الاثنين ١٥ آب (أغسطس) ٢٠٢٢
بقلم عبد المطلب عبد الهادي

في انتظار أن نحيا من جديد، أو نُعلن موتنا..

في زمن ما .. في تاريخ ما .. كنّا أحياء..
وُلدنا أحياء لنحيا ونُعلِّم الآخرين سر الحياة..
وُلدنا لنُحييَ في الموات الحياة..

فرشنا للعلم بُسطا لتحيا الحياة، وتنمو على حوافها الأزاهير، وتُشرق الأرض بنور أسرارها العلوية..

طرّزنا الظلام نورا وألوانا.. وأشعلنا بالعلوم مصابيح على هُداها سار الغاطّون في نوم الجهل..

تجرّأنا على علوم الغابرين في الطب والفلك والفلسفة والحساب وعلم الكلام.. واقتحمنا حصون اليونان وأسرار الأولين، وأنزلنا ما سكن الفضاء، وأخرجنا ما اختبأ تحت الأقدام..

بنينا الحصون وأبدعنا ما وراء البحر فراديس تفغر أفواه الحالمين..

في زماننا هذا.. في تاريخنا هذا.. هل ما زلنا أحياء؟

كأن الزمن توقف .. لَفَظنا من سجلات تاريخه الزّمنُ.. تجشَّأ نَتْنَ هواننا الضارب في عمق ذواتنا البئيسة حين تنكَّرنا لنا ولأوَّلنا ولتاريخنا الذي كان.. وزماننا الذي كان..

... وفي زمن ما.. وتاريخ ما.. بعدما كنا نقود العالم إلى براري الأمان..

أعْلنّا موتنا بالسكتة القلبية والدماغية.. أعْلنّا على مسامع العالم.. " لي ما شرا يتفرّج ".. طبعا فينا.. فُرجةً أصبحنا..

سرنا سير ضعفائنا حتى أصبحنا ضعفاء يأكلنا الضُّعف والخوار.. تآكلنا وأكل بعضنا بعضا.. خاطبنا ضعفائنا على قدر عقولهم، حتى أصبحت عقولنا عقول العصافير وأجسادنا أجساد بغال تحسن الاستهلاك وملء البطون، وهز البطون والأرداف، وكثرة الكلام والقيل والقال..

استحليْنا النوم والغناء لليل والقمر.. "يا ليل يا عين".. حين تسلَّح الآخرون ـ وفي غفلة منا، وعلناً ـ بما كان لنا بالأمس نورا نهدي به الضالين والسائرين عُميا وصُما وبُكما، فأصبحنا نحنُ العُمي الصًّمّ البُكم الذين لا يعقلون.
تركنا الفردوس الزاهي والقلوب تنز دما ويأسا وعويل نساء، ومن قبله رَفَسْنا رفس بعير هائج شواهد من كانوا للعالم قادة..

تنكّرنا لأسياد ساقوا بعزة طوابير التائهين، ودفنا عند أعتابهم سر الكلام.. وسر النخوة والكرامة، فانْقَدْنا كقطيع يحسن الاجترار وترديد الكلام.. دفنا الماضي، وأهلنا على شواهده التراب، وأغلقنا دونها منافذ الصحو ومسارب النور..

أقبرنا شواهدنا، وطمسنا معالمَ منْ ساروا بِعزّة وإباء نحو المدى يُضيئون سوادا جنَّ وران على قلب العالم.. وأغمدنا حلمنا في غمدٍ صديء مُهتريء متآكل.. ونقشنا بفخر على أبواب عقولنا المثخنة باللامبالاة والتراخي "لا للنور".. "لا لعلم يوقظ فينا سر الوجود"، وأصبح العالم متاهة ندور بها في يأس باحثين عن خلاصٍ ومخرجٍ ـ وهو منّا قريب وعلى مرمى نظر ـ منّا منْ ركب الموت قوارب، ومنّا منْ يبحث عن رجولته في أوراق بين فخّين، ومنا منْ ضيّع حساباته، لا البداية اتُّضَحتْ ولا النهاية أدرك..

فُزنا حين ما فاز إلاّ النّوّمُ.. "ولّي بغا يربح العام طويل".. حطمنا الرقم القياسي لأهل الكهف حتى صار جهلُنا، بلاهتنا، غباؤنا كهفَنا المظلم، وضحكاتنا التي يضحك من قبحها من علّمناهم بالأمس سر الكلام وسر الوجود..
عرفنا قدرنا بأنَّا لسنا للزمان رجال، فاسْتحْلينا الضحك للقمر على أنغام "يا ليل يا لعين".. والشطح والهز والقيل والقال.. ننتظر أن يتحرك من كان بالأمس يستجدي عند بابنا فكرة، فنتحرك تحرُّك قرد يُجيد التقليد الأعمى والمحاكاة والصراخ.. والضحك..

أصبح العلم عدونا اللدود، فألغيناه من حياتنا ومدارسنا ومعاهدنا وجامعاتنا، وكأن الجهل ما خُلق إلا لنا فالتصقنا به حتى أصبح لنا عقيدة، سِمة ووشما به نفتخر بين الأمم.. بل أصبحنا سُبة وبالجهل والتخلُّف نُعرف..
اِلْتَصَقْنا بشاشاتٍ على مقاس كفِّ أيدينا الخائرة والناعمة إلْتصاق بقَّة على جسد منهار خامل تعِب تمص دمه حين استمرأ واستحلى الحك والهرش.. حتى تكوّرت كروشنا وانتفخت، وتقوست ظهورنا وانكسرت..
إلى متى وحلم النهوض فينا يداهن.. يراوغ.. يراوح.. كابوسا انقلب.. حتى أصبح الحلم والكابوس سيان.. شعارنا " ما فاز إلا النوم ".. لنا في الموت رقدة طويلة سننام فيها ملء جفوننا، لكننا بدأنا استعداداتنا لها من زمن طال، عوض أن نتحرك ونحيي أثر الأولين فينا.. تركنا لغيرنا الجد والعمل والبحث العلمي والكر والفر.. ونمنا، بالأمس واليوم ويبدو من غدنا أن شمسه غاربة باردة مظلمة.. لا يستبين لها شروق..

وبعد، في زمنٍ ما آت.. في تاريخٍ ما آت.. لعلّ جيلا يأتي بعدنا، يُعيد إلينا صحوتنا قبل أن تقوم القيامة..


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى