السبت ١١ شباط (فبراير) ٢٠٠٦
الشاعر الفلسطيني المغترب في الولايات المتحدة حكمت العتيلي في غيبوبة
بقلم عيسى بطارسة

حكمت العتيلي عاشق البحر

ما زال في القنديل زيت يا حكمت!!

بين سرير طبي يقبع في منتصف غرفة صغيرة تستسلم لرائحة الأدوية الثقيلة، ولمجموعة كبيرة من الأجهزة، مختلفة الوظائف التي تحشر نفسها، وتحشر زوايا الغرفة فيما بينها، وبين غرف العناية المركزة، في أكبر مستشفيات مدينة "ويتير" في جنوب كاليفورنيا، تعثرت رحلة عمر الشاعر الفلسطيني حكمت العتيلي. وخرجت أو أخرجت مرغمة عن مسار سبعة وستين عاما، لتقف بلا حول أمام الفاصل الصغير بين الموت والحياة.

ورغم الحب الذي يحيطه به أفراد عائلته، وأصدقاؤه ومحبوه، فلقد قرر أو قرر له أن يدخل شبه غيبوبة، لم يخرج منها حتى هذه اللحظة، وبعد مرور أكثر من خمسة اسابيع.

لا أحد من سكان الأرض يعرف أين ومتى ستصب هذه الغيبوبة، ومن أي الأبواب سيخرج حكمت العتيلي في نهايتها، لكنه من المؤكد أنه يقف يوميا، وجها لوجه أمام الأذرع السوداء العنيدة الفولاذية، هو نفس الموت الذي صرخ في وجهه منذ أكثر من أربعين عاما:
"ياسارق الأحباب ..
أنت"!
خرج من زيارة من زياراته الكثيرة لنفس المستشفى، قبل عامين وفي يده قصيدته الأخيرة الجميلة الدامعة العينين المتشبثة بالحياة التي يقول فيها:

"مازال في القنديل زيت،

ما زال لي امرأة

وأولاد

واحباب وبيت،

لكأن في قلبي صهيل صاخبُ

لكأن ألفا من جيادٍ

في دمي تتواثبُ".

هل نضب زيت القنديل هذه المرة ياحكمت؟
هل تعب الصهيل في قلبك، وانكفأ على نفسه؟
وهل كفت الجياد عن التواثب، وانضمت لأحبائك الذين يقفون أمام الوقت والساعات والدقائق بقلوب مكسورة خائفة مرتعشة لا تعرف ما تتوقع، ولا أين سيوصلها ويوصلك الدعاء ولا اللهفة ولا الدموع ولا الطب الذي يرفع يديه قليلا قليلا كل يوم حائرا فيما يفعله أمام هذه الأنهيارات المتوالية.

وماذا ظل لدينا غير: يارب ..

كان ذلك في نهاية عام 1990، حيث كنا نتناول العشاء في منزل صديقنا يعقوب خوري، في مدينة "ليكوود" في منطقة لوس أنجيليس، يقيمه احتفاء بالصديقين الكبيرين الزائرين من الأردن الأديب فخري قعوار والناقد نزيه أبو نضال، عندما فوجئنا بمضيفنا يقول بدون سابق انذار، أنه ذهب ليلة الأمس هو وحكمت العتيلي الى اجتماع الصندوق العربي الفلسطيني. توقفت يدي باللقمة في منتصف طريقها الى فمي، لدى سماعي اسم حكمت العتيلي، ونظرت بشكل عفوي الى وجه صديقي فخري، حيث كان بدوره يحملق في وجهي، كأنه يريد أن يسألني اذا كنت سمعت ما سمع، سبقني فخري الى سؤال مضيفنا: هل قلت حكمت العتيلي؟

 نعم، حكمت العتيلي، هل تعرفه؟
 حكمت الشاعر؟
قال يعقوب وقد قلب يديه بحيرة
 شاعر؟ لا علم لي بذلك!
تدخلت وفي نيتي حسم الموقف
 هل معك رقم هاتفه؟
قال فخري دون أن يعطيه فرصة للجواب
 هل ستلتقي به قريبا؟
 بعد يومين في اجتماع الصندوق
سألته عن علاقة حكمت بالصندوق، فقال أنه رئيسه لهذه الدورة
قال له فخري
 أرجو أن تسأله اذا كان هو الشاعر حكمت، وأن تخبرنا بأسرع وقت ممكن!
بعد يومين، اتصل بنا يعقوب من ليكوود وقال أنه سأل حكمت عن قضية الشعر، وأنه اي حكمت استغرب ذلك وقال أنه لم يخبر أحدا منذ قدم من سان دييجو، فكيف عرف ذلك، وقال له صديقنا أن فلانا وفلانا وفلانا سألوني عنك، وأردف أنه لم يبد عليه أنه يعرف أيا منكم.

قال فخري لأنه في الحق لا يعرفنا، لكننا نعرفه حق المعرفة.

شكل صدور مجلة "الأفق الجديد" المقدسية، الذي صدر عددها الأول في 30 سبتمبر/أيلول عام 1961، جامعة أدبية ينهل من رحابها عطشى الأدب، في الأردن وخارجه، على أيدي الرواد الأوائل، كما على أيدي جيل جديد من الأدباء والشعراء. ولعل من أبرز الأسماء التي وقف أمامها محبو الشعر، طويلاً وبكثير من الأعجاب،حينذاك، كان اسم الشاعر حكمت العتيلي، الذي قلما خلا عدد من مجلة الأفق الجديد من قصيدة جديدة له، والذي امتد اسمه الى خارج الأردن، واستحلت قصائده صفحات منيرة من كبريات المجلات الأدبية المتخصصة كالآداب والأديب.

على شواطئ قصائد حكمت العتيلي، وقفنا نمعن النظر في أمواجه وأنوائه وقواربه ونوارسه، ونرى في الكثير من صوره المستحدثة الحية النابضة المعبرة، ما يدعو للأنبهار.

ولعل قصائد حكمت العتيلي، هي ما أنار لي، ليس حبي المطلق للشعر وحسب، بل حسمت لي ترددي في مراحلي الأولى بين كتابة القصة أو كتابة القصيدة.
* * *
قر قرارنا تلك الليلة أن ندعو الشاعر حكمت، لنتعرف اليه عن قرب، وليتحفنا ببعض من شعره، الى العشاء الذي يقام بعد يومين، وداعا للضيفين العزيزين، مع نخبة من الناشطين والصحفيين والكتاب في المنطقة.

ولقد كنت أحفظ لشاعرنا عن ظهر قلب، مقاطع من قصائده وجدت لها منذ ثلاثين عاما، مستقرا في ذاكرتي كما في قلبي:

"عيناكِ كالزمان كالبحار،
كرحلة طويلة بلا قرار،
يخوضها من مطلع النهار،
لمطلع النهار،
مسافر حزين"
 
"في قلبي يابحرُ حملتك غنوه،
في عيني صلاةً ودعاءْ
وأتيتكَ أرجوك ثباتَ الخطوة،
ونشدتك لي أملاً ورجاء."
 
"قل للنورس أنا
سنغسلهُ بندى الفرحةِ ان جاءْ
أنا سنصلي كي يرجع
صبحاً ومساءْ"
 
" ولدتني أمي ذات نهار مشمس،
فعشقتُ الشمس أنا
مذ ولدتني أمي،
ورأيت أبي يغرس أشجار الزيتون الغضه فيما يغرس
فجرى حب الزيتون بدمي."
 
ولي في الدار أشيائي الصغيرةُ،
مثلما للبحر أشياؤه:
أعاصيري، هدوئي، ضجتي، صمتي،
وأمواجي، حياتي، غربتي، موتي!
ولكني مللت الدارَ، بحراً مله ماؤه."

إذا كان الشاعر محمود درويش قد لقب على أيدي بعض النقاد بعاشق التراب، فحكمت العتيلي هو عاشق البحر والنوارس بلا منازع. فأنت تكاد تسمع هدير البحر، أو اصطفاق أجنحة النوارس على الماء في كل ما كتب حكمت العتيلي من شعر، طوال حياته، فهو عاشق وفي لهذا العشق، أمين له، وقد يقوى هذا الهدير وقد يخف مثله مثل خفق أجنحة نوارسه، حسب موضوع القصيدة.

دنا الشاعر ايليا أبو ماضي من البحر قليلا حين قال في طلاسمه:

"قد سألت البحر يوما

هل أنا يابحر منكا؟

هل صحيح ما رواه

بعضهم عني وعنكا؟

أم ترى ما زعموا زورا وبهتاناً وإفكا؟

ضحكت أموجه مني وقالت .. لست أدري"

أما حكمت العتيلي، فلم يكتفِ بالوقوف أمام البحر، ومغازلته مغازلة الخائف، بل دنا منه أكثر، لمسه بأصابعه، غمس رموش عينيه بمائه المالح، ليتسنى له أن يرى في العمق أكثر، وأن يصغي السمع لأنفاس البحر، على نحو يتيح له أن يترجمها بدقة لا متناهية، وأن يرقب عن قرب تلك الأعماق الغامضة الرهيبة القاتلة حينا، الثائرة حيناً، الحنونة حينا آخر:

"في عينيك رأيت الحزن نديا كالنعناع البري

حزنا دفاقاً أي حنان فياض قدسي

ولقد قلت حزنا يابحر

وصرخت عطبنا يابحرُ"

وليس صدفة أن ديوان شعره الوحيد الذي صدر له، في منتصف الستينات، عن دار الآداب البيروتية، يحمل اسم يابحر.

صافحته كما لو كنت أعرفه منذ دهور، وصافحني وهو لا يعرفني. كان خفيض الصوت، هادئ السمات، في عينيه وحشة غربة طويلة، ربما سكنتهما نتيجة لهذا الرحيل المتواصل، وعدم الأستقرار الأزلي الذي عاشعه شاعرنا العتيلي منذ مراحل حياته المبكرة. ربما منذ اضطرته دراسته أن يرحل عن قريته "عتيل" وهو بعد في مطلع مرحلته الثانوية، ليستقر في مدينة طولكرم، كما سيظهر لاحقاً.
عندما تأملت وجهه، كادت عشرات الصور الشعرية التي أوقفتني أمامها مذهولاً، منذ زمن طويل، الحائرة الثائرة الباكية الشاكية المتمرده المؤمنه، جميعها ترفرف حوله مثل مجموعة من الفراشات التائهة، لا يراها أحد غيري، حتى هو نفسه. صحيح أن صديقي فخري، كان يعشق شعره مثلي، لكن شيئا ما خاصا، كنت أحس أنه يصبغ همومي وأحلامي بنفس اللون الذي كان يصبغ به هموم وأحلام حكمت.
قرأ لنا قصيدة، يبحث فيها عن حبيبته، في مدينة كبيرة مزدحمة، ربما كما هي لوس أنجيليس. كان صوته يميل الى الهمس، ولاحظت أنه لم يرفع رأسه من الورقة التي تحمل قصيدته، ليرى وقع ما يقرأ في عيون مستمعيه. وطوال الجلسة كان يجيب على أسئلتنا باقتضاب، ولكن بعمق.

في القصيدة عاد الشاعر بلا حبيبته، وعدت أنا وفي نيتي أن حكمت سيكون في هذا المغترب، صديقي الأقرب.

ولد الشاعر حكمت العتيلي، في 8/8/1938، في بلدة عتيل قضاء طولكرم. يقول عنها الشاعر دائما، أنها مركز الكرة الأرضية بلا منازع. في عتيل أنهى حكمت دراسته الأبتدائية فقط، حيث أتم دراسته الثانوية في مدينة طولكرم. تفتحت براعمه الشعرية مبكرة، وبدا لديه اهتمام خاص باللغة العربية نحوها وصرفها، دفعه لهذا الأهتمام، اضافة الى جده لأمه، معلموه الذين توسموا فيه نبوغا من نوع خاص.

بعد مرحلة الثانوية، أتم دراسته في دار المعلمين في عمان، وفيها كلفه أستاذ اللغة العربية، فائز على الغول برئاسة تحرير مجلة القلم، التي فتحت له نوافذ أدبية فسيحة، وأهلته ليصبح مدرسا للغة العربية، وقد تم تعيينه، في مدينة معان الصحراوية، حيث عاش قسوة تجربة الغربة، والبعد عمن يحب، وعما تعود عليه، خفف من غلواء قسوة التجربة، مجموعة من الأصدقاء المعلمين، الذين نشأ بين بعضهم وبين حكمت العتيلي، صداقات حقيقية جميلة، كثيرا ما نراها تطل برأسها في بعض قصائده حتى المتأخرة منها.

من معان خطفته وظيفة مدرس أخرى للغة العربية، لموظفي شركة الزيت العربية الأمريكية (أرامكو) في المملكة العربية السعودية، ثم عين في نفس الشركة، بعد وقت قصير، محررا لمجلة قافلة الزيت، التي تصدرها أرامكو باللغة العربية، حيث قضى خمسة عشر عاما هناك، في انقطاع شبه كامل عن الحركة الأدبية في العالم العربي، الا في اجازاته القصيرة التي كان يمضيها في ربوع الوطن.

خلال هذه السنوات الجافة من عمره، كان ينشر قصائده في المجلات العربية، ولا يتاح له أن يراها مطبوعة، حيث كانت كل الصحف والمجلات والنشرات التي تصدر خارج المملكة ممنوعة من دخولها.
بعد مرحلة أرامكو، هاجر بعائلته المكونة من زوجته الفنانة أمل عبد المجيد، التي صممت له غلاف ديوانه الوحيد "يابحر" وما لبثت أن دخلت قلبه، لتصمم لهما طريق الحياة، وترسم أجمل ثلاث لوحات تزين عشهما، وهي ولديهما جاد وعادل وابنتهما الوحيدة سرى، الذين ولدوا جميعهم في السعودية.

هاجر الى أمريكا، في النصف الثاني من سبعينات القرن الماضي، حيث أقام خمسة عشر عاما أخرى في مدينة "ساندييغو" في جنوب كاليفورنيا، وفيها حصل على شهادة الماجستير في الأدارة العامة، قبل أن ينتقل الى ضواحي مدينة لوس أنجيليس، ليتم له فيها أن يلتقي بمن كون معهم ما أسموه بالمنتدى الأدبي.

ثلاث سنوات في صحراء الأردن، خمسة عشر عاما في صحراء السعودية، خمسة عشر عاما في أمريكا التي تريدك بلا أحلام. أضف الى كل ذلك، هزيمة حزيران، عام 1967 التي انفجرت على أوراق جيل كامل من الشعراء، ومزقت أوراقهم وأصابعهم، وهدرت محابرهم، وملأت بسواد بارودها، دفاترهم ومسوداتهم، وجعلتهم يؤمنون أن كرامة المهزوم في صمته.

هذه مجتمعة جعلت من الشاعر حكمت العتيلي، بطل أسطورة ترجل عن حصانه، بعد أن ملأ عينيه دخان الهزائم وسراب الغربة.

سنوات من الغربة والتشرد والضياع وعدم التواصل الفاعل النشيط، الذي يعرق شعرا ونثرا. وأنت عندما تخمد نيران ابداعك، بعد سنوات، من العطاء والتدفق، تنطلي ذرات تبرك بالتراب، وتتساوى الأشياء، فتكف الأرض عن الدوران، وتغير الشمس مسارها، فتشرق من كل الجهات الا الشرق.

لو بحثنا في معاجم المبدعين المعاصرين قد لا تجد اسم حكمت العتيلي في كثير منها، لكنك لو دخلت قلوب عشاق الشعر والأدب الذين نهلوا من معين تلك السنوات الخصبة المتفتحة المشرقة التي سبقت هزيمة عام 1967، لأوقفك صرح كبير شامخ فيه الكثير الكثير من عناصر العظمة والسمات الخاصة الجميلة، قليلة الوجود، اسمه حكمت العتيلي.
أستطيع اذن أن أقول أن حكمت العتيلي في رحلته كان رمزا حيا للأنسان الفلسطيني، الذي طاف الدنيا ومفتاح بيته الفلسطيني في جيبه، يفتح به كل الأبواب في الدنيا، الا بيته نفسه، استطيع اذن مرة أخرى أن أقول ان حكمت العتيلي، قد سرقته دهاليز الغربة من حكمت العتيلي، وأستطيع أن أصرح بأن حكمت العتيلي، لولا الغربة لما تأخر قطاره عن الوصول الى حيث كان يجب أن يكون، ولما شحب توهجه الشعري لحظة، ولكان في طليعة الصف.

بعد أن توطدت صداقتنا، أنا والشاعر الصديق حكمت العتيلي، وبدأت هذه الصداقة تنسج حولنا خيمة، ان لم تكن تصد أوجاع الغربة، وهمومها، فقد كانت تلقي فوقها وشاحا يخفف من حدة ألوانها الفاقعة. وقليلا قليلا تصبح الأشياء في ظل قصيدة جميلة جديدة، لا بأس بها. وبدأنا نعود للحياة وتعود الحياة الينا، على الأقل شعريا. وبدأنا ربما للمرة الأولى، في هذا المغترب، نفقد الأحساس باللاجدوى وباللامبالاة.

بعد حين انضم الى موكبنا الصغير، الذي يبحر ضد تيار الغربة، الشاعرة الفلسطينية المبدعة سلوى السعيد، وانضم الينا القاص الفلسطيني الشاب نظام المهداوي، الذي يصدر جريدة اسبوعية باسم الوطن، حيث شكلت لمنتدانا الثقافي منبرا هاما، وقفزة نوعية مهمة. وكان معنا كذلك الناقد السوري-اللبناني، والقاص انعام الجندي، وانظم الينا الأقتصادي العراقي الدكتور صاحب ذهب، وهو محب للشعر، يكتب القصيدة الكلاسيكية، ولكن ليس على نحو متواصل، كما انضمت الينا أيضا الكاتبة السورية الدكتورة وفاء سلطان، ومن مصر الموسيقي والصحفي صلاح كناكري.

وجد كل منا نفسه في منتدانا الشهري هذا، الذي كنا نقيمه في بيت واحد منا على التوالي مرة كل شهر، نستمع فيه الى ابداعاتنا. لقد شكل عطفة جديدة مهمة لكل منا، ووقفة نحتاجها تجعلنا نحس بانسانيتنا، وبتواصلنا مع الحياة، كل ذلك بعد سنوات من الأحساس بالضياع المطبق.

بعد أن دبت الحياة في أوصالنا المتجمدة بدأت شاعرية حكمت العتيلي، تعود الى طبيعتها الثرة، وبدأت تشكل ينبوع عطاء لا يشحب، يغيب عني يومين أو ثلاثة، فيجيئني صوته على الهاتف فرحا مشرقا ليسمعني ملحمته "مملكة القش"

يمضغون القات في مملكة القشِ
كأن القات ترياق الحياة.
ويحنون لعهد الجاهليه،
ويصلون لعشرين مليك وأمير وصنم
ويجافون الأله!
فألو الأمر هنا،
يعتنقون الوثنيه،
وألو الأمر هنا
قد وسموا كل الجباه
مثلما توسم بالكي الغنم.

لا نلتقي بضعة أيام أخرى، واذا به يسمعني، على الهاتف، من "الصقور لا تبكي":

لكن الوحدة في "أوسلو"،

لا تبعث في العظم المقرور شعوراً بالدفء

وتماثيل الشمع الصارمة النسمات الثملى

اذ تتسلل خاجة خجلى،

قبل الفجرِ

لا تترك في غرف النوم من الذكرى من شيء

الا ثقلاً يتحوصل في أعلى الصدرِ!

ما ثقل الزقّومِ المرِّ

أو الغسلين النيء.

يجيئني صوته فرحا عبر الهاتف ليسمعني "علية سعده"، قصيدته الشفافة التي أوقعتنا كلنا بحبها، ودخلت ضمير كل من سمعها بلا استئذان، لصورها الرقيقة، وعذوبة انسيابها، وقربها من تجارب الناس، كل الناس:

جلست عليةُ سعدة في خفر فائق
في الصبح تسخن نور الشمس الدافق،
كيما تغتسلُ،
سخن النورُ،
نضت عن نافذتيها أثوابَ النومْ
أشاح البابُ الوجهَ حياءً
باب العلية مفتونٌ منذهلُ،
تضحك منهُ الشرفةُ والقوّارُ وزنبقةٌ غافيةٌ،
في الركنِ الأقصى ساورها الخجلُ.

في اجتماع المنتدى الأدبي يقرأ علينا، قصيدته الجديدة "سوسن الحقل":

آه من لحظة تتضاءل فيها الظلالُ
وتغدو المنابرُ فيها مقاصلَ
تغدو الملائك جندُ تتارْ!
آه من ساعة تحرق النار فيها
صغار العصافير،
تعطبُ أحلامها،
وتحيل ضياء النهار الذي
طالما انتظرته ظلاما!
أقاليم هجرتها، المرتجاةُ مقابر.
أعشاشها نتفاً ونثار حياة وبعض غبارْ.
آه من رحلة لم تؤب من متاهاته الفنُ
آه من زمن
لم يماثله في بؤسهِ زمنُ
آه من خيبة المعجزاتْ
آه من هوسِ المارقينْ
فاليقين اليقينْ
أنه الحب لا يقبل الترّهاتْ
واليقينُ اليقينْ
إنه الحب أحرى به أن
يسود الحياةْ.
 
في اللقاء التالي، نستمع الى "المرايا":
 
المرايا
المرايا
غبشت كل المرايا،
كسرت صارت شظايا.

تتدفق الصور في قصائد حكمت العتيلي، كما تتدفق الجداول، بلا منغصات، وبلا عوائق. يبهرك فيه قاموس جميل غير محدود، منتقى مثل ضمة زهور اختيرت من أجمل حقل، بعناية فائقه، يشف في غزله حتى يجعلك تكتم أنفاسك، أحياناً كي لا تفقد مرور نيزك، أو لمعة ضوء عابرة بسرعة الذهن، وفي عنفه تسمه صهيل الخيول وقرقعة السيوف.
في قصيدته "في الطريق الى حلب" يختصر حكمت العتيلي، رحلة الأمل العربي، تتحول حلب لديه الى الحلم الكبير، الذي يبرق في أعين أبناء جيله، يلوح من بعيد كالوهم، ثم لا يلبث أن يدنو، ليصبح حقيقة أو يكاد، يكاد يلمس بيديه، مداخل بيارات فلسطين، وما أن يغلق قبضته عليها حتى تتبخر وتتسلل من بين أصابعه.

تدنو حلبُ

تقصو حلبُ

والناقةُ كلمى أنهكها التعبُ

وذرى عيبال وارتها السحبُ

وأبو الطيبِ سيف مغمد

والباذان صدى انشاد مجهد

يتعالى يخفت اذ يتردد

يرجو يضرع

لكن أحدا لا يسمع.

ما أقربها حلبُ

ما أبعدها حلبُ.

وفي بازار النحاسين، يأخذك الشاعر من يدك، ويدخل بك هناك، حيث قرقعة النحاس، تختلط بأصوات الباعة، بوقع خطى الرواد، بذكريات الشعراء.

"في بازار النحاسين،
المكتظ بخلق من كل الأجناسْ
يختلط الحابل بالنابل،
اذ تتساوى كل مسارات الناس
أو تتلاقى عند معابر عده
تقتاد السابل من حشر البازار
الى نشر الدنيا الممتده.
 
وتجد نفسك مشدوداً الى سيمفونية، يقول عنها الشاعر:
 
تتوالى باستمرار في أركان دكاكينِ البازار
الطرقاتُ على الآنية المنثورة،
حبات العقد المفروط.
ويعود صدى الطرق
على متن صهيل الخيل البلقِ
ونحنحة الشغالين
وفورات الزار الصوفية!
فاذا البازار يعج بسمفونية
ليست محض تقاسيم موسيقيه
بل ملحمة من أصوات عابقة
وروائح صاخبة
وجموع لاهثة الأنفاسْ
من نحاسين خفيفي الظل
وعسكر حراسْ.
أو حجاج ورعين وزوار عشاق من كل الأجناس.

بعد كل ذلك يجد فتاته دفعة واحدة، فيلتقط أنفاسه، وتلتقط أنفاسك معه، حين تسمعها وتراها في بحة صوته، وفي انبهاره:

وأنا بعد أعدي

باب البازار من الشارع

لاحت لي فارعةً يا وعدي

كالنخلة لاحت للعبدِ

لحظة شارف كثبان مضارب عبلة عن بعدِ

فاستبشر مثلي بالسعد.

ولكي تكتمل صورة تلك التي رآها، فذكرته بمضارب عبلة، وبالنخلة التي تحمل التمر والظلال:

كانت تلهو في ألوان القوس القزحي الرائع

كانت عارمة صارمة كالأجل

كالسيف القاطع

كان لها ألق البدر الساطع

يرتاد مزارات الزهر بلا خجل

كان لها نشر حديقة ورد.

وتصل القصيدة ذروتها، عندما يصل شاعرنا العتيلي باب شيخ البازار ويصيح به:

أتيتك أنفضُ بعض لوازب أشجاني

عن مشجب روحي

عن شوشة قلبي الولهان

قلبي الطفل المتكهل بالأحزان

الطفل المتكهل، صورة لا يستطيع القارئ أن يتجاوزها دون أن يقف منبهرا أمامها، للحظات، ثم يكمل:

وأملتُ بأن تنكأ لي لو بالضوضاء جروحي،

فأنا أعرف أن نزالاتي كانت عبثا عدميا

أن غنائم حربي كانت سبيا وهميا

هذه هي الرحلة من أولها الى آخرها بلا زيادة ولا نقصان!
ثم يصل وعي الشاعر ذروة تيقظه، ويرى فيما يرى المتغيرات التي أتت على كل شيء بما في ذلك عبلة والقوم والعيس:

عبلة واراها الخدرُ

ارتحلت قافلة القوم ونام حداة العيس

وأريق دمي منذ قرون يا شيخ

ونادى عنترة القبر

لن تنفع بيض سيوف

أو تشفع سود تروسي

يبسط الواقع بعد كل شيء نفسه، بمره وحلوه، وخيره وشره، فيرى الشاعر هذا القطيع الهائل من البشر العامل الذي يختلط عرقه برغيف خبزه، على حواف هذه السيمفونية التي تبسط ظلالها فجأة، واذا هي بحجم الحياة نفسها:

يغدو بازار النحاسين ملاذا

لقلوب أجهدها سقم العيش بلا وهج أو رؤيا

وأهب بالنحاسين جميعا

ألا تعلو موسيقاهم

فوق أنين قلوب الناس

من حجاج يفدون اليهم

من شتى أنحاء الدنيا

أو زوار عشاق من كل الأجناس

القصيدة لدى الشاعر حكمت العتيلي، تولد دفعة واحدة، تسكن تفكيره زمنا قصيرا متفاوتا قبل أن يحين موعد ولادتها، تجده خلال تلك المرحلة كمن يحمل هما، ساهما أميل للصمت، غائبا الى حد بعيد، ثم تهبط عليه أينما كان، دفعة واحدة.

كثيرا ما يقرأ لنا، قصيدة شبه تامة على محرمة ورقية من تلك التي نستعملها في المطاعم، وعادة ما تبقى بضعة ايام أخرى قليلة، كي يتم له ترتيب مقتنياتها، كما يقول، مقعد هنا، لوحة هناك، نافذة على هذا الجدار، أو باب يفتح في هذه الزاوية، ثم تستقر وتهبط على شاشة كمبيوتره الذي ينسخها بدوره على ورق أبيض، يستقر في أحدى جوارير مكتبه.
* * *
أعرف عن قرب، مكتبة الشاعر حكمت العتيلي، الذي يحمل الى جانب الكمبيوتر، والى جانب أوراقه ودفاتره وأقلامه وساعات طويلة من عمره، هي الأجمل والأمتع، والأصدق، في حياته كما يقول دائما، الى جانب كل ذلك تضم جوارير مكتبه عشر دواوين شعرية، جاهزة ومعدة للطبع، وكثيرا ما نتحدث عن الوقت الذي ستحطم فيه هذه الدواوين قيود غربتها وتنطلق مثل سرب نوارس طال بعدها وطال حنينها للشاطئ، لتجد قارءها بعد طول غياب وتشرد وانتظار.

ما زال في القنديل زيت يا حكمت!!

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى