على خط النار
أو حين يموت الكاتب مرتين
عتبة ..
الكاتب يموت مرتين.. الأولى حين يكتب.. والأخيرة حين لا يُقرأ له..
موت اسمه الكتابة..
حين امتهن الكتابة.. اختار أن يكون على خط النار..
أن يحارب القبح والبلادة والقهر.. والتخلف..
وكل محارب معرض للتعب والجرح والموت..
هذا قدره حين امتهن الكتابة.. اختارته أو اختارها سيان..
القبح يزحف .. يغزو كل مناحي الحياة.. أخطر من السرطان .. أخطر من وباء إيبولا..
القبح حين يلبس وجه العالم.. حين يعشعش في جوانب الحياة.. يتآكل الجمال وتنمو على حواشيه الديدان والعفن..
يتحجر العالم .. يزيغ.. يميل سريعا نحو الهاوية السحيقة لا قرار لها..
القبح لا خصم له إلا الكتابة.. هي صُقله.. هي جلاؤه.. هي عدوه الأول والأخير..
القبح عدو عنيد.. لا يستسلم بسهولة.. بل لا يستسلم أبدا.. يسكن تجاويف الحياة المظلمة، يطل برأسه الخبيث متربصا بالجمال ..
لذا فمعركة الكاتب لا نهاية لها..
يأخذ من ذاته أسلحة المواجهة..
حرقة الكلمات.. حرقة الكتابة..
الكلمات تزحم الكلمات.. تشاكس.. تنفلت.. تتمنع.. ترفع درجة الحرارة.. فيعرق.. تتساقط أولى الرصاصات/الكلمات.. لتموت فوق البياض.. في زمن مات فيه صدى الكلمات.. وماج القبح واستوى على امتداد المدى..
حين اختار أن يكون كاتبا، اختار أن ينزف كلمات.. حين اختار آخرون أن ينزفوا صمتا.. ولاءً.. تراجعا.. وحين اختار كثيرون " كم دينكم ولي دين "..
يُصلب في اليوم مرات.. في الحروف.. في الكلمات، وباقي الجمل.. يموت في السطر.. في كل فقرة، وباقي الصفحات.. يموت حين يُرصع وجه القبح كلمات .. ويمنح الصمت لسانا ..ـ قد يتكلم الصخر ـ لكن الصمت يظل أبدا أخرس .. وإن تكلم ففي صوته بحة لا تكاد تُسمع..
والقبح يزحف يضفر الصمت ولاءات كاذبة .. يزحف ليركن إلى الظلام..
يكتب حين تشتد حرقة الكلمات.. حين يركن الصمت إلى الصمت.. حين يركب القبح وجه الوجود متربعا، أميرا.. يكتب لعل الصمت يتكلم يوما.. لعل القبح يُعلن انهزامه..
قد ينتصر الصمت.. قد ينتصر القبح .. لكن إلى حين..
وهو على خط النار.. حتما سيندحر الصمت و يتراجع القبح.. لكن، بعد أن يموت كلمات وكلمات..
ذلك ثمن الكتابة..
أيها الصمت البئيس.. أيها القبح البشع.. أيها المنتصر الآن.. أيها الصدى الأخرس..
لا حياة لمن تنادي.. لا تيأس.. مت لتهب للوجود الوجود ومتعة الحياة..
مت أيها الكاتب.. ففي موتك حياة..
مت.. أكتب.. لعل وعسى..
ضد الحائط..
أمامك الحائط.. تشجع.. "كون راجل واخبط راسك في الحايط"..
هذا ما يقوله القبح والصمت في تبجح سافر..
الكتابة شجاعة.. مغامرة.. خروج عن النمط والمألوف.. " خبطٌ " للرأس على الحائط الصلد ضدا في الصمت والقبح.. والبلادة..
تلك هي الكتابة.. في كل حالاتها.. موت.. قدر لا مفر منه..
تلك هي الكتابة.. في كل حالاتها.. موت.. حين يأخذ من ذاته، ليُعطي الشخوص والفضاءات والأحداث.. ليواجه القبح وظلاله حتى لا يغرق العالم أو يحترق..
بموت الكاتب يُعلن الحداد..
يُعلن الحداد حين يسكن القبح الدواخل ويمد الجذور متوغلا..
أيها الكاتب.. أيها الكتاب .. أيها الشعراء.. يا كل من امتهن الكتابة موتا.. انتبهوا فالقبح يزحف.. يأكل وجه العالم.. وصدى الكلمات يتراجع..
هذا قدركم.. ليس أمامكم والله سوى الموت..
هذا خياركم.. موتوا.. اكتبوا.. أو عيشوا قبح وصمت زمانكم..
الكتابة.. مركوب لا يُلْجم.. لا يسلم ناصيته بسهولة.. عنيد متمنع.. لا يروضه إلا من خبر وملك أسرار الغوص في الأعماق وأتقن فن التأمل والإنصات للوجود..
الكتابة.. كثيرون يستسهلون صيد كنوزها، فيستبعدون العمق حيث الجوهر، فتأتي لا حياة فيها لتقف بالقارئ عند نقطة الصفر وتفسح للقبح أن يطل خبيثا فاردا جناحية..
الكتابة .. دهشة تفيض لذائذها حين تروض الفكرة وتستسلم لفيض الأسرار ولافتراس العين ويقظة القراءة..
الكتابة.. سر الأسرار.. لا يمتلكه إلا من اقترب من سر الموت واستعد للحرب ..
القبح يزحف.. وأخطر منه.. القراءة تتراجع..
موت اسمه القراءة..
القراءة.. ولا خيار آخر..
هل نسير ضمن الكوكبة أو نسير خلفها أو نقف متفرجين عليها تمر أمامنا ونحن نصفق ؟
السير ضمن الكوكبة يتطلب نفسا طويلا، وصبرا على ترويض القراءة ومعانقة الكتاب، وفتح مدارج المعرفة ومغاليق أسرارها..
القراءة.. خيارنا الوحيد للسير ضمن الكوكبة المنطلقة سريعا.. إما أن نكون في أولها أو في "آخرها".. وهذا أضعف الإيمان.. أو أن نكون مع الواقفين على الرصيف نتفرج.. نصفق.. نضحك كالأغبياء .. وهذا موت أكيد حين تمر الكوكبة لا تترك وراءها إلا الغبار وابتسامة البلهاء..
وحدها القراءة.. أو نعلن موت الكتاب/القراءة، كما أعلنا من قبل موت الكاتب..
حين لا نقرأ نعلن موت الأفكار والمعرفة .. ونسكن درجة الصفر من الوجود..
وحدها القراءة.. أو نعلن انتصار القبح.. والصمت.. والبلادة..
وحدها القراءة.. أو نظل تائهين خلف الركب السائر نحو النور..
وبعد، ذاك الكتاب..
بكامل أناقته يرقد في سلام على رف مُغْبر شيدت عليه العنكبوت بيتا واهنا..
هل فعلا يرقد في سلام ذاك الكتاب ؟
ألا يكفي موت واحد ؟
هي معادلة واحدة.. مخيفة.. لا نُلقي لها بالا نحن أمة "إقرأ"..
" أمة إقرأ لا تقرأ " .. معادلة لا تستقيم..
حين لا نقرأ .. نموت.. والموت يعني النهاية.. لا شيء.. عدم..
حين يكتب الكاتب.. يعرف أنه لا يُقرأ.. لكنه يصر على الكتابة.. لعل وعسى..
يموت مرتين.. حين يكتب.. حين يأخذ من حياته ليبعث الحياة في الوجود.. هذا الوجود الذي ينغلق يرفض أن ينفتح على الكتاب.. على القراءة..
لعل أمة " إقرأ " لا تدري سر الكلمة.. لذا هي تمر عليها مر الكرام، أو مر الجهلة الذين لا يعطون الكلمة المقدسة حقها..
يموت فعل القراءة لأننا لا نقدر سر الكلمة وقداستها..
ليست أزمة كتاب أو كتابة.. هي في الأول والأخير أزمة قراءة..