حين تسكن التفاصيل عمق القصة القصيرة جدا
" إذا اتسعت الرؤيا.. ضاقت العبارة.." (ابن عربي) .
1 ـ بداية..
قولة أستعيرها من الصوفي الكبير "ابن عربي" لأنها تجمع هذا المقال وتختزله. فحين تتسع الرؤيا، والرؤيا هنا أقرنها بالتفاصيل، لأن للتفاصيل اتساع لا يحده مدى أو زمان، فهي كالحلم تمتد امتداد الخيال الجامح الذي لا يعرف الحدود.. حين تتسع الرؤيا والتفاصيل في ذهن الكاتب، تكثَّف العبارة/النص/الجملة القصصية كتابةً، لتُنتج نصا قصيرا يحفل بالتفاصيل المُضمرة والحاضرة ـ في نفس الآن ـ في ذهن الكاتب ليُعيد إنتاجها القارئ الذي يفتح له النص القصير هوامش أرحب لتخيل تفاصيل أُخرى تتعدد بتعدد القارئ..
2ـ لقطة ..
" الثامنة صباحا..
نظر في المرآة.. ابتسم لصورته وخرج..
الثامنة مساءا..
حين نظر في المرآة لم يبتسم.. همس..
ـ أشك أنه نفس الوجه الذي خرجت به هذا الصباح.. "
نص قصير جدا لكنه حافل بالتفاصيل.. تسكن عمقه .. غير أنها ثاوية في متخيل الكاتب أولا الذي هندس النص وفي متخيل القارئ ثانيا الذي يصنعها ، وإن بدرجات متفاوتة..
" أنا أومن بأن القارئ متعدد/ مثل الموجة، يمشي ويجئ، ولا يمكن تأطيره في دائرة واحدة " (واسيني الأعرج) . تعدد القارئ يفرض تعدد التفاصيل، للقصة القصيرة جدا هامش متخيل من التفاصيل المتعددة التي ينتجها متخيل القارئ المتعدد.. في حين، هي تفاصيل واحدة أنتجت النص..
قد يكون قارئ ما، هو المعني بالنص أعلاه، فيقف الموقفين أمام المرآة، موقف الثامنة صباحا وموقف الثامنة مساءا حيث تعتمل بداخله تفاصيل غير التي انطلق منها الكاتب كأرضية وتصميم للنص. الاختلاف يفرض نفسه حين يقف القارئ بين الثامنتين، فمنا من يعترف أن الوجه الذي يراه في المرآة صباحا ليس نفس الوجه الذي عاد به مساء، فيعيد تفاصيل يومه بكل دقائقه وجزئياته.. ومنَّا من يكابر.. يبتسم كأن الأمر لا يعنيه، وله في التفاصيل نظرة أخرى وحده من يعلمها لأنه هو من صنعها أو يصنعها لتبرير نظرته وهمسه أو ابتسامته..
التفاصيل الخبيئة بين الثامنة صباحا والثامنة مساء تضمرها القصة القصيرة ، لكنها متواجدة، حية تنبض بالحياة، لا أحد ينكرها، حاضرة في ذهن الكاتب لأنها المنطلق ، وحاضرة في ذهن القارئ، ليس كانتهاء ولكنها تصور جديد متعدد، وهذا هو سر وجمال القصة القصيرة تُخفي ما يعيشه القارئ لينخرط في الفعل التخييلي، فينكتب النص مرات بتعدد القراء باعتبارهم "كُتّابا" يحققون الفعل القرائي الإيجابي للنص ليستمر التفاعل باستمرار قراءة النص..
التفاصيل يبنيها الكاتب في متخيله ويستخرج منها نصا قصيرا يعتمد في تصميمه على بناء متماسك، مكثف ومركز، تمنحه (أي التفاصيل) دافعا قويا للمغامرة وارتياد المجهول والبحث عن فضاءات أرحب لامتداد النص القصير داخل ذهن القارئ.. وارتياد عوالم بكر لتجاوز النمط والمكرور إلى الابداع والتجريب وانعتاق السؤال فيما سيأتي من النصوص..
3 ـ بين الرواية والقصة القصيرة..
إذا كانت التفاصيل تصنع الرواية وتُصَرّح بها وتمنحها الحياة والمتعة واللذة، وتعطي تفاصيلها للقارئ دون أن يتدخل فيها، فإن القصة القصيرة تضمرها وتتركها تسبح في متخيل القارئ كما يشاء لتكتمل لدية المتعة واللذة، متعة القراءة ولذة مشاركة الكاتب بناء النص القصصي، وإن كان بتفاصيل أخرى غير التي انطلق منها النص.. من هنا يمكن التأكيد على أن الرواية تمنح القارئ متعة القراءة ولذه التجوال مع الشخوص داخل فضاءاتها المعددة عبر تفاصيلها التي تؤسس بنيتها الحكائية، بينما النص القصصي القصير لا يمنح القارئ اللذة والمتعة، بل يدفعه إلى البحث عنها وخوض غوايتها بالتفكير في التفاصيل سواء التي انطلق منها الكاتب أو المتخيلة حين القراءة.. تلك خاصية تتمتع بها القصة القصيرة حين تسكن التفاصيل عمقها، فهي لا تعطي متعة جاهزة، بل تعطي ألقها وسرها للقارئ الإيجابي ..
التفاصيل تصنع حياتنا، تعطرها، تمنحها الحركة والحيوية لتجعلها قابلة لأن تعاش، لأن حياتنا حكايا تؤثثها قصصنا القصيرة والطويلة، ذاك دأب التفاصيل، فهي ما يمنح الحكي لذة ومتعة، وما يمنح النص النفس الجميل ـ رغم قصره ـ كما تمنح القارئ مساحات لاكتشاف ذاته والآخر..
التفاصيل تفرض نفسها مرتين، مرة حين يضع الكاتب خرائط وتصميمات وترسيمات في ذهنه ليهب الحياة للشخوص والفضاءات والأحداث، ـ غير أنه ـ وللنظام الذي تفرضه القصة القصيرة ـ يختزل التفاصيل فيُكثِّفُها ويُرمِّزُها لتصبح ـ من الإبداع ـ لقطة مثيرة تختصر حياة معينة، وهو النص القصصي القصير.. ومرة في ذهن القارئ، وهنا تغيب القوانين لتحضر متعة القراءة، فتضيع التفاصيل ، وقدد تتعدد بتعدد القرَّاء، وهنا تبرز جلية متعة ولذة قراءة القصة القصيرة، وإشراك القارئ في إعادة إنتاج المقروء الذي يتجاوز القراءة السطحية الاطلاعية أو الانطباعية إلى القراءة الفاعلة والمتخيلة والمؤثرة في الواقع والذات حيث ينوجد القارئ بالفعل والقوة في النص القصصي القصير، لأنه يختزل واقعا منفتحا على تفاصيل متعددة يكتبها فعلا أو تخييلا، وقد لا تكون بالضرورة هي التفاصيل التي انطلق منها الكاتب ليكتب نصه المكثف..