حكاية طفل فلسطيني
كان يسكن في إحدى الحارات القديمة في القدس وكانت تدعى عقبة التكية، وهي طريق تمتد من الواد حتى سوق خان الزيت ولمن يعرفها فهو يفضل ألا يمر بها بسبب عدد درجاتها الكثيرة. في كل صباح كان والده يمنحه قرشاً واحداً يشتري به صحن فول، كان يحمل القرش بين يديه الصغيرتين ويغادر منزله مروراً بمدرسة دار الأيتام حالياً والتي تدعى التكية أو الخاصكي سلطان قديماً، والتي توزع فيها المأكولات للفقراء في رمضان وصولاً إلى شارع الواد وهو عبارة عن طريق يربط تفرعات بعض مداخل المسجد الأقصى بعضها ببعض ابتداءً بباب القطانين الحديد المجلس وأخيراً باب حطة. هذا الشارع يتلون في رمضان بأنوار مقدسية تبدد عتمته الباردة.
قبيل الدخول إلى المسجد الأقصى من باب المجلس وعلى الجانب الأيمن تحديداً من شارع الواد كان يجلس رجل عجوز وأمامه قدر من الفول يعطيه الصبي قرشه ثم يأخذ صحنه الأبيض المليء بالفول ليعود به إلى منزله في عقبة التكية لتنعم العائلة بفطورها المعتاد. كانت تبهره القدس بمأكولاتها الشعبية وأسواقها القديمة وحاراتها الجميلة. كان يحبها لدرجة أنه كان يشعر أنها تتدفق في عروقه. كان يجد في القدس عروسه التي يحلم بها.
في منتصف سوق خان الزيت تماماً عند الفتحة العلوية لطريق الآلام كان هذا الصبي وفي أثناء عودته من المدرسة كل يوم يشاهد رجلاًُ يقف ومنضدته الخشبية واضعاً عليها أكواما من حب أصفر يبيعه حتى أنه كان يخال إلى الصبي أن الحبّ هذا ما هو إلا قطرات ذهبية تساقطت من قرص الشمس ذلك النهار فملأت الأرض والسماء نوراً ولكنه كان دائماً يتذكر لون قبة الصخرة أثناء عودته مع والده من صلاة الفجر في المسجد الأقصى فيتراجع عن تفكيره بأمر الشمس ليقنع نفسه بأنها تلك القطع الصفراء اللامعة التي تمنحها قبة الصخرة للمصلين جزاء صلاتهم فيها.
طالما راقب الصبي البائع لساعات كان يتمنى أن يلمس تلك الحبات متسائلاً: أتكون حارقة بما أنها قطع تساقطت من الشمس؟أم هي كفيلة بجعله لا ينفك يحدق بها بما أنها هديتنا من قبة الصخرة المشرفة.
ولم تتبدد تساؤلاته إلا حينما رأى الناس يتوقفون ليشتروا بعضاً من هذا الحبّ ثم تراهم يضعون تلك الحبات في أفواههم يبصقون قشرة باهتة الصفار ثم يلوكون الحبّ كما نلوم نحن حبيبات العدس إن نحن آثرنا تخيلها لحماً.
كان على استعداد لأكل تلك القشور إذا ما كانت صالحة للأكل أما بالنسبة للطعم فصغيرنا بالطبع لا يملك القدرة على تخيله بحكم قلة التجربة وليس حريّاً بتلك الحبات أن تماثل الفول الذي يتناوله وأخوته كل صباح في الطعم وإلا لأدار الطفل ظهره راحلاً دون عوده.
يبلل البائع حباته بالماء النقي ويرش عليها الملح ثم يفرد على أجزائها الرطبة عروقاً خضراء يانعة تمنح صفار تلك الحبات ديمومة وخضرة لا تنضب. كلما رشها البائع بالماء النقي وتلك المكونات المبعثرة يزداد رونقها جمالاً ويزداد شغف الصبي لأن يذوقها وفكر صغيرنا في لو أنه يبحث عن قرش على الأرض هنا أو هناك عله يشتري به قليلاً من ذلك الحب وفكر أيضاً في أخذ قرش الفول الذي يشتري به فطور العائلة لشراء بعض الحبات الصفراء مدعياً أنه أضاعه وهي علقة تفوت ولا حد يموت.
وبينما هو شارد يفكر.....
– فتح شو مش شايف قدامك؟
– آسف مش قصدي
– وأسفك وين ببيعه
– ليش بتحكي معي هيك؟ مش اعتذرت وخلص؟
– شو قلة هالأدب ؟ إبن مين إنت؟
علت الأصوات وتناسى الطفل سحر الحبات وراح يجادل الرجل والرجل على وشك أن يضربه حتى تدخل أحدهم أبعد الرجل جانباً ثم أمسك بالطفل ومنحه قرشاً على أن يغادر المكان فوراً. تسمر الطفل في مكانه غير مدرك لما حدث أينتظر طوال تلك الأيام ليحصل على قرش يشتري به ضالته المنشودة ويأتيه القرش بلا حسب منه ولا دراية؟!
القرش في يده يسير بخطى واثقة غير آبه بكون الخطوة التالية قد لا تكون في صالحه تقدم الطفل من العرش الأصفر ودموعه تنزلق على خديه.
– اتفضل يا عمي بقديش بدك؟
– بقرش لو سمحت
– بس هيك من عيوني أحلى أرطوس ترمس إلك.
– ترمس لأ لأ ترمس هيك بقولوله!.... قالها في سره وهو يكاد يطير فرحاً.
مد القرش فوق المنضدة يتوسط يده وفي اليد الأخرى أخذ أرطوس الترمس... تنفس الصعداء ثم ابتسم ابتسامة النصر وراح ينزل درجات طريق الآلام درجة تلو الأخرى بالطبع! فواثق الخطى يمشي ملكاً!
راح يفتح الأرطوس يأكل حبة ثم يعيده إلى جيبه بعد أن يغلقه بإحكام وكلما أكل حبة وتفاجئ بفراغ يحل مكانها كان يرتعب أكثر إن رحلت تلك الحبات سريعاً، إلا من مخيلته، من أين يجد من يمنحه قرشاً آخر يشتري به غنيمته الصفراء؟ أيبحث عمن يرتطم به ليتدخل أحدهم ويعطيه قرشاً؟
جعل يسبح بأفكاره حتى وصل الفتحة السفلية لطريق الآلام وفي منتصف شارع الواد رحلت حبات الترمس عن رأسه قليلاً ليجد تفسيراً لكل تلك الفوضى العارمة التي تملأ المكان من السبب يا ترى في إحراق دكان عمو الفحام؟ من السبب في قضّ منام هذه الأرض المباركة؟ من يا ترى ؟.. لم يجد إجابات لأسئلته حتى مع تفكيره المطول وتناسياً لذلك فتح أرطوسه لأكل حبة إضافية ولم يحن رأسه طويلاً ليستلّ حبة أخرى من أرطوسه حتى دفعه بعض الفتية ليسقط على الأرض وتتناثر حبيباته الصفراء اللامعة في كل مكان وبعد أن رفع نفسه من على الأرض كانت دموعه قد اختلطت بحجارة صغيرة تناثرت في أرجاء المكان مع حبيباته الذهبية.
دماء هنا وهناك ورصاصات نحاسية ارتعد جسده الصغير حينما شاهدها.
لم يكن يشك في كون الأرض كفيلة باحتضانه أيضاً فنظر نحو المسجد الأقصى ثم إلى حبيباته الصفراء وكأنه كان ينتظر انتهاء هدوء ما قبل العاصفة ليتدخل القدر في جعله يقرر أيها يلمّ عن الأرض أولاً وحينما عجز عن القرار استقر جسده والأرض لتفقد الحجارة، وحبيباته الصفراء اللامعة، كلمعان الدماء، وليزداد عدد الرصاصات واحدة!!
ا