا إلى كومة من ركام، مما جعلها تقدم وصفا دقيقا لكل زاوية، ولكل ركن فيه، ولكل حجر بناه، ولكل شجرة زرعت في حديقة المنزل، حتى قن الدجاج لم تنساه، وقدمت من خلاله أحلامها وآلامها وذكرياتها وطفولتها وشبابها. لقد أرادت أن تقول انه الاحتلال الذي اغتصب الوطن، يحاول الآن أن يغتصب ذكرياتها وأحلامها: "اشعر الآن وأنا اكتب عن البيت كأنه نهر دافئ يغمرني ولا أود الخروج منه".

وفي الطريق إلى المعتقل تتوقف سيارات الجيش عند احد الأماكن، ويذهب الجنود ويحضرون الأسلحة من المخبأ، الذي لا يعرفه إلا أربعة من بينهم عائشة. وهنا أخذت تساءل نفسها، عمن كشف لهم عن المخبأ، وتلقائيا اتهمت الرجل بالضعف والاعتراف على المخبأ، ولم توجه الاتهام للمرأة، لان المرأة لا تقل صمودا عن الرجل: "من دلهم؟ / من المسؤول؟ / هل يكون علي؟ ولكنه ليس معهم؟ . أيمكن أن يكون عمر؟ ولكنهم لم يحققوا معه بعد، وخالد لم يلقوا القبض عليه. من أذن؟ ، لا احد يعرف عن المخبأ إلا أربعتنا؟ . أيعقل أن يكون علي، ولم يصمد أربعا وعشرين ساعة؟ . اصمدي يا عائشة، كوني نموذجا للصمود، فليس الرجال أكثر صمودا من النساء".

ورغم كل تلك المواقف التي حدثت معها، أو هيمنت على تفكيرها، وهي في داخل سيارة الاعتقال، حاولت أن تبقى صامدة كنوع من التحدي للاحتلال: "اجتهدت للحفاظ على هدوئي رغم ما تمور به كينونتي من حركة وانفعال، غابت أمي وكذا الماضي عن تفكيري، وانصب على الحاضر والمستقبل، ورابطهما الصمود".
وبعد وصولها إلى معتقل المسكوبية بالقدس، دخلت عائشة عودة مرحلة جديدة في حياتها. وكان السؤال الماثل أمام ناظريها "هل تستطيع الكف مواجهة المخرز؟ ، وكانت إجابتها المعبرة عن التحدي والإصرار على المواجهة، نعم، نصفح الكف بالحديد". هل استطاعت أن تصفح الكف بالحديد أمام سادية المحقق الإسرائيلي وعنصريته؟ .

في كل مرحلة من مراحل التحقيق ومع كل ضربة تتلقاها، كان الرجل ماثلا أمام عينيها. فقد سيطر عليها هاجس ندية الرجل، وأنها ليس اقل منه صمودا وتحديا.

ـ حينما صعدت الدرج إلى غرفة التحقيق، ودخلت غرفة وجدتها مليئة بالرجال، فانتابها خليط من المشاعر والأحاسيس، شكلت لديها إحساسا بالتحدي الممزوج بالرهبة، وقالت: "وحدي أنا بينهم، وأنا ند لهم".
ـ وحينما هددها المحقق قائلا لها: " عايزة تكوني اجدع من الرجال. تقول: أعجبتني صيغة السؤال، قلت في نفسي: عايزة أكون اجدع من الرجال".

ـ وصورة الرفيق الذي انكسر أمامها معترفا، كانت ماثلة تحذرها من الوصول لمثل ما وصل إليه: "إياك أن تنكسري يا عائشة، اصمدي يا عائشة، فالصمود ممكن، كنت احدث نفسي بينما أتلقى الصفعات على وجهي".
ـ وحين قال لها المحقق: لا حاجة لتمثيل البراءة، الكذب يشع من عينيك، أنت اخطر بكثير مما نظن، الأجدى بك الاعتراف. تقول: (اخطر بكثير مما نظن) جملة دغدغت غروري، وغذت حالة التحدي عندي".

إن عائشة عودة في حالة التحدي لديها كانت على بعدين: تحدي الرجل والندية معه، وتحدي المحقق واثبات أنها اقوي من الرجل. فالرجل في البعدين كان ماثل لها، إذن أين قضية الوطن والنضال من اجل الوطن؟ .
تناوب عليها المحققون الإسرائيليون بعدة أساليب من التعذيب في التحقيق، ويمكن تلخيصها كالتالي: الصفع على الوجه، الضرب على الرأس، ضرب الرأس في الحائط، شد الشعر إلى أعلى، الركل بالأقدام، الضرب بالكفين على الأذنين، الضرب بالكرباج على مختلف أنحاء الجسد، شتائم ومسبات بذيئة، الاهانة والإذلال، الحرمان من الطعام، الحرمان من النوم برش الماء وبتسليط ضوء قوي على الوجه، الوقوف فترة طويلة والوجه إلى الحائط والذراعان مرفوعتان، دلق الماء البارد بعد جولة من الضرب، الحرب النفسية بالتهديد بالشلل والعمى، التهديد بإحضار أفراد العائلة، الاغتصاب، تعرية الجسد أمام المعتقلين.

لقد ذاقت عائشة عودة كل صنوف العذاب، حتى شعرت بان روحها فصلت عن جسدها الذي أنهكه الضرب والتعذيب، إلا أنها لم تعترف ولم تنكسر، وبقيت صامدة على مواقفها. ولكن خبرتها بالحياة وبأساليب التحقيق الإسرائيلي، جعلها تقع فريسة لحرب نفسية شنها عليها المحقق الإسرائيلي، حيث أوصل لها تهديدا بالشلل أو العمى أو الجنون، وكذلك جلب زوجة أخيها وأمها للتعذيب، كما وضعها في غرفة تسمع فيها أصوات المعذبين.
وحين تركها في الليل لوحدها أخذت تفكر في هذا المصير، وكما تقول "حدث اختراق في جبهتها الداخلية"، وسيطرت عليها حالة من القلق والخوف من مصير بدأت ترتعد منه: "العمى أو الشلل أو الجنون أو كلها مجتمعة، ووقع ذلك على أمي، أصبح الخوف من ذاك المصير جرثومة أو فيروسا يقضم الأعصاب وإرادة التحدي، كأني لست المتحدية التي كنتها قبل لحظات".

وفي الصباح وبعد ليلة عصيبة من الحرب النفسية، جاء المحقق وقال لها: "نحن اليوم سوف نشلك، كأن تلك الجملة أصابتها في مقتل... عندها قررت الاعتراف على العملية". والاعتراف في عرف التحقيق الإسرائيلي لا يكفي، بل الأهم ما بعد الاعتراف. هي اعتقدت بأنها إذا اعترفت سوف تتخلص من هواجسها، ولم تكتشف أنها دخلت مرحلة جديدة من التعذيب لما بعد الاعتراف.

كل هذا التحدي انهارت، إلا أنها أخذت تقدم لنفسها وللآخرين التبريرات عما فعلته بنفسها، ومن هذه التبريرات:

 بأنه تحول إلى تحد لهم.
 بأنها كتبت في إفادتها أنهم محتلون، ومن حقنا أن نناضل من اجل حريتنا وحقوقنا، ومن الطبيعي أن نلقي عليهم القنابل لا الورود.
 أليس اعترافي هذا يوفر للإعلان عن وجود فدائيات كما الفدائيون؟ نعلنها للعالم، للأعداء والأصدقاء؟ وأننا نشارك في النضال كالرجال.

وتستمر فترة طويلة في محاسبة نفسها وتبرير اعترافها، وهي لم تنكر أنها تقوم بتبرير الاعتراف: "لم ابخل على نفسي في تبرير الاعتراف وتزيينه".

وحينما خرجت مع الجنود للتأشير على المكان الذي وضعت فيه القنبلة، ورأت العالم الخارجي، أخذت تراجع نفسها: "آه ما أجمل الحياة في الخارج، لماذا اعترف على نفسي لأحرم من الحياة؟ سأتراجع عن الاعتراف". إن قوة الحياة جعلتها تتراجع، بالإضافة إلى مشاهدتها (للسوبر سول) مكان الانفجار، إذ لم تره مهدما بل كان شيئا لم يحدث فيه، فقالت لهم: "أنا لم ادخل السوبر سول هذا، وإنما اعترفت على العملية من اجل تخفيف الضرب عني".

وعادت إلى تلقي الضربات واللكمات والتعذيب الشديد، وبعد جملة من التعذيب عادت للاعتراف من جديد، فالجسد لم يعد يحتمل مهما ادعى الإنسان قوة التحمل، وخصوصا حين اسقطوا من تفكيرها أنها لا تستطيع أن تثبت للمحكمة أنها اعترفت تحت التعذيب، ثم ضغطوا على حالتها النفسية بالتهديد بالشلل أو الجنون. كما استغلوا لهفتها على رفيقتها وصديقتها "رسمية".

لقد اكتشفت "عودة" مدى سذاجتها من حالة القلق والخوف التي انتابتها على صديقتها، والتي لمسها المحققون الإسرائيليون وحاولوا استغلالها، بضرب "رسمية" أمامها لكي تعترف على مكان مخازن الأسلحة، وكان لهم ما أرادوا فقد اعترفت لكي تحمي صديقتها من الشلل.

هل هي حالة إنسانية وتعاطف مع رفيقة وصديقة؟ أم سذاجة وقلة خبرة؟ أم ذكاء من المحقق الإسرائيلي؟ . كلها مجتمعة تمثلت عند عائشة عودة، إذ ضحت بحريتها وبكل شيء من اجل صديقتها، ولكنها لم تدرك ذكاء المحقق لسذاجتها وقلة خبرتها، وبأنه لعب بعواطفها الإنسانية وبحالتها النفسية تجاه صديقتها.

لقد وضعت عائشة عودة نفسها في ندية خاسرة مع الرجل، في موقف يكون فيه الاثنان متساويين أمام الجلاد الإسرائيلي.

عائشة عودة.. وأحلام بالحرية

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى