حي الشيخ
تسرد رواية (حي الشيخ) أحداثا من الواقع المعيش ليس بالضرورة أن تكون واقعية محضة، ذلك أن السرد البحث هو من قبيل الإسفاف إذا سيق مجردا من الحبكة الفنية وإلا فما ضرورة الأدب وما ضرورة اللغة الفصحى. ولقد ارتأيت أن أزين هذا العمل المتواضع بحلل من التقابلات في واقعنا المليء بالمتناقضات، كل هذا لإمتاع القارئ -وهذا بالأساس ما أصبو إليه زيادة على الإفادة الفكرية- و إخراجه من دوامة الطلاسم والمبهمات التي يتعمدها الكثيرون من كتاب العربية ستارا لهم يحجبهم عن القاريء وهيبة يصطنعونها كي يُنظر إليهم نظرة إكبار وإجلال متناسين بذلك أن المشهور من إبداع في اي مجال إنما هو البسيط المتناغم مع أحاسيس الناس وتطلعاتهم البسيطة عموما، وعلى هذا الأساس اشتهر من الرواية على مدى التاريخ السرد القصصي المنساب السلس الغير مبهم. وهؤلاء المطلسمون إنما يخفون عجزهم عن الحكي المتراتب المنطقي ويوارون تشوشهم الفكري خلف قناع الرموز كي يقال عباقرة أو يقال مفكرون. ولا أرى عيبا في الرمزية إذا دعت إليها ضرورة ملحة كإعطاء الفكرة أبعادا عديدة تستوعب جميع الأفهام وترضي جميع الأذواق، أو أن يكون لها إسقاط على كل واقع مع اختلاف البيئات، وليس هذا بالشيء المتاح لكل مؤلف أو مبدع، فالبساطة صنعة دقيقة لا يتقنها إلا البارع الضليع المستغور للنفس البشرية و العارف بأمور شتى من الحياة. ولعلي أكون شيئا ما من هذا القبيل، ولعلي خضت من تجارب الحياة ما خول لي هذا التفاني في الواقعية والبعد عن الطلاسمية، إذ فما فائدة ما أبدع إذا لم يصل إلى الناس وإلى قلوب الناس. وقمة الجنون أن تخاطب ذاتك ظانا أنك تكلم الناس فتُفرَد في وحشتك ولا يسمعك أحد و إن علا صراخك. ولن أتحدث عن الشخصيات ومبررات السياق والأحداث بل أدع السطور تحكي عن نفسها…
الرواية
– 1 -
لا أجزم بأن أكون قد ألممت بشتات هذه النفس وشظاياها المتطايرة التي تسبح في هذا الرأس الكبير، ولا أجزم بأن أحدا يعرف عنه الكثير مما تسرد هذه السطور. يخيل إلي أن ما يحتويه هذا الرأس شيء جديد يعجز علماء النفس عن تحديد ما هيته…هو أشبه بمزيج من جميع النفوس البشرية ذات الشذوذ الحاد. ويخيل إلي أيضا أن مخه يحتوي ممرات أكثر تعددا و تشاكلا، وأن عدد خلاياه جاوز البلايين المعروفة، ثم أن قشرته الرمادية توشك أن تفيض معلوماتها على سطح رأسه الذي اتسع على كتفيه في غير تناسب مع الجدع والأطراف فبدا ضخما متهالكا إلى الأمام، تجمعت المعلومات فيه بوفرة كبيرة فتسببت في إرهاق ذاكرته من جهة، وفي تثبيت لا شعور سيطرت رغباته ومذخراته عموما على الشعور.
وأشك في أنه وجد بهذا العالم الشاسع أو انه يوجد من بنفسه تركيبا وتعقيدا وتمازجا، ولو تعرف إليه أحد جهابذة علم النفس لاتخذه حقلا خصبا لتجارب عدة ربما خرج منها بنظريات عظيمة جديدة كل الجدة على حقل التجارب النفسية، وربما أطل فرويد من قبره ليعترف للعالم بقصور أبحاثه وبلادتها وعدم فاعليته! وأتصور أن تفاعلات مخه جاوزت العدد المعروف بالآلاف، الرقم القياسي والعادي لتفاعلات مخ البشر في الثانية. كان صاحبنا يحب أن يهرب إلى البعيد فيحفز ما استطاع من ذاته المنسية ومما تحدثنا عنه، خصوصا ما اسودت معالمه…
لا يستطيع هذا الشاب الذي شارف على الثلاثين خريف أن يؤرخ لمولده، كما يعجز عن لملمة شتات ذاكرته المتمردة ليحصل على صورة واضحة من صور الماضي البعيد. هو"يوقن" بأن أمه على وجه الخصوص لم تسعد بمولده يوما من أيامه السوداء، كما يحس دائما أنها تكن له كراهية خاصة واحتقارا أيضا، والدليل على هذا أنها تصر على تعذيبه وإلصاق الألقاب الإزدرائية بشخصه المهتري، حتى أنه كبر ولم ينس هذه الألقاب وظل يقول بكراهية أمه له وبأنها لم تحبه يوما، وبأنها عذبته على مر أيامه الحزينة، ولم يستطع أحد أن يستأصل هذه الحقيقة من أعماق نفسه المريضة، فجراحه لا تندمل أبدا ويأسه من حنان أمه قاتل كيأسه من حصوله على عمل أو زوجة أو بيت، أبوه كان رحيما، حنونا إلى حد البلادة أحيانا، لكنه عوض عاطفة الأم الغائبة.
كان البيت آنذاك خربا إحدى غرفه مسقوفة، أما الغرف الأخرى فهشة الجدران تطل أحجارها من حين لآخر تحت وطأة الرطوبة المتصاعدة من أسفل المنزل الذي اشتراه الأب في الخميسنات بما لا يعد ثمنا لغرفة في هذه الأيام، أما الإخوة آنذاك فكانوا أربعة هو واحد منهم، وأما الإضافيون فعجوز فانية كانت بمنزلة الأم لأبيه ثم بعض الدخلاء الذين أقلقوا راحة الأسرة ما يزيد على عشر سنين. أمه كانت (معذورة) إن قاسية أو غضوبة، فزوجة أخي زوجها الميت مثلا كانت مستفزة نارية الطباع,امرأة حسود ترى بأنها كانت أولى بأب الأبناء من أمهم بما ميزها من قد رشيق وعينين غزالتين وظفائر كسبائك الذهب ممتدة حتى الركبتين، ساحرة أيضا ولا تكتفي بتصانيفها السحرية عدائية، بل تسب أقبح السب وتضرب وتشد بالشعر وتؤلف لسبابها أشعارا ترددها صباحا و مساءا، وهي بذلك تقيم في البيت عنوة وتتصرف بحرية وتغني وترقص وتفعل ما يحلو لها دون زاجر أو رادع, هذا وناهيك عن أشحاص آخرين دخلوا المنزل و سلبوا أمنه واستقراره و نغصوا صفوه.
وجد صاحبنا نفسه بين أفراد هذه الأسرة ووسط هذا التشاحن الذي ملأ المنزل بالضجيج الدائم مما أفرز لديه عدة مخلفات نفسية متطرفة من جهة ومركبة من جهة أخرى، ونشأ كما نشأ إخوته الكبار في ظروف أحسن نسبيا من ظروف العهد الذي سيلي. وحمل من هذه المخلفات الشيء الكثير فتهالك على مر أيامه وتدمر من الأوضاع أشد تدمر.
غير أنه استفرد بنباهة وحدة ذكاء عجيبتين، وامتزج في نفسه الحزن بالميل إلى النكتة والدهاء وأيضا بطموحات جنسية غريبة، فعرف بين أترابه واشتهر حيثما ذهب.
ولعلي أكون أكثر نزاهة فأعترف أنه كان أذكى إخوته على الإطلاق ومن بين أذكى من عرفت في حياتي. كما أنه عرف بتطرف وثورة دائمة على الأوضاع، هذا إلى أنه كان مسالما وديعا، وثوقا بالناس، عطوفا على إخوته الصغار. ويبدو أن هذه العوامل مجتمعة لم تكن في صالحه في يوم من الأيام، ففشل في دراسته وعلاقاته فشلا سوف يشل إقباله على الحياة فيما بعد.
نشأ صاحبنا في كنف أم متسلطة وأب دمت خجول كان ينحصر طموحه في أن يضمن لأسرته لقمة العيش وأن يحميهم عوادي الزمن، ينصب تفكيره في الغرف من طيب المأكل والمشرب ناسيا ما كانت تستوجبه تربية الأولاد من حزم, لذا تربى الأبناء في جو من الانطلاق شبه السائب الذي كانت تردعه الأم بقسوتها. ولعل أحلام الأم تبخرت من لا مبالاة زوجها بعدة أمور فاشتدت ثورتها عليه بعد أن كانت وديعة متسامحة. ألمهم أن صاحبنا انكب يغرف من كل هذا وذاك متدمرا تارة ومفاكها تارة أخرى مع اختزانه لأقسى ذكريات ومآسي هذه الفترة وما تلاها.
ولم يكن نفوره شيئا غريبا بالقياس إلى ما كان يحدث داخل هذه الأسرة، ولم يكن إصراره على الثورة والنجاح غريبا أيضا. لكن أغرب ما في صاحبنا أنه تميز في كل ما كان يدرسه مع أن معدلاته السنوية كانت توحي بغير ذلك. ويبدو أن السبب المباشر كان ضعف ذاكرته المرهقة وميله إلى الكآبة والإنطواء، مما خلف لديه مازوشية بدت واضحة في إهماله لمظهره ومأكله، وخلف لديه أيضا فراغا زمنيا لا يتناسب وفكره الأدبي والعلمي وكذا ميوله الفلسفي وإلى تفكيك الأشياء مغترفا من الشريعة الإسلامية ومبادئها المثلى. وتحول هذا الفراغ لديه إلى مفسدة أتلفت سجاياه فيما بعد وحولته إلى مستهتر متمرد على الحياة.
كان يظن إلى دهائه ومكره أنه أوفر الناس ذكاء وفطنة وخلقا وأن فشله الدراسي مسألة حظ لا أكثر، مغترا في ذلك، مضمرا للناس بعض ازدراء فبدا تطرفه واضحا.
وكثيرا ما أوقع نفسه في مطب الإرتجال فاتخذه أصدقاؤه من الحي وغير الحي موضوعا يتلذذون في شحنه بكل ألوان الإزدراءات والتجاوزات. وأصبح فيما بعد شبه منعزل عنهم. وبنى لنفسه في الأحلام صروحا شهد من خلالها مجده القادم وباصر من على شرفاتها سخافة الناس وحقارتهم.
لقب في طفولته ب"العالم"، وكان أترابه يلتجئون إليه في كل ما استعصى على فكرهم إن وجدوا شيئا غريبا أو سمعوا عنه أو تعذرت مسألة رياضية أو لغوية. وأراهن على أنه كان أكثر نباهة مما كانوا يتصورون، وأن هذه البوادر كانت بوارد "عالم" كٌبتت عالميته، حيث كان سابقا لسنه في كل شيء… ربما لأن طفولته كانت متفردة في اغتصابها و حرمانها.
ومرت السنون، وكبر صاحبنا على هذا النحو من التدمر إلى أن بلغ العشرين من عمره الخريفي شارف معها على الباكالوريا وعلى نهاية الأحلام: لقد حاول أن يجتاز هذه المرحلة آنذاك بتفوق لكن شيئا كان يحول دون ذلك، بل دون اجتيازه لهذه المرحلة الإنتقالية الصعبة في حياة أي طالب آنذاك. وعاود الكرة تلو الأخرى لكنه في كل مرة كان يفشل، إلى أن استحال فشله في نفسه ركاما لحلم شاب منهار ليس في قريحته أي إصرار على النجاح في أي تجربة من تجارب الحياة الأخرى، وعرفت نفسه تحولا غريبا أدى إلى الجزم بسوء حظه لديه ولدى جميع أفراد الأسرة بل لدى كل من عرفه. كان يقول دائما بأن القدر ليس في صفه وأن فساد المجتمع هو الذي حال دون نجاحه، حتى أنه أصر أحيانا على أن مسألة فشله مُخطط لها من قِبل أشخاص يحملون له الضعائن ويضعون له الدسائس ويحولون بينه وبين أحلامه عموما.
واستغرق تفكيره في مستقبله جل وقته إلى أن وجد نفسه قبالة مصير محتم، ألا وهو أن المستقبل لن ينثني عن غموضه وسواده، ولن يستقر في ظل هذه الصراعات النفسية، وتبين له أن مجد طفولته وبعض من شبابه كان من قبيل المغالاة ليس إلا، وأنه لم يكن ذكيا أو متميزا إلا بالقياس إلى بيئته البسيطة الساذجة وأن هناك من هم أكثر منه دراية وفطنة وذكاء. وقرر أن يهب نفسه فرصة للتخلص من براثينها وشذوذها فالتحق بمعهد التكنولوجيا التطبيقية - والذي كان آخر ما يُفكر فيه آنذاك والذي سينكب عليه الكثير من الطلبة باختلاف مستوياتهم الدراسية والمعيشية- ودرس ميكانيك السيارات. وفرطت سنتا التدرب في قلق دائم ونفس مهترية آسفة.
وأخيرا حصل على "دبلوم" يخول له العمل بأحد المصانع أو فتح ورشة خاصة لتصليح السيارات. ويبدو أن الحزن الذي عشش في لحظيه من كثرة المصائب وأكسب وجهه وجوما وسخطا على كل من نجح في حياته أعدم حظه، بل أعدم الحضور الذي كان لديه في الماضي. وكان كلما عمل طرد من عمله بسبب تواكله وضعف تركيزه. وتوالى طرده من أي مكان عمل به إلى أن فقد الثقة بنفسه كلية وكره العالم ومن فيه. واستحالت بسمته شرودا ونسيانا دائمين. وبارك هذا قساوة ظروف المعيشة بعد أن كبر إخوته الصغار وصار لكل منهم حوائجه ومستلزماته التي لا تنتهي و تكاد لا تُقضى كلها. أما هو فحسبه عطَلته كي لا ينبس ببنت شفة وإلا لذغه لسان أمه بما لذ وطاب من أفنان الشتائم والإزدراءات.
وبدا مظهره واضع الرثاثة، بل إنه أهمل نفسه إلى درجة كان ينسى معها أن يستحم أو يحلق شعر وجهه شهرا أو شهرين كاملين. وعاوده الحنين إلى المبادئ المثلى والسجايا الحميدة فانظم إلى جماعة من "الإخوان" وعكف على العبادة وعلى الصلاة لا يهملها ولا يتوانى في تأديتها مع الجماعة. وكثيرا ما أثيرت حوله الشبهات فاصطدم برجال الأمن وأوشك أن يعتقل أكثر من مرة لولا أن القدر كان في صفه هذه المرة. وبدا يمشي رزينا هادئا، مطأطئا رأسه لعِتي الدهر. واجتمع في رأسه رصيد هائل من المعلومات والأخبار والموروثات عن كل ما يتعلق بالشريعة الإسلامية فبدا ورعا صامتا في أغلب أوقاته، اللهم إلا بعض ضحكات مجلجلات كانت تنبعث من ثغره الحزين في بعض مجالس الأسرة حين يجرفه الحنين إلى شقاوة الطفولة فينكل بهذا ويسخر من ذلك ويصدر تعليقات ساخرة عن بعض أشياء يستخفها أو يتلذذها.
وبلغ نسيانه حدا تعذرت معه الحياة بكل ما يلزمها من حذر وحذاقة وفطنة، فكان ينسى الحادث بعد فترة قصيرة من وقوعه. وتحول نسيانه إلى ذاكرة ضعيفة اتصالها بالحاضر شبه مقطوع. ولطالما نسي ملابسه في الحمام أو لبسها دون كيها أو تنظيفها. وقد أدى به إهماله لمظهره إلى تبرم الناس وازدرائهم، هذا إلى أمه التي كانت تلح في تجريحه كلما استلزم الأمر، وتذكره بتهاونه وكسله، فاهتزت شخصيته وأصبحت هشة لا قبول فيها.
ويذكر أن أمه أيقظته مرة للعشاء فذهب ليغسل يديه، لكنه فضل أن يدعن للذة النوم فنام في الحمام. وكم تضاحك إخوته ووالداه من هذا الحادث الغريب الذي خلف في نفسه حسرة وأضاف إلى كوم أحزانه حزنا جديدا، آسفا لما آل إليه حاله.
وكان إلى هذا ميالا إلى الإختراع، متفننا في الطبخ خاصة، ذا روح خلاقة هامدة بحكم ظروفه القاسية.
كانت طفولته أشبه بزنزانة تعذيب كباقي إخوته، فلكم ذاق الحرمان ألوانا وأيضا كل صنوف التعنيف والتوبيخ والضرب. فالأم لم تكن تتردد في فعل أي شيء ساعة الغضب، ولربما رمت أحدهم بكأس أو طبق، هذا إلى أشباه المجازر التي كانت تقام في البيت كل صباح حين يستيقظ الأولاد باكرا ويقلقون منامها بضجيج لعبهم فتوقفهم صفا واحدا كل فيه ينتظر دوره في العقوبة.وكانت تنتقي العصي من فرن "المعلم إدريس" الذي لا يتردد في إعطائها أحسن ما تجود به أكوام الحطب المحمولة من الغابة، هو يختار لها الفتاكة ذات الأنياب الحادة متواطئا على الإيلام جهد المستطاع. وكان الأب المسكين يشفق على الأبناء من ضراوة أمهم فيتدخل زاجرا إياها، لكنها لم تكن لتسمع لزجره خصوصا وأنها كانت تندمج في هذه السيناريوهات الصباحية والمسائية. ثم لكي تمنع الأب من أن يتدخل، كانت تدخلهم إحدى الغرف وتقفل بابها بإحكام، وتمر لحظات يسمع فيها صراخ أحدهم وهو يستنجد بأبيه عبثا. ثم يخرجون بعد وقت ليس بالقصير وأجسادهم الصغيرة مبقعة بالجراحات والإنتفاخات.
وبقيت من هذا التاريخ بصمات في أجسادهم تذكرهم هذه الفترات الحالكة من أيامهم فيضحكون لبعضها ويتألمون لبعضها الآخر متباهين، كل منهم يصر على أنه نال من العقاب أكثر من الآخرين، بل ليَأخذٌ أحدَهم الأسى فيبكي.
ولقد ورثت الأم ضراوتها هذه عن أبيها السيد عبد السلام، بل إنها كانت تتمثله في كل سلوكاته. ويبدو أنه لاحظ هذا التطابق بينه وصغرى بناته فردد ذلك أمام أصحابه وأبنائه مفاخرا، حتى أنه لم ينس أن ينوه بهذا التطابق حين دنا أجله قائلا لابنته : "سأموت وأترك خليفتي". ولطالما أكثرت من تبجيله وسرد أحداث من ماضيها معه فتتفنن في السرد والأبناء يستمعون في اهتمام كبير يشوبه الذهول. فلقد كان التناقض صارخا بين ما كانت تحكيه عن قسوة أبيها من جهة وبين ما كانت تبديه من إعجاب نحوه ومباهاة به. ولا عجب" فكل فتاة بأبيها معجبة". وعكفت على تلقين أبنائها كل ما تعلمته من أبيها من سلوكيات أغلبها شكلي لا يمت إلى التربية الإسلامية بشيء، بل إن أغلب ما تعلموه منها قيد الكثير من طموحاتهم وسلوكياتهم بالخجل والتردد والإحساس بالنقص أحيانا، وخلق لديهم انطباعا بصعوبة الحياة وكلفتها. ولا عجب إن عرفنا أن أمها (وكانت آخر زوجات الأب) ماتت في ريعان شبابها وتركت للأب أربعة أبناء غير أبناء آخرين من زوجات أخريات سابقات، فكان لزاما عليها وهي الأخت الصغرى بعد شقيقتها حليمة أن تلعب دور الأم لأخويها منصور وأحمد والزوجة لأبيها خاصة بعد زواج شقيقتها، أما إخوتها من أبيها فقد استقر كل منهم آنذاك في بيته زوجا أو زوجة. وبقيت سنين عديدة في كنف أبيها الأرمل العاتي ترعى أخويها إلى أن كبرا واستقرا معها بعد زواجها الثاني في بيتها طيلة خمسة عشر سنة تقريبا. وبقي أبوها وحيد داره بعد أن تفرق عنه أبناؤه إلى أن عجز وحُمل إلى بيت ابنته حليمة بحي "لبلوك" حيث قضى بضع سنين مَعولاً عاجزا إلى أن وافته المنية.
وكانت الأم تخلط بين قسوتها وحبها لأبنائها خلطا عجيبا، فتتراءى تارة أرق الأمهات وتارة أخرى، بل أغلب الأوقات سليطة متجبرة.
ونعود إلى صاحبنا فنرجح أنه تخرج من معهد التكنولوجيا وهو ابن الرابعة والعشرين وأن نظرته إلى الحياة بدأ يشتد سوادها، وصارت حياته مجرد دموع صامتة وحسرة على ما أفل من نجمه الذي كان ساطعا يتوسط علياء المجد أيام الصبا، وتحول فيما بعد إلى ثقب أسود يمتص كل آلام مجتمعه بما فيه آلامه المزمنة، حيث داهمت النجم شيخوخة مبكرة، فقطب في وجه الحياة كما قطبت في وجهه. هو لا يعلم إن كان يكره مجتمعه أو يحبه، لكنه متأكد من أنه كره خنوعه وتجبر السلطة فيه … كره أصحاب الجاه ومن تبقى من إقطاعيين ومن غلب من اللصوص وعظمت سرقاتهم، ووعد نفسه َلأن سينتقم لها يوما ممن أعدموا فيه ثقته بها وحماسه إلى المستقبل والحياة عموما. وانكب المسكين يغرف من صمته وصمت مجتمعه الأحزان ألوانا حتى لم يعد يطيق تحملا فتمنى الموت. وكان ينام متمنيا ألا يفيق، وحين يطل الصباح على جفنيه المتعبين الذابلين ويوقظهما يجد نفسه بطلا لمآسي يوم جديد فيأسف بالغ الأسف ويرثي نفسه المسكينة. وتحولت نرجسية الأمس إلى مازوشية فاعلة وسادية غير فاعلة، فأصر على تعذيب نفسه والإنتقام منها لتهاويها واستسلامها، وأحب كل ما عشش الشجى في ثناياه من فنون وآداب وحتى كل من شابهه في محنه ومعاناته.
نرجح أيضا أنه ظل عاطلا لعدة شهور بعد تخرجه إلى أن عمل بمصنع للنسيج بمدينته فترة قصيرة بعد أن واضب على كسله. فنادرا ما ذهب إلى عمله في المواعيد المحددة ليستأثر بساعة نوم أخرى أوساعتين يسمع بعدهما من أمه كلاما لاذعا مما زاد نفوره من العمل ومن ميله إلى النوم والكسل.
ولطالما تاقت نفسه إلى الإستقرار وحلم بنفسه رباًّ صالحا لأسرة صالحة فيشتد حماسه ويبحث جاهدا عن عمل جديد، لكن حماسه لم يكن كافيا لامتصاص كم المعاناة بما فيها من إحباط فيخبو وتنهار القصور وتذبل الورود الحالمة في روضه المنسي فيعاود كسله وشذوذه ويطول نومه الثقيل واصلا نهاره بليل ساهر أرق. وبدا وجهه تعباً غطى الوجوم فيه وما اسود من تقاسيمه جماله وبدا عميقا ساخطا, لحظاه فاحصان ومقلتاه ذهب حورهما فاشتدت حمرة البياض فيهما كما لو كان مدمن مخدرات. وفاقم الأحزان أنه اضطر بحكم الفراغ إلى أن يدعن للعديد من الرغبات والأعراف فتفرغ لهموم البيت تفرغا تاما أغرقه فيه إلى آخر شعرة في رأسه الكبيرة، فذاب في أتون الأحزان …
وبحث لنفسه عن مهرب من هذا الجو الرهيب فعاود الكرة تلو الكرة باحثا عن عمل. وذهب مرة إلى عمالة المدينة ليحضر اجتماعا كان تقرر أن يعقده عامل الإقليم بحضور الفئات العاطلة للنظر في إمكانية دمجها في مجال العمل. وهناك رأى صاحبنا ما لم يكن بالحسبان بل تأكد لديه أن مأساة الشعب واحدة وأنه لم يكن وحده بطلا للمأساة: رأى أشياء غريبة لم تكن لتحدث في غير هذه الظروف وفي غير هذا المكان: لقد اشتد حنق الناس وبدا اليأس واضحا على وجوههم فأشبعوا الجو بالدموع تارة وبالتجاوزات تارة أخرى. ويذكر صاحبنا أن أحد الحضور رفع حذاءه في وجه المسؤولين وقال وقد بلغ منه التدمر مبلغا عظيما :
-انظر سيادة العامل، حذائي هذا لم أغيره منذ انتهت خذمتي في الجيش ولقد اهترى نعلاه وبدا ثقباه كما ترى سيادتك.
ولأول مرة تضج القاعة بالضحك غير أن أحدهم بادر قائلا:
– شيء من الاحترام ياسادة.
وقرر صاحبنا أن يخرج عن صمته وخجله فنهض هو الآخر منتفضا مدفوعا بحماسة غير متوقعة وخاطب العامل قائلا:
– وأنا أيضا يا سيدي …
وقبل أن يكمل كلامه، وقبل أن يتمكن من جلاء بعض الصدأ العالق بصدره بادره العامل قائلا في غضب:
– أنت بالذات تخرج وتغيب وجهك عنا إلى غير رجعة.
فحبط حماسه من جديد، وسرت في جسده رعشة زاد من حدتها تلك الأعين المشفقة المتطلعة والتي حركت فيه خجله فامتقع لونه وظل فاغراً فاه لحظة وقبل أن يبتدره أحد الخفراء:
-ماذا تنتظر؟
فخرج مطأطيء الرأس وقد ركبه جبن مباغث محا بريق عينيه الذي كان منذ قليل… ما الذي جعلهم يا ترى يختارونه دون سائر الحضور ومن بينهم من هم أرث منه مظهرا وأحقر سحنة! لابد أنهم أدركوا أنه فرد من حيث سلوكه وطباعه وعدم ثقته بنفسه…لكن هل كانوا ليشفقوا لحاله ويمنحونه فرصا أكثر لو علموا أنه ربما كان أذكى الحضور وأنضجهم تفكيرا وأرقهم حسا وأطهرهم قلبا…ما أبعد هذه الرؤوس الغليظة وهذه البطون الممتلئة بعصارة عرق الكادحين وهذي الوجوه البادي ثراءها عن أن تفكر مثل هذا التفكير! وكيف يعقل أن يأبهوا لمثله ومناصب الشغل متاحة لفلان ولابن خالة علان؟ لقد هان على هذا العالم في لحظة، ونسي الناس أنه كان مصدر سعادتهم بفكاهاته فيما مضى... ما أقساك أيها البشر وما أكفرك! وما أعظم ألا تُجازى بقدر ما تستحق أو أن تُجحد كلية. يبدو أنني أصبحت عالة على أهلي وعلى هذا المجتمع وأنا الذي بإمكانه أن يعطيه أكثر مما أعطى الكثيرون… يبدو أن المسألة مجرد حظ وشطارة، وأننا في زمان الديوثين واللصوص والمتسلقين والوصوليين. أين أحلامك يا طفل الماضي البعيد وأين حماستك يا شباب الأمس القريب الدفين في مقابر الشيخوخة المبكرة والكبت المستمر المعجون بالدم والتسفيه ؟ أين المبادئ والقيم التي أغرقونا في قصصها وحكاياها حتى خيل إلينا أن الحياة للأمثلين … يالها من إديولوجية ! تباً ليوم مولدي وتبا لهذه الدنيا ولهذا البشر الذي فقد بشريته. لقد أصبحت يا مصطفى مجرد كوم زبالة، وربما أحقر من ذلك شأنا…ما أحوجني إلى برميل من النبيذ المعتق لألملم حطام نفسي وعلى الله العفاء… حتى العربذة لا تعرف أصولها، بل لم يسبق لك أن عربذت قط، وتعودت أن تواجه المحن بصبر أيوبي دون أي مسكنات أو مخذرات (غير تلك المسكنات السرية التي كنت تنضح بها تلك النار المتأججة في شذرات جسمك بين الفينة والأخرى). كانت ضحكاتك مضرب المثل في عمقها وجلجلتها وكم أضحكت الناس حتى التخمة، ومجمل الألقاب العجيبة التي لا زالت عالقة بأشخاص كثيرين هي من تصانيفك…لكم ألفت في الناس قصصا وأشعارا وسخرت من هذا ومثلت بذاك، أما الآن والحال على ما ألت إليه فقد أصبحت أنت الضحية وليس هم كما تصورت دائما، ما أحوجني إلى أن أبكي شهرا وأنام بعده سنة كاملة لعل هذه الأحزان أن تذوب أو أن يستعيد هذا الوجه جلده وبشرته الحقيقية. كل يوم من أيامك كان يشيِّع فيك شيئا جديدا، وكنت تشهد حتفك البطيء وأنت عاجز لا تلوي على شيء … لقد دُمرت كما يُدمر الطود العظيم ونخر في شخصك حتى صرت تتهاوى لأدنى تلميح، وركبك الخجل في عنفوانك وما أقبحه من خجل ! هذا الذي قد يلازم الشباب، مرحلة الإنطلاق والحماس ! وعاد أدراجه إلى البيت محطم الخطى يغلي بداخله بركان غضب. وحكى لأهله ما جرى فأشفقوا لحاله في شيء من المؤاساة، وكان أكثرهم شفقة عليه أخوه الأصغر عمر الذي كان زميل دراسته لنجل "العامل" الأكبر، وأحزنه أن يفعل الأب بأخيه مثل ما فعل. ونقم على الإبن من خلال أبيه، ومن تم تولد لديه هو الآخر إحساس بالكراهية اتجاه الميسورين، وتحامل على زميله الميسور ما أمكنه التحامل غير متحفظ وكلما سنحت له الفرصة.
**** ****
كان عمر أكثر شبها بصاحبنا، اللهم إلا بعض اختلافات جوهرية مع ميولات أدبية وفنية متقاربة سوف تنضج فيما بعد، ويبدو أنه كان لماحا وذكيا هو الآخر مما وضعه في خانة أخيه، لكنه حُظ عنه في الدراسة. ومما ميزه عن باقي إخوته أنه كان واسع الطموح متعدد المواهب، كثر الجدل حوله هو الآخر لدى أترابه وعائلته وكل الجيران. وكان رساما وخطاطا بارعا، يلتجأ إليه في كتابة الرسائل والطلبات وهو لم يزل بعد صغيرا، وكان أكبر زبون لديه أخوه مصطفى الذي أثقل كاهله بكتابة طلبات العمل المجانية حيث كان خط الأخير رديئا. وقد استفرد عن كل أقرانه من الحي حيث ظل مواظبا طوال فترة الطفولة فتفوق تفوقا ظاهرا في المرحلة الإبتدائية وتوج هذا التفوق بنيل الجائزة الأولى بعد أن حاز أول مجموع في الشهادة الإبتدائية. ومن تم نضبت لديه موهبتا الرسم والخط فاعتنق اتجاها آخر وهو الموسيقى والغناء اللذان برع فيهما براعة نادرة أثرت على سير تعليمه. وتذبذب نشاطه وتأرجحت معدلاته فتفوق تارة وتأخر أخرى. ولعل السر في هذا التأرجح راجع أيضا إلى عدم الإستقرار الذي كانت تعرفه الأسرة ماليا ومعنويا والذي تعذر معه التوفيق بين ما هو مواهبي وما هو أكاديمي، ثم عدم اقتناعه بطرق التعليم الكلاسيكية المتحجرة والثابتة على مر السنين، والتي توحي بعدم المواكبة وتكريس الملل لقتل الحماس وهدر الطاقات، فاشتد اصطدامه بأساتذته دون باقي زملائه، وبدا هو الآخر متطرفا، متعجرفا على عكس طويته تماما.
وكان إلى كل هذا هش البنية، نحُل جسمه تحت وطأة الأمراض التي عرَضت له في طفولته وبعضٍ من صباه. واشتدت عليه وطأة اللوزتين خاصة مما أكسب صوته حلاوة وقوة. وربما كان أشد اختناقا في طفولته وبعضٍ من شبابه : فلقد أصيب بعمى في عينه اليمنى إثر تعرضه لصدمة بحجر تلقاه من أحد أترابه. واعتقد الجميع أن الأمر اقتصر على هذا الجرح في جبهته غير أن الصدمة امتدت إلى عينه لتطفئ نورها وتغرقها في ظلام أبيد، ولأول مرة تفقد الأم جبروتها فتولول وتصرخ بقوة، وفي شيء من البكاء وكثير من النواح. ومنذ ذلك الحين أُهمل كما أهمل باقي إخوته وترك على هذا الحال دون أدنى محاولة لعلاجه. ولكم تألم حين كان يذكر أن عينه كانت سليمة فيما مضى وأنه كباقي أترابه كان متمتعا ببصر حديد، وأنه لولا هذه الحادثة المشؤومة لكان تجنب الكثير من السب والتحقير والتجريح. ولقد ولدت هذه الحادثة لديه ميولا إلى الإنطواء والتأمل، ولربما أفرزت لديه هذه الميول الفنية والأدبية الجارفة التي غطت الكثير من جوانب هذا النقص فتميز بشكل ملفت للنظر، ولكم تعجب الناس من تركب شخصه وتفرده.
كانت نظراته الثاقبة المتفحصة وجسمه النحيل ورأسه الكبيرة وذاك الوجه المثلثي توحي كلها بعمق وحدة طبع كبيرين. وكان يجمع إلى رهافة الحس سرعة الغضب وثورة دائمة على الأوضاع والمجتمع والتقاليد فعرف بالرجعي المتطرف رغم صغر سنه آنذاك. ولم يكن اتهام الناس له بالرجعية والتطرف سوى لإلحاحه الشديد في التشبث بتعاليم الدين فكثر اصطدامه بمعارفه وبغير معارفه. وتحمس لفكرة الإصطدام هذه، فعلى الأقل هي تجلب له بعض شهرة يستحقها -في زمن لا يشتهر فيه إلا التافهون- وتُحرِّك فيه ملكة الحديث باستمرار, و كانت هذه الملكة تثير في نفس جلسائه الغبطة أو الحسد والحقد أحيانا، حين يقطع على أحدهم نزوة مباهاة أو مغالاة، وتتملكه نشوة التنكيل والتمثيل فينزل به ازدراء واستصغارا مغلَّفاً بالمزاح. وكل التشنيعات التي كان يشنها على أحدهم بين الفينة والأخرى كانت محاولة منه لاحتكار اهتمام الآخرين وسعيا وراء احترامهم وتقديرهم، ولم يكتشف هذا الميل اللاشعوري إلا حين بدأ يفقد الصاحب تلو الآخر بسبب استبداده وتبجحه فحاول التخفيف من حدته متكلفا في ذلك أشد تكليف مكابدا أشد المكابدة حيث سيضطر إلى التخلي عن فلسفته في الخروج على المجاملات والبروتوكول والمداراة، أشياء كلها كانت تخنقه وتسبب له قلقا، لكنه كان يفتقر إلى اللين الكافي. والحق يقال أنه كان ذا ملكات غير عادية وذا شخصية وافرة النباهة والإتجاهات حتى أنه يحتكرالحديث وهو لا يعلم في موضوعه إلا الشيء اليسير، ذلك أنه كان يحرص على توسيع رقعة النقاش إلى أقصى أبعاد ممكنة. المهم أنه كان يملك هذه الموهبة الفذة في الكلام، والتي جعلت منه في نظر الكثيرين رجلا شابا موسوعة، حاضرا في كل اختصاص وفي أي منحى وأي نوع من المناقشة. غير أن له ملكة خاصة وهي هذا التحفظ الديني غير المعتدل أحيانا قليلة. كان لا يُقاوم في هذا الشأن ولا يُزجر، وأوشك أكثر من مرة أن يمسِك بالتلابيب ويَضرب لولا هذه الأناة وهذا الإصطبار. فلقد كان يكره هذه الفوضى التي يسمونها تفتحا وعصرنة والتي تثير حفيظته وحنقه الشديد حيث يحترق معاينا ضياع الناس وإصرارهم على الضياع. كان يحلم حلم إخوته بمجتمع إسلامي تغمره السعادة ويسوده الإنضباط وتحكمه الثوابت لا النزوات والمسايرات. ولكم حاول أن يجد تفسيرا واضحا لهذا التناقض الفاضح في أخلاق وطباع الناس وسلوكاتهم ! لم يكن ليهضم هذه التقاليد المستوردة من الغرب والتي لا صلة لها بما يجري في عروق الناس من دم عربي…أم أن الدماء تلوثت هي الأخرى ؟! وخاض تجربة التحري في هذا الموضوع أكثر من مرة وخرج ببعض النتائج القيمة، والتي كانت توحي بالشتات والإنتماء المزعوم. فالتبعية في نظرة تنتج عن السيادة والسيادة تنتج عن الخضوع والخضوع مبعثه الإفتقار إلى أجرة السيد. هذا بالتحديد هو اختصار لجملة السيادات التي يفرضها الغرب على المجتمعات البائسة قاطبة، أما ترسانته الممتلئة فتلزمها ترسانة إيمان قبل كل شيء…لم يكن يبرحه لحظة هذا الطيف من مجد كان قائما يوما على أشلاء الجبابرة. كان يتملكه شوق غريب إلى أيام الصحابة وبطولاتهم وإيمانهم المعجز الذي ولى الحفاة العراة على رقاب الملوك، حتى كان يتشبه ببعضهم فيما تووتر عنهم. هو يحب الفاروق لعدله ولأوج الخلافة على عهده، ويحب عليا لبلاغته وحكمته وصباه المبكر بالإسلام…ولم يكن إعجابه حكرا على عمر وعلي، بل إنه كان يرى في الصحابة، أدانيهم من الرسول وأقاصيهم، صغارهم وكبارهم، نموذجا فريدا فرديته في صحبة النبي، وسموا لعقيدتة ونبل المشاعر التي لم تكن لتتوفر إلا في قليل من الشعوب. كان يحاول جاهدا التوفيق بين ما هو معاصر وماهو موروث لكنه لم يستطع، وتعذرت على خبرته المتواضعة آنذاك وعلى ثقافته الدينية المزاوجة بين الحضارة التي بنيت على الحب والفضيلة والعمل الذؤوب المتدين وبين الحضارة المجرمة في حق الشعوب والمبنية على تعاليم التلموذ. ولعل ما ميزه تمحيصه للمرأة فاشتدت قسوته عليها مع حب صادق لها نابع من خوفه عليها، ومن أنه كان يبحث لها عن شكل وشخص متكاملين في الأنوثة والجمال الخلقي والخلقي فظنت به الظنون… وحاول أن يتجنب هذا الصدام، لكنه كان يجد نفسه قبالة ضرورة ملحة في التنكيل بها فعُرف أيضا ب"عدوا المرأة" وكان يرى أنه يحب المرأة أكثر من الكثيرين -على غير ما كان يتوهم البعض- لولا هذه النقائص التي شوهت شكلها وسلوكها، والتي أجبرته على أن يقف منها هذا الموقف التفكيكي الغضوب، والذي فسره البعض بالعدائية، وكيف لا والأغلبية منساقة كما يساق مسلوب الإرادة. كان يرى أن عدوها الحقيقي هو من "حررها" لينظر إلى ما واراه الدين والعرف متكشفا فتتضح الرؤية وينظر إلى عورتها من وراء ستر الحياء المهتوك حتى أنه غضب مرة في وجه زميلة له أيام الدراسة لرقاعة مظهرها فاتهمته هي الأخرى بعدائية المرأة قائلة:
– اسمع! يجب أن تعرف أن لكل عصر تقاليده ولباسه أم أنك تصر على أن أرتدي جلبابا خشنا وأضع على رأسي منديلا أسود كالغراب بدافع الإحتشام أو ما تسميه حضرتك "إلتزاما" الإلتزام في القلب وليس في المظهر، والدليل على صدق كلامي أن الكثير من المحتجبات متهتكات في خفاء.
وحاول أن يخفف من حدته فخاطبها قائلا:
– اعلمي أولا أن الإسلام يحرص على المظهر حرصه على الجوهر لارتباط هذا بذاك، ثم أنك تحيين في مجتمع له تقاليده وخصوصياته. فعلى الأقل احترمي هذه التقاليد والخصوصيات، ثم أن هناك من يتأذى بنظره إليك…
– نعم! كلكم تتحدثون عن الحجاب وتلهتون خلف العاريات في الشوارع ! ما هذا التناقض؟
- (متجاهلا) ثانيا، وبالنسبة لمسألة التهتك فلا "تزر وازرة وزر أخرى" احتجبي وكوني مثالية. ثم أن هناك شبابا لا يستطيعون الباءة بل لن يستطيعوها وسيموتون عزَّبا، وقضية استدراجهم من أيسر القضايا في ظل هذه الظروف، بالإضافة إلى من هم متزوجون ويحتاجون إلى حجابك كي يستطيعوا الإحتفاظ بزوجاتهم وتحمسهم إليهن، هذا إن استطاعوا تحت وطأة المعاش.
– وما دخلي أنا في كل ما تقول؟
أي غباء وأي مستوى للنقاش! ترتدي ثيابا في غاية الرقاعة ولا تدري ما دخلها حقا؟
– ألم تنظري إلى نفسك في المرآة قبل أن تأتي إلى الفصل؟
– أي وقاحة! احترم نفسك! الآن تأكد لدي صحة الشائعات.
– أي شائعات!؟
– أنت أدرى وعلى العموم فعدائيتك للمرأة لا تحتاج إلى براهين.
– عن أي عدائية تتحدثين؟ عدوك الحقيقي من سمح لك بارتداء هذه الملابس وبتقطيع هذا الشعر ونتف هذين الحاجبين وسمح لي ولغيري أن ننظر إلى لحمك العاري.
تعديت حدودك يا عمر وسمحت لنفسك بأشياء ليست من حقك. إن لها والدان يرضيهما أن تخرج ابنتهما شبه عارية. غير أنها هي التي ستفقد صوابها وتزجره قائلة:
– أنا متأكدة أنك ستزيح هذا القناع بمجرد أن تعيرك فتاة بعض اهتمام...معقد.
يبدو أنها أصابت منك مغنما بالرغم من أنك كنت تحاول معها نفس الشيء. ويبدو أنها كانت صائبة برأيها الأخير، ولولا انصرفََت لاعترفت لها بصوابها ولاعتذرتَ منها عما بدر منك اتجاهها. يجب أن تكون أكثر مرونة هذه المرة وأن تحاول جهد المستطاع أن تكون دبلوماسيا وذكيا في نفس الوقت كيلا يُتجه بك نفس الإتجاه الذي سلكته الفتاة بك قبل قليل فجعلتك تتصبب عرقا لا تدري ما ألم بك. لا يكفي أن تكون عارفا، وحسن التعبير والتفنن في انتقاء الكلمات المناسبة وسيلة مثالية لانتشار المعرفة. إنك تحترق لأجلها وغيرتك عليها جارفة كغيرتك على أختك ، لكن ليس في صالحك أن تجرفك إلى حيث لا تحب. أنت بشر ولا يمكن أن تكون غير ذلك، ولك أحلام جنسية كباقي أبناء جنسك هي دون الأحلام الأخرى ذات المعنى المجرد، ولا شك في أن السبب المباشر لنحولة جسمك هو هذه الأحلام الجنسية التي لا يتحقق منها شيء بدافع الإصرار على التعفف اتجاه المرأة، وهذا الصراع شيء طبيعي لكنه يقض مضجعك، ويفضحك شرودك أحيانا لكن ما العمل ؟
أنا بشر ولن أخرج على هذه الثابتة… تبا لهذه الرغبات الجامحة وهذه الأحلام الجارفة المستيقظة الملتهبة، والتي أناطت اللثام عن شهوة عارمة وعن ازدواجية في شخصك. إنك تدعو إلى الإستتار والإلتزام ولا تشك لحظة في مصداقيتك، وفي قلبك توق كبير إلى العيش في مجتمع إسلامي صميم، لكن هذه الشهوة الكامنة في أعماق غرائزك، والتي زادت الظروف من حدتها واستعارها، تمنعك من مزاولة أفكارك ومن اعتناق هذه المبادئ وهذا الإتجاه الإصلاحي في ثقة وشجاعة…ترغب في ممارسة الجنس -وهذا حقك- وتتلذذ بالنظر إلى العاريات وفي نفس الوقت تدعو إلى الإستتار والإحتشام. قبل قليل كنت تحادث زميلتك عن الأخلاق والمقومات السلوكية وتسترق النظر إلى ما ظهر من فخذيها، ما هذا التناقض؟ يبدو أنك مصاب بانفصام أو شيء من هذا القبيل أم أنك معقد كما قالت! ليس الذنب ذنبي…كلنا بداخله تناقضات كالرياح المتداخلة التي تُحدث الزوبعة، تخنق الفرد في سجنها وتقذف به حيثما تشاء غير عابئة بإرادته…هل هذه حقيقة النفس البشرية عموما أم هي معادلة صعبة التفكيك اختُص بها الإنسان العربي صاحب الهويات المتعددة ؟
كان يلح في الجد إلحاح أخيه مصطفى، إلحاحا أبعد عنه الكثير من أصدقائه فيبدو متطرفا، متجهم الفكر أحيانا، يمزج مزجا غريبا بين رقة الرومنسي الحالم وخشونة الواقعي الناقم مما خلق لديه خيالا ذا بعدين : الأول مليء بالتفاؤل ويحمله إلى أبعد مدى سعيد كل أهله فيه نجيمات ساهرة مشفقة على الإنسان الذي لا يمكن تجاهله مهما صفا الحلم، والثاني متشائم ظلامي مثقل بالشجون. هو الآخر ذاق العذاب أفنانا وانسكبت على قلبه سيول من آلام العمر الشجي، وأسف لحاله وحال إخوته من حتمية هذا الجو الأسري الذي عكر صفو الأحلام الرومانسية وشحذ الواقع بالقلق وأرهق التفكير. كان لأمه نصيب الأسد في مواقفه اتجاه المرأة، ولكم كره تسلطها واستبدادها وانتقاداتها اللاذعة التي قيدت حريته وحبسته في زنزانة الخضوع الذي استحال فيما بعد تمردا واعتراضا. ولقد تفاعل مع هذا الجو إلى حد كبير بلغ به ذروة الشبه بأمه في سرعة غضبها من ناحية، وفي رومنسيتها المركونة في رف الأمية والجهل وعدم الإنصاف، وهو لم يكتشف أن امه رومنسية إلا حين كبر فعذر الكثير من تصرفاتها لكنه احتفظ بغضبه منها. توفي أبوه وتركه طفلا في التاسعة من عمره، ولم يكن للأسرة آنذاك مورد رزق آخر غير الأجر الذي كان يتقاضاه الأب من خدمته بمحطة الوقود- التي كانت ستكون في حوزته لولا أن رفض استلامها بعد جلاء الفرنسيين لخوفه الدائم من المغامرة- وأبى القدر إلا أن يدع هذه الأسرة في حالها، فلقد توفي الأب إثر نزيف في الدماغ نقل على إثره في ساعة متأخرة من الليل من المحطة إلى مستشفى ابن رشد بالدار البيضاء ثم إلى البيت في الصباح حين أُجرى الفحص على رأسه ويُئس من شفائه إلى أن قضى. ودخلت الأسرة عهدا جديدا من الصراع مع الزمن، لكن هذه المرة على مستوى كبير ومدى أبعد. اشتد النزاع مع شركة التأمين حول كنه الحادثة, وطال هذا النزاع قرابة عام إلى أن حِيزت القضية لصالح الأسرة فتنفست الصعداء. ورغم ضعف التعويضات التي أقرتها المحكمة ضد شركة التأمين إلا أنه انسد جانب كبير من الخصاص الذي خلفه موت الأب، والذي أثر على تدبير المنزل فنهجت الأم منهج الحمية الإقتصادية غير ناسية أن تستأثر هي والأبناء ببعض الوجبات القديمة أحيانا والتي ترتكز على الكثير من اللحم والفاكهة، أيضا إلى المساعدات التي كان يجود بها الخال منصور الخليفة بجماعة "أولاد بوزيري" والذي تحمل جزءا كبيرا من أعباء الأسرة وعوض الكثير من حنان الأب المفتقد، تُنوسي في خضم صراع آت بفرقة أبدية.
وفجأة، وبعدما ظنت الأسرة أن القضية دوما لصالحها انقطعت تعويضات شركة التأمين ليُبث النزاع من جديد. ويأتي دور الأخ الأكبر سمير في التعارك مع الحياة والعوز العنيد فيشتغل في فرن الحاجة "التايكة", وطال مكته بهذا "المنصب" إلى أن توظف بثانوية "بلزاك" الحرة بالدار البيضاء. ولقد استفاد كثيرا من هذه الوظيفة، لنقل من أبناء الوزراء والأثرياء الذين كانوا يدرسون بها والذين صاحب معظمهم فأحبوه وعطفوا عليه وجادوا عليه بالكثير من العطايا. وكان مثالا في التضحية، يحب أسرته حبا كبيرا رغم تسلطه هو الآخر في كثير من المواقف، ورغم ميله إلى العنف الذي سينقص مع مرور الأيام. ولكم عجبت الأسرة لانقلاب حاله بعد أن كان أكثر إخوته صعلكة وتشردا وقسوة، فلقد تربى المسكين في حضن أب غير أبيه- كان أحن عليه منه، ونشأ بين رفقاء غاية في الصعلكة والإنحراف والتشرد بعد أن تزوجت أمه وكبر بضع سنين. وكان يشكل مصدرقلق دائم لأبويه، فهو يبيت متقلبا بين قطط الشارع هاربا من عقاب أمه وخاليه منصور وأحمد بعد أن يأتي شيئا شنيعا أو يسرق من مؤونة البيت ويبيع. ثم يغيب عن البيت أياما عديدة إلى أن يُؤتى به محمولا على الأكتاف قسرا بعد أن يبَاغت في الحي أو في غير الحي منذمجا في عراك أو لعبة. وتخصص في هذه المسألة صديقاه عبد الله ونبيل واللذان كان يغريهما الأب ببعض ريالات كلما استلزم الأمر، ثم تفعل به الأم وأخواها ما يلزم في نظرهم من الضرب وألوان العقاب الأخرى بعد أن يذهب الأب إلى المحطة. ويبدو أنه اعتاد تكرار الذنب فتكررت العقوبة، واعتاد أيضا الهروب من أمه وخاله والنوم في البيوت المهجورة المسكونة بالعفاريت أو فوق الأشجار فتولدت لديه شجاعة ورغبة جامحة في اقتحام المجهول وعشق الدور الخربة واستكشفها وسامر أشباحها، يملؤه في ذلك فضول كبير في التعرف إلى هذا العالم الغيبي والتحري عن أخباره التي تملأ حكايا الأم والجيران، غير أن الأمر بالنسبة إليه لم يكن مجرد حكايا، بل حقل تجربة خصباً واسع الرحاب والخبايا ومليئا بوقائع أكثر إثارة من الخيال. وكثيرا ما كانت تلمح عيناه شبحا يخرج من أحد المنازل المهجورة المتقادمة متجها إلى أخرى هي أيضا متقادمة فيخترق جدارها أو بابها في يسر كبير دون أن تفتح له فجوة في الجدار أو أن يفتح الباب. ولكم تمنى أن تكون له قدرة الأشباح على تجاوز الأبواب والجدران فيسرق أو لنقل يأخذ ما أمكنت له السرقة -أو الأخذ- من أشياء كان يحلم بها ولم ينلها أو نال منها دون أحلامه، أو يستأثر بأحد فتيات الحي الجميلات واللواتي استعصين على قدراته الفائقة في الإقتناص، لكنه أدرك في أسى أن هذا اللحم وهذا العظم يحولان دون ذلك. ولعل أشهر هذه البيوتات وأكبرها وأكثرها عجًّا بذكريات الطفولة الخائفة ومغامرات الشباب الشجاعة في حي الشيخ، هذا البيت الشاسع المهجور الذي كان فيما مضى دارا للشبيبة وتحول مع الزمن إلى مجرد كوم من الأحجار المتهاوية بين الفينة والأخرى. ثم أن هذا البيت على بساطة تصميمه آنذاك كان يمثل للصبية فضاءا خصبا لممارسة ألوان كثيرة من الألعاب والمغامرات التي تحلو خاصة في فصل الصيف، إلا أنهم لم يكتفوا بشكله الأصلي فاتحين فجوات عديدة في جدرانه على غير غرار ما تفعل الأشباح، ولا زالوا يمارسون هذا النشاط التخريبي حتى انتهى بهم الأمر إلى فتح فجوة كبيرة وصلت درا الشبيبة بمنزل مهجور هو الآخر قبع لصقها في الزقاق الذي يطل عليه بابها. وكان هذا البيت أيضا مسرحا للأحداث بما اكتنفه من ممرات عديدة أكثر تشاكلا، فلقد كان تصميمه يوحي بعراقة فنية حيث توسطته هذه النافورة -على غيرالتصاميم التقليدية لمنازل الحي- ثم هذا الحمام الذي كانت الفجوة من نصيبه واخترقته معاول الصبية فتكشف لهم عالم آخر لا يشبه عالمهم المطحون، وقدروا مدى "الثراء" الذي كانت تنعم به هذه الأسرة التي رحلت عن البيت منذ سنين وتركته للصبية يشفقون لحاله ويتأثرون كثيرا حين يتصورون آهليته فيما مضى ويقارنون بين تصورهم وبين شكله الجديد الذي يوحي بقسوة الناس وتنكرهم، فسطحه مليء بالأعشاب والقادورات وجدرانه متآكلة والنافورة والفناء بأكمله مليء أيضا بالأعشاب، ذاك أنه كان غير مسقوف، لكنهم قسوا عليه هم الآخرون حين ألفوه وألفوا اللعب فيه فخربوا ما استطاعوا التخريب. وأغلب البيوت آنذاك كان أهلها يكتفون بدور الخلاء لقضاء حوائجهم بما فيها الإستحمام، غير أن هذا البيت يحتوي بالإضافة إلى الحمام كنيفا قبع تحت السلم المؤدي إلى السطع لكنه لم يكتشف إلا من قبل بعض الصبية المهرة.
ولقد فتح هذا الممر الجديد آفاقا كبرى للعب الصبية، بل ابتكرت أشكال جديدة منه تتناسب مع شساعته وتناسقه وتعقد بنيته. غير أنهم لم يكتفوا باللعب البريء نشاطا لهم، بل تعدوه إلى العربذة بجميع ألوانها بما فيها القمار والسكر، ذلك حين كبروا بعض الشيء وافتقدوا الكثير من براءة الطفولة ونعومتها وأصبحوا أشد شراسة وحدة. وأكثر الأمور غرابة والتي كانت تستأثر باهتمام الصبية تلك الجلسات المسائية التي كانت تعقد فوق دار"الشبيبة" وتقض هدوء الأشباح فيها حيث كان الصراخ يصل أوجه حين تعلو أصواتهم مقامرة أو منادمة، وكان أشد هؤلاء الصبية ضراوة صبي كان يدعى عبد الله بكراوي، والذي كان يهابه الصبية ويتحاشونه ما أمكنهم التحاشي، فهو لم يكن يتردد في فعل أي شيء حين يشتد غضبه، وتمتد به الشراسة إلى الطعن بالسكين لو تطلب الأمر وتجاسر أحدهم عليه. وكان عبد الله هذا صعب المراس خفيف الحركة شبه مجنون. لقد نشأ بعيدا عن أسرته التي كانت تقطن بالدار البيضاء هاربا من جبروت أبيه الذي طالما تفنن في تعذيبه. ويحكى أن الأب كان يربط ابنه إلى دراجته النارية ويسحبه حتى يهتري جلده، ولعل هذا ما هيأه للجنون المبكر فيما بعد. ولعل هذه الطفولة المعذبة ولدت لديه خشونة طباعه وضراوته التي جعلت الناس يتنبئون بجنونه المبكر و هذا ما حدث بالفعل.
وبقيت من مغامراته العجيبة ذكريات تملأ حكايا الليل حين يتسامر أصدقاء الحي الذين كبروا وحين يستأنسون إلى التذكر في ليالي الصيف الساهرة أو حين يحتاجون إلى الإستدفاء بالذكريات في الليالي الباردة. غير أن ذكرياتهم مع الصديق الذي غاب عن الحي وتضعضع شأنه وفترت حركته -اللهم إلا بعض زيارات كان يقوم بها للحي متباعدات- سيكتنفها بعض الشجن حين يترامى إلى الحي نبأ وفاته وسقوطه من إحدى العمارات بينما راوده الحنين إلى مغامرات الصغر وبعض من الشباب. ومن بين ما حكي عنه ولعه الشديد باقتناص القطط وأكلها حيث يتربص بها يوميا ودون كلل أو ملل ليأتي بما يلزم لطبخها من بيت خالته الذي قبع بجانب البيتين الخربين المتوأمين.وكان هذا شأنه مع كل مسروقاته من دجاج وإوز وخضار. وكانت أغلب هذه المسروقات من الحقول الصغيرة التي امتدت على ضفتي وادي "ابن موسى" إلى الغابة. ولم يكتف بهذه الحقول بل سطا على منازل حراس الغابة واغترف من مونتها واقتنص من دجاجها. وكانت له طريقة عجيبة في اقتناص الدجاج، فهو ينقض على الدجاجة من منقارها كي لا يُسمع صراخها ثم يلف منقارها بخيط أو بقطعة قماش ويضعها في كيس المسروقات ليمر بعد ذلك على حدائق المزارعين ويسرق ما يلزم لطبخها من خضار وأعشاب. وكانت دار الشبيبة المتداعية تردد صوت القدر والطعام يغلي بداخله، فيجتمع الصبية على بابها -حيث لا يجرؤون على اقتحامها وهو بداخلها- عله يجود عليهم ببعض الطعام لكن دون فائدة، فحركته الدائمة وتعبه في الحصول على الطعام لم يكونا يسمحان له باقتسامه مع شخص آخر، بالإضافة إلى أنه كان يعشق الوحدة والإنطواء خصوصا في البيوت المهجورة الخربة. ومن هذه الحكايا أيضا ومن أغربها أنه كان يقضي بعض لياليه المظلمة في الدار والتي ينبعث من إحدى غرفها ذاك النور الخافت الذي يُعلم بوجود صاحبه، وكان أبناء خالته يتلصصون عليه ويسترقون السمع إلى غنائه المطلسم الغريب وإلى تلك المحاورات التي كان يجريها مع الأشباح، وآنئد يهرعون إلى منزلهم مذعورين بعد أن يسمعوا أصواتا كثيرة مختلطة تملأ المكان كأنه آهل. ولعله كان يدرك هذا التلصص من أبناء خالته فينتظر حتى يحل الصباح ثم يقتنصهم الواحد تلو الآخر ويذيقهم من جنونه الويلات. فهو يعتبر المكان حكرا عليه ولا يحب أن يقطع عليه أحد خلوته وطقوسه الليلية، بالإضافة إلى أنه كره تناقل أسراره بين أصدقائه. ولقد أقام عند خالته أعواما عديدة إلى أن عُد واحدا من الأسرة، بل خُولت له امتيازات لم تخول لأفرادها. وكان الوحيد الذي يقام له ويقعد ويحسب لحضوره ما لا يحسب لغيره، بل إن الكل كان مستعدا لتقديم شتى التنازلات في سبيل تجنب شراسته وكسب رضاه حيث يتودد إليه الإخوة ببعض الهدايا كي لا تنالهم حماقاته.
وكان من بين من اشتهر من الصبية آخر كان يدعى عز الدين، تميز هو الآخر بجميع أنواع الشراسة، وكان من المألوف لديه الإصطدام بصديقه عبد الله، غير أنه تميز بهذه النزوة الغريبة التي تتملكه بين الفينة والأخرى وتجعله ينقص على العجزة. ولقد انتابته إحدى هذه النزوات في عنفوانه فانقض على شيخ كان يمتطي حماره وقذفه من على ظهر الذابة غير مبال بما قد يصيب الشيخ الفاني، ثم امتطى الحمار في برودة أعصاب وسار لا يلتفت إلى الشيخ كأن لم يأت شيئا. وانطفأت نار جنونه باكرا فارتاح الحي من نزواته الغريبة: لقد انتحر الشاب مخلفا وراءه الكثير من الذكريات والبكاء، ولكم تأسف الناس و لكم تألموا بالغ الألم لنهايته المأساوية برغم تدمرهم من سلوكاته.
وكان سمير الوحيد من بين إخوته الذي لم ينل حظاً معقولا من التعليم: فلقد تم طرده من المدرسة بعد أن ضبط يشرب سيجارة داخل الفصل، فكان حتما عليه أن يتشرد باكرا وأن يبحث عن منفذ من التوتر الذي يطبع علاقته بأسرته وبأمه على وجه الخصوص فاشتغل صبيا بتوصية من زوج أمه في عدة حرف، لكن نزقه لم يكن يسمح له بخَبر حرفة من هذه الحرف. وكان الأب المسكين يشفق لحال ربيبه ويغذق عليه من الغنج ما أفسد سجاياه وطباعه. كان دائم البحث عن شغل لربيبه لكنه استسلم في آخر المطاف حين كلت حيلته في تثبيته في شغل ما. واستسلم لفساده الأخلاقي، ناهيك عن طبيعة عمله التي لم تكن تسمح له بمباشرة سلوكه فهو يشتغل بالمحطة بالتناوب مع شخص آخر يوما بيوم . ومن عجيب الأمور أن الفتى كان يجمع إلى فساده الخلقي عطفا كبيرا على إخوته من أمه خاصة منهم عمر الذي كان يبتاع له الملابس الجديدة كلما كان في ميسرة ويغذق عليه من النقود مثلما يغذق عليه من السب والضرب الشيء الكثير. ويبدو أنه أحب في أخيه الأصغر اجتهاده ونباهته المبكرة وتفوقه في الدراسة ورأى فيه عوضا عن النقص الذي استشعره منذ تخليه عن الدراسة، ثم أنه يحاول أن يحسن نظرة أسرته إليه بهذا الحنان المكبوت. وكان أقرب الإخوة إليه وأكثرهم تفهما لظروفه محسن أنيس الطفولة المشردة وأمين السر والذراع الأيمن ولعلهما تلازما في الكثير من الظروف والأوقات فتشابها في الكثير من السجايا والطباع والميولات، فكلاهما يحب الجنس الآخر حبا كبيرا ويحب التجمل والانطلاق.
– 2 -
شيء غريب كان يحدث دون أن يجد أحد الإخوة تفسيرا أو تبريرا لحدوثه، وظل الغموض عالقا بمخيلاتهم, تُقض له مضاجعهم أياما عديدة : كان يتردد على المنزل من وقت لآخر شخص غريب السحنة، امتزج سواده بتجاعيد وجهه فبدا كالمارد, واتسع أنفه في وجهه وبرزت من تحت ثقبيه الكبيرين شفتان غريبتان من الضخامة بمكان, ولم تتغير ملامحه وملابسه طوال هذه الفترة وما تلاها. كان يرتدي أسمالا أو ما شابه ذلك فوضع على رأسه قلنسوة بهت بهتها وكثرت تراقيع مساحتها الضيقة، هذا إلى بنطلون انحصر على ما فوق ركبتيه فبدت ساقاه سوداوين نحيلتين ولاح كالصرَّار. واختلطت لكنته المراكشية بشيء من لهجة الشاوية وبدا غريب الأطوار في كل شيء كأنه امتداد لسلالة منقرضة من البشر. وكان إذ يصل إلى البيت يطرق الباب في رفق ويردد بلهجته المراكشية التي بغضها الأبناء وكرهوا صاحبها هذا الرجل المجهول الغامض الذي تمادى في وقاحته : "نانا فاطمة" فتفتح الأم الباب مضطربة، تحرص على ألا يفتح أحد غيرها الباب، وتدخل ما حمله الرجل الغريب من جوالات الخضار والفاكهة واللحم… ثم يمد يده إليها قائلا : -لقد بعث الحاج بهذه النقود. من يكون هذا الرجل؟ ومن الذي يبعثه محملا بهذه العطايا السخية؟ أسئلة أضافت إلى حصيلة المآسي السابقة مأساة جديدة من نوع آخر، لكن هذه المرة على حساب سمعة الأم التي بدا سلوكها في الأيام الأخيرة غريبا ومبهما، وربما أثار صمتها شكوكا لدى الأبناء خصوصا وأنها أرملة. وأتت جملة التفسيرات التي أجمع عليها الإخوة لتؤكد أن هناك شيئا ما يحدث سوف يحرز تحولات في بنية الأسرة، وربما كان هذا الشيء على حساب كرامتهم وسمعتهم الطيبة. وكان كلما سألها أحد الأبناء عن سر مجيء هذا الرجل الغريب بهتت وامتقع لونها واضطرب الكلام في فمها على غير المألوف. وربما كانت هذه البداية لعدة تحولات سوف تطرأ على شخص الأم لتعدل من سلوكها اتجاه أبنائها وتخفف من قسوتها وتسلطها. لقد كبر الأولاد وصغراهم لبنى المتبناة قد بلغت العاشرة من عمرها، وليس هناك بد من الملاينة وسلك اتجاه آخر في تربيتهم وتدبير شؤون البيت ولا خير من اللجوء إلى هذه السياسة الجادة والغريبة في آن واحد طالما أن أبناءها هم أيضا تغيرت بعض طباعهم وتهذب خلقهم. ثم أن الأمر الجديد أو الحياة الجديدة بمعنى أدق تستلزم تفهما وتفاهما أكثر على ما يبدو.
وعقد اجتماع مباغث حضره محسن والخالان منصور وأحمد والخالة حليمة اتُفق فيه على أشياء غامضة زادت من قلق الأبناء وحيرتهم ما عدا سمية التي كانت على علم بالأمر والتي كانت أول من يعلم دائما ومنفذ إخوتها إلى أسرار الأم. وكان أكثرهم فضولا وتوقا لمعرفة السر الخطير عمر الذي انفرد بسمية في مساء ذلك وسألها في فضول بالغ :
-ما سر اجتماع الأحبة على غير العادة ؟
فوشوشت سمية في أذنه:
- زواج .
- ماذا ؟
- لقد سمعت.
-من بمن ؟
-عريس لأمنا.
-(بذهول) تمزحين، أليس كذلك !؟
- لا أمزح في مثل هذه الأمور.
-أمي أنا تتزوج. ما هذا الجنون ؟
- اخرص! لو سمعتك لقطعت لسانك.
- ونحن لا رأي لنا طبعا.
-أنتم!؟ أظن أن الأمر لا يخصك في شيء.
-ومن يخص؟ أنقصنا عقلا؟ أنت وأمك تعدوننا كالبهائم.
- لقد مثلكم محسن في الاجتماع.
-وهل استقرت رجاحة العقل على محسن لوحده؟ أين محمد وسمير؟
-سمير في الدار البيضاء ومحمد في مراكش. أم نسيت؟
- الأمر مجرد استبداد كالعادة.
- ثم قل لي، منذ متى كنت تدلي برأيك في مثل هذه الأشياء. أنصحك ألا تتدخل فيما لا يعنيك.
- لا رأي لمن لا يطاع.
- وأخيرا فهم هذا الرأس الكبير.
-حسناً. ومن يكون الرجل ؟
- رجل سلطة وتعليم معروف.
- لا أسأل عن وظيفته يا غبية.
- إمام مسجد ومحتسب المدينة وصديق والدنا، ألا تعرفه؟!
- لا.
- الحاج السيوطي.
- وما الذي جعله يفكر في هذه الأسرة بعد مرور خمس سنوات على وفاة أبي ؟
- إخلاصه له.
-الله الله !من تظنينه ؟ صحابيا ؟
- هذا ما حكته أمي.
- أشفق علينا لأننا أبناء صديقه وأحس بواجب الأبوة اتجاهنا وربما سيتزوج أمنا بتوصية من أبينا. لست مطمئنا لهذا الرجل.
- حتى وإن يسر حالنا على يديه.
- أنتن هكذا دائما، لا تفكرن إلا بالمال.
- وهل غيرالمال مصدر للسعادة.
- قولي مصدرا للتعاسة.
- أعوذ بالله من تشاؤمك.
- أنت لا تعلمين حجم هذه الفضيحة.
- فضيحة ! ومتى كان الزواج فضيحة ؟
- أنا أعتبره فضيحة في حالة كهذه. يا ويلي من الحي وألسنة أناسه. وأصدقائي لن أرفع الرأس أبدا أمامهم.
- أنت معقد.
-وأنت معقدة أكثر.
وخرج منتفضا غضبا وقد تضاربت أفكاره المسترجلة واشتد خنقه، فبرغم صغر سنه آنذاك فإنه تميز بنضج مبكر وحب للنقاشات الجادة المعمقة التي ربما لم تكن تتناسب مع سنه في شيء وتخرج به عن سجايا أترابه وسذاجتهم. لقد انتابه شعور بالإستصغار وأحس أن رجولته المبكرة قد مست في الصميم، وأيقن أنه سيواجه صعابا كثيرة مع أترابه الميالين إلى استغوار أسرار بعضهم البعض، والتشهير كلما لزم الأمر
وفي مساء اليوم التالي سمع هدير لسيارة وقفت أمام باب المنزل، وعمت البلبلة أفراد الأسرة التي وقف كبارها برفقة الخالين لاستقبال العريس، أما الصغار فقد أدخلوا إحدى الغرف كما العهد بهم في مثل هذه المناسبات... كان رجلا مسنا شارف على الستين، في أوج مظهره، ارتدى جلبابا أبيض ناصعا نصاعة لحيته التي تناثر شعرها على محياه في وقار. وبدا عليه الثراء واضحا كما وُصف لعمر، ولم يغب عن محياه ما يلزم في مثل هذه المواقف من ابتسام وتثاقل وهدوء وثقة بالنفس ورزانة. كان ممتلئا، مستدير الوجه مشرقه، تدل هيئته على أنه من رجال الدين والسلطة. واتُجه به إلى غرفة الضيوف التي تُفنن في انتقاء أثاثها ومائدتها التي وضعت عليها صينية شاي فاخرة وأطباق حلوى من صنوف شتى.
ومرت ساعة أو أكثر تنوقش فيها حول ما سيقدمه العريس من صداق وباقي تفاصيل أخرى، وحدد موعد لعقد القران.
هذا اليوم, سرى في البيت عرف جديد امتزجت فيه رائحة "الند" الذي أوقد في جميع الأماكن بماء الورد الذي غمر المكان بربيع الأعراس، وفٌرشت الصالة بكل ما هو جديد، فالضيف دو وزن ومن نوع خاص جدا. وأضفى الجو الربيعي دفئا جديدا لم تكن الأسرة لتعبأ به لولا هذه الفرحة العارمة من الأم على غير عادتها وهذا اللطف غير الطبيعي منها، لقد عصفت المناسبة بالركوض الشجي بعض الشيء وأبانت عن الفرحة المكظومة في صدر الأنين والحنين والأيام الشاردة الرتيبة. لم يكن الحزن وحيدا ولا الفرحة، لكن الحزن كان السيد وقبطان المركب الذي يمخر عباب الزمن والفرحةُ مسوقة كسيرة مغلولة اليدين يطلق القبطان سراحها أياما معدودة متفرقة ثم يستأثر بالأيام الأخرى. لم يكن الحزن وحيدا لكنه سمه الأيام المتخنة بالجراح. جريح ألزمان وغدا جريحا بجراح أهله فبكى مثلما بكوا وأنَّ أناتهم وصارع نفسه كي ترجع إلى حبورها لكن ما العمل في هذا القدر الخاضع لمشيئة الله ؟ يبست ورقة الأمل وطوحها خريف العمر بعدما قضى منها صيف احتراق الأحاسيس مأربه. يبست ورماها الربيع على أبواب الواقع البخيل ذليلة مشفقة لحالها لكنها لا تملك المقاومة، لا تملك سوى الإستسلام للمصير المطوح، لا تملك سوى الأمل هي الأخرى…لكن في رحم الزمان القادم.
**** ****
لا ينكر أحد الأبناء أن هذا الرجل الذي دخل حياتهم محا بعضا من قلقهم وخوفهم من تقلبات الدهر التي عرفوها حق المعرفة خلال السنوات الخمس الماضية. لقد كان الرجل بمثابة اليد الحنونة التي ربتت على يتمهم وشالته من هوة الفقر السحيقة، كما أنه ربت على آلام الماضي وتعاسته العالقة بالصدور. لقد سرت الأم بزوجها الجديد عظيم السرور، وكانت ترى أنها أسعد زيجة في زيجاتها الثلاث بل لا تقاس إليها الزيجتان السابقتان في شيء، فهذه المرة هي تختار بنفسها على غرار فتيات اليوم وتصنع قرارها بمعزل عن قهرية الأمس ولم يُفرض عليها زوجها كما فُرض عليها زوجاها السابقان، هذا إلى أن الأسرة داع صيتها وأصبحت حديث الناس في جميع أرجاء المدينة، فالرجل محتسب المدينة علاوة على مناصبه الكثيرة التي تخلى عن بعضها، زدك ثروته الطائلة. وكان أيضا أحد "أئمة" المدينة المشاهير بسعة اطلاعهم ونفوذهم الواسع. وكان كلما ازدادت درجة انسجامه مع الأسرة كبر الحلم في خيال الأم وأبنائها ورسمت لنفسها في الأعالي صرحا منيعا محاطا بسور يصد عنه هجمات الدهر. غير أن الانسجام حدث من بعيد وظل الرجل متحفظا في كلامه وتصرفاته، هذا إلى الخجل الذي كان سمة الأبناء والذي زرع في أنفسهم إحساسا بعدم الارتياح أحيانا خاصة وأن الصورة لا زالت باهتة للتو ولم تتضح معالم شخصية هذا الرجل بعد…والناس؟ هذا الشبح الأخطبوط الذي لا يفتأ يقلق راحتهم ويخنقهم بأذرع الغدر والنفاق والرياء. لا يلبث أحدهم يطريك ليتقول عنك الأقاويل فيما بعد. الناس لا يستقرون على رأي وحكمهم عليك متوقف على مدى تواطؤك معهم أو مدى إحسانك إليهم، فإذا انقطع هذا أو ذاك فأنت أشر الناس. لقمة لا تستساغ عَول الرجل لهذه الأسرة ذات الأفراد العداد … ما سر اختياره هذا وبين النساء من هن أبكار أو أرامل غير منجبات ؟ سؤال ردده الكبار والصغار ولم يتلقوا عنه إجابة واضحة صريحة، بل أن هناك من شغل بالموضوع شغلا تاما وتحرى إجابات لأسئلته الملحة الكثيرة. ولا شك أن هذا الرجل كان مقدم خير على الأسرة حين أماط اللثام عن الكثير من الشرور والكراهيات المكنونة تحت جلد المجاملات والجوار الزائف. كشفت النوايا في سرعة قياسية : فهذه تحسد الأم وتعتقد في أولويتها بالرجل اعتقاد اليقين، وتلك تشكك في شرعية العلاقة بينهما، وآخر لم يهنأ له بال فوشى للرجل بأباطيل وأوحى إليه بلا معقولية الزيجة من أساسها، وذاك عرض عليه ابنته أو أخته بديلا عن زوجته الجديدة…كان مسّا من الجنون أصاب الناس وضربا من التدني فتح بصيرة الأسرة على حقائق كانت غائبة خلف ستار حسن الظن والسذاجة أحيانا. ومن تم بدأت نظرة الإعجاب والحب والثقة بالناس تفتر. ما شأن الناس وما دخلهم في كل هذا ؟ رجل كأي رجل تزوج امرأة كأي امرأة لها أبناء كأي أبناء … هل بلغت القلوب هذا المبلغ من السواد الذي حجب شمس الود المفتعل ولم يجد الناس غير هذه الأسرة ليطعنوا في ظهرها بأبشع الأقاويل؟ أهو الفراغ أم الحسد أم كراهية مُضمَرة وحقد دفين ؟
ويبدو أن الرجل كان شديد التشبث بزوجته وربائبه رغم الوشايات والأقاويل، ورغم بعض نزوات كانت تنثابه وتوحي إليه بضرورة الإنفصال كي يستريح من وابل الزجر واللوم والتوبيخ والمشورات المجانية.
كان الأولاد يكنون له كامل الاحترام حتى أنهم تجنبوا مجالسته إلا بأمر من الأم، كي يظلوا في عينيه مثالاً الأبناء الطيعين المهذبين. ولعل هذا ما كان يزيد من تمسك الرجل بهم. كان إذا دخل البيت اختلى بزوجته وتحادثا طويلا بوشوشات وهمسات كي لا يتناهى من حديثهما شيء إلى مسامع الأبناء حرصا منه على ألا يهدم صرح الوقار الذي بناه لنفسه حيالهم. وبمجرد انتهاء الجلسة يخرج فتجتمع الأم بأبنائها تحادثهم عن آخر التطورات بينهما.
كان متزوجا من امرأة أخرى نغصت عليه عيشه، وكان يحكي لأم الأولاد أنها تفعل به ما لا يليق وأنها لا تتفهم وضعه الديني والسلطوي ولا تحترم وقاره وسنه، هذا إلى أنه كان يشك في إخلاصها ونزاهتها.وأكد لها أنه وجد فيها وفي أبنائها كل السلوى، لذا هو متشبث بهم إلى آخر رمق. وكان يرى في الزيجة أنبل وأعظم المزايا عن باقي زيجاته السابقات -اللواتي تعدين العشرين- وكان يزعم لها أنه لولا الظروف لكان تزوجها من زمان. وكان له ابنان متناقضان في كي شيء: عبد الواحد من طليقته الأخيرة عائشة وأنس ابنه المغنج من زوجته الثانية زبيدة والذي أدمن تعاطي المخدرات فتطاول على "وقار" أبيه. لقد كان يخاطبه بلا حياء أو تحفظ كأمه. أما عبد الواحد فطيع خجول يحب أباه ويحترمه، لطيف وبه رجاحة عقل واتزان خلقي، بعينيه السوداوين حزن دفين اكتسبه من ضغط زوجة أبيه العاتية ومن الفراغ الذي أحدثه غياب أمه. نشأ المسكين في حضن تلك المرأة البغيضة وذاق من قسوتها وإهمالها واستعبادها له مرارة وعذابا. ورغم الإمتيازات التي منحت لأخيه المدلل فقد نشآ متحابين إلى اختلاف مذهبي ومظهري. وكثيرا ما ثار أنس في وجه أمه منتقدا معاملتها الجافية لأخيه، كما كره جملة الإمتيازات التي مُنحها رغم أولوية أخيه بها المتجمل بالصبر والقناعة والرضى. ولقد نشأ أنس عدوانيا ميالا إلى الشجار، في دمه فورة ورثها عن أمه وحنق دائم. وتميز الإثنان بجمال خلقتيهما: فعبد الواحد متوسط القامة ممتلئها، بمقلتيه حور، عاقد الحاجبين، عيناه حزينتان كما وصف، أما أنس فأنجل، مسترسل الشعر فاحمه، ناصع البياض، وهذه اللحية في محياه زادت تألق بياضه، وهذا الأنف الدقيق المتناسب مع رشاقة جسمه يدل على شموخ كاسر في شخصه. وتميز عن أخيه بطول قامته وتفننه في انتقاء ملابسه حيث يستفرد بجزء كبير من اهتمام أبويه، وبدت هيئته منسجمة لا يعتريها خلل على عكس أخيه الذي تواضع في مظهره بشكل لا يتناسب ومركز أبيه وثروته. وبدا جليا مدى الفروق التي كانت تميز أخاه عنه فأشفق الناس على الإبن البكر وأحبوه في حين تبرموا من أخيه أنس وبغضوه.
ولعل هذا التوتر الذي طبع علاقة أمه بأبيه جعل الرجل يبحث لنفسه عن مهرب. ولعل الأسرة الجديدة كانت بمثابة المهرب الذي طالما بحث عنه، لهذا فهو يثني على الأم وأبنائها أمام الأصدقاء من الأعيان وغير الأعيان. ويبدو أنه أَلِفهم رغم قصر الوقت الذي كان يقضيه والذي اقتصر على العصاري، مدركا المبيت في بيته الثاني. لهذا كان ربائبه يخجلون منه كثيرا ولا يملكون أن يجالسوه في الفرص القليلة التي كانت تتاح لهم إلا مطأطئين رؤوسهم، خافضين أصواتهم ومتكلفين في هذا أشد تكلف. وكان إذا سمع هدير سيارته ساد الهدوء والنظام والتحفظ وتردد الأبناء في فتح الباب خصوصا الصغار منهم، لكن الأم تبادر بفتحه.
ولعل انضمام الرجل إلى الأسرة طبعها طابعا آخر فانقطعت الشجارات بينهم أحايين كثيرة، وبدت الأم في أسعد أيامها وغمرتها سعادة شبه طفولية…كيف لا وقد وجدت أخيرا من يحفظ سمعتها ويخرص إشاعات الناس وإفكهم؟ هذا إلى شهرته الواسعة التي سهلت الكثير من الصعاب وفتحت الأبواب المغلقة.
وتطورت الأمور بأسرع ما كان يتصور الجميع فابتاع الرجل بعض تجهيزات للمنزل وقرر أن يشتري منزلا قبع قبالته هو لصديق له وزميل في رابطة "العلماء" كي يستقر به هو وزوجته، هذا إلى أن الأم ستظل على مقربة من أبنائها. لكن المشروع ظل مجرد اقتراح فبقي الحال على ما هو عليه.
واستأثرت الأسرة ببعض أيام سعيدة باسمة في ظل هذا الرجل الذي بدد الكثير من أحزانها، وتراءى لأفرادها ملاكا مرسلا بما قدمه من إسعافات للوضع المزمن ما يزيد على السنة. ولشد ما تملكهم العجب لوضعه بينهم … ما الذي يحفزه ترى على أن يعولهم وهم كثار؟ وما الذي سيجنيه من ذلك؟ أهو معروف أم غرض دنيء في نفس لا يعلم طويتها سوى خالقها أم هروب من زوجته المتجبرة؟ ترحال دائم بين بيتين ومصاريف … أيعقل أن يبلغ النبل هذا المبلغ في زمان الشح والأنانية،
ولعل ما نشده من استقرار لم يتوفر بشكل كاف، فهو يقضي جل يومه متنقلا بين دكاكين البقالة والجزارة وغير ذلك رفقة مساعديه لضبط الغش في الأسعار والسلع، ولفرض ما يفرض من عقوبات ولوائح، بالإضافة إلى مسؤولياته الإدارية التي لا تنتهي. وشيئا فشيئا قل اختلافه إلى بيت زوجته فاطمة، وعاد ذاك الرجل الأسود الغامض ليحمل إلى الأم حظها من النقود وجوالات اللحم والخضار والفاكهة، لكن ليس كما في السابق. وطال انقطاعه عن البيت فضجرت الأم وخرجت في طلبه بعدما ساورتها الشكوك غير حريصة هذه المرة على لزوم البيت. وفي مساء كل يوم تذهب رفقة ابنها عمر إلى حي "مبروكة" حيث يوجد منزله وتقف غير بعيدة ولا قريبة منه متحاشية معارفها هناك، ثم يذهب عمر ليستطلع الرجل مرابطا قرب باب منزله عله يدخل أو يخرج، ثم يعود بعد وقت ليس بالقصير ليُعلم أمه أنه لم يلمح الرجل ولا سيارته. وطال الذهاب والإياب وتحاشي المعارف والمرابطة دون جدوى. واشتد حنق الصبي من تكرار هذه المهمة فكره الرجل وتمنى له المصائب. وأدرك بقلبه الصغير أن في إهاب الرجل شيء ما لا يدعو إلى الاطمئنان، وأدرك أيضا أن من كان تقيا لا يترك زوجته معلقة كالبيت الوقف. وخشي أن يصارح أمه برأيه في الرجل وتضجره منه فتجود عليه بوجبة ضرب دسمة. ولعله غالب تخوفه وتجرأ فاستأثر بالوجبة الدسمة ركلا ولطما وتوبيخا وطال غياب الرجل أكثر من شهر إلى أن علمت الأم أنه سافر رفقة ابنه أنس إلى فرنسا لتقييده بأحد المدارس العليا هناك، ناهيك عن أنه قطع المصروف عنها وعن أبنائها فشارفوا على الفقر من جديد. واضطرمت النفوس سخطا وأسى ولاح الجو الهادئ الوادع كأن كان طيفا من خيال، وعلت الأصوات من جديد وتضاربت إلى أن عاد الرجل من فرنسا -كما زعم- فنشبت شجارات حامية الوطيس، واتهمت الأم زوجها بالتقاعس وتصنع التقوى حين تذبذب اختلافه إلى بيتها. وتكرر الشجار والإتهام والعتاب الجارح إلى أن انقطع الرجل عن عيادة البيت تماما. وعادت فاطمة إلى التحري لكن بشكل أعمق هذه المرة، فهي تارة تسأل عنه جيرانه بحي مبروكة وأخرى تشكوه إلى أصدقائه من رابطة العلماء. وكانت في كل مرة تُخبر أن زوجته الثانية نكلت به أشد تنكيل وأمام الجيران والمعارف، بل أنهما تشاجرا حتى بلغ الشجار حد الشارع، بل أنها رمته بكلام نابي رقيع على مسمع من السابلة والسكان، ثم أن ابنه هو الآخر أمطره بوابل من الشتائم وأن أخاه الذي يقطن قربه وبخه وقال له كذا وكذا…
وكانت تسرد لأبنائها تلك القصص فيصدقون تارة ويكذبون أخرى معللين تكذيبهم بأنهم على كثرة ترددهم على الحي - حيث مسكن الرجل- لا يسمعون ولا يرون شيئا من هذا القبيل وأبدت تبرمها من آراء أبنائها على صراحتها وخلوها من الزيف والتملق - على غير غرار آراء صديقاتها أو لنقل جاسوساتها - فقررت اللجوء إلى العرافين على غرار ما تفعل كلما تعذرت عليها مسألة، تسألهم دفعا لحيرتها وتبريدا للنار المتأججة في صدرها، والذي ضاق ذرعا بالأكاذيب والإشاعات التي ينبؤها بها صديقاتها المتلصصات الفضائحيات. ولطالما التقت ضرتها زبيدة عند عرافة هي الأخرى أتت في طلب ما تطلب، لكنها كانت حريصة على ألا تلمحها هذه الأخيرة فتتنحى غير بعيدة كي يتسنى لها التلصص على ضرتها فتكتشف أنها هي الأخرى أتت تشكو زوجها المزاجي المتخاذل. وتبين لها أن ضرتها ضحية هي الأخرى وأن الرجل كان شهوانيا يعشق التنويع وأنه كان أشد من المراهقين مراهقة، وأنه يطيل الغياب عن بيتها هي الأخرى ولا تدري إلى أين. وعلمت أنه مقيم عند خال له بحي "البطوار" وأن وطأة السكري اشتدت عليه وأنه ضمر من وطأته فأشفقت حينا وشمتت وقست أحايين.
ومر شهران والرجل متوار لا يترامى عنه إلى مسمعها خبر، أللهم إلا ما كانت تسمع عنه من أخبار متضاربة لم تكن تعبأ بها كثيرا، كأن تسمع من أحدهم أنه لمحه يتجول راجلا أو على متن سيارة الوظيفة رفقة مساعديه كالعادة. واشتد حنقها هذه المرة وطار صوابها فاشتكته إلى فقهاء المدينة حريصة على تشويه سمعته المشوهة وعلى لفت أنظارهم إلى فقهيته المتصنعة وعالميته المزعومة. ولعل النداء المشنع يخز ضميره، لكن أي ضمير لأي رجل ؟ وعلا النداء فوصل كل المسامع والقلوب إلا مسمع الرجل وقلبه. وتبين فيما بعد أن الرجل كان قد طلقها قبل سنة وهي لا تدري وفي فترة الشجارات والعتابات وهي لا تدري. وأحقر من هذا أنه كان يتردد على البيت وطلاقه بائن … كيف سولت له نفسه أن يأتي إلى البيت بدون صفة وأن يخلو بالأم على أنها زوجته وقد غدت طليقته؟ كيف يستهين بالأبناء الذكورمنهم خاصة؟ كيف يمرغ في الوحل ما حرصوا عليه وأبلوا في الحفاظ عليه أشد البلاء من مكانة وشرف؟ …كيف وكيف؟…تساؤلات جائرة ثائرة تبودلت داخل الأسرة وشعر الأبناء بأن الضربة كانت هذه المرة أعنف بكثير من تلميحات الماضي وأقسى. إنهم لن يتجاسروا بعد الآن ولن يرفعوا رؤوسهم أو يردوا على الإساءات بالثقة المعهودة والقدرة الفائقة على الرد السريع. لقد تجرعوا قبل شهور مرارة الإتهامات والتلميحات التي كان يشنها أهل الحي صغارهم وكبارهم والتي أنكرت عليهم زيجة أمهم. وأكثر من هذا أنهم ضُربوا في صميم كرامتهم ورجولتهم حين تراءى للناس أن تردد رجل كهذا - حتى وإن كان زوج أمهم- على بيتهم شيء مشين ومخل بالأعراف والأخلاق والتقاليد، ثم أن هذا الزواج عبر لهم عن عدم "رجولية" الأبناء وأنه فُرض عليهم من طرف أمهم، لقد قذفوا في عرضهم وعرض أمهم العفيفة الطاهرة المسترجلة بحكم الظروف القاسية. لم يعد هناك بد من النـزال والشجار ومواجهة الخطوب بأكبر قدر من الشجاعة والصبر والتأني حتى وإن كانت الألسنة لها مفعول السياط وتؤلم أشد الألم. الناس خاطئون وتافهون لكن لا مفر من المبالاة بهم والتعايش معهم. لم يكن أحد منهم يدري ولا الأم تدري أن الرجل كان سيء السمعة، متخفيا في جلبابه الأبيض الذي يوحي بالوقار. وكانت الطامة الكبرى حين أتتها زوجة ابنه أنس تشتكي تصرفاته الوقحة الصبيانية معها وأنه كان يعاكسها ولا يراعي حرمتها عليه ويتلصص عليها ويتلذذ بالنظر إلى مفاتنها وتعمد لمسها…كان الكل ينصحه بالإنفصال عن زوجته فاطمة وأبنائها معللين ذلك بأنه سيكلفه ثروته وسمعته (التي يعلم الكل مدى قذارتها). وكان أنفذهم قولا من مسمع الرجل إلى عقله وأكثرهم إسداء لهذا النوع من النصائح رجل عطار من الحي ويدعى "الحاج موسى" .كان هذا الرجل يتخذ من دكانه دارا للندوة يتشاور فيها وينهش في الأعراض من خلف ظهور أصحابها، وكانت أخصب مرحلة لدار الندوة هاته فترة زواج المحتسب، والتي دار النقاش حولها أعواما ولازال يدور. وكان للعطار الخبيث شبه وصاية على صاحبه المتخاذل. وأغلب الظن أن كان لهذا الرجل أعوان من الشياطين، فلا زال بالرجل حتى غواه وأغراه بتطليق زوجته دون علمها أو حتى دون تمكينها من حقوقها الشرعية. ويقال أنه تواطأ على تدبير هذه الجريمة رجل آخر كان صديقا للمحتسب وجارا للأسرة، وأغرب من هذا أنه كان هو الآخر عضوا في رابطة العلماء وأن كانت بين ابنه وأحد الأبناء صداقة قوية. وغيرهم كثير عجبت الأسرة لتواطئهم مع إسرارهم على الابتسام في وجهها وإبداء المودة، غير عابئين بحق الجيرة، متخطفين الأسرة تخطف الصبية للعبتهم.
ولم يكن هناك بد من مواجهة كل هذا والتصدي له في جلد أو شبه الجلد، وقررت الأسرة أن تستمر في المعركة حتى نهايتها، حتى تستكين أو تخور. وكانت البداية أن رفعت الأم قضية ضد زوجها الصابيء تعددت مطالبها فيها واحتجاجاتها وإنكاراتها، واختلفت بين نفقة وتعويض شرف. واتسعت رقعة الصراع هذه المرة لتشمل عدة أطراف وامتدت إلى المحكمة نفسها، فارتكبت خروق وتجاوزات قانونية كثيرة تبين من خلالها تواطؤ بعض أعضاء الهيئة المختصة بالبث في القضية، واتسعت ساحة المعركة لأكثر من خصم، لكنها كانت هذه المرة أعنف وأشد حيث تحتم على الأم أن تقف في وجه عدول وقضاة ورجال سلطة. وكان لأغلبهم علاقة مودة بالرجل ومنهم عدل من حي الشيخ هو الذي طلق الزوجة غيابيا بالاتفاق مع قاضي التوثيق آنذاك. ويعلم الله ما لحق هذين الرجلين من تشنيع حين كشفت الأم وأبناؤها عن خيوط المؤامرة الوضيعة للسلطة وغير السلطة، وأيضا جملة التزويرات التي أُلحقت بالكثير من أوراق القضية في سبيل طمس الحقيقة والتي كانت لا محالة لصالح الأم، فرجع الشهود عن أقوالهم أو لم يشهدوا أو شهدوا بغير الحقيقة واستبدلت تواريخ بأخرى وحرفت وثائق أو أُلغيت برمتها من ملف القضية. وبدا أن القضية مستعصية والأم بين هذا وذاك لا تكاد تخلد إلى الراحة، بل لا يكاد يغمض لها جفن، متنقلة بين مديرية الأمن والمحكمتين ودار التوثيق ومن ملف إلى آخر يستأنف البث فيه أو يعاد، وكل ذلك من قبيل سياسة الإنهاك والانتهاك …
إنهم لا ينكرون كم تعبت أمهم لأجلهم رغم استبدادها، وهم في ذلك مقدرون لها، مفاخرون بها، مشفقون عليها من أعباء الحياة التي أثقلت كاهله ابالتعب والأسى والشجى منذ صباها حتى اكتسحت العلل جسمها، وأشدها وطأة كان داء السكري الذي أصابها من فرط ما شحن جسمها من توتر وقلق و من فرط الوجبات الدسمة أيضا.
لم يعد هناك بد من المواجهة … مواجهة الماضي الذي لا يبرح خيالهم وواقعهم كأنه عنكبوت نسج أو أخطبوط بث أذرعه، ومواجهة الواقع الجديد الذي لن ينفك يدمر ما تبقى من صرح الأمل الذي لا زال رغم اشتداد الريح ورغم افتقاده كثيرا من معالمه وأجزائه إن هم استسلموا له كما استسلموا لغيره. وكان عزاؤهم الوحيد في هذا أن من الناس من يحيا حياة أضنك وأحقر من حياتهم، بل أن أغلبهم يسير هذا السير مكابدا أو مكابرا أو متخفيا … غير أن خصوصيات وأسرار هؤلاء لا يطلع عليها أحد بقدر ما افتضح من أمرهم بسبب هذا "النصف رجل" الذي كأنما تزوج المرأة انتقاما منها.
أجل كل الناس يخفون واقعهم بشتى الطرق، ويتوارون خلف أقنعة … مجرد أقنعة. ومنهم من يسعى إلى الفضيحة بنفسه ويفرضها على الواقع فرضا ثم يتناساها ويتناساها الناس من حوله. كلهم ألحقوا بأعراضهم جملة من العارات والتطرفات والسلوكات الشاذة ولا تمر سوى فترة قصيرة حتى يُغفر لهم وتُنسى فعالهم من جملة ما يُنسى في خضم الصراع مع الحياة، والناس في هذا شُغلوا - حتى عن أنفسهم- بطرد شبح الجوع عن خيالهم والذي يتهددهم ويعقلهم كما تعقل الدواب.
ليتهم شغلوا عن الأسرة كما شغلوا عن غيرهم، لكن العكس تماما ما حصل : فلطا لما تبودلت نظرات خبيثة، وهمس هذا في أذن ذاك بينما تمر الأم أو أحد الأبناء. أصبحوا حديث الساعة في الحي وخارجه وكأنما أصاب الناس داء الكلب، وهو في نهاية المطاف شيء عادي وشرعي…ردود الفعل هذه تنم عن الجهل الذي يسود الناس ويصنع قوانينهم وعالم خيالهم، وعن مفسدة الفراغ الذي سببه غياب الكثير من المقاييس الصحيحة، وكذا فرص الإنشغال والتسلية الباعث على الكبت غيابها، والتي لا تتيح للفرد أيا كان مجرد التفكير في مسائل وحيثيات لا تسمن ولا تغني من جوع. ولعل هذا الغياب لهذه المقاييس وهذه الفرص ظل مرتبطا حتى عصرنا الحالي بكوم من التقاليد والتفاهات المدمرة, والتي أكسبت الدين الإسلامي في مجتمعنا العربي قاطبة حلة غير حلته، وسلكت به سلوكا لا يمت إليه بصلة، غير أنها ظلت لصيقة بالشخصية، تُتواتر عبر الأجيال من شدة ما مورس في حقها ولا زال يُمارس من أجل إبعادها عن المسار المعتدل القويم، ولإدخالها في متاهات الأعراف والبدع التي هي أشد على الدين من الكفر، والتي تقيد حرية الإنسان وتحد من طموحه وتصيره خاضعا تابعا لها، مسلوب الإرادة، مقيد التفكير غير طموح. ويغلب أن تجد أناسا بلغوا من التعليم الأكاديمي ذروته ولازالوا يفكرون بمنطق التعاويذ والرقى والساحر والمسحور. وأعجب من ذلك أنهم يركنون علمهم المحفوظ غير المفهوم (كصاحبنا الفقيه المحتسب) ويترددون إلى الجهلة فيما يُلم بهم من معضلات الحياة من عرافين وسحرة. وقد نشأ عن هذا الإختلاط بين الغث والسمين تجانس في بنى التفكير - على ما يبدو- فبدا الناس متشابهين، راضخين لليَم، اللهم إلا في الخير, واللهم إلا من رحم ربي … والظاهر اجتماع والباطن تمزق …
وسط هذا التجانس السطحي الذي يضمر تمزقا حقيقيا، بدا الأبناء شذرة عاقلة بهذا العصير تأبى أن تتحلل أو تفقد صبغتها وخصوصيتها. إنهم يبدون متطرفين بصبرهم وقدرتهم على التحمل … تحمُّلِ كل شيء، فقد تعودوا -والتعود طبيعة أخرى- ولم يقتصر هذا "التطرف" على المواجهة، بل تعداها إلى ممارسة الحياة نفسها. هم أفراد في سلوكاتهم وطبائعهم واجتماعيتهم وطرق تفكيرهم، يمزجون في ذلك مزجا غريبا بين طيبة أبيهم وسعة صبره وعفويته من جهة وسرعة غضب أمهم من جهة أخرى. وعلى العموم ما كانوا ليصمدوا في وجه الرياح العاتية التي ألمت بهم لو أنهم تطبعوا بطباع الأب بمعزل عن طباع الأم أو بطباعها عن طباعه، وهم يحمدون الله تعالى على هذه النعمة المزدوجة التي تقوي عزيمتهم يوما عن يوم وتتبث قلوبهم النقية المنفطرة.
وبين الفينة والأخرى، وبينما كانت تغيب الأم في بعض أغراضها، يتحادث الأبناء بشأنها ويطيلون في الحديث حتى أنها تسمع بعضه وهي عائدة إلى البيت مارة بقرب ذاك الشباك الصغير الذي كان يطل على الزقاق-قبل أن يعاد بناء المنزل- مسترقة السمع تارة أو مكرهة على السماع تارة أخرى إذا علا صوت هذا أو ذاك برأي أو بمعارضة. وكان إذا بلغ التحادث ذروته في علو الأصوات واختلاطها، أبدى هذا اعتراضا على تسرع أمه وتهورها في العديد من المواقف التي تحتاج إلى تؤدة وروية في التفكير، وأظهر ذاك شفقة اتجاهها ورثى لحالها وتعبها وقلة حظها في الحياة. وعلى العموم، لم يكن هناك بد من مجاراة رأي الجماعة إن استبد الأغلبية برأيهم الموحد أو بدا هذا الرأي صائبا … وكانت هذه الجلسات بمثابة انفراجات تُتبادل فيها الآراء وتُفرغ فيها شحن الغضب والحزن العالقة بالصدور، والتي طفح الكيل بها أو نفذ الصبر عنها، حيث كان شبه محظور عليهم أن يبدوا للأم آراءهم في تصرفاتها ونهجها في تدبير شؤون المنزل وكذا عدم تفهمها. ولعل هذا ما دعا كبار الإخوة إلى المسارعة بالهروب حين سمحت الفرصة، وكان محمد ثاني المبادرين بعد أخيه سمير فركب طريق الرحيل وهاجر إلى فرنسا… وكان حقا هروبا من جحيم متفاقم اللظى …
كان لكل منهم أحلامه المتعددة والتي كانت مثالية في أبعادها وفي مجملها، وتوشك ألا تكون واقعية. ولعل هذا الشاب كان من أرقِّهم أحلاما وأرهفهم حسا وأبعدهم نظرا وألطفهم بإخوته وأسخطهم على الواقع، حتى أنه رُمي بالتطرف كأخويه سابقي الذكر. غير أن هذا التطرف في نظري لم يكن حقيقيا، أو بمعنى أدق لم يكن تطرفا، إنما كان تمردا على الأوضاع والفلسفات التي لا يقبلها عقل سليم وقلب ملوع، مشبع بالإيمان كما كان عقل هذا الشاب وقلبه.
كان يصغر أخاه محسن بسنتين، وشاءت الأقدار أن يكونا زميلي دراسة في أغلب سني حياتهما الدراسية، وشاءت الأقدار أيضا أن ينال شهادة الباكالوريا في نفس السنة التي يحرمها أخوه محسن الذي عاود الكرة تلو الكرة إلى أن نالها بعد ذهاب الآخر إلى الجامعة بسنتين. وفكر أن يدرس الطب بفرنسا لكن قدره ساقه إلى المعهد التكنولوجي المتوسط بمدينته ليذهب مذهبه هذا فيما بعد ثلاثة من إخوته.
وقضى محمد سنتين أو ثلاثا في الجامعة لكنه لم يكن ليستمر بعد رسوبه في اختبار التشريح حيث كان تخصصه علم الطبيعة. وحكى لإخوته فيما بعد أن هذه المادة كانت السبب المباشر لرسوبه في السنة الثانية، وأنه لسود حظه أعطي حلزونا كي يقوم بتشريحه وضبط أعضائه وتسميتها كلا على حدة، ولسوء حظه أيضا تكسرت قوقعة الحلزون بين أنامله من شدة توترها فاختلط كلسه بلحمه و زلاله وتعذر بالتالي ضبط الأعضاء. ومن تم كره الحلزونات بل جميع فصائل الرخويات وخصاة ذات القواقع.
وكانت الجامعات آنذاك تمر بأحلك وأعصب المراحل. ولطالما عاد هذا الشاب المرهف إلى البيت في غير موعد العودة هاربا من جو الإضطرابات والإعتقالات والإغتيالات التي أبادت جماعات من الطلبة تصر على البقاء والتنديد بالأطعمة الفاسدة وجو التدريس غير الملائم. والحرس الجامعي ولوع بهذه الإضرابات أشد الولع، لذا فهو يشن حملات عشوائية تأخذ في سياقها الكثير من الأبرياء فتزهق الأرواح وتستباح الأعراض وتكسر الضلوع والرؤوس والأطراف بلا رحمة وبلا شفقة. واستمرت الظروف على هذا الحال إلى أن ضاق الشاب ذرعا بوطنه وبحياته فيه، وكره الدراسة كرها شديدا تسبب في انقطاعه عنها أمدا بعيدا. غير أنه كباقي إخوته واسع الإطلاع، خبير بالحياة، ضليع في استغوار خباياها. ثم أنه عاشق ملهم وفيلسوف بارع انتقى جذور فلسفته من عصارة حياته المكتضة بالصراع، فكانت أراؤه تثير الحفائظ بقدر ما تثير الضحك بتطرفها أحيانا ومجازاتها الساخرة أحيانا أخرى، ذلك أنه كان يكره السفه والبدع والتسلط، وله مع الجهل والجهلاء عدائية خاصة، لذا فهو يضع كل شيء تحت منظار التحليل العلمي مستمدا نظرياته ونتائج تحاليله من فلسفته العلمية الدينية التي لا تقبل حتى بعضا من حضارة الغرب أحيانا، والتي معظمها خال من نزعات الروح السامية. ولقد ظل على تشبته بمبادئه العقلية حتى وهو بفرنسا بلد المدنية والحضارة، واحتفظ بهذا الإعجاب الجارف بالعرب القدماء رغم بعض مواقفه منهم، لكنه يُكن إعجابا خاصا بشخصية الرسول(ص)و يكن له أشد الحب ويستأنس به في غربته, و كذا من والاه من الصحابة والفقهاء والعلماء كابن سينا والفارابي وغيرهم… وهو أيضا له خصوصية في السخط على الأوضاع ولا يحب البكاء على الأطلال ويعتب على العرب إضاعتهم للدين وتفريطهم في وصايا الجدود ومخلفاتهم من علوم وآداب وفنون وفلسفات، والتي ضاعت تصانيفها على إثر النكسة الأخلاقية والفتن تحت أقدام همج التتار وحوافر خيولهم.
كان أشبه إخوته بأبيه، يتكلم بلهجته وينزع نزاعه في كثير من الأمور والسلوكات، شديد الحساسية، سريع التدمر، ألمت به علل كثيرة حدت من إقباله على الطعام، فقد كان منازلا خطيرا وفارسا مغوارا لا يشق له غبار في المأذبات والولائم. ولشد ما كان يعشق الثريد أو "الكسكس" فيلتهم منه ما شاء الله أن يلتهم بعد أن يكون الكل قد تراجع من فرط ما أكلوا. وكان يحب مجالس "الفقهاء" ومآدبهم ويتفنن في انتقادهم وانتقاد شراهتهم التي لم يكن يقوى على مجابهتها، ويكره جهلتهم رغم حفظهم للقرآن، وينقم عليهم حبهم للمآدب واستغلالهم حفظهم للقرآن في سبيل المال والطعام. ولعل أوسعهم شهرة وأكثرهم جهلة هذا الرجل الذي كان فيما مضى جنديا وتاجر جمال بعد ذلك، ولعل جنديته أكسبته حدة خاصة لا تليق بإمام مسجد كما كان شأنه، لكن الحدة لم تكن سمته الوحيدة، لكنه ماكر سليط اللسان ولوع بالجنس اللطيف، ويقال أن له حكايات ومغامرات من هذا القبيل في المسجد -الكتاَّب فيما مضى. وكان إذا دُعي إلى مأدبة يدعى على رأسها ويكون أول من يدعى وقائد السرب، بل إنه يختار زملاء المأدبة من حفظة القرآن غير العاملين بتعاليمه. وحين يقدمون إلى البيت المضيف يجدون في انتظارهم حفاوة وإجلالا وأيضا مرشات
ماء الورد وأعواد "الند" المشتعلة التي تزيد من "وقارهم" ووقار المناسبة التي تكون في الغالب مأتما أو عرسا. و"الفقهاء" عموما يشتهرون بحبهم اللحم على وجه الخصوص، وهم بذلك يهملون الثريد تدريجيا وحين يتقدم السن بهم فيشتد انقضاضهم على اللحم الذي يتوسط القصعة ولو في بداية الأكل، ثم يكملون سد جوعتهم بالثريد إذا لم يكف اللحم، فهم منهكون من كثرة قراءة القرآن والإبتهال ويحتاجون إلى طاقة ليواصلوا القراءة بعد العشاء. وتُنصب موائد الشاي من جديد فيُحتسى الشاي في رتابة وترقب على غير الحماس الأول، وتبدأ الأحاديث المصطنعة المقنعة في الإنقضاء ويصل الصبر ذروته من النفاذ فتمتد يد صاحب العرس أو المأتم إلى قائد السِّرب ببعض النقود ويرفع هذا الأخير يديه غير بالغ كفايتهما من الرفع ويدعوا للميت أو العريس وكذا ذويه وباقي القرَءة يؤمنون على دعائه ويزيدون أحيانا لكنهم لا ينسون وذاكرتهم ذاكرة حاسوب وعيونهم على يد الفقيه كي لا تختلس من النقود في غفلة منهم، لكنه لا يجرؤ على هذا حتى وإن تغافلت عنه أعينهم، فالذاكرة قيدت مِنَح الحضور من غيرهم من نقود وسكر. ويُنتظر المتبرع تلو المتبرع في شوق ولهفة، وينقضي الشوق وتفتر اللهفة حين ييأس القائد و سربه من العطايا فيختمون ببعض الدعاء في عجلة من أمرهم وأعينهم متعلقة بالنقود والسكر، ويخرجون وقد أزمعوا اقتسام العطايا حسب الرتب والأقدمية والكفاءة الحفظية، وهم معرفون لدى بعضهم حتى وإن كانوا يقرؤون جماعيا وتختلط أصواتهم فلا يكاد يتميز هذا عن ذاك. ويتشاجر القوم حين يخرجون من بيت الضيافة وتشتد جلوتهم والليل في نصفه الثاني أو يكاد، والناس نيام، ذلك حين تُقتسم الحصيلة ويجور الفقيه الجمَّال على أحدهم ويبتزمن حصته. وربما تسابوا وتباغضوا، لكنهم مصرون على الخروج جماعة إلى المآدب رغم أنف القائد أحيانا، والذي يحاول أن تقتصر الوليمة عليه وعلى بعض أصحابه الطيعين غير المشاكسين، لكنه يفاجأ بواحد منهم قد سبق الرسميين أو دخل عليهم في جرأة ووقاحة فلا يملكون طرده أو رده، وهو أيضا لا يكترث لهم وعيناه تهددان بالثورة إذا لم ينل نصيبه من التكريم والحصائل علما بأنه لن يهان أو يشار إلى دخيليته رغم ما سببه من الحرج، وذلك حرصا على وقار المناسبة وحفظا لماء الوجه.
كان الفقيه الجمال أو "الجمايلي" صاحب كتاب فيما مضى هو المسجد الصغير الحالي، وكان هذا الكتاب عبارة عن حجرة أو حجرتين وفناء تتوسطه شجرتان. وكان يتردد على الفناء رجل غامض لا يتكلم ولا تصدر عنه حركة توحي بأنه حي. ولقد حار الصغار زمانا في معرفة لغز هذا الرجل لكنهم لم يجرؤوا على السؤال خوفا من الفقيه وتجنبا لغضبه الشديد. وكان يَصدر من فوق الشجرة صوت يشبه فحيح الأفعى هابه الأطفال حين قيل لهم أنه صوت أفعى تسكن الشجرة وتمتد بجسمها الطويل بين الفينة والأخرى متجولة في فناء الكتاب، وكلهم خشي أن تدهمه الأفعى في إحدى جولاتها فتلتهمه. وكانت هذه الفكرة مسيطرة على الصغار منهم على وجه الخصوص، أما الكبار فقد ألفوا الصوت بمرور الأيام ولم يخشوه فيما بعد، بل أدركوا أنه صوت منفاخ يصدر من حجرة ذاك الرجل الغامض حين ينفخ به على قطع الفحم كي تضطرم فيطهو ما شاء طهوه. ويبدو أن الفقيه كان قد أعطى الرجل تلك الحجرة سكنا مقابل أجر شهري زهيد متجاهلا عدم أحقيته بكراء الحجرة حيث أن الكتاب برمته ليس ملكا له، لكنه يصر على العكس ويعطي نفسه كافة الصلاحيات حتى بعد أن أعيد بناؤه وأصبح مسجدا حين تضعضع شأن الكتاتيب وظهرت دور عصرية أو ما يعرف با "النوادي" و"الرياض". وكان الفقيه شديد الشراسة مع الصغار، يتلذذ في عقابهم مخطئين أو غير مخطئين. وكانت ساعة القيلولة تشهد أوج غضبه حين يأمر الصغار بترديد وحفظ ما في الألواح الخشبية التي كتب لكل منهم عليها آية من القرآن أو أكثر حسب ترتيبها من الآيات المحفوظة، ثم يغمض عينيه في وسن أو منام، لكن يظل دهنه حاضرا متيقظا كالذئب، حتى إذا انقطع أحدهم عن القراءة أو همس في أذن صاحبه لاهيا رماه بشبشب أو ما شابه ذلك فيذهل الصغير لهذه اليقظة التي كانت نوما قبل قليل أو كانت يقظة في النوم. وفي رمضان يكثر صبية الكتاب ويشتد لغطهم وفوضاهم، وتختنق الحجرتان وتختنق الصدور الصغيرة من تكثل الأنفاس وخصوصا في فصل الصيف، حين يُودَعون الكتاب تجنبا لأن يصابوا بأدواء الصيف، وأيضا لما يسببون من إزعاج لوالديهم خصوصا ساعة القيلولة حين ترتخي الأجسام من الحر وتتمدد طالبة أفياء الحجرات ومناماتها الحلوة.
ولفقهاء حي الشيخ قصص تضيق السطور عن سردها لكنها تأبى إلا أن تحكي عن ذاك الرجل "الفقيه" ذي الثياب الأنيقة وزاعم الأباطيل ومروج البدع، والذي لم يكن يملك أن يجابه الفقيه في رئاسة الوليمة رغم اعتقاده بأحقيته بهذا الأمر، لكنه لا يُخفي تدمره من الفقيه "الجمايلي" في أي وليمة يحضرها مشيرا إلى جهله وجاهليته بشكل غير مباشر، وذلك حين تنهمر الكلمات من فمه في تناسق وانسياب حلو جارف تحكي قصص الأنبياء أو تفتي في بعض الأمور الشائكة التي يتفضل بطرحها أحد الحضور والتي قد تَحار لها ألباب الفقهاء, ولم يكن الرجل عالما ولا القصص قصصا ولا الفتوى من العلم، بل كان معظم كلامه هرطقة وتنطعا، لكنه ساحر البيان، عظيم الملكة في الحديث، يتكلم فتخرص الشفاه ويفتي فتعجز الفتاوى وتتحير العقول، مستعينا في ذلك بمظهره الأنيق والطيب الذي ينبعث من ثيابه. والحق يقال أن الرجل كان أميريا بما في الكلمة من معنى وأنه كان يستنكف عن حضور الولائم برفقة "الجمايلي" لكن حبه للظهور قوي وجارف ولا يملك رده. ولم يقتصر هذا الإستنكاف على الولائم بل تعداه إلى الصلاة في المسجد حين تقام الصلاة فيتبرم من الجماعة ويفرش سجاده خلف الصفوف، وهو بذلك يكره سد الشقوق ووضع الكتف على الكتف، بل يمتعض من الصلاة جنبا إلى جنب الغوغاء، لكنه يضطر إلى إمامة "الجمايلي" فيفعل ما يفعل. ولعل الإمام كره مشاكسة هذا الرجل ونجوميته في الولائم وكذا استنكافه فأثقله بالتوبيخ والتجريح، وربما تكلم الرجل في مجلس وأكثر الكلام حتى هرطق أو سَفِه فيعترض الجمايلي كلامه بضحكة خبيثة تستدرج ضحك الحضور، لكن ملكة الرجل وقوة شخصيته لا تتزعزعان فيستمر في الكلام غير عابيء بمؤامرات عدوه اللذوذ الذي يستمر في التلميح والضحك غير مقهقه، ولكي لا يُشار إلى صبيانته يضع طرف جلبابه العلوي على رأسه ويكتفي بإظهار عينيه الماكرتين القاسيتين، محمسا بهما الجلوس على الثورة على الرجل وكلامه الذي لم يتحقق من صحته حتى وإن كان هو أشد منه جهلة، وتنبعث الضحكات الخفيفة متصنعة سببيتها من حديث الرجل الذي يدرك بعد جهد جهيد أنه احتكر الحديث وأنه ابتدع في الدين و زاد في القََََصص عن غير قصد سوى أنه لا يحب إظهار جهله بأي مسألة من المسائل ولا يحب الإستسلام لذاكرته المتعبة ولسانه الذي مل الكلام. ويشتد اصطدامه بالقائد في المسجد حيث تسمح الظروف -في نظر الجمايلي- لتفريغ الغيض فيمسك هذا الأخير بتلابيب الآخر ويعلو صوته بشتمه ويهدده إن تطفل على وليمة من ولائمه أو خطت قدماه عتبة المسجد أن ليفعلن به كذا وكذا, لكنه لم يكن يخشى التهديد فيعاود التطفل ودخول المسجد.
وكان في كل مرة يقول بملكيته للمسجد متناسيا أن المساجد لله فيعزل هذا ويبقي على ذاك حتى قل المترددون على "مسجده" وصار يؤم نفسه في أحيان كثيرة. والجمايلي تسري عليه قولة النبي )ص) "إتق شر من أحسنت إليه" سريانا تاما واضح النتائج سريعها، فإذا انتقطعت عنه عطاياك أو مسايرتك له فترقب من سام كلامه وتلميحاته النسائية الشيء الكثير. وتشتد ضراوته، علاوة على الولائم، حين يتوصل بفاتورة الكهرباء ولا يجد متطوعا لأدائها، وحتى إن وجد متطوعا واحدا عرضها قبل إقامة الصلاة على الحاضرين مرة أخرى وثالثة ورابعة حتى يشبع نهمه من التطوعات، وربما شارف الشهر التالي على انتهائه وهو لا يزال يعرضها على المصلين الذين كرهوا نهمه وحبه الشديد للمال فتفرق عنه معظمهم. وكان يفضل الميسور منهم على بقيتهم فيما يشبه الإجلال ويقارب التقديس، وبالمقابل يشدد الخناق على من لا يجودون عليه بالمال والطعام والولائم فينتهر هذا لاضطرابه في الصلاة أو لخروجه عن الصف أو لعطلته في المجيء إلى المسجد. وأحيانا كثيرة كان يخرج من المسجد بعد صلاة العشاء والشفع والوتر ويطفيء النور على المتخلفين الذي يضطرون إلى إتمام صلاتهم في الظلام الدامس، ويشق عليه ألا يستمر في مضايقة المتخلفين فيخاطبهم وهم يصلون أن أقفلوا الباب بعد انتهائكم من الصلاة. وأسعد أيام الجمايلي هي الأيام التي تتوالى فيها الوفيات وتكثر، وهو في ذلك لا يرسل دمعة حزنا على الميت حتى وإن كان له جارا أو صديقا، حتى وإن كان من زملاء المأدبات. وأسعد منها أيام رمضان حين تكثر الصدقات وتغذق العطايا، وأسعد منهما ليلة القدر حين تصف قصع "الكسكس" في المسجد وتنبعث منها تلك الروائح الشهية التي تتصدرها رائحة اللحم الذي يكون أصحاب القصع قد أكثروا منه على غير عادتهم مع ذويهم إلا في عيد الأضحى حين يؤكل اللحم ويبالغ في أكله حتى التخمة. وينتظر الصغار خارج المسجد حتى ينتهي الكبار من الأكل، وتخرج القصع وقد أُكل لحمها وبعض "كسكسها" وبعض العظام فيتخطفه الصغار ويتقاذفونه إذا شبعوا أو يلعقون القصع إذا نفذ "الكسكس" دون شبعهم. وتأبى السطور أيضا إلا أن تحكي عن مدى غضب الجمايلي الذي يبلغ الضرب بالرأس وسب العرض، وكان من بين خصومه الألذاء في الولائم فقيه كان يدعى "الفقيه الأزرق" لزرقة في عينيه، وشاكس هذه الفقيه يوما في وليمة فقام إليه الجمايلي وضربه برأسه على رأسه فانبطح أرضا من أثر الصدمة، ولم يجرؤ بعدها على ارتياد مجالس الجمايلي زاهدا في طيب المأكل ونصيبه من العطايا. ولم يكن الفقيه الجمايلي ليستسلم لشح الوفيات والأعراس فيجمع زملاءه من السرب ويفرضون استضافتهم على البيوت بيتا بيتا، وربما كان أهل البيت عاجزين تلك الليلة عن استضافتهم فيضطرون إلى الإقتراض وهم في أشد حالات السرور، ذلك أن البركة ستحل بالبيت بدخول الفقهاء وأكلهم من طعام أهله. وتأصلت هذه الظاهرة منذ القدم حين استفحلت البدع واشتدت على الدين وأهله وعرفت "بالدَّور".
ولعل ما دفع الشاب إلى الهجرة إحساسه بالقهر والظلم في وطنه، وكان قد تجرع فيما مضى حقيقة أن "الفقر في الوطن غربة" في صبر وأناة، وغص بهذه الحقيقة زمنا إلى أن لم يعد يطيق صبرا فحت نفسه على الرحيل حتى وإن لم تكن أسرته في غنى عن مصاريف سفره. وعلى أي حال فقد تدبر أمره بنفسه وودع أهله وأصدقائه، وامتطى ركب السفر بنفس مهمومة وقلب محطم آسف. لكنه كان صاحب القرار هذه المرة ولم يتح لأحد أن يشير عليه بشيء أو أن يمنعه حتى وإن كانت أمه.
واعتقد الجميع لشهور عدة أنه سافر لإتمام دراسته بعيدا عن جامعات البلد، والتي تقل فيها نسب النجاح وتنقلب فيها موازينه. واستبشرت الأسرة بذهابه خيرا رغم أنها ودعته بسيل من الدموع والحسرة والشفقة. وظل اتصاله بها متذبذبا غير منتظم إن لم نقل أنه انقطع في السنة الثانية. ويبدو أن إصراره على الهجرة المتولد عن حقد دفين أو ما شابهه هو الذي أكد قراره في طويته بسلك طريق الإغتراب الغامض رغم أنه يعشق العيش في بيئة عربية مسلمة…لكن بيئته ليست بالعربية الصميمة ولا بالمسلمة الصميمة ! وعلى العموم فهو يفضل أن يغترب حيث الإغتراب الحقيقي الذي له مبرراته من اختلاف المناخ إلى تباين التقاليد والنظرة الغربية إلى العرب والإسلام، أما أن يغترب في وطنه ويعامَل فيه بأحقر مما يعامَل الأجنبي أو أن يقف في وجه الظروف فهذا ما لا يطيق ولا يقوى عليه. على العموم فالفكرة صائبة إلى حد بعيد، والناس في نظرتهم إلى الواقع سواء أو يكادون، ولا يتفقون في شيء قدر اتفاقهم على شبه استحالة العيش في ظل هذه الظروف، ويقول أحدهم : "إن من يقول لك بإمكانية العيش في ظل هذا الواقع كمن يعطيك مطرقة صغيرة ويقول لك فتت هذا الجبل". وقال آخر: "إن بلدنا بلد الثلاثين مليون أيوب" … وربما كان تقدير هذا الأخير لنسبة الصابرين صحيحا حيث أن العدد يتعدى الثلاثين مليون فنقول بالتالي إن الباقي هو "البواليع" التي ينصب فيها عرق الكادحين، وهم من يمسكون بزمام الأمور ويتحكمون في المصير العام، ويحرصون على قمع الطموح وتوجيه الأحلام وجهة مسدودة مظلمة.
ولقد تعرف الشاب إلى جملة من هؤلاء فبغض عيشته وتولد لديه كره شديد لأصحاب الرساميل وتمنى لو تدور عليهم الدوائر وينقلب الدهر عليهم. ولم يكن طموحه في هذا يتعدى فكرة المساواة والتكافل الإجتماعي وعدم تركز الثروة في يد فئة معينة تحت طائلة سياسة إغناء الغني وإفقار الفقير، وقدر -كما قدر غيره- أن بجانب كل جائع ضامر غني داحل ينهب حقوقه ويهضم لقمته، ولولا أنه كره الغنى وتعاطف مع الفقراء لكان تمنى أن يصبح هو الآخر غنيا كي ينتقم لنفسه ولأسرته ولماضيه المشحون بالقهر والظلم والفاقة.
أمضى في كلية العلوم بمراكش ثلاث سنوات كانت بالنسبة إليه بمثابة طفرة عن عالم أسرته. وكان كلما عاد إلى البيت في إجازة الصيف أو غيرها قص على أهله الكثير مما تزخر به الحياة الجامعية هناك. وكانت حكاياته عن أصدقائه تثير زوابع من الضحك بقدر ما تثير من الأسى. لقد أمضى سنتين وسط نخبة من أعز أصدقائه كانت بمثابة كل شيء جميل في حياته الجديدة بما ملؤوها من المستملحات وألوان الهزل حتى أنه يحكي لأمه وإخوته بعضا منها فترتج جنبات البيت من الضحك. ولعل أشد ما كان يثير هذا الضحك حكاياته مع ذاك الشاب الذي ربطته به صداقة طويلة منذ كان يقطن حي الشيخ هو وأمه.
كان هذا الشاب فردا في أنانيته وعجرفته وحُمياه، يحظ لنفسه ما يزهده لغيره، وشاءت الأقدار أن يجتمع بهؤلاء الأصدقاء في بيت واحد فأراهم من أموره العجائب وآذاهم أشد الإيذاء، لكنهم يبتدعون من تنكيله بهم الكثير من الطرائف ويستهدفونه بهزلهم وتلميحاتهم ويغلب أن ينشب الشجار بينه وبين أحدهم فيتطور الأمر إلى اللكمات والركلات والآخر مُبلٍ في ذلك بلاء حسنا، يستحسن ما يفعل به صديقه المتعجرف الغضوب الشرس، فالمهم لديه ولدى الجميع أن يستأثروا بوجبة دسمة من الضحك. وتطورت الأمور إلى أكثر من هذا فسطا الشاب على ثياب هذا أو طعام ذاك بين الآن والآخر وفي غيابه أو حضوره، وهو في كل ذلك متصلب متشبث بطبعه أشد ما يبلغ التشبث. وحاول الأصدقاء ديدنا أن يثيروا حفيظته وتعنته وسبابه بشتى الطرق، فلقد كان لسبابه وشجاره وقع حسن في النفوس الحزينة. ويحكى أنه في إحدى وجبات الغذاء -والتي كانت تقتصر على بعض السمك المقلى- أنه أجمع الأصدقاء على استفزاز صديقهم أثناء توزيع الحصص منه، وهم يوزعون الوجبة بشكل متفاوت وعلى أقساط متساوية مع عددهم، ثم ينتخبون اثنين منهم ليعملوا على توزيع هذه الحصص، وتتلخص طريقة التوزيع في أن يغمض الأول عينيه أو يولي المائدة ظهره ثم يضع الآخر يده على الحصة أن لمن هذه ؟ فيجيب الأول "لفلان". ولقد شاء القدر أن تكون في السمك بعض سمكات شائطات جُمعن عمدا في حصة واحدة هي للأقل حظا. واتفق الجميع على أن تكون الحصة الشائطة من نصيب صديقهم المتعجرف، ووضع الموزع يده على الحصة مناديا بكلمة السر: "وهذه" مرتين فصاح الآخر بصوت ماكر : "هي لفلان"، غير أن صاحبنا لم يكن ليرضى بهذه القسمة الضيزى وبالمؤامرة المنسوجة حولها فانقض على الإثنين يوجعهما ضربا مستوليا على الغث والسمين.
ومرت سنتان على هذا النحو من الهزل والبساطة، ونجح من نجح ورسب من رسب وكان محمد من جملة من رسبوا. واضطُر إلى أن يعاود الكرة عله ينجح هذه السنة، لكن الأمر اختلف عما مضى، فقد تفرق الأصدقاء وذهب كل منهم مذهبه في الدراسة والسكن، فقطن هذا بالحي الجامعي واكتفى ذاك بالإجازة في تخصصه ثم صرف النظر عن الدراسة وانقضت هذه السنة كما انقضت سابقتاها، لكنها بدت ثقيلة على قلب الشاب الذي اضطُر هو الآخر لاكتراء بيت مع طلبة آخرين لم ينذمج معهم، مكتفيا بذكرياته مع أصدقائه الآفلين والذين لم يعد يراهم إلا في إجازة الصيف حين يعود الجميع إلى سطات.
كان من بين هؤلاء الأصدقاء من يسُر حاله فجاد على الشاب ببعض السلف أو العطايا من حين لآخر، ولعل هذا ما يسر عليه الحياة في السنتين الأوليين علاوة على الجو المرح، لكن هذه السنة اختلفت تماما بما اضطُر فيها إليه من أن يتعاطى -إن تعاطى- ألوانا من الطعام الخشن والثياب البسيطة التي تقترب في مظهرها من الرثاتة. ونزلت به أمراض كثيرة مما ألم به من الحاجة ومما غاب عنه من الضحك وألوان الترفيه. واضطر أيضا إلى الأكل من "فاخر" الأطعمة التي يجود بها مطعم الحي الجامعي، والتي تكتسحها ألوان من الحشرات والقش، وفوق هذا الصودا، المادة السحرية التي تسهل طهو الطعام حتى وإن كان يحتوي لحم بغل أو حمار، فضلا عن أنها تنفخ الطالب نفخا وتخذر عقله وجسمه فينام في هذه الساعة أو تلك من المحاضرة. ويعلم الله كم قاسى الشاب المسكين من هذه المآكل فزار الطبيب -على ضيق يده- أكثر من مرة، ونصحه الطبيب أن يجد بديلا عن هذه الأطعمة، بل فرض عليه حميه غذائية لم يكن ليتوفر له ثمنها فاكتفى بأكل الخضار والبيض.
وللبيض معه حكاية أخرى، فقد ظل يعيش عليه مسلوقا مدة طويلة إلى أن اهترى كبده من الدهون المتراكمة، فزار الطبيب مرة أخرى بعد أن شارفت السنة الدراسية على الإنتهاء، وحكى لأهله فيما بعد قصته مع البيض في شيء من الفكاهة والكثير من التدمر، وقال لهم أنه صار كالثعبان من كثرة أكله للبيض المسلوق وأن الطبيب أعفاه من أجرة الفحص فيما توالى من الزيارات.
وتوج حياته المتقشفة هذه برسبة ثانية هي رسبة الحلزون,وحزن لذلك أشد الحزن وحزنت معه أسرته، غير أنه لن يعاود الكرة وسيبحث لنفسه عن منفذ آخر...
واكتفى ببعض الرسائل المتفرقة القليلة لسنتين ونصف السنة حين استقر به المقام بفرنسا في أحد المساكن الشعبية التي خصصت للمغتربين. ولا يدري أحد ما تعذب هذا الشاب وما قاسى من أهوال الإغتراب غير ما حكاه لأسرته في تصرف وأسى حين عاد، وفي حرص شديد على ألا يضيف لأحزان أمه وإخوته كوم أحزانه
– 3 -
غدا تذهبان إلى المحطة قبل ساعة من الموعد، فربما بكَّر أخوكما بالوصول.
لا تستطيع أن تخفي فرحتها بعودة ابنها بعد سنتين ونصف، ولن تخفي حبها له كما تحب جميع أبنائها، وحتى وإن كان العائد ابنها فلن تتوانى في إعداد الجو المناسب لاستقباله ذلك أن المسافر دائما يعتقد بتغير الأشياء التي خلفها وراءه خاصة إذا طال به الغياب عنها، ويجدر بالأهل أن يستعدوا لاستقباله بكل شيء جميل قدر المستطاع، ورغم درايته بواقعه الذي هجره فهو يحب أن يُستقبل بالجمال والحفاوة والبسمة حتى وإن كان كل شيء مصطنعا، لكي ترجع الأشياء إلى شكلها الطبيعي بالتدريج فيندمج هو الآخر بالتدريج ويخضع للحقيقة حلوة كانت أم مرة. ويكثر أن يعود المهاجر من حيث أتى بعد أيام قليلة و بعد تجرع مرارة المقارنة، ذلك أن الواقع يفرض نفسه بقساوته المعتادة فيفتر الحنين وينضب الحماس الملتهب وتتصل جراح الأمس بجراح الحاضر، ويتلون الأفق الوردي تلونا قاتما متشائما فتطفو الأحزان من جديد فوق بحر الفرح الذي كان منذ أيام، أو يتبخر البحر وتتلاشى شطآنه فتصبح الأحزان البحر والشاطئ فيقهر البحار و يُضطر إلى نقطة البداية، على الأقل سيجد عندها خيايرين وبالطبع يفضل خيار الفرحة والنسيان …
أزاح النبأ بعض الركوض، وقامت الأم وابنتها سمية بتنظيف البيت تنظيفا خاصا بالمناسبات وأعدتا ما يسُر به الحال من حلوى وفطائر في غبطة وسرور عظيمين. ومر اليوم التالي معظمه في جو من اللهفة، ولم يتبق على الموعد المرتقب إلا ساعة، وخرج الأخوان لاستقبال أخيهما العائد من سفر طويل، ولم يعبآ بالبرد القارس الذي لوح ثيابهما من شدة الفرح الذي كان يغمرهما، فقد اشتاقا إلى أخيهما اشتياقه إلى الأسرة أو أكثر، ولن يترددا في مواصلة المسير حتى ولو شقا طريقهما في برد يناير. وهاهي الحجب تنقشع وإذا بالأخ العائد شبح يحمل حقيبتين ويمشي في عجلة الخوف والشوق خاصة وأنه يمر بأحد أزقة حي سيدي بوعبيد الموحشة التي تكتنفها شجارات الليل والندمان.
وأوشك الأخوان ألا يعرفاه لكنه عرفهما قبل أن يحاولا التأكد من هويته…وكيف لا يعرفهما وهما من أعز إخوته عليه؟ عرفهما قلبه المتلوع بما قارب الثلاث سنوات من الفراق والاغتراب في أرض لا يؤاخي فيها غير الطير والشجر…عرفهما لأنه تمنى أن يعود مذ استقل القطار إلى طنجة ومذ ركب البحر إلى المجهول في فرق وحسرة. وطالعته الذكريات وأي ذكريات…واشتاق منذ اللحظة الأولى إلى جلسات الإخوة الدافئة وطُرف أخيه مصطفى وعمر.
كان يدرك مذ فكر بالهجرة أنه سيحيا في البدء حياة أحقر من حياته في وطنه، لكنه لم يكن تواقا إلى طيب المأكل وجميل الملبس بقدر توقه إلى الحرية، هذا الحلم الذي لم يكد يتحقق في وطنه، وبالنسبة إليه لم يتحقق ولن يتحقق…كان كالطائر يضطر إلى الرحيل في الشتاء، لكنه يظل على وفائه وحنينه إلى الأرض التي آوته وتنشق منها أول أنفاسه، وكانت مهده الأول حين كان يتعثر ولم تينع ريشاته بعد، ثم لا يلبث الحنين يشده حتى يطوي طريق الإياب في عجلة ولهفة وشوق كبير كي يتنشق الربيع في مهده الأصلي.
غير أن لهذا الطائر حبيبة تركها في انتظار …
****
لقد تعرف الشاب إلى فتاة فرنسية من أب إيطالي وأم فرنسية. ويبدو أنه كان لهذا التمازج في اجتذاب الفتاة له بما سرى في جسدها من دم أبيها فأصر على أن "يقتنصها" مهما كلفه أمر اقتناصها من مشقة إلى أن ربح الجولات الموالية لجولة أو جولتين خاسرتين. ولا عجب أن تنقاد فتاة من نوع فتاته إلى شاب عربي بائس -كما كان هو- فاختلاط الدم في المجتمع الفرنسي، خصوصا إذا كان الأب غير فرنسي، يحط من قيمة صاحبه إن لم نقل أنه يجعله مواطنا من الدرجة الثانية تماما كالسفرديم في اليهود. ورب ضارة نافعة: ينثاب المواطن إحساس بالغبن والتهميش وأن غيره من مواطنيه "أصفياء الدم" يفضُلونه بما استأثروا به عنه من تقدير وحريات وإحساس بالإنتماء الحقيقي فيبحث عن نفس المساواة في مكان آخر أو عقيدة أخرى. وللإسلام فضل على العرب وللتاريخ أيضا، فلا أحد يمكنه التشكيك في أن للعرب قدرة على استيعاب جميع الطبائع العالمية وخاصة المسلمين منهم … الفئة الغالبة - وأنهم أقرب إلى تقدير الإنسان بما حباهم الله به من نعمة التساوي في العرق والدم والإعتقاد أحيانا، اللهم إلا فيما خرج عن نطاق حرية المعتقد إلى الزندقة أو الهرطقة أو العداء. وقد مرت على العرب أزمات كثيرة اختلفت معها وتنوعت نظراتهم إلى الأجانب عن نظرة الغرب المتغطرسة الزاعمة التي تخلوا أحيانا كثيرة من الموضوعية في التقييم، وتتجرد إلا من الإيديولجيات.
وكان الشاب من خيار الأمثلة على هذا التواضع المكتسب وعلى هذه الروح العربية الإسلامية الطيبة فأحبته الفتاة حبا كبيرا وأعجبت بمزاياه ودفئه.
كان للفتاة جد هو أبو أمها يكره العرب كرها شديدا ويتهم الرجال منهم بغلظتهم وقسوتهم على النساء، هذا إلى أوصاف قبيحة أضفاها عليهم كان بعضها معقولا، وهو بذلك يسعى جاهدا إلى أن يثني حفيدته عن زوجها المستقبلي الذي لا يطيقه ويكرهه ويبالغ في كرهه ويتفنن. ولم يعد للفتاة بد من الإستقلال عن سلطة الجد وثروته التي تقاس إلى ثروة أبيها، وفضلت على كل هذا الثراء أن تحيا حياة بائسة فقيرة. واضطر الحبيبان إلى المبيت في الشوارع ودور الرعاية أحيانا، وربما أكلا من القمامة أو تسولا لكن حبهما وتعلقهما ببعضهما كان قوي العرى لا يكل من الصعاب. وانتظر الشاب أن تستسلم فتاته وتعود لأهلها مطأطئة الرأس، مدعنة لهم من الجوع والحرمان والتشرد لكنها أبت إلا أن تخذله. وبين الفينة والأخرى كان يتذكر بنات بلده ويستقبل ما أدبر من علاقاته العاطفية فيسخر حينا ويحمد الله أحايين أخرى على ما عوضه به عن صبره وجراحه من طيبة هذه الفتاة و نبلها وتضحيتها. فلَكَم نقم على الفتيات حين كان ببلده، وكم من جراح أضمر في قلبه من خيانة هذه أو تملص تلك أو إعراض هاتيك دون مبرر. وقد أحب فتاة أيام الجامعة، وربما اقتنص حصة من الحصص وسافر من مراكش إلى الجديدة لمقابلتها ثم عاد بعد ذلك يغمره إحساس بنشوة الفخر والقوة ، رغم أنه لم يكن في غنى عن مصاريف السفر. وفي إحدى سفراته تلك فوجيء بالفتاة تمشي برفقة شخص آخر، وزاد الطين بلة أن تجاهلته وتنكرت له في قسوة وكأنها لم تصرح له يوما بكل هذا الحب الذي غمر الأيام الشجية بنسمة عذبة حنونة وأعطى الحياة أكثر من معنى وأكثر من لون … كأنها لم تقل له يوما أحبك أو كأنه لم يسافر يوما لأجل شيء ذي قيمة… واقترب منها فيما يشبه الحذر وناداها فتجاهلته مرة أخرى، وسرى الغليان من قلبه إلى دماغه فاقترب أكثر وألح أكثر لكن بأن شدها من ذراعها، ثم هاهي تصر على تجاهلها لكنها تسبه هذه المرة! وكان أن حذر الشاب أولا من التدخل ثم شد الفتاة بعدها من شعرها وضربها بعنف ولم تتملكه بها شفقة. وعاد، وكما لم يعد من ذي قبل، بخيبة أمل وقلب محطم كسير. لم يكن يحب العنف لكن غضبه ساقه إلى حيث لا يحب، ومع من ! مع التي كابد لأجلها وكانت قبل هذا اليوم المشئوم أجمل حب في حياته ستظل وأجمل ذكرى… كيف تجتمع العاطفة والقسوة والحب والكراهية في لحظة واحة؟!
ربما كانت هذه الحادثة أول دافع حقيقي للتفكير بالرحيل…
وزاد من ثقته بإخلاص فتاته الفرنسية حبها للمغامرة وجلدها في الملمات رغم ما مورس عليها في ظله من العنصرية وانتهاك الحقوق، حتى أنهما اكتريا مرة غرفة صغيرة بعد اقتصاد في المعاش شديد وكانت الشرطة الفرنسية تقتحمها عليهما في كي حين، وأحيانا في منتصف الليل بداعي التفتيش عن ممنوعات أو عن أي شيء من هذا القبيل فيفزعان من نومهما ويصيح الشاب في وجوههم غاضبا على غير ما كان يفعل في مثل هذه المواقف حين كان ببلده وبما ناله من بعض الحرية في بلد اغترابه !.
على أنه كان لهذه المغامرات حلاوة ونشوة لم يحسها في عقر وطنه بين أهله وأناسه فأحب الفتاة حبا كبيرا وعطف عليها أكبر ما يكون العطف وترفق بها أشد ما يكون الترفق. ثم عكف على تهذيب طباعها بحيث تناسب طباعه، حتى أنه اضطر لضربها أحيانا، لكنه كان يعرف تماما أن مسألة الانذماج لا تتأتى بسهولة وأن الطبائع تتأصل في صاحبها يوما عن يوم، ولصقلها أو إزالتها يجب توفير البديل الجيد المناسب أولا ثم سلك المسلك الصحيح في التوجيه ثم الصبر فوق هذا. وفتاة مثل فتاته في مجتمع كالمجتمع الفرنسي يتوقع أن تتعاطى السجائر والكحول وربما أشياء أخرى تؤتى من قبيل "التحرر" والتلقائية المزعومة، لكن الإيمان بضرورة التحسن والسمو في الأخلاق الفردية والجماعية يعطي الشخص دفعة إصلاحية على المستوى الفردي والجماعي. ويغلب أن تجد أكثر الناس صلاحا أعمقهم توبة بعد فساد كبير، لذا نجد المسلمين من الغرب وحديثي العهد بالإسلام أشد حماسة إليه وأحرص على تطبيق تعاليمه، وليست هذه إديولوجية جديدة من الإيديولوجيات التي تقرب إلى عادات الغرب وتجعل اللامعقول عندهم معقولا لدينا (كالرفق بالحيوان وعدم الرفق بالإنسان، أو التأثر الكبير لموت زعيم روحي أو شخصية مرموقة كالليدي ديانا في حين تزهق الأرواح بلا حساب في مناطق عدة من العالم وفيها من يفوق خلقا الشخصية المرموقة والزعيم الروحي). ومن جملة اللامعقول أن تُزين الطقوس الدينية غير الإسلامية للمسلمين فيتعاطفون معها تعاطفهم مع طقوسهم أو أكثر وربما ارتد مسلم-وهي حالة ناذرة الحصول- فاعتنق الكاثوليكية أو غيرها من الديانات المتجَاوزة والتي حرفت، ومن جملة تحريفها أنها لا تتعاطف في الظاهر مع الإسلام ولا تعترف بنبي اسمه محمد هو خير العالمين رغم أنه أتى للعالمين رحمة بهم ورغم أن الديانات في أصلها واحدة و"الأنبياء إخوة ودينهم واحد".
كان اسمها ساندرا، وكانت فتاة من الجمال والرقة بمكان، امتزجت طيبتها بما تعلمته من زوجها من عادات وسجايا عربية إسلامية فبدت مهذبة رصينة لا تفارق البسمة ثغرها، حريصة على إرضاء زوجها وتلبية حاجاته، وينذر أن تفعل شيئا دون مشورة أو إذن منه فلا تقدم على تصرف إلا ونظرت إليه تستشيره بعينيها في حذر تجنبًا لغضبه. وبدت متمسكة به أشد ما يكون التمسك، منوهة بأخلاقه مفاخرة بحسن معاملته لها في كل مجلس.
وذكر الشاب لأهله بعد عودته الأولى أن حفلة زواجه بالفتاة اقتصرت على بعض الأصدقاء العرب وعلى قليل من الفطائر والمرطبات على غير ما يكلف الزواج في بلده من شروط ونفقات وإجراءات تثقل كاهل العريس فتضطره أحيانا إلى مراجعة نفسه والتراجع عن الزيجة من أصلها. ثم أنه ينكر على بنات بلده شغفهن بالمظاهر والمال وزهدهن في الحب والقيم التي هي أبقى وأقوى، هذا إلى تعاطي معظمهن مختلف ضروب الشعوذة والإنحراف. وحمِد الله على أن زوجته لا تعرف شيئا من هذه التصانيف التي تطيح بأعتى الرجال في قبضة أضعف النساء، وإلا فكان عليه أن يُعد نفسه لبلع ما يجب بلعه أو تخطي ما يجب تخطيه في هذا المضمار كي يصير منقادا مسلوب الإرادة، أعمى البصيرة.
وازدادت نظرته هذه حدة بعد تعرفه إلى فتاته ساندرا كما ازداد احتقاره لنساء مجتمعه وتعجرفه عليهن.
وكانت نظرته هذه صائبة إلى حد بعيد ولا ينظرها إلا شخص يتوق إلى ما يتوق إليه الشاب من مثل، ويفكر بصدقه وغيرته على مجتمعه ونساء مجتمعه، ولا يمكن لأحد حُرم حرمانه وتلوع لوعته كباقي إخوته أن يقف غير هذا الموقف اتجاه مجتمع كهذا. فلو نظرنا مثلا إلى العلاقات جملة لألفينا مدى تدنيها وحقارة أبعادها، ولأدركنا أن الناس يلفظون آخر أنفاس طيبتهم ودماثة سجاياهم. ولنسلط الضوء على علاقة الرجل بالمرأة التي تتفرع عنها جميع العلاقات لنستكشف عالما غامضا مهولا وعمقا سحيقا من أعماق التردي. ولعل المرأة لم تخرج إلى الحياة العملية في الوقت المناسب، ولعلها لم تثبت أهليتها وجدارتها بالشكل الذي خُطط لها به تحت طائلة المساواة كي يُتمعن في عورتها. ولم يقتصر الأمر على مجرد نزوة المساواة المزعومة هذه بل تعداها إلى نزوة التحدي. وعلى العموم فالطبيعة ترفض كل شيء ليس من قبيلها وتؤكد أهلية الرجل لأعمال الخارج وأهليه المرأة لأعمال البيت- مع بعض الإستثناءات التي يعرفها الكل. وبعيدا عن نطاق الآراء الخاصة المجردة أقول يمكن لمس مدى هذه الحيثيات من السطح دون التعمق فيها، والحقيقة أصبحت عارية عراء الشارع.
ثم انتقلت عدوى التحدي إلى البيوت حيث المنبت لكل فكرة فساد أو صلاح، وتطورت العلاقات في الإتجاه المعاكس لما ينبغي لها التطور فيه، فأثر ذلك تأثيرا بالغا على الشكل الخارجي للمعاملات بما تفشى في المجتمع من أفكار أنمت عن العدائية المُختلقة بين الرجل والمرأة، وانتقم كل لنفسه ومنها بطريقته الخاصة، بل إنه نظر إلى الحياة على أنها ساحة مبارزة فدمر نفسه ودمر من حوله حتى الذين يحبهم...
ولم يكن الرجل متفهما ولا المرأة، بل ظل كل منهما -مذ تقررت المساواة المزعومة- يجذب الحبل في اتجاه تمرده حتى اختلطت الأمور، وتناسى كلاهما وظيفته التي وكل بها قبل نزوله إلى الأرض مستخلفا وإدعانه لقوانين الحياة. ويمكن سياق الوقائع بتدرج منطقي للوصول إلى حيث مربط الفرس. وهنا تكمن أحداث التراجيديا الإجتماعية التي تتلخص في نظرة الرجل والمرأة كل منهما إلى الآخر، خاصة حين يفكر أحدهما في الإرتباط. وتختلف المقاييس المادية لهذه النظرة من بيئة إلى بيئة ومن ظروف إلى أخرى. وهنا تتنوع الإختيارات بتنوع المصالح فيكال الكل بمكيال المنفعية ويقدر تقديرا لا يمت في الغالب إلى حقيقته بصلة.
فرحم الله زمانا كان صداق الفتاة فيه سمعة عريسها وأخلاقه ومدى ما يحفظ من القرآن الكريم …رحم الله ذاك الزمان …
ولكم من علاقة طيبة نبيلة تفككت عراها وسط هذا الخضم … وكم من حبيب زهد الحبيب حيث أن الأحلام سيطول المدى لتحقيقها، أو أنها لن تتحقق إن طالت، وحيث يُزهد في الأحلام يصير الناس من ورق … فهذه تبحث عن شاب جاهز أو حتى عن عجوز ميسور الحال لم يتبق بينه وبين القبر بقية، وأبدلت عن حبيبها من لا تحب، حتى إذا أشبعت نهمها من ماله أو جماله حنت إلى الأخلاق وذكريات الأمس غير المُغرضة والتي كانت تحس كيانها فيها…وهلم جرا إلى آخر نهاية من نهايات القائمة التي لا تنتهي، ولن تفتأ تُضيق الكل مرارة الضياع وتحرمهم طعم السعادة. ولن نستثني الرجل الذي هو بيت القصيد ولب القضية والسبب المباشر لهذه الدراما وهذا الشذوذ الإجتماعي والأخلاقي، بل إنه حامل مشعل التردي...
هكذا كان الشاب يفكر، وهكذا كانت نظرته إلى الحياة والمجتمع، بل نظرة جميع إخوته كبيرا فصغيرا. وقد عاد هذا المساء من أبعد مدى كان يتصور أن يصل إليه، عله يرى رؤية أخرى، أو عله يكتشف حقيقة أخرى غيّبها الغضب، غير هذه التي كانت تطالعه من زمان وتملأ لياليه بالشجن. عاد هذه المرة وهو يحمل معه كوما من تجارب أخرى. لقد خًّول له انعزاله أن يباصر مجتمعه بعين تغلب عليها الموضوعية وتقل فيها الشفقة. وما أصعب أن تدرس الظاهرة بمعزل عن الظواهر الأخرى التي تتسلل كلها إلى بعضها البعض وتتوحد كي تعطي القانون العام الذي يسير الكون على منواله، وما أبعد أن تتعامل مع المحيط دون استئصال شخصك منه. ولو لا هذا القلب الرقيق وهذا الحس المرهف الصادق المشبع بالإيمان لكنتَ أعدمت وطنك في قلبك ولكنت أجزمت أنه أقبح الأوطان وأكثرها انتهاكا لحقوق ساكنيه، ثم لكنتَ هجرته إلى غير رجعة…هناك حيث الناس في شغل عن كل تافه بل حتى عن بعضهم البعض. هناك، حيث التقدم بكل مقاييسه وإيجابياته وعلله، لاح له وطنه شبحا لشيخ مريض يحتضر، تنزف ذاته من كل طرف.
كان يستعرض ما اختزنت ذاكرته فيقسو حين تلوح الجراح ويتراءى شبح الحرمان والمعاناة ذميما متعجرفا، ثم يحن حين تمر على خياله صورة صديق أو حبيبة أو لِطيف ذكرى طيبة. وظل الوطن يتأرجح في عينيه على هذا النحو كلما طالعته الخواطر بالذكريات والتعقل إلى أن غلب الحنين فشق طريق الإياب إلى حيث يستشعر دفء الماضي، حيث كانت الأحلام في نظرة السذاجة، وحين كان طيف السعادة يشيله من واقعه المشحون بالشجب … رأى الوطن بعين الغريب الذي يراه لأول مرة … رآه بعين المتطلع الفضولي الذي يحمل معه جملة من الحكايا والتصورات عنه، فيقارن بينها وبين الحقيقة الماثلة أمامه بحذافيرها. وكم كان الفرق شاسعا هذه المرة حين قارن فرنسا ببلده المتعثر ! ولم تقتصر المقارنة على التطور التكنولوجي وما سايره من التطور الفكري والعلمي وحسب، بل تعدته إلى التقاليد وطرق المعيشة. ولقد غرق في يم الصراعات والتفكر حتى هزل جسمه بشكل ملفت للنظر، وغطت وجهه لمحة ساهمة متألمة. وكان قد عرضت له أزمة صحية شديدة قبل مجيئه زادت من هزاله وشحوبه، وأوشك ألا يُعرف لولا هذا الصوت وهذا الميل القديم إلى المزاح والضحك أحيانا نادرة، ولولا هذه الضحكة المتميزة التي تناهت إلى الوجوم حين طال به المكث بين أهله، وحين تراءى له أن بيئته القديمة لم تكد تتغير، وأنها ثابتة بتحرك العالم من حولها في أفلاك واسعة وهي ناكصة خانعة.
قضى في البيت بعض أيام - على غير المدة التي كان ينوي قضاءها- بطيئة مملة لا جديد فيها ولا مثير. وزاد من رتابتها أن كان الفصل شتاءا وأن كان المطر يساقط دون انقطاع فحد ذلك من نشاطه خارج البيت وتنقله بين أصحابه الذين لم يتبق منهم إلا قلة ممن اضطرتهم الظروف إلى البقاء في المدينة، اللهم إلا أعز أصدقائه مراد، والذي لم يكن ليتفرغ له بالشكل القديم لأنه كان منشغلا بإعداد بحث الدوكتورا.
وأحس أن إيقاع الحياة جد بطيء إلى ما تعوده هناك وألفه ولن ينفك يحبه ويتودد للبقاء فيه ومسايرته حيث لا فرصة للتأمل في مشاكل الحياة بالشكل المتعمق البعيد الذي يتيحه هذا الركوض بهذه البيئة. وكم كان يبدو حزينا متفكرا وهو جالس بإحدى الغرف يرنو إلى قطرات المطر المتهاوية في فناء المنزل. وذكره جو الشتاء بفرنسا وأحلامها الآملة الشجية حلوة المذاق. وأكثر من هذا زوجته الحبيبة التي تركها هناك وترك عندها قلبه المشبع بحبها. لقد كان يأمل أن تأتي معه إلى المغرب لكنه خشي أن يكون قد بالغ في الثناء على أسرته أمامها، ثم أن المنزل لم يعد يحتمل الزيارات التي تطول، فقد خيل إليه أن حجمه تقلص فلم يعد يسع شخصا آخر غير ساكنيه، هذا إلى أثاثه المتواضع المتقادم الذي لم يكد يطرأ عليه أي تغيير، أللهم إلا بعض أشياء اقتناها زوج الأم.
ألفى أسرته كما تركها قبل سفره، لم يتغير فيها أحد ولم يستجد من أمورها شيء ذو بال. وأخنقه وجوم إخوته واستسلامهم للأحزان، لكنه لن يبدي رأيه في شيء حتى درجة الإهمال أحيانا متطبعا في ذلك بطبائع الغرب، ويحاول أحدهم أحيانا إضحاكه أو ممازحته لكنه لا يستجيب على أن هذا الحزن الذي شج قلبه لم يكن مقتصرا في سببيته على هذا الركوض بل غلبت فيه ذكرياته عن أيام تشرده واغترابه هناك. وحرص على ألا يُفضي لأحد من إخوته أو أصدقائه بلواعجه، واقتصر في هذا الإفضاء المتحفظ على أمه التي أشفقت لحاله كثيرا وبكت قليلا وحاولت التخفيف عنه بداعي أن هذه حال كل المغتربين خاصة منهم العرب …لكنه لم يكن ككل الأجانب المغتربين … هو سافر لإتمام دراسته دون منحة، واضطر إلى الكسب بأصعب ما يكون الكسب، لكنه سرعان ما استغنى عن حلمه هذا في ظل الإنشغال اليومي وذلك بتدريس بعض الحصص الإضافية في الرياضيات والفيزياء أو العمل بالمطاعم والمقاهي حتى يبعد عنه شبح الجوع وحتى لا يضطر إلى التسول أو الأكل من القمامة.وعمل مرة بأحد المطاعم، وقدم وجبة لأحد الزبائن لم ترق له فأشهر مسدسه في وجهه مهددا إياه بالقتل لو أتاه بمثلها مرة أخرى. ولم يكن هذا الموقف متفردا من بين المواقف الكثيرة التي تعرض إليها من قبيل العنصرية المتفشية هناك، ولقد واجه حياته بصبر وكفاح وعرق إلى أن ساق القدر في طريقه هذه الفتاة التي أدخلت على قلبه شيئا من الطمأنينة وساعدته في تحمل الكثير من الأمور.
لم يتصور يوما أن حيه الذي كان مكتظا بكل ما يدل على أن به حياة يمكن أن يصير بهذا الجمود وبهذا السكون. لقد تفرق الناس كل إلى غايته ومصيره ومستقبله، وسافر من سافر للعمل بالخارج، وتزوج من تزوج مبتعدا بنفسه عن ماضيه وعن الحي بأكمله وقطن حيا آخر أو مدينة أخرى لا يعرفه فيها أحد كي يحيا حياة جديدة بوجه جديد. ثم منهم من ابتسم له الدهر في شيء من سعة الزرق فارتدى ثوبا غير ثوبه القديم وتقمص شخصا غير شخصه وصار ينظر إلى الآخرين مستنكفا متجنبا فمقته البعض ونظر إليه البعض الآخر نظرة إجلال وإكبار أو حسد و تملق … لن ينسى حي الشيخ أبدا ولن يتنكر لذكرياته فيه بكل ما تحمل في طياتها من السعادة والألم. لن يفارق خياله هذا الصبي الذي -كباقي إخوته آنذاك- كان يتردد إلى المدرسة مرتديا سروالا مرقعا من الأمام والخلف وحداء جاوز عمره الإفتراض فافتتح لنفسه نوافذ من جميع الجهات كاشفا عن أصابع الصبي بل عن معظم قدميه. لن ينسى مدرسة يوسف ابن تاشفين، والتي قضى فيها ست سنوات من الهلع الشديد والذكريات الحلوة المغمسة بطعم السذاجة. قد كانت هذه المدرسة أشبه بالمعتقل- على أنها كانت فيما مضى تكنة عسكرية- بما توافر لها من صفات المعتقلات. لكم ذاق من صنوف اللطم والركل والتوبيخ وكل أعراض القسوة والهستريا التي طبعت معلميه وإدارييه. وكان محسن رفيق مشواره في هذه المدرسة، وكان يسبقه بسنة لولا رسوبه في قسم من الأقسام والذي عادل بينه وبين أخيه. واستبد الغضب مرة بأحد المعلمين فقام إلى الأخ الأكبر الذي تعثر في الإجابة أو لم يذكرها ومزق سرواله الهش الخلق من أعلاه إلى أسفله. وتكشفت عورة الصبي فبكى بكاء حارا مواريا إياها مسارعا إلى مقعده بين المقاعد التي ضجت بالضحك وبالغت، وحكايات أخرى بلغت من العجب مبلغا عظيما لا يذكرها الإخوة إلا انبطحوا من الضحك ويحكى من بين ما يحكى عن معلم بلغ من الفتك والضراوة حد الجنون وباهى بذلك وفاخر. وكان هذا المعلم إذا أراد أن يعاقب تلميذا كلف أربعة من تلاميذه الشداد الغلاظ بتجريد ثياب الصبي من ثيابه التي لم تكن تحتوي في تلك الأيام ملابس داخلية- ثم بطحه فوق طاولة خصصت للعقوبة، ثم يقوم التلميذ بعد انقضاء هذا المشهد المأساوي، وبعد أن يكون المعلم قد استنفذ جل طاقته في الضرب، وجلده مشكل تشكيلا سرياليا أو وهو يكاد أن يقع أرضا من شدة الألم فيقوم هؤلاء التلاميذ -الذين كلفوا قبل قليل ببطحه- بحمله إلى مقعده وصراخه متواصل ودموعه بحار. وكاد أحد الإخوة يتعرض لنفس الموقف لولا أنه، وفي اللحظة المناسبة، أطلق ساقيه للريح، مهرعا إلى أبيه بمحطة الوقود.
ولعل أدعى هذه الأشكال من العقوبات إلى الضحك والرثاء معا أن كان أحدهم يعض التلميذ ويرفعه بأسنانه عاليا ثم يلقيه أرضا، وأكثر من هذا أن يفتح المعلم فم الصبي ويبصق فيه أو يدس أصبعه في فم وينشب ظفره في باطنه ويخرجه وقد علقت به قطعة لحم من حنك الصبي. أما أحدهم فكان ينشب أظافره في عنق الصبي حتى تستبين حمرة الجروح ثم يأمر أحدهم بإحضار شيء من ماء "جافيل" فيسكبه على عنق الصبي الذي تنثابه حالة من الهياج الشديد إذ سرى مفعول "الدواء" على شكل حرقة شديدة. ومما لا شك فيه أن هذه الصلاحيات الإباحية التي مُنحت لمعلمي تلك الأجيال لم تكن تمت إلى التعليم والتربية بصلة، ولا أدل على ذلك من أن معظم التلاميذ آنذاك تضرروا بشكل أو بآخر من المناهج السقيمة المتبعة، وإلا فكيف يعقل أن توكل مهمة سامية حساسة كالتعليم إلى أناس كهؤلاء ؟ ثم أن الحكومة، حين قررت تحسين هذه المنهجية فيما تلا من سنوات، فكرت بتلقائية زائدة في فرض بعض المراجع الجديدة والمقررات متناسية دور المعلم والإنطباع الذي يتركه لدى التلميذ شكلا ومضمونا حيث أنه هو المادة الأولى التي يتلقاها التلميذ ويتعامل معها بانطباعية شديدة وتلقائية. وحيث أنه لم يُفكَّر في كسب هذا الشطر المهم من نفسية التلميذ، فإن وضعية التعليم لا تفتأ تتردى من سافل إلى أسفل بالموازاة مع وفرة المراجع والمقررات، ولا أحد يعترض على حتمية هذه النتيجة علاوة على بعض العوامل الأخرى. ولو لم نهمل هذا الجانب الحساس من تنشئة المجتمع لتسنى لنا مواكبة التطور الحقيقي لا التخلف عنه مع المواكبة الزائفة.
ولقد عمت هذه المظاهر من الوحشية جميع المدارس آنذاك، ويقدر الجميع أن وطأها بدأ يخف مع بداية الثمانينات غير أن للاخوة الصغار رأي آخر: فهذه مدرسة التوحيد هي الأخرى شهدت من هذا الإمتداد المتضارَب حول حقيقته ألوانا، بل إنها ضاهته في الكثير من صفاته ومقاييسه. وإذ أذكر الإخوة الصغار أختص منهم سمية وعمر ولبنى التي لم تكمل أولى سنواتها بهذه المدرسة، راحلة إلى ضاحية ابن أحمد مع والديها الجديدين اللذان تبنياها، واللذان سنذكرهما فيما سنذكر.
وللحبيبة لبنى معنا لقاء قريب …
وللحبيبة لبنى معنا جولة آه ووداع …
****
قبل بضع سنين، قبعت هذه المدرسة ممتدة من الغرب إلى الشرق بين حي "ميمونة" والسكة الحديد، ثم هي من جهة الشمال مطلة على حي "لبلوك"، ومن جهة الشرق يفصلها عن منازل الخفراء شارع هو الذي يفصل حي ميمونة عن حي لبلوك، ويعرف هذا التجمع السكني للخفراء ب"بلوك لمخازنية" أما قبالة المدرسة فخلاء شاسع ممتد إلى طريق "أولاد سعيد ثم إلى الغابة وحي "البطوار". ثم هذه العمارة البيضاء والتي كان يتخذها التلاميذ متكئا لهم ويحتمون بجدرانها من الريح أو المطر أو معرضين أجسامهم الصغيرة للشمس الدافئة في الصباح حين يشتد برد الخريف والشتاء. وإنهم ليتنافسون في ذلك أشد التنافس ويتسابقون إليه حتى يستأثر الواحد منهم بساعة أو بنصف ساعة من دفء هذا المتكأ قبل موعد الدخول إلى الفصول الباردة.
ولعل عمر كان أشد انطباعا بطفولته التي قضى معظمها في هذه المدرسة، والتي استأثرت دون باقي المدارس الإبتدائية بهذا الفضاء الفسيح أمامها، والذي يموج الأخضران فيه وقت الربيع، ويتغير إلى ما خالف ذلك في الفصول الأخرى. وقد أسف الصبي لما غدا عليه حال هذا الفضاء حين أصبح شابا، وحين غمرت المكان هذه البيوت الجديدة، والتي عرفت فيما بعد، وحين توزعت بانتظام، بحي "الإراك" كان كلما أحب أن يسبح في ذكريات الطفولة ويغمس روحه في عطرها العبق المشبع بالسذاجة والحب آثر منها هذه الحقبة التي امتدت خمس سنوات تقع ما بينها إجازات الصيف الطويلة المملة وكان أحب إليه من كان هذا تلك اللحظات التي كان يقتطفها من الصباح، وقبل موعد الحصص، وبعد أن يكون قد تناول فطوره في عجالة وفي غير تحفظ ويخرج في طريقه إلى المدرسة فيجلس فوق تلة أو منحدر يرنو بشغف بالغ إلى قطاع الغنم المنتشرة هنا وهناك، ويقيس ما يشاهده إلى ما يقرأ في كتاب المطالعة، والذي كان يعج بحكايات الغنم والرعاة. وكثيرا ما بكر بالإستيقاظ زاهدا في حلو المنام، مضحيا بوجبة الفطورالتي كانت تقتصر في أغلب الأحيان على الخبز والشاي ليستأثر بهذا الوقت المبكر من الصباح الحالم المشبع بقطرات الطل، ثم يتجه بعد ذلك وجهته الصباحية الإعتيادية إلى المدرسة قبل الموعد بساعة حتى يقف موقف هؤلاء الصبية التلاميذ أو ينعم بثغاء البهائم وركض صغارها وأغنيات رعاتها. ولم يكن المكان حكرا على الرعي والرعاة والبهائم، بل امتد إلى أكثر من هذا بما شهده من أفنان اللعب والمشاجرات الحامية الوطيس التي قد تصل إلى عراكات دامية كثيرة العدد والعدة حينما يحتدم الصراع بين فرق التلاميذ، والتي تتألف عناصرها من الصبية الذين يقطنون نفس الحي أو هم من نفس الفصل، والذين تأخذ الحمية فيها أحدهم على صديقه فيبلو في الدفاع عنه، ثم تتسع رقعة الشجار لأكثر من ذلك بشكل تصاعدي حتى يّتقاذف بالطوب أو تّتبادل اللكمات في شيء من العنف مخيف. وقد سنحت الفرصة لصاحبنا أن يُشرك نفسه في بعض هذه المعارك فنال هو الآخر ما نال من لذة النصر أو خزي الهزيمة. واشتهر بين أترابه بقدرته الفائقة على مختلف فنون الرماية رغم ضعف بصره فكان يصيب المرامي من مسافات بعيدة. على أن هذه المعارك لم تقتصر على الشكل التقابلي لصبية الأحياء أو الفصل الواحد بل تعدته إلى أكثر من اتجاه وأكثر من نحو وسبب، فترى أحدهم يمسك بتلابيب آخر وينزل فيه ضربا لمجرد أنه سرق قلمه أو بالغ في السخرية منه أمام الآخرين بما لا يملك معه أناة ولا يطيق عليه صبرا. ولدى صاحبنا الكثير من هذه المواقف التي غَلبت فيها هزائمه، وإنه ليتذكر القليل منها وينسى الكثير.
ولم يكن يملك القوة على مجابهة صبية حي ميمونة على وجه الخصوص حتى وإن كان أغلب زملائه من الفصل منهم، وحتى وإن كانوا يقدرون فيه اجتهاده وذكاءه ومواظبته. ولقد ظهر لديه أشياع بينهم منعوه الكثير من الخطوب الجسام، بل إنهم تقربوا إليه في تملق كثير تطور إلى احترام وتقدير. إنه ليحاول أن يتذكر في شبه مشقة حال الصبية التلاميذ مع الباعة الذين كانوا يرابطون طيلة النهار أمام المدرسة بعرباتهم التي تكتض بأصناف الحلوى والدقيق المحروق المخلوط ببعض الفواكه الجافة كالكاكاو واللوز، بالإضافة إلى الزيت والسكر الصقيل، وأفخر أصنافه ما يشتهر عند العامة ب "الزميتة" التي تتميز عن الأنواع الأخرى بما يضاف إليها من البقول الثمينة وبما يزيد فيها من الزيت أو الزبدة. ويعلم الله كم كان هؤلاء الباعة يكسبون من وراء التلامذة السذج، حتى أنهم يبتكرون لعبا كلعبة النرود ولعبا أخرى يغلب عليها الحظ، أو لنقل إنها كانت ضروبا من القمار شتى. ويذكر الصبي أن أحدهم -الذي كان يدعى "الشرقي"- كان يملأ أطباقا من القطع النقدية التي يجود الصبية بها مبتاعين أو مقامرين. ولكم كان يتمنى أن يكون أحد هذه الأطباق من نصيبه فلا يضطر إلى استعطاف زملائه كلما ألمت به حاجة. وكان الباعة يغترفون من جيوب الصبية في أوقات ما قبل الحصص وما بعدها وأيضا في استراحتي الصباح والمساء إن سنحت الفرصة بالخروج في غياب الحارس الذي هو الآخر كلف زوجته بالبيع لهؤلاء الصبية مما اقتناه لها من السلع التي كانت في معظمها حب "عباد الشمس" وحلوى وذرة مقلية، لكنه اكتفى بحوش منزله الصغير الذي قبع خلف مكتب المدير مكانا لعرض هذه المبيعات. وقد حرص الأطفال على التردد إلى حوش منزل الحارس وابتياع هذه المعروضات توددا إليه وإلى زوجته. وللصبي ذكريات أخرى داخل المدرسة، ولكم يتمنى الآن لو يعود الزمان ويتوقف بإحدى تلك المحطات ويعاود بعضا منها لكنه لا يملك سوى التذكر.
كان للمدرسة جناحان قبع أحدهما قرب باب الخروج مطلا على السكة الحديد من الجهة الجنوبية أما الآخر فانزوى لصق مكتب المدير في الركن الشمالي للمدرسة وبين الجناحين فسحة من الأرض تتخللها بعض أشجار الصفصاف، والتي طوت بين أفيائها بيت المدير، ثم المراحيض التي توسطت الجناحين شرقا من جهة سور المدرسة المطل على الشارع الفاصل بين حي ميمونة وحي لبلوك، هذا إلى المطعم الذي قبع لصق الإدارة. وللمراحيض والمطعم ذكرى أليمة في نفس صاحبنا، وهو يحاول فيما يذكره عن مدرسة التوحيد أن يتجنب الحديث عن المراحيض لما اختصت به عن دور الخلاء، ثم يتحفظ في سرد بعض الأحداث التي كانت تلم بها من آن لآخر.
لن تبرح خياله هذه الصفوف من التلاميذ المحتشدين أمام المطعم في جلوة وتنافس شديد على احتلال الأماكن المتقدمة منها، ولن ينسى الحارس وهو يجوب بينهم ضربا ولسعا بهذه القطعة المطاطية ذات المفعول السام، والتي تبدو أعراضها في سرعة متلونة بائنة. واقتصر هذا التجمع على وقت الغداء وبعض من استراحة المساء حين يركض الصبية التلاميذ في اتجاه باب الخروج من الغبطة والسرور بهذا السراح المؤقت، أو حين يتجمهرون في ساحة المدرسة فترى منهم هذه الصفوف شاذة عما يكتنفها من هرج ولعب وركض لذيذ. وكان لكل هذا بالغ الأثر في نفس صاحبنا، بل إنه أسهم إسهاما كبيرا في تكوين شخصه. وكان ينظر نظرة تقزز وانتقاص لكل هؤلاء الصبية المتجمهرين رغم ما شابه صفاتهم من صفاته، ورغم أنه كان يضاهيهم فقرا وحرمانا وفي ما ينثابهم من الجوع يدفعهم إلى السعي وراء طيب المأكل وفاسده. غير أن لأكل المطعم رائحة مميزة وطعماً خاصاً ! ولكم حار في معرفة السبب الذي يجعل زملاءه يغترفون من هذه الأطعمة رغم فسادها وفضاعة مذاقها ورائحتها، على أن لهم بيوتًا وآباء يصرفون عليهم ويعتنون بهم ! كان يعلم ما اكتسح هذه البيوت من الفاقة وضيق اليد، فحال الصبية -وهو أحدهم- لا يدل على غنى أو سعة من الرزق.
لن تبرح خياله هذه الوجوه الشاحبة النعسى، والتي لم تكن تهيأ بما يليق بالدراسة حتى وإن لم تكن الدراسة تهيأ بما يليق بأصحابها. ولن يفارق ذكراه هذه الثياب المتسخة التي استحالت عند معظمهم أسمالا من كثرة مداومتهم على ارتدائها، ثم هذه الرؤوس التي اكتظ شعرها بألوان من البراغيث والقمل. وكان لإدارة المدرسة حملات موسمية تشنها على التلاميذ برفقة فريق من الأطباء والممرضين فتحلق الشعور ويدس بهذا المرهم الأصفر في أعين الصبية حتى تكاد لا ترى، وتقطع أظاهرهم الطويلة المتسخة. وأحيانا يرش بمبيذات الحشرات على رؤوسهم حتى لترى مواكب من القمل تساقط من تأثير المبيذ، ثم بعد ذلك يمر هذا الرجل بين الصفوف حاملا أنبوبة من مبيذ حشري آخر، ويضغط على هذا القضيب المعدني لينبعث منها ما ينبعث لنسف ما استوطن في مقاعد الحجرة وأركانها من قلاع البق وأعشاش العناكب. ويمر هذا المشهد الموسمي المثير في فزع وهلع حين يستبد الغضب والإشمئزاز بطاقم الممرضين فينتهرون هذا الصبي المتمرد أو ذاك الخائف المتردد. ولم تكن هذه العقول المشرفة لتتحلى بالصبر والحلم أمام هذا المشهد الفضيع وهذه الأجساد الصغيرة القذرة التي تفوح من أسمالها روائح منكرة. ولعل ما يثير الدهشة أن كانت هذه نهاية السبعينات وبداية الثمانينات، فما بالك بالستينات حين كان الإخوة الكبار في الطور الابتدائي !
ويذكر أيضا هذه المرأة التي كانت تشرف على طبخ ما يطبخ في هذا المطعم بل تشارك فيه. وإنه ليتقزز حين يتهيأها بهذه الإنتفاخة في ذراعها، والتي لم يكن يعي ما هي، ثم هذه الخلقة الذميمة القذرة التي كانت تطالع بها الصبية كلما تراصوا أمام المطبخ … لم يكن كل هذا ليغريه بالإنضمام إلى تلامذة المطعم. وكان فيما مضى قد فكر في اتخاذ هذه البادرة، بل هذه المجازفة، لكنه تراجع. ولعل تراجعه هذا كان سببه ما يعرضه عليه الصبية مما تجود به أيديهم من هذه الأطعمة، والتي زهدتها نفسه ووجل لها قلبه. وكان من بين ما عرض عليه من هذه الأطعمة قطعة خبز بداخلها شيء من الزبدة، ولم يكن الخبر خبزا ولا الزبدة زبدة ! كان قد قبل عرض الصبي وفتح قطعة الخبز تشكيكا قبل أن يدسها في فمه لينظر ما بداخلها فإذا به يلمح فرقا من البراغيت عولجت مع ما عولج من الدقيق والملح والخميرة في فرن المطعم، هذا إلى زبدته ذات الطعم الغريب الذي عافته نفسه، والتي تعرف إليها وصادفها حين تقدم به السن بضع سنين.
وفي هذا الخضم، ووسط رفقته من هؤلاء التلامذة قضى عمر خمس سنوات من المجد الدراسي الذي توجه بنيله الجائزة التقديرية عن أول مجموع في المدرسة للشهادة الإبتدائية. وإنه ليذكر ذلك فيبتسم أو تنثابه نوبة من الضحك.
وإلى هذا الحين كان للشهادة الإبتدائية وزنها وقيمتها التي ستتضعضع فيما بعد، شأنها في ذلك شأن جميع شهادات التعليم العام. وكان الصبي يخشى أن تخيب آماله وتتوج مجهوداته السنوية بالفشل، على غير ما تعوده، فذهب إلى أحد الموظفين بنيابة التعليم، والذي كان يقطن الحي، وسأله عن النتيجة فإذا بهذا الأخير يبشره بما هاله، وإذا بالصبي تنهمر دموعه غزيرة، وإذا بهؤلاء الفتية من حيه يواسونه في شيء من الهزل والضحك. ولم يكن يعلم أن الإيماءات تبودلت من خلفه آنذاك في محاولة لاستفاضة المزيد من دموعه، إلى أن ذهب عشية ذاك اليوم فيمن ذهب من الصبية للاطلاع على صبورة الأرقام وهو موقن يقينا باردا بالنتيجة، يحكي للصبية قصته مع الموظف وهم بين مواس ومتعجب. وكانت فرحة عارمة حين لاح له رقمه في وضعه من الترتيب، وإذا به، وبينما هو في طريقه إلى السوق ذات مرة لاقتناء ما وُكل إليه اقتناؤه، يبشره هذا المعلم الذي لن يفتأ يتذكر وجهه في حنين، والذي كان يبحث عنه لإبلاغه بأنه أحرز أول مجموع على صعيد المدرسة، وبأنه سيستلم جائزة تقديرية من بين ستة متفوقين آخرين أحرزوا في مدارسهم مثلما أحرز أو يزيد أو ينقص. وللمرة الأولى في حياته يتصل بهذا العالم الذي طالما تطلع إليه في تبجيل واحترام.
وحان موعد الذهاب إلى قاعة "الأفراح" حيث ستوزع الجوائز وإذا بأم الصبي تأخذ بيده إلى حيث سينتابها الكثير من الفخر بابنها، وإذا باحدهم ينادي على الصبي باسمه أمام حشد من الحضور كان من بينهم عامل الإقليم آنذاك وهيئة من رجال السلطة والتعليم وأصحاب الرساميل ممن لهم ثقل إقتصادي على مستوى المدينة. وقام الصبي متعثرا يكاد الدم يطفح من وجهه من شدة ما دهمه من الخجل والتوتر، وهمهمت أمه في أذنه ببضع كلمات زادته خجلا إلى خجله وتوترا إلى توتره، لكن هذا الفخر الذي يملأه وهذا التصفيق الحاد لن يفتآ يغمرانه بشيء من الشجاعة فيقوم رافلا في ثيابه الجديدة -التي اقتُنيت خصيصا لهذه المناسبة- ويتسلم الجائزة بعد أن يقبِّل هذا الوجه المكتنز الذي يفوح منه عرف طيب ساحر، والذي عرف فيما بعد أنه أحد نواب البرلمان المحليين.
وإنه ليستحضر بعضا من أمجاد الدراسة في طفولته فتنتابه الحسرة والفرق عليها وعلى ما غاب معها من سذاجة الطفولة وبراءتها وصفائها. لم يكن يعلم آنذاك، وهو يتمنى أن يصير شابا، أن هذا الشاب سوف يشقى بشبابه وأنه سيتمنى من جهته لو يعود كما كان يجوب هذه المدرسة ويركض في جنباتها فتتراءى له فضاءا لا متناهيا، أو كأنها عالم بأكمله. لقد زارها حين كبر، وطاف ببعض حجراتها التي شهدت خمس سنين من الإجتهاد والعذاب والذكريات التي لن تغيب عن باله ما عاش وما طاف هذه الأرض. ورق قلبه بما اعتراه من الحنين إلى هذا المكان، ثم سرح نظره بين أشجار الصفصاف التي أينعت وانحنت أغصانها تزرع أفناءها في جنبات الساحة. وكان قد شهد غرس هذه الأشجار وهي لا زالت مشاتل صغيرة لم تبلغ قامة أحد من الصبية، كما عاصر تلك الشجيرات التي قبعت خلف الجناح الأول، والتي كانت آنذاك غضة يتفيأ الصبية بظلالها كلما خرجوا إلى الفسحة. ولهذا المكان أيضا ذكرى طيبة في نفس الصبي بما كان يكتنفه من ألعاب بهلوانية يقوم بها هذا التلميذ أو ذاك مثيرا دهشة الآخرين بمرونته وخفة حركته.
وانقضت هذه السنوات، ولم تترك في نفسه إلا هذه الحصيلة من الإنطباعات والذكريات الحالمة التي لا يزال شذاها يذكي نار الشوق ولهفة الحنين في قلبه بين الفينة والأخرى، أو كلما انقطع حبل السعادة بالحاضر، أو كلما تطلع إلى الماضي بعين مشوقة آملة حين كان الفرح والحزن لكل لذته بينا يتمازجان أو بينا يكون الحزن شطرا من الفرح لا يمكن فصله عنه. فأحزان الطفولة أفراح الصبا وأحزان الصبا أفراح الشباب…وهكذا إلى أن ينقضي العمر عصيرا من هذه الإزدواجية
العجيبة التي لا تقتصر على الفرح والحزن بل على جميع النقائض. ومن منا لا يأمل أن يعود طفلا يفعل ما يحلو له بعيدا عن القيود ؟ ومن منا ليس بداخله طفل يراجعه كلما خلا إلى نفسه وأحب أن يتحرر من هذه القيود فيقوم إلى إحدى اللعب ويتأملها ويداعبها بعين وأنامل طفولته أو يضحك كما كان في طفولته بوجه ملؤه السعادة وقلب صغير ملؤه الشفافية ؟ ولا شك أن هذه المرحلة من حياة الإنسان هي التي تجسد قوته الحقيقية البعيدة عن موازين المادية، ولا شك أيضا في أن الإحساس بالزمن في هذه المرحلة يكون أقل منه في المراحل الأخرى بل شبه منعدم، إذ تدور الأرض منذ ملايين السنين وهو -أي الطفل- لا يعبأ بليلها أو بنهارها، فالليل والنهار عند كيف واحد له اتصال دائم بزمان آخر في نظام آخر أو بناموس لا وجود للزمن فيه أو بحياة مثلى إسمها السعادة المطلقة. والطفولة أخصب المراحل بكل ما تطبعه الرقة والعذوبة، ورويدا تختفي هذه الأشياء ويحجبها غبار الواقع فتصبح القيم صعبة المنال في حين كانت في متناولنا صغارا، وكان من اليسير أن نحتفظ بها كبارا. وإنك لترى الأديب أو الفنان، حين يبدأ في صياغة الإبداع، يعتصر ذاكرته بحثا عن هذه المّذخرات، وتلمحه يجد مشقة في ذلك كأنه امرأة تتمخض أو كأنه مجس يحفر في طبقات الأرض بحثا عن معدن نفيس، وعندها يصطنع لنفسه عالما بعيدا عن عالمه كي يتسنى له التعبير عن حاجتنا إلى كل ما هو جميل وضائع في غيابات الذاكرة وعلى أرض الواقع. وما أبعد الأشياء المصطنعة عن الواقع وما أكثرها توقا إلى الحقيقة…الحقيقة المطلقة السامية…
إنه لا يكاد يستثني من هذه الذكريات يوما واحدا فيميزه، ويتراءى له كل شيء حلوا لذيذا لا يعادله في حلاوته ولذته حاضره المشحون بالصراع والتعقل. إنه ليتوق حتى إلى عذابه بينما هو يتلقى زجرة من هذا المعلم أو عقوبة من ذاك، أو حينما يستأثر ببعض اللسعات من قطعة المطاط التي كان الحارس يلوح بها بعشوائية ودون انتباه إلى ما يمكن أن ينال منها هذا الصبي أو ذاك. كان طفلا شقيا، لكن اجتهاده وذكاءه كانا يشفعان له عند معلميه...ولعلهم أحبوه بقدر ما عاقبوه وزجروه، ذلك أنهم كانوا يستعينون بنباهته وقدرته على الإجابة السريعة السديدة فيما يتنافسون فيه من الدروس النموذجية أو عندما يحضر مفتش العربية أو الفرنسية أو الحساب. واقترن ذكاؤه هذا بثورته وتمرده وقدرته على إثارة ضحك معلميه كلما سنحت الفرصة بذلك، وكلما لمس منهم تساهلا وميلا إلى الضحك.
وأعجب ما في هذه المرحلة أنه وقع بحب عدة من زميلاته، ولعل هذه الطفلة التي كان اسمها عفاف كانت أوفرهن حظا في قلبه الصغير. وإنه لا يدري للتو هل كان شعوره نحوها آنذاك ناضجا أو مجرد تعلق طفل بطفلة وحسب، لكنه لا يشك في نبله وصفاء الطفولة الذي كان يغمره بأحلام حلوة شفافة يفتقدها الكبار. وربما تخيب النظريات النفسية في سبر أغوار هذه التجربة حين يعلم أصحابها أن الصبي وهو ابن التاسعة و العاشرة كان طفلا كبيرا لا يفرَّق بين كلامه وكلام الكبار كما عرف عنه لدى أسرته ولدى كل من عرفه، ثم أنه أحب الطفلة حبا صادقا لا تشوبه شائبة.
قُرع باب الفصل ذات صباح، وكانت السنة الدراسية في أوائلها، ودخلت إحدى المعلمات تمسك بيدها طفلة نحيفة رقيقة الملامح قيل إنها ابنة أختها وأنها أُلحقت بالمدرسة حتى تكون قريبة من خالتها المعلمة بل مراقَبة من طرفها. ولقد جمع الله في وجه هذه الفتاة وجسمها النحيل من آيات حسنه ما لفت نظر الصبي إليها منذ أول وهلة. وزاد إعجابه بها هذا الفستان الذي يغطي جسمها في انسياب كبير، هذا إلى لونه الأخضر الباهت المرقط بنقاط بيضاء. وبدت الفتاة حالة شاذة وسط البضعة والأربعين تلميذا التي تملأ الفصل بما استأثرت به عنهم من النظافة والرقة والجمال. ولكم كان حظه وافرا حين أجلستها معلمة الفرنسية والحساب في نفس المقعد الأمامي الذي كان يجلس عليه. وتطلع إليها فيما يشبه الذهول وتصبب عرقا من الخجل الذي دهمه، فقد لفت انتباهه هذا الهدوء و أربكته هذه الملامح الرقيقة الرائعة التي احمرت في شيء من الخجل الذي ينتاب التلاميذ الجدد. ولم يكن عمر المسترق الوحيد لهذه النظرات، بل كان الفصل كله منشغلا بهذه الفتاة التي حتما ستغير من جو الفصل، بل إنها غيرت منذ اللحظة الأولى لدخولها، خصوصا في نفس هذا الصبي. ومن تم كانت له نظرة خاصة وتعلق خاص. ويتذكر فيما يتذكر عن هذه الطفلة الحسناء أنها كانت على قلبه الصغير أشبه بنسيم رقيق يعبر حداه فيدغده ويسكب عليه رعشة حلوة ودفئا يكاد يستحيل نارا متأججة … وما أعجز الكلمات عن وصف مثل هذه الأحاسيس الذفاقة بدقة، فكل ما نملكه حين نتعامل مع الأغراض المجردة هو أن نستعير بعض ألفاظ متداولة نقرب بها الفهم إلى المعنى المجرد الذي لا يمكن إدراكه حقيقة إلا عن طريق القلب، هذا العضو الذي يصلنا بكل ما هو بعيد وصعب المنال.
ومرت الأيام سراعا، وتتالت الحصص وتعودت الطفلة زملاءها وزميلاتها رويدا، واستحال ذاك الخجل انسجاما يشوبه بعض المزاح والكثير من الضحك والمؤانسة. وما كان أحلى ضحكات الطفولة وما كان أبرأها وأصفاها حين تنبعث من القلب إلى القلب وتسكب في الشفاه الصغيرة أصواتا رقيقة وادعة. ولكم ضحك الصبي حين تعرف إلى صديقته وزميلته الجديدة، وكم استأثر من الجلوس إليها والتحدث بساعات طوال حين كان يملك الضجر أحد المعلمين فيقتطع من حصته بعضها أو جلها ليثرثر مع زميل له أو زميلة شعرت بمثل ما شعر به فخرجوا في طلب ما طَلب من الثرثرة والإنفراج. واكتشف فيما بعد أن الطفلة عفاف تقطن حي الشيخ غير بعيدة عن منزله، ثم رآها أحايين كثيرة تأتي إلى الفرن الذي قبع لصق البيت حاملة إليه هذه الأرغفة النيئة أو ذاهبة منه بتلك الناضجة. وربما مشى إلى جانبها بعض خطوات يتضاحكان في ثرثرة خفيفة لا معنى لها، أو في استعادة بعض من أحداث الفصل في الصباح أو في المساء.
وتوالت شهور من هذا الجو اللطيف المفعم بالحب والصداقة البريئة، وبدا للجميع من صبية ومدرسين مدى هذا الإنسجام وهذه الألفة التي جمعتها، هذا إلى أنهما تفوقا معا في جميع المواد خصوصا منها الفرنسية، ولطالما سردا معا، وعلى مسمع من المدرسة، حوارات من مقرر الفرنسية، وطالما حضر هذه الحوارات حشد من المدرسين فأعجبوا بهما أيما إعجاب.
وكانت كل هذه المؤشرات بمثابة حوافز لإذكاء شعاليل الحب في فؤاده الصغير، والتي آثرت الطفلة الجديدة على بقية زميلاتها...وكيف لا... وبدت أعراض هذا الحب واضحة جليه فيما كان ينثابه من الغيرة عليها والرغبة في الإستئثار بها لوحده فيتضايق حين تجلس إلى جانب صبي من زملائه أو حين تضاحك أحدا غيره متجاهلة إياه في قسوة، ثم يركز انتباهه في طفلته التي تجلس متأخرة عن مقعده أو متقدمة إياه، حتى أنه ليُسأل عن معنى هذه المفردة من المفردات التي وردت في نص من النصوص، أو يُطلب إليه أن يقوم إلى الصبورة فلا يستجيب من فرط انشغاله عن الدرس بهذه الطفلة الحبيبة التي ملأت عليه ليله ونهاره وأحلامه النائمة واليقظة، وربما استأثر من مدرسه بوجبة ساخنة من الضرب جزاء إهماله وشروده. وربما كانت أول شرارة لهذا الحب هذه اللحظة من صباح اليوم التالي لانضمام الطفلة إلى الفصل، والتي عادت فيها من الفسحة تبكي في هدوء يشوبه الخجل تألما من هذه اللسعة المطاطية التي حيت بها يد الحارس مقدمها. ولم تكن الطفلة لتحتمل كما يحتمل غيرها من الصبية، فأشفق المسكين لحالها وتمنى لو يستطيع أن ينال رقبة هذا الحارس الفظ البغيض … ثم كانت البداية …
ولعله حكى لأصدقائه من صبية الحي عن طفلته الجميلة وشكى إليهم هذه الحمى التي تنثابه من فرط حبها وتملأ عليه أحلام النوم واليقظة فاتخذوه هزؤا، وأصروا على التنكيل به والجهر باسمه عاليا كلما مرت الطفلة عن كتب منهم متجهة إلى بيت حبها أو عائدة منه. وربما انفك عن مجمعهم وهرع إلى شجرة أو جدار حتى لا تلمحه عين حبيبته الصغيرة وهو في موقفه هذا فترى حمرة الخجل في محياه ثم تدرك أنه يحبها فتفعل به الأفاعيل...و ألف هذا العذاب فترقب مرورها و انتظر رؤيتها في كل حين و استعرض أمامها بعض مهاراته في اللعب وهي تسير سير الأميرات اللواتي ينظر إليهن الجميع و لا ينظرن إلى أحد كبرا و دلالا.
وهاهي السنة تأفل في بريق خاطف وتخلف وراءها ذكريات صاخبة وحنينا جازما وقلبا كسيرا ملفوعا بنار الحسرة والشجن الحالم المتأمل. ما كان أقسى على شفافية قلبه الصغير ونبل مشاعره هذا الفراق الذي سيطول أكثر مما قدر -مقتصرا على إجازة الصيف - والذي سيمتد سنتين كاملتين حين يعلم أن الطفلة أحالها أهلها على مدرسة يوسف ابن تاشفين. وما أبعد هذه المدرسة عن مجال تجواله وسيره وهو طفل صغير محضور عليه أن يغادر الحي أو يجاوز مداه إلى ما عداه. وتمنى في بداية السنة الجديدة أن تطلع على الفصل مثل طلعتها عليه ذاك الصباح من السنة الآنفة، لكن الأيام تعقب الأيام والشهور تمتد إلى تسعة أخرى من السنة التالية ولا تطلع الطفلة ولا يبدو لها أثر غير مرات قلائل حين تمر كالعادة إلى بيت جدها أو خالتها في ذلك الزقاق الذي يلي شارع علال ابن عبد الله شرقا بالموازاة معه. ولشد ما تاق إلى تلك الجلسات التي تبودلت فيها الكثير من الحكايات والنكات البريئة ورددت فيها الكثير من الأغنيات والأناشيد. ويتذكر من هذه الحكايا تلك التي حضنها جو الشتاء في المقعد الأمامي للفصل، والتي كانت تحكي فيها الطفلة الحلوة عن قصتها مع الحمام الذي أحضره والدها إلى منزلهم فعشش وباض وفرخ. ولا يذكر من هذه الأغنيات سوى أغنيتها المفضلة، والتي طالما رددها جهاز الراديو في الفترات الصباحية (حين كان للغناء وقع السحر في النفوس الصغيرة النعسانة التي تستيقظ على إثرها سريعة نشطة)… "قهوجي هات لقهيوة" …
وتمر السنتان وأبى الحظ إلا أن يجمع بينهما هذه المرة في فصل واحد لسنوات ثلاث متوالية من أربع قضاهن في إعدادية مولاي إسماعيل. ولهذا اللقاء الطويل ذكرياته هو الآخر، لكنها لا تعدل ذكرياته في مدرسة التوحيد في شيء، ذلك أن البعد أزاح الكثير من سمات هذا التعلق، وطمس الكثير من معالمه، إلا أن كليهما يصر على النظرة الخاصة إلى الطرف الآخر ويكاد يشغل به. واكتشف أنه لم ينسها قط لكن كان يتناساها.
ويذكر أيضا هاتين السنتين الأخيرتين من تعليمه الإبتدائي، واللتان شهدتا أكثر سني حياته الدراسية مجدا وشهرة وعطاء، وامتد بريق هذا المجد وهذه الشهرة وهذا العطاء إلى حيه، وتناهت إلى الناس فيه أخباره فكنوا للصبي ما يشبه التقدير وما يبلغ الإحترام. ولعل ابنة خالته الصغرى، والتي كانت تضاهيه سنا، كانت البديل عن طفلته عفاف التي طوحها الفراق والمسافة وأمست ذكرى وحسب. ولعل تعاطفها معه كابنة خالة غطى الكثير من ملامح تعلقه بطفلته القديمة التي لم تعد آنذاك سوى هذه الطفلة من هذا الحي الذي يقطنه، والتي أصبحت بالنسبة إليه صورة وبلا استثنائية أو خصوصية. وابنة خالته هذه كانت به أشد تعلقا من طفلته تلك، ولولا هذا التنافس الذي حتمته الظروف وفرضته أسرتا الطفلين لكانت نظرته إليها أبعد مدى وأقوى عاطفة، ولكان سكب فيها بقية من ذاك الحب الآفل، ولكان أحبها حبه لطفلته عفاف. لكن الأمر لم يعدُ أن يكون مجرد إحساس بالقرابة وعروة الدم المركونة في أعماقه، والتي ستنفك فيما بعد حين يشتد الخلاف بين الأم وأختها، وحين ترحل أسرة خالته حليمة إلى الدار البيضاء فينساها من بين من نسي من هذه الأسرة.
وغربت شمس هذه المدرسة وأفلت سنونها. وإنه ليذكرها فيكاد يبكي أو يكاد يهجم على هذه البيوت التي حجبتها عنه وينزل فيها هدما ليطالع مدرسته القديمة كما كان يراها كلما عبر السكة الحديد إلى ذاك الفضاء الفسيح الممتد أمامها بتلاته وأحجاره والقطاع الرابضة فيه مستريحة أو متفيئة…لكم يتمنى لو يسافر عبر الزمان ويقف بهذه المحطة الصغيرة من حياته، ثم يدخل أحد هاتيك الفصول بعد أن يرن الجرس، والتي شهدت ألوانا من الضحك والمشاحنات والمعاناة، ثم يجلس على مقعده ذاك بين أترابه الذين كبروا وتفرقوا، ثم يستمع إلى هذا المدرس يلقي درسا في المحادثة، أو ذاك يلقن التلامذة أناشيد المدرسة … وما كان أروع أناشيد المدرسة وأبعدها صدى في ذاكرته وقلبه ! وأشد ما يثير البهجة في نفسه، بل ويثير ضحكه، ذاك الحشد الهائل من التلاميذ، والذين اكتظوا داخل الفصل برفقة بعض المعلمين وهم يرددون أدوار الكورال في "زهرة المدائن"، وهذي الطفلة السمراء التي تجول بين الصفوف متثاقلة في خطوها تتمثل فيروز، ثم هذي الأقدام التي خصصت لتضرب الأرض مصاحبة بوقعها ذاك المقطع الثائر من الأغنية، والذي طالما رددناه صغارا ولا زلنا نردده … "الغضب الساطع آت" … ولقد لقيت هذه البادرة الكثير من القبول والترحيب لدى إدارة المدرسة، والتي تفرغت للمناسبة -وكانت مناسبة وطنية- بكل ثقلها فشكلت لجان وألفت فرق كورس وأخرى لعرض مسرحيات أو استكتشات. واستأثرت في نفس الصبي بحبه هذه الأناشيد التي كانت ترددها فرقة كورس تتألف من جميع تلاميذ الفصل، والذين يضاهون في تعدادهم الخمسين، يرددون نشيدا من الأناشيد التي أنتجتها الإذاعة عن الأم أو المعلم وفضله على التلميذ في انسجام كبير يأخذ بالألباب ويرقق القلوب ويملؤها صفاء، ثم يسبح بالنفوس الصغيرة المتعبة في عالم كله حب وسعادة. وكم كان المعلم يبدو رقيقا- على غير عادته- بل ومضحكا حين يتخذ لنفسه هذا الموضع من مقدمة الفصل أمام المقاعد مسيرا هذا الكورال الضخم كأنه قائد أوركسترا. ولو كان الصبي آنذاك على مثل ما هو عليه الآن- وهو شاب مشرف على الكهولة-من رهافة الحس الفني لكان أنكر تلك الأصوات النشاز ولاستأصلها استئصالا وهي متخفية متوارية بين الأصوات الكثيرة المرددة، لكن حلاوة الطفولة في سذاجتها وأخطائها البريئة.
على أن المدارس على العموم كانت تشهد في الأعياد الوطنية نظير ما كانت تشهده مدرسة التوحيد من تفرغ تام للمناسبة تلوح بشائره للتلاميذ قبل نصف شهر أو يزيد حين تعم جلبة أشبه بالفوضى -وما أحب الفوضى إلى قلوب الصغار- وتخصص ساعات طوال -إن لم نقل جميع الحصص- للقيام بالتداريب اللازمة لتشخيص بعض الأفكار التي جادت بها قرائح المدرسين عن المناسبة، والتي تتضارب فيما بينها تضاربا ليس له نضير إلا في المناسبات الوطنية الأخرى.
وفي ليلة العيد الوطني تشد الرحال إلى الملحقة "فاطمة أم البنين" حيث خصصت قاعة لمشاهدة عروض المدارس، والأطفال في ذلك لهم في أشد تنافس، فاتخذوا لفرقهم نصراء من زملائهم، والذين اكتظت القاعة بهم وسُمع لهم فيها ما يشبه هدير الموج العارم. وتمر دقائق معدودات يكون الكل فيها قد أخذ مكانه ويكون بعض الهدوء والصمت قد خيما على القاعة على إثر هؤلاء المؤطرين الذين أُحضروا خصيصا للحد من بلبلة الصغار. ثم يعلن عن افتتاح الحفل فيجلس ذاك الصبي على كرسي وأمامه ما يكرفون ثم يؤمر فيقوم بترتيل بعض من الذكر الحكيم، ويمتلك الصغار هذا الهدوء الذي يشوبه الملل وكأن على رؤوسهم الطير. ثم تنتهي هذه الإفتتاحية فتصعد إلى المنصة هذه الفرق المدرسية تباعا تغمرها أمواج من التصفيق الحاد وصراخ الصغار الذين لم يتمالكوا أنفسهم من فرط ما اعتراهم من الفخر بزملائهم الذين جاؤوا ليمثلوا مدرستهم.
ويكاد يبكي حين يتمثل هذا الصبي الجالس في مقعد ما من تلك المقاعد الخشبية يسمع إلى معلمه وهو يتلو على التلاميذ هذه القطعة من كتاب المطالعة متنطعا، يحرص في ذلك أشد الحرس على مخارج الحروف وعلى قواعد النحو، ثم يشير، بعد انتهائه من القراءة، إلى أحد الصبية أن اقرأ. وإن التلميذ في ذلك لفي حرج شديد وخوف من أن يزل لسانه بنطق غير سليم أو شكل خاطئ أو يتجاوز سطرا إلى ما تلاه دون قراءته فترتفع يد المعلم بضربة أو ينوب لسانه بتوبيخ. وكانت حصة القراءة أحب إلى الصبي وأخف على نباهته وقلبه بما تثير حكاياها ومواقفها الإنسانية في نفسه من الشجن الكثير والضحك القليل أحيانا. فهذه "بائعة الكبريت" في ثيابها الخلقة تتضوع من شدة البرد والجوع باحثة عن طعام يسد جوعتها ويدفئ جسمها، وهاهي تقف عن كثب من أحد المطاعم وترنو من وراء زجاج نوافذها إلى تلك الأطباق الشهية وتلك البطون الممتلئة بالطعام والتي أصبحت في غنى عن فضلات الصحون، وتستشعر بقلبها الصغير الدفء الذي يغمر الناس في الداخل وتتوق إليه … ما كان أحوجها لكل ذلك في ليلة باردة ماطرة كتلك … ويأبى الكاتب إلا أن يشبع القلوب الصغيرة والخيالات الفياضة ويملأها حسرة على البائعة الصغيرة المسكينة فيكتب لها أن تموت في هذه الليلة التي كانت ليلة عيد بعد أن استنفذت جميع أعواد الثقاب في الإستنارة والإستدفاء، وبعد أن سُرق منها شبشبها أو تخطَّفه الصبية في أحد مواكب الأعراس التي مشت متعقبة إياها تستجدي الفرحة الضائعة والدفء المفقود في صقيع الليالي… وتنقضي بهذه النهاية المأساوية كل دواعي السرور لدى الأطفال وتغرورق الأعين بالدموع وتفيض أحيانا… أو حكاية هؤلاء الصغار مع "أبي الثلج" وهذا الثلج الحالم الناصع البياض، والممتد إلى قمم الجبال في أفق الصورة التي رسمت على مقدمة الصفحة في براعة متناهية وخلفية ذكية، والصغار خرجوا على إثر تساقط الثلج يتلاعبون به ويتراشقون ويصنعون منه تمثال أبي الثلج ويضعون على رأسه قلنسوة ويحيطون رقبته بشال صوفي حماية له من البرد القارس… ثم يركضون ويتلاعبون ويتضاحكون إلى أن تسقط أحد قبضات الثلج على رأسه وتطوحه … أو قصة "أبو غفلة والعالم العلامة" … أو "هجرة الطيور" …
كانت هذه القصص برسومها العذبة تسرح بخيال الصبية في فضاءات تلك الرسوم فيتجاوزون حدودها إلى العوالم الساحرة القابعة خلف آفاقها والمكتظة ببشر ليسوا كالبشر وبيوت ليست كالبيوت وطيور ليست كالطيور. وأشد ما كان يثير ملكة الخيال في نفوس الصبية هذا الإتفاق الغريب بين الجو الخارجي وجو الأقصوصة: "فهجرة الطيور" تُتلى في هذا اليوم من أيام الخريف، وأبو الثلج " في هذا اليوم من أيام الشتاء، والمعلم بين هذا وذاك يختال بين الصفوف بخطى خفيفة لا وقع لها، يثري خيال الصبية التلاميذ بإضافات أو حكايات أخرى حالمات تشده لها العيون وتتلذذ بها النفوس، وتترقب العقول الصغيرة نهايتها حتى وإن كانت تستزيد من الأحداث والخيال، حتى إذا بلغ المعلم مبلغه من كلامه الحلو أشار إلى أحدهم أن تابع القراءة …
ولعل هذه الفترة من التعليم الإبتدائي في حياة الصبي كانت آخر عهد له بتلك العوالم الساحرة الفياضة بالجمال والحب، فقد كان عقله ينضج بسرعة بقدر ما كان ينمحي في خياله من هاتيك الصور الرائعة التي أسهمت إسهاما كبيرا في توازنه النفسي النسبي، وإلا فكان عليه أن يصاب بإرهاق فكري مبكر يُتَوِّجه بالجنون...
كان يجد في الدراسة متنفسا عما كان يملأ البيت آنذاك من مشاحنات، وأيضا عن ألوان الضرب والتجريح التي كانت تجود بها أمه عليه بمبرر وبدون مبرر، حتى أنه كان يخرج إلى المدرسة باكيا ويتحاشى أن يلمحه أصدقاؤه في صورته تلك فيمسح دموعه في مشقة أو ينزوي في ركن ما حتى يأخذ كفايته من البكاء، ثم يحاول نسيان ما بدر من أمه اتجاهه، متكلفا في هذا وذاك أشد تكلف مبالغا في كظم غيضه وكف دموعه التي تنهمر سراعا رغما عنه, إلى أن يصل إلى باب السكة الحديد ويلتقي بعض زملائه فينذمج في التحدث إليهم متناسيا أشجانه وقسوة أمه عليه. وربما وعى باكرا بضرورة نسيان الشجون أو تناسيها على الأحرى… وأدرك مدى أهمية الخروج إلى الشارع ومخالطة الناس وصهر همومه في همومهم. فهو على كرهه لقسوة معلميه وجد عندهم مهربا من واقع البيت، فعلى الأقل هو لن يعاقَب في المدرسة إلا لتهاون أو شغب حتى وإن كانت أغلب العقوبات لا تتناسب مع مدى تهاونه أو شغبه، أما في البيت فأمه تعامله بما يجعله يحس بافتقاده لها ولحنانها خاصة حين يرى أما تلاطف ابنها أو تحضنه، لكنه لن ينفك يحبها أكثر من أي شيء في هذا العالم. هو لا يدرك طعم احتضان الأم لكنه يدرك ضرورة وجودها وأنها لا تعوض، ويدرك أيضا أن فاقد الشيء لا يعطيه: فأمه لم يكن في وسعها أن تعذق عليه حنانا ليس في متناولها خصوصا وأنها هي أيضا لم تذق طعم الحنان مذ توفيت أمها وتركتها في كنف أب متجبر جلف كأبيها السيد عبد السلام فاغترفت من قسوته طفلة بعدُ لم تزل. لكنه بين الفينة والأخرى كان يعشق الخلود إلى الراحة وأن يبقى متمددا في مضجعه صباحا أو عشية خصوصا في فصل الشتاء حين تكون أمه أقل قسوة وأكثر ميلا إلى الحلم واللين، وحين تُرشف أكواب الشاي أو القهوة على إيقاع قطرات المطر المساقطة في جو من الدفء النفسي، وتُتبادل الأحاديث في رتابة حلوة وشجن لذيذ. ويختص من تلك الجلسات أيام الإجازة لدى أبيه والتي كانت متناوبة مع أيام عمله. ولكم حاول اختلاس صباح أو عشية من أيام الدراسة فيتلحف غطاءه ويرقد في فراشه متعللا بالمرض. لكن أخاه الأكبر سمير لم يكن لتنطلي عليه تلك الحيل فيسرق منه منامته الحلوة ويزجره ثم يذهب به إلى المدرسة ويستأذن معلمه في إدخاله إلى الفصل على مضض منه. وما كان أحلى أيام الشتاء تحت الأغطية الدافئة وقطرات مطرها المساقطة في فناء المنزل غير المسقوف آنذاك، وحين كان يصعب على الأبناء اجتياز الفناء من غرفة إلى أخرى …وما كان أحلى الشمس الدافئة حين تعكس نورها على جدران المنزل المبللة فتحيلها براقة وتغمر الفرد بالدفء وتوحي إليه بالحنان المفتقد، وتحمله بشعاعاتها إلى العوالم الساحرة التي توارت خلف السحاب طيلة فترة انهمار المطر …كان الشتاء أحب الفصول إليه وكان يحس شيئا في أعماقه يشده إلى جوه الحالم الحزين العامر بقصص الحب الشجية حلوة المذاق. وبين الفينة والأخرى كان يصرف نظره إلى خارج الفصل حين يكون جالسا بأحد المقاعد التي توجد قرب النوافذ أو لصقها فيتأمل السماء المتلبذة بالغيوم ويستغور الأفق فيرى عوالم أخرى لم يكن ليراها في غير هذا الجو، ثم يشدَه ببصره عن غير قصد متأملا الوجوه الصغيرة التي تملأ جنبات الفصل ويتأمل وجه المعلم أيضا، ويغترف من تقاسيم الوجوه وينسج منها أحداثا وحكايات تظل عالقة بمخيلته لتتحول فيما بعد من دائرة اللاشعور إلى دائرة الشعور كلما هل الشتاء ونفض عنها غبار النسيان. ولا زالت بعض هاتيك الصور تطالعه كلما توافرت أسباب التذكر فيتمنى لو لم تنقض سني الطفولة سراعا كساعات الفرح. ويتمنى أيضا لو يستطيع أن يجتمع بزملائه التلاميذ من جديد ويحادثهم ويستمع إلى نكاتهم وطرفهم، ويركض بينهم في جنبات المدرسة في ذاك الفضاء الواسع الممتد من خلف سورها إلى طريق "أولاد سعيد" ثم إلى الغابة. لم يكن بوسعه آنذاك أن يرتاء الغابة ويلامس أشجارها التي كانت تلوح صغيرة من نوافذ الفصول، والتي قدر في خياله أن تكون ضخمة عملاقة حين يراها عن كتب، لكنه سيتردد إلى الغابة حين يكبر بضع سنين، وحين يذهب إليها برفقة أصدقائه من الحي ركضا، ثم يركضوا عبرها إلى الضياع المجاورة فيسرقوا من تينها بعد التمارين الرياضية.
وكان لهذه الخرجات التدربية -أو اللصوصية على الأحرى- أدوار توزع حسب الكفاءات وتبعات تلقى عل الكواهل قبل الإنطلاقة الأولى ومرورا بالجهة الغربية للغابة أو ببساتين وادي "ابن موسى" لذا كان يتعين عليهم استخدام العقول قبل الأقدام أو هذه بموازاة مع تلك حتى لا يقع أحدهم في أياد غير رحيمة تعبث به وتنكل، وهي في عبثها أو تنكيلها عادلة أو غير عادلة، محقة أو غير محقة، متطرفة أو معتدلة، فيمكن مثلا أن يقع أحدهم في قبضة أحد حراس البساتين أو أصحابها فيستبد به لمجرد أنه ضبطه يسرق تينا أو عنبا، وربما كلف كلابه بالمهمة نيابة عنه فيكون الأمر أشد استبدادا وقهرا. وقبل البدء بتنفيذ مشروع الخرجة المتعدد الأبعاد والمضامين يُجعل على رأسهم قائد يكون أعلمهم بفنون السرقة و بجغرافيا الغابة والبساتين ويكون أيضا أطولهم نفسا في الركض، ويكون بالتالي أوفرهم حظا في المسروقات، لكنه لا يكون بالقطع أوفرهم حظا في عدم الوقوع تحت رحمة الحراس أو الكلاب أو أصحاب العرسات.
وخرجات أخرى كان يقوم بها الفتية هي أشبه بالرحلات الإستكشافية، ولعل أمتعها رحلات البحث عن الحلزون في ثنايا الغابة وفي الصباح الباكر حين يحلو لهذا الرخوي أن يتجول بين الأعشاب المبللة بندى الصباح أو أن يتسلق أشجار الصفصاف مخلفا بصماته الزلالية. وكان الفتية يتنافسون في جمع أكبر قدر ممكن منه، كما يتنافسون في جميع الحلزونات ذات القواقع الكبيرة المتينة، والتي يتبارون بالتدافع بها كلا ممسكا بقوقعته لينظروا أي القواقع تصمد أطول مدة ممكنة أو لا تنكسر. وأدرك صاحبنا مذ بدأ ينال "شرف" الخروج في هذه العصابات من الحي أن رفاقه يفوقونه تجربة وجرأة ودراية، وأدرك أيضا أنه ينقصهم حرية وثقة بالنفس آنذاك، إلى أن بحث في موضوع الحرية هذا فقال أن رب ضارة نافعة وأن الكثير من هذه السلوكات كانت من قبيل التربية الفاسدة، وأنه ليس بالضرورة أن يكون الفرد مغامرا أو متهورا كي يكون واثقا بنفسه.
بيد أن حصيلة التجارب طموحة وطماعة وتسعد بالمزيد سعادتها بإثارة هذا المزيد، ذلك أن الجديد همها ودودتها التي لا تسكن لحظة واحدة. لذا فالجديد ممتع حتى وإن كان فاسدا أحيانا…
فاحذر أن يفسدك الفاسد الجديد …
ويعود لينفض الغبار عما علق بالذاكرة عن مدرسة التوحيد الحبيبة، ثم يحفز ما استطاع تحفيزه من ذكريات هناك، ركنت في إحدى خلايا قشرته الرمادية أو بعضها، والتي أمست جزءا من شخصه لا يتجزأ … تتجلى أمامه الآن إحدى الصور المثيرة التي تحفظ للمدرسة هيبتها واستثنائيتها وخصوصيتها، ذلك أن المعلمين تعودوا أن يحملوا معهم في بعض العشيات بعض الأطعمة والحلويات وأباريق الشاي أو القهوة، ثم تؤكل هذه الأطعمة وتحتسى هذه الأشربة في أحد الفصول. ومما يثير الدهشة والضحك معا أن كان التلاميذ يؤمرون بوضع جباههم على المقاعد وإغماض أعينهم بينما المعلم بمعية زملائه منغمسون في مراسيم المأدبة، والويل لمن تسول له نفسه الفضولية من الصغار أن يتطلع بعينيه أو برأسه فيرمق أحدهم وهو خارج على هيبته ووقاره آكلا أو شاربا. لكن الروائح الشهية التي تنبعث من الصحون والأباريق لم تكن لتبقي على الحفائظ جامدة، حيث يملأ الفضول أحد الصبية فيرفع رأسه قليلا ليرى الأفواه وهي تلتهم فاخر الطعام وتعب لذيذ الشراب، ولعله لم يتناول وجبة الغذاء في البيت قبل مجيئه إلى المدرسة، ولعل أسرته عسر حالها ذاك اليوم فاكتفت بالخبر والشاي غذاء، أو ربما لم يتناول اللحم منذ أيام عديدة فتملأ الحسرة قلبه الصغير وتزداد تقلصات معدته الضامرة، كما أنه يرى أطعمة وأشربة لا عهد لبيته بها بل ربما لم يسبق له أن رآها. إنه ليشفق لحال بعض الصبية ويخص بالذكر منهم صبية حي "ميمونة" الذين تميزوا بهذه المظاهر الرثة وبميلهم إلى السطو والتعسف ولقد أسف لمآل معظمهم أشد الأسف، وذلك حين كبروا وامتهن أغلبهم حرفا مهينة برغم أن كان فيهم من فاقه ذكاء واجتهادا ورغم أنه لا يحتقر هذه المهن. ونادرا ما كان يتردد على هذا الحي خيفة أن ينكل به الصبية هناك، اللهم إلا حين كان يصحب امه في إحدى زياراتها فينعم في ظلها ببعض الطمأنينة حتى وإن كان يبغض بعض من تزورهم أمه. وحتى ذاك العهد من الثمانينات كنت ترى الناس مصطفين بدلائهم وجرارهم أمام الصنابير والصهاريج التي أقامتها الحكومة في أحياء الصفيح لسد حاجة الناس من الماء الشروب. ولعل هذه الصنابير لم تكن لتحتمل تلك الأيادي العنيفة الكثيرة التي لا ينقطع تردد أصحابها فتعلن اختلالها في ظرف وجيز تاركة ماءها ينهمر ليل نهار مخلفا أودية صغيرة تنبعث منها روائح طحلبية كريهة. وكان حي "ميمونة" وحي "قيلز" أوسع هذه الأحياء وأكثرها شهرة وساكنة وضوضاء، فأنت تسمع نقر صغارها على الصفائح والعلب المعدنية على بعد عشرات الأمتار. وكان التجوال في تلك الأحياء يعد من قبيل التهور والمجازفة، خاصة إذا كان المتجول غير معروف لدى الصبية، وهو بذلك يعرض نفسه للإهانة بشتى أنواعها، وهو على العموم ليس بوسعه أن يدفع عن نفسه هذه الإهانات خاصة إذا تكاثفت وتواطأ أصحابها. وكان من الصعوبة بمكان أن يميز المتجول بهذه الأحياء أزقتها ومنازلها البيضاء المتشابهة. ولعل هذا ما كان يسهل على أبنائها التنكيل بكل من يرتادها خاصة الصغار منهم. ولقد أعيد تقسيم البقع السكنية على سكان هذه الأحياء تقسيما متساويا ومدت عبرها قنوات المياه وأعمدة الكهرباء حتى لم يعد يفرق بينها وبين الأحياء الأخرى التي حازت هذه الإستصلاحات باكرا.
كان لأحياء الصفيح دفئها الخاص وطقوسها الخاصة أيضا، وكان لأناسها طباعهم وأمزحتهم التي تميزهم عن باقي ساكنة المدينة. وربما كان السبب في هذه الخصوصية هو تفرد هذه الأحياء بنظام معيشي ومعاشي يكاد يكون أغلبه لا إراديا مفروضا، فكلنا يؤمن بالجدلية القائمة بين الإنسان والمحيط بل والكون أجمع. فللأشجار مثلا تأثير على طبيعة الإنسان والفيزيولوجية، وهي في نفس الوقت تعكس هذه الطبيعة النفسية والفيزلوجية لديه. وأنت حين تتأمل المكان -أي مكان- ساكنيه تجد أنهما كم موحد لا يمكن شطره، بل يستحيل إهمال جزء منه، مهما صغر حين تمحيصه والتحدث عنه. ولهذا، فأنت حين تحب أن تصف لشخص ما مكانا ما، تحاول جاهدا أن ينطبع انطباعك عن هذا المكان بكل ما فيه من كائنات دون التطرق غالبا إلى بعض العناصر فيه، والتي تحتويها جميع الأماكن الأخرى، ويتراءى لك أنه من البداهة أن تعِرض لها في الوصف الشامل. فالذي يزور "سطات" يدرك أن لها خصوصية تطبعها في كل شيء رغم أنها تحتوي بيوتا كالبيوت وشوارع كالشوارع نوعا، لكن شيئا خفيا بها يخلق لديك انطباعا بهذه الخصوصية. ولنضف الزمان إلى هذين العنصرين -الإنسان والمكان- لتصير الجدلية ثلاثية. ثم أنه لا يمكن إلغاء هذه الجدلية مهما سببه غياب أحد العناصر من اختلال في الناموس العام ظاهريا على الأقل. وحتى وإن غاب أحدها نظريا فإنه يترك أثره الذي يدل على وجوده، وأحياء الصفيح هي أيضا تعكس جدلية الثالوث، فصعوبة العيش بها تكسب أهلها طابعا عدوانيا عنيفا، بل تخلف لديهم إحساسا بالنقص اتجاه الآخرين ممن سمحت لهم الظروف ببعض الترف في المسكن والمعاش وفي أمور أخرى. فالماء والكهرباء وكل الضروريات الأخرى، بل والكماليات، كلها عناصر كان غيابها كفيلا بشحن هذه الأحياء بألوان من الفاقة شتى، وبما ميزها عن الأحياء المجزأة تجزيئا نظاميا. وحتى وإن تغيرت هذه الأحياء الآن شكلا إلى الأحسن فالعقلية لم تكد تتبدل، وربما احتاجت إلى سنين .. ومتى كان من الضروري أن نهتم بالواجهة ونعتني بالشوارع والحدائق والمنشآت أكثر من اهتمامنا بالإنسان، هذا الذي خلقت الطبيعة لأجله ودللت له ! ؟ لقد حل مع تحسن الواجهة قسوة في قلوب الناس وجفاء في طباعهم. ونورد هنا التحول الذي طرأ على العلاقات وأعمل فيها معاول المادية العمياء كدليل على ما غيبته الواجهة من دفء الشوارع والبيوتات القديمة ودفء القلوب أيضا. فرغم شكل هذه المدينة قديما، والذي كان يوحي بالفاقة والجهل، فقد كانت المحبة وكان التسامح … وربما جاء هذا التحول وليدا لعهد عالمي جديد لا محلي وحسب، حتى وإن كنا لا نأخذ من التغير العالمي إلا أذنابه وقشوره، حتى وإن كنا على الهامش دائما ونهتم بالتكنولوجيا والفكر لم يؤسس بعد ! والوعي أحيانا يحمل معه التدمر والحزن، وإنك لتفضل أيام الجهل تلك على أيام الوعي هذه التي ملأت حياتنا بالتأمل الشارد الطويل … ومن يذكر سطات في منتصف السبعينات يكاد لا يصدق أن هذا مآلها. ولن نجادل متعمقين في حسنات هذا المآل. أو سيئاته لنلفت النظر إلى أن المدينة تغير جلدها القديم بشكل شبه كلي، فآلات الهدم التي أعملت في المباني القديمة أعملت في أناسها أيضا لتحيلهم رفاتا تحت أنقاض الفرح والبراءة، ولتحيل أصواتهم مجرد صدى من أصداء الماضي التي لا زالت تتردد في الذاكرة. ونحن إذ نستحسن هاتيك الأيام ونفضلها على هذه نبرر هذا الإستحسان بافتقادنا للمحبة التي أفلت مع الآفلين وهاتيك المباني المتهدمة. ولن ننكر مدى ما تحسن من أحوال الناس المادية وأيضا مدى ما جمل من مظهرهم.
ويخيل إلى كل من عايش تقلب هذه المدينة عبر الزمن أنها لا زالت تحتضن شكلها القديم في أساسات الإسمنت المسلح والجدران المبنية على الطراز الحديث. أما أنا فأتخيلها فلاحة بشعر أفرنجي مستعار ووجه محفر توارت سحنته خلف المساحيق. وأتساءل كيف لا نفي للقديم، وأتساءل أيضا كيف تهدم الذكريات دون استشارة أهلها !
****
مضت تلك السنون وأفل معها كل شيء جميل … غدا الحاضر بلا لون بلا طعم وأوشك الصمت أن يبتلع حياتنا ويحيلها باردة تتقاذفها رياح الصقيع … ما أحوجنا إلى دفء تلك الأيام ووعي هذه … ما أحوجنا إلى اللقمة الهنية غير المخلوطة بالسخط على غلاء المعيشة وعلى الواقع جملة. ليتنا نستطيع أن نركن مشاكلنا المتراكمة في رفوف النسيان كي نستسيغ للسعادة طعما أو ننعم ببعض الصفو ولو ساعة ولو دقيقة … في ذاك الحين حلمنا جميعا أن نغير شكل الحياة وأن تتحسن ظروف المعيشة، لكننا صرنا نعترض طريق هذا التغيير وهذا التحسن حين اقتصرا على الشكل دون المضمون، وحين توغلا في أعماقنا ليستأصلا قيمنا ومبادئنا وتوقنا إلى الحياة المثلى، بل أننا أسلمنا ذواتنا إلى الأيادي السوداء تعبث بأرواحنا وتقتل فينا حب هذه القيم وهذه المبادئ وأمسينا دمى … مجرد دمى …
دفنت تلك الأنقاض ودفنت معها أيامها، وتحولت نظرتنا الساذجة الغافلة إلى الأشياء إلى نظرة فاحمة ثاقبة، وكأننا نتحرى الحياة من خلال مجهر أو نشرحها تشريحا. ومن المعلوم أن التحري في بعض الحقائق وتفكيك الأشياء يفقدها حلاوتها، إذ يغلب أن يتعذر الإتصال بالعوالم الأخرى الغيبية التي نستمد منها سعادتنا عن طريق الروح، ذاك المخلوق غير محدد المعالم والذي لا نعلم شيئا عن ماهيته سوى أنه يمنحنا الحياة مقيدا بالجسد، والذي بين يكون طليقا، ونحن نيام، يحمل معه حين عودته إلى أجسادنا شبه الميتة إحساسا ومعنى جديدا من معاني الحياة والخلود والسعادة المثلى المفتقدة أو بعض سعادة تضمن استمرار الحياة، ويكون السبب في تعذر هذا الاتصال أحيانا هو إخضاع الأشياء لميزان العقل وتحليلاته الجامدة التي، وبرغم فاعليتها، تظل قاصرة عن التعبير عن حاجات الإنسان الخفية التي تنبعث من وجدانه دون أن يتمكن من ضبطها … تلك هي أغراض الروح التي لا نستطيع التخلص منها، بل لا غنى لها عنها كيفما كانت ! وربما تردت أخلاقنا فتردت أعراض الروح تلك وغدت آثارها في النفس أشبه بآثار السياط على الجسد، وكأننا نتلقى عقابا على تناسي الله وأنفسنا وتحريفنا لمعنى الحياة … وإلا فما تعليلنا لضياعنا وافتقادنا للسعادة ؟
أين تلك النظرة الحالمة إلى الأشياء ؟ أين تلك الألوان الزاهية التي كانت تزين تطلعاتنا وأحلامنا وآمالنا، والتي كنا نستظلها حين تلفحنا شمس الواقع، أو نفزع إليها حين تضيق عنا الآفاق وتسود حجبها ؟ أين نحن من كل هذا؟ لقد طغى السواد على الخيال ورسم فيه غيما حالكا يكاد يحجب سماءه الزرقاء …
أمسينا نهرب من سواد إلى آخر أشد منه وأبعد مدى وأعمق أثرا …نفزع من واقع إلى واقع أمر منه ومن خيال ضيق إلى آخر أضيق منه …وكأننا سُلبنا الكيان وانعدمنا …وكأننا مماليك بأجسامنا وعقولنا وخيالنا وكل شيء فينا… حتى الخيال لم يعد طيعا كما العهد به… حتى القلب أصبح مشلولا عاجزا عن الحب والرقة…
ما أحوجنا إلى أن نحيا من جديد أو نُبعث من جديد… ما أحوجنا إلى ذواتنا الضائعة في غيابات الأنا … إلى كل شيء ضاع مع الأنا …
ليتك يا نفس لم تكوني لتتعذبي … ليتك يا طفولة لم تأفلي … ليتك يا سِنِيَّ الأمس تعودين...
– 4 -
أوشكتَ مرارا أن تسترد شخصك التائه في غيابات الأحزان، وأوشكت أيضا أن تعيد لهذا البيت مرحه القديم ولهذا الحي أيضا. لكنها الأيام بسياطها تصر على صبغ جسمك وروحك بلون قاتم، وهذه الفرص التي تتاح ولا تتاح كاللقمة في جوفك هي لغيرك. طفرة واحدة يا مصطفى وتملك الكون برقاب الناس فيه، ثم تطيح بالرؤوس التي أعدمت شبابك وحرمتك السعادة باكرا، وطوحت أحلامك فصرت سبي اليأس وهرمت قبل الأوان، لكن أين هذه الطفرة وأنت من فشل إلى فشل تُحال، وتسلط الآخر يشل حريتك وتفكيرك. عالمك راكد ليس فيه ما يحفز على التقدم خطوة واحدة … فقر وأم سليطة وإخوة لست تفوقهم لوعة وحرمانا وإحساسا بالضياع، غير أنك تفوقهم استسلاما ومازوشية وجدية. ويبدو أن لهذه الفتاة الساحرة السبق في تحفيز هذه الميولات وضبطها على مستوى شخصك. هي الوحيدة التي منحتك هذا المزيج من الأحاسيس التي تجيش رقة برغم اختلاف واختلاط ألوانها ومذاقاتها … أحسست بالأمان والرفعة حين هبت نسائم الحب من قبلها تغسل قلبك الملوع وتحيله نارا تستعر وتبدد ذاك الفتور الذي أنساك نفسك والناس والجمال من حولك … وأحسست بمدى حقارة شأنك وأنت تتطلع إليها كنجمة بعيدة المنال … أللأنك تقيس إليها تطلعك إلى المستقبل وترسم من قسمات وجهها ورونق طلعتها شكلا لهذا المستقبل الغامض الذي لا محالة لن يتأتى لك كما تحلم أو كما ترسم المخيلة ؟ أم أنك تنفس عن قلبك الذي يكاد ينفطر، وتروِّح عن هذا الرأس- الذي من اكتظاظ فكره- يكاد يهوي من على كتفيك.أهي أوهام الفقر وهواجس المعاناة ؟ أم أنها بارقة أمل من تلك الطفرة التي طال انتظارها سوف تشيلك وتُحيل الوهم حقيقة ؟ من حقك أن تحب حتى وإن كنت حقير السحنة والإنتماء، وإلا فما الداعي إلى هذه المضغة الدائمة الخفقان بين جوانحك، والتي لن تريحك حتى يتوقف خفقانها. أبوها عميد شرطة وأبوك كان يمتهن مادون مركز أبيها بكثير، علاوة على أنه متوفى، هذا إلى اليتم الذي لا يختلف في نظرك عن الشحاذة، بل أكثر من هذا الضياع تحت وطأة تجبر أمك وجفاف عاطفتها وإصرارها على التنكيل بك ولفت الأنظار إلى نقائصك المتعددة من نسيان مزمن إلى خمول إلى إهمال مظهر … الأم … هذه الشحنة الكبيرة من العاطفة التي حُرمتها وحرمها إخوتك … هذا الإسم الذي لا يعني لك شيئا إلا كونه مجرد لقب … لن أنكر طيبتها وتضحياتها الكثيرة لكن هذه القسوة تقتلني وتزيد من حدة عذاباتي يوم عن يوم … كلما كبرتُ كبرت جوعتي إلى العاطفة وتلهفي إلى من يفهمني ويربت على أحزاني المتفاقمة… كلما كبرت كبرت طفوليتي ! غير أنني أختزنها مجمدة من بين ما أختزن من مكبوتات وطاقات عنف … وما أبعد أن أنفس عنها حتى ولو عشت ما عاش نبي الله نوح… حتى وإن رموا بي في أرق الأحضان وأنضجها عاطفة… حتى ولو غسلت روحي فلن تنمحي آثار السياط، ذلك أنني كتبت شقيا في الأزل …
ولن ينفع ضماد أمام هذه الجراح التي تنزف باستمرار…
وربما كان من قبيل شقائك الأزلي أن تحب فتاة كهذه… زهرة في دغل من شوك القتات … شوك يحيط بها من كل جانب ويعوق النظر إليها بعين صافية مطمئنة … أبوها عميد شرطة وما أحب الشرطة إلى قلبك!! ما أتفهني وما أتفه احلامي بل حياتي كلها ! إنك تتلذذ في تعذيب ذاتك لا شك، وإنك صرت أعمى البصيرة والدليل على هذا إصرارك على خوض معارك لا طاقة لك بها… نعم، الحب معركة ليست أساسية وحسب، بل وجودية، وإلا فلم العيش يا ترى؟ وأشد منها جملة المعارك التي بدأت تخوضها مذ فتحت على نفسك جبهات ضد السلطة … ومن يقهر السلطة غير خالقها !
ألم تجد غير طيفها تسكب فيه رحيق مشاعرك الجياشة وغيرها كثيرات قاهرات المفاتن … إن أمثالك ممن حرموا الحنان لا قدرة لهم على الحب الحقيقي المتوازن، لذا فالحالة نفسية شاذة تستلزم تمهلا وتفطنا كبيرا. إن من بحالك لا يبحث سوى عن الحنان المفتقد، حيثما وجده يرتمي بين أذرعه حتى وإن كان غاذقه فتاتك هذه أو عاهر من عاهرات الموقف. المهم أنك تستشف الرقة أينما وجدت. تزعم أنك سبرت أغوار المرأة وجلت في متاهاتها ووضعت يدك على أسرارها وكوامن قوتها وضعفها، وحتى ولو كان الأمر صحيحا فهو نسبي، أما أنا فما أظن ادعاءك هذا إلا من قبيل الجنون الذي صار يطبع تصرفاتك، بالإضافة إلى أن التجربة عن كثب تتيح معرفة أعمق لا تتأتى بالتنظير والتفلسف والتنطع. ثم أن علمك بالمرأة لم يعد أن يكون مجرد ادعاءات بعضهم في كتب فلسفة أو قصص فارغة، اللهم إلا هذه المرأة التي تعرفت إليها وأنت تقلب في صفحات التاريخ مركزا فكرك على ذيالك العهد الذهبي الطوباوي الذي أفل وأفل أناسه معه وتركوا أطيافهم تختال اتجاه حقارة الإنسان وجحوده وتدنيه. أنى لك بتلك المرأة التي كانت تتطلع إلى الوحي في شوق بالغ حتى تسعد بتطبيق تعاليمه … أين تلك المرأة التي شقت لحافها قسمين غطت بأحدهما شعرها حين أنزلت آية الإحتجاب؟ أين التي تذود عن الإسلام والأرض ذود الرجل … أين المسارعة إلى طاعة الزوج والإدعان لنصحه وأوامره … حقائق الأمس صارت أحلام اليوم … لا عجب فالمنطق صار يمشي في الناس مكبا على وجهه وضاعت الحقائق من جملة ما ضاع …
ما هذا السيل العرم من أفكار لا تتناهى في تسلسلها؟! حسبي أن أحب لأصحو ويجري الدم في عروقي سواء كانت محبوبتي من العابدات أو فتاة كفتاتي التي لولا شبه عرائها لما أحببتُها …
ورفع بصره إلى شباك بيتها وجال به في سقف الغرفة الجبصي، وتفحص بعناية الثريا التي علقت وبعض أشياء أخرى أتاحها مجال النظر من بعض آنية فاخرة وضعت بعناية فائقة داخل هذا الدولاب الزجاجي، ثم هذه المزهرية المزركشة التي لم تتغير، والتي أدرك أن ورودها اصطناعية مذ صار يدمن التطلع إلى هذا الشباك جيئة وذهابا ويشبع فضوله بالنظر إلى تلك الأشياء التي لم تكن توجد في بيته. وشعر ببعض أعين فضولية ترمقه متهامسة متضاحكة فدهمه الخجل وسرى ذلك التيار الكهربائي إلى أعلى رأسه وشعر بسخونة وارتباك، لكنها ليست المرة الأولى التي يُتهامس ويُتضاحك عليه فيها، فقد تعود بعضهم هذا المشهد اليومي. ثم ها هو باب المنزل يفتح فتطل هانئة باسمة كعادتها، وتلتفت التفاتات متعددة لا معنى لها ثم تنظر إليه نظرة خاطفة ماكرة فيها بعض ازدراء والكثير من التحدي، ثم يعود الباب ليغلق من جديد ويتوارى خلفه ذلك البريق الذي فاق شمس النهار وأضاء ظلمة عالمه لحظة زمنية هي مدة الأحلام عادة.
وعاد يصوب نظره في الطريق لا يلوي على شيء سوى أنه خرج قاصدا حي "السماعلة" ليجتمع من جديد بالإخوة في الله، وليستمع إلى أحاديث الشيخ عبد الصمد عن الإيمان والحياة، فيعب ما استطاعت ذاكرته منها ويطفئ بها نار غضبه وسخطه على الأيام فيستعيد بعض الشيء إقباله عليها، ثم يعود أدراجه وقد أزمع العودة إلى بيت الشيخ مساء ليصلي العشاء مع الإخوة ويقوم الليل. ولقد أصبح هذا ديدنه مذ فقد وظيفته بمصنع النسيج، على أنه كان يرتاح ارتياحا بالغا إلى الرجل وكلامه العذب الفصيح وقدرته الفائقة على الإبتسام والإرتجال الملم بالمواضيع من شتى أطرافها. ثم أن باقي الإخوة هم أيضا على خلق ويميلون إلى الإلتزام في كل شيء زاهدين في اللغط ومن ملذات الحياة في صنوف شتى، ساعين جهدهم إلى السمو في عقيدتهم ونيل رضى ربهم. ورغم هذه الثقة شبه العمياء في الجو وأصحابه، إلا أنه أوجس الخيفة من بعضهم لا سيما هذا الشاب ذو البطن الداحلة والمنكبين العريضين والعينين اللوزيتين والوجه المكتنـز، ذلك أن صاحبنا ذو بصيرة كأمه ولا يخطئ الظن إلا ساعة الغضب وعدم التروي، وهو قليلا ما يغضب وناذرا ما يبكي. ثم أنه تعرض للإعتقال أو كاد يُعتقل أيام أبيه الذي لولا وساطته لدى بعض رجال السلطة لضاع كما ضاع الكثيرون … ولقد مضى على هذا الزمان ست سنوات أو أكثر حين كان حديث السن ولم يجاوز الخامسة عشرة من عمره آنذاك، هذا إلى أخيه محمد الذي يفوقه بثلاث سنوات والذي عاد إلى فرنسا زاهدا في تجمعات الإخوان، بل في الوطن برمته. إن هذا الشاب ضخم الهيئة في عينيه بريق ماكر لا يوحي بالطمأنينة, ثم ضخامته وصحة بدنه وابتسامه الدائم وإلحاحه على الشيخ في تلقي الأجوبة المحددة ذات المواقف السياسية … كل هذا لا يمكن أن يبعث على الثقة في إخلاصه، هذا إلى أن كل الإخوة ناحلون، شاحبوا الوجوه من التفكير الدائم وقلة النوم أو كثرة التهجد، فما بال صاحبنا يتفرد عنهم بهذا القد الممتلئ الذي عليه آثار النعيم والترف. أما عني أنا فيشفع لي حداثة عهدي بهذه الجماعة، وأنا موقن بأن الشحوم التي غزت سائر جسمي في غير إفراط ومن الراحة البدنية سوف تذوب … أما هذه الرأس الكبيرة فلن تذوب أبدا حتى ولو واراني الثرى..
ووجد الرفاق كلا قد أخذ موضعه من المجلس ينصت إلى الشيخ في اهتمام بالغ، وقطع عليهم هذا الإنذماج بالتحية فردها الشيخ ومن معه في ابتسام معتاد وخاطبه معاتبا عتابا خفيفا على تأخره وأومأ إليه أن تفضل بالجلوس فلبى دون أن ينبس ببنت شفة. ووجد نفسه غارقا في طيف فتاته لا يعير الشيخ اهتماما، وأدار في خياله شريط الصباح مستعرضا تلك الأحداث اللحظية، بيد أنه أضاف إلى هذه الأحداث خيالا كثيرا كخيال الأفلام. وجال بخياله في الأمس والحاضر و في بيتها أيضا وتصور أشياء وأشياء … ارتاد السجاد واقتلع النجوم واقتحم قصور الجان وغرق في شدو العصافير وأريج الورود وتسلق أعلى القمم، وعادت "ألف ليلة وليلة" تمتع الخيال فتحدث إلى علي بابا وسندباد والشاطر حسن وتمثل له المارد عبدا مأمورا فأمر أن يحمل إليه فتاته على جناح السرعة دون علم الأهل النيام فلبى العفريت طلبه في لمح البصر واختطف الفتاة وهي نائمة. وأبت له نفسه الطاهرة أن يعبث بها رغم قدراته الجنسية الخارقة فاكتفى بتأملها بعينين مشوقتين مغرورقتين وقلب يكاد ينفطر من الخفقان. وأفاقت الفتاة مذهولة لا تدري ما ألم بها، وفاضت عيناها رقة وفرحة حين رأته في لباسه الأميري جالسا يرنو إليها ويبادلها نفس النظرات، وقامت إليه تمد ذراعيها وكاد يحضنها لولا أن انتبه إلى الشيخ وهو يقول :
- تعلموا يا اخوة الإسلام أن تحبوا في الله وتبغضوا في الله، وتذكروا قول عمر رضي الله عنه "لا يكن حبك كلفا ولا بغضك تلفا" فالمؤمن معتدل بطبعه لا يرمي بنفسه في مطبات التطرف. واعلموا أن ارتباطنا بالله هو الذي يمنحنا القوة على فعل الأشياء باتزان وتؤدة وقناعة، وحبنا لله هو الذي يمدنا بحب الخلق، ولكي نتقن فعل أي شئ يجب أن نحبه حتى تكون تمار عملنا ناضجة طيبة …
فابتدره بسؤال مفاجئ، وكأنما كره الشيخ أن يقطع عليه الفتى حديثه دون استئذان فأومأ إليه في رفق متكلَّف أن تفضل، فسأله قائلا :
- وماذا عن المرأة ياسيد عبد الصمد ؟
- المرأة أمي وأختي وزوجتي و…
وأدرك الشيخ للتو ما غرض إليه الفتى من سؤاله فأطرق لحظة وعاد ليتم كلامه في هدوء نسبي مشوب ببعض القلق والحذر :
- يبدو أنني لم أوف الإجابة حقها يا أخ مصطفى.
- أقصد أن أقول …
- حسنا، أدرك ما ترمي إليه. المرأة يا أخ مصطفى جزء من كيان الرجل، بل هي ذات متفردة في تركيبها النفسي والجسدي كجميع المخلوقات، وهي كذات عاقلة مكلفة لها حقوق وعليها واجبات. وفي هذا الإطار الذي حدده الشرع تحديدا دقيقا، وحيث ينبغي لها أن تكون، نقدرها ونحترمها ونعرف لها صنائعها وأفضالها على الإنسانية، وفي هذا الإطار أيضا يجب أن تـحَب وتـحِب …
وتوقف الشيخ عن الكلام ثانية متفكرا وكأن خاطرا ما شغله، وتمنى الفتى لو يكمل حديثه ويفيض، فما ألذ التحدث عن الحب، وما أروعها جلسة هذه التي أخرجتَ فيها الشيخ عن تحفظه وأعطيتَ المكان نفسا آخر جديدا كل الجدة بعيدا عن التعاليم والأحكام الجاهزة. وإنك لتزمع أن تستفسره وتستفزه أكثر فأكثر فيذهب إلى حيث تود أن يذهب في كلامه … وما الضير في أن تخوض في مثل هذا الحديث مع شيخك … ربما يكون قد وجد في نفسه منك وقرر فصلك عن الخلية…إذا فعلها فلن أعود إلى مثل هذه التجمعات أبدا، وعلى العموم فهذا نقاش جد عادي لا يخرج بك عن الأصول والأخلاق. وقبل أن يسري الفتور إلى النفوس استطرد الشيخ قائلا:
-أن تحب امرأة مؤمنة طاهرة خير لك من أن تحب متبرجة أو مشركة وكما قال عز وجل في كتابه الحكيم: "ولأمة مؤمنة خير من مشركة ولو أعجبتكم".
- يا إلاهي ! لقد مر من التبرج إلى الشرك مباشرة ولو علم بقصتك لغضب منك أشد الغضب ولما سمع لك بعدها بارتياد مجلسه …
- وهل باستطاتنا أن نختار من نحب ؟
- أجل، وبتحكيم العقل والقلب معا.
- وهل للعقل سلطة على الأحاسيس ؟
-اعلم يا أخي أن العقل لا مكان فيه للعاطفة، وأنا أقصد هنا الدماغ الذي هو عبارة عن تجمع لخلايا تفكير وشرايين دقيقة ومراكز تحكم تشغل الجسم بإيعاز من الروح، وإذا عزلت الروح عن الجسد كما في حالة النوم فإن الجسد يغدو مجرد ميكانيزمات تمنحها الروح طاقة التحرك عن بعد والدماغ يمنحها كيفية التحرك، وإذا قطع اتصال الروح بالجسم يتعطل هذا الأخير تماما… أما القلب فهو أنشط عضو في الجسد بعد الدماغ، وهو يتلقى أوامره بالتمييز الفيزيائي من هذا الأخير. وهذه الأوامر هي عبارة عن ذبذبات كهربائية تمر عبر الجهاز العصبي، ليس إلى القلب وحسب بل إلى سائر الأعضاء. وكما يتضح فبالنسبة للدماغ الأمر مادي بحث يتعلق بتقنين الأشياء وضبطها في إطارات خاصة، أما القلب فقد أثبت العلماء أنه هو الآخر يرسل ذبذبات عاقلة من نوع آخر، وهذه الذبذبات هي التي تحمل معها الأحاسيس التي نستمدها من العالم العلوي المجرد عن المادية. وإني أظن أن القلب هو مستودع الروح ومنه تتفرع إلى باقي الجسد، ومن كانت روحه طيبة كان قلبه طيبا والعكس بالعكس واقرءوا إن شئتم قوله تعالى:"لهم قلوب لا يفقهون بها".
وعلى هذا الأساس لا يمكن الفصل بين العقل والعاطفة لأنهما كيف موحد. وأنتم، يا إخوة الإسلام، تعلمون أن العاطفة دون إخضاعها لميزان العقل هي التهلكة بعينها، وكما يقول المثل الشائع "العقل جمود والعاطفة جنون" … شيء من الجمود على شيء من الجنون وتسوى المسألة.
وضحك الجلوس لكلام الشيخ وتبودلت همهمات وإيماءات. ويبدو أن الشيخ لم يُقنع صاحبنا بهذه التحاليل العلمية الصرفة فازدادت حماسته وإصراره على إخراج الشيخ عن تحفظه فسأله قائلا:
-هل سبق لك أن أحببت يا شيخ عبد الصمد ؟
وطأطأ الشيخ رأسه واعتراه بعض الوجوم لكنه سرعان ما استعاد طلاقته وأشار إلى الشاب في هدوء أن كفى. ثم ذهب في الحديث مذهبا آخر، وكأنما تعمد أن يقطع على الشاب جميع السبل إلى استفزازه من جديد وخاطب الحضور قائلا :
اجعلوا الله في قلوبكم يا إخوة الإسلام ولا تبتغوا غير فضله، وإن هذه الدرجة لا تتأتى إلا بالسعي إلى الإيمان الحقيقي، وكما قال تعالى في حديثه القدسي : "ما وسعتني السماوات والأرض ووسعني قلب عبدي المومن"…
وأحس بالفتور وهم أن يستأذن بالذهاب لكنه خشي ان ينعث بالنفاق. وضل يتتبع كلام الشيخ إلى أن سرح بالخيال من جديد في عالم الحب. ما كان للشيخ أن يصدك هكذا ويدعك تتقلب على جمر الغضا، تشبع الحيرة قلبك بالسؤال… كل ما تعلم هو أنك سموت بهذا الحب إلى أبعد مدى، وأن أخلاقك وطباعك ومزاجك في تحسن مذ باح قلبك بالعشق وأمسيت أكثر رزانة وهدوءاً و تأملا، وأصبح للحياة معنى برغم قساوتها … أصبح لوجودك معنى … لحركاتك، لسكانتك، لكل شيء يصدر عنك أو حولك. واستعدت ابتسامك وتفاؤلك، وعدت تبني القلاع والقصور وتشيد الصروح، وعلى مسرح الحياة تبني الغد رغم حرمانك من متع الأمس والحاضر … غد ليس كالغد الذي تعودته قاتما أرحمُ منه الموت وإنك لتتمنى أن تدوم هذه السعادة وألا يتغير طعم الحياة بعد الآن حتى وإن كنتَ معذبا في هواك، المهم أن عذابك حلو المذاق ويحمل معه أنفاسا أخرى لا عهد لك بها من قبل … أنفاس كأنفاس الربى وقت الربيع أو كالطل يغمر السهل، يغسل عن زهوره غبار الأمس ويمنحها قوة ورونقا فملأ ضوعها الأرجاء. ما أروع الحب صافيا غير مغرض، وهو أروع من ذلك حين يكون موفقا وسبيلا للنجاح في كل شيء… هنا فقط تصح النظرية القائلة بأن وراء كل عظيم امرأة. فعلا، فأنت تحس أنك عظيم رغم أن بوادر العبقرية كانت فيك من زمان، لكن العظمة أخرجتك للوجود ومنحتك الثقة في إمكانية تحقيق ذاتك برغم قساوة الواقع. كنت عظيما بالأمس لكن عظمتك كان ينقصها الإنفعال والمنهجية كيما تتفتق ويراها الناس ويروك على حقيقتك. كنت تعلم مذ
وعيت ان المرأة سر النجاح والفشل، وأدركت هذه الحقيقة وأنت تتطلع إلى شخص أمك الغريب، وأدركت أيضا أنها وراء الفشل الذي يطاردك منذ طفولتك ويطارد إخوتك ويعثر خطوكم رغم الذكاء والمواهب. قسوة أمك وتجبرها أرغمت أخاك محمد على الزواج باكرا رغم ظروفه الصعبة -حتى و إن اكتشفت فيما بعد أنه اختيار موفق- وهذا أخوك محسن يتزوج خفية، ولم تعلم الأسرة بزواجه إلا حين ترامت أخبار هذا الزواج من الرباط … وها أنت ذا صريع الهوى تنام على الأحلام وتصحو، وربما كان أخوك الأصغر عمر هو الآخر غارقا في حب فتاة ما، والسبب في كل هذا على ما يبدو غياب عاطفة الأم وتفهمها، والذي يطيح بك وباخوتك، وبسرعة، في أول علاقة بحثا عن الحنان المفتقد وعن الإستقرار النفسي أيضا. يجب أن تأخذ حذرك وإلا قذف بك في هوة سحيقة لا قرار لها، ففتاتك ليست عادية وتستحق التفكير مليا وتتطلب دراية كبيرة بشؤون الحب والدهاليز النفسية للمرأة. وحتى ولو استطعت أن تكون، فمن يضمن لك عدم انفلاتها وأنت لا تملك فلسا واحدا، ولم تزل إلى عهد قريب تقترض لتحلق شعر ذقنك أو شعر رأسك، حتى مللت هذا الأمر فقررت أن تطلق لهما العنان. ثم أن لديك مبرراتك التي تشفع لك وهي انتماؤك الجديد، ولو أنك لا تستطيع أن تحف شاربك حتى تغدو "سنيا" صميما كجميع إخوانك في الله. لقد هممت أكثر من مرة أن تلفت نظر السيد عبد الصمد إلى شاربك المسترسلة فيمنحك بعض دراهم تقتني بها موسى حلاقة، لكن إلى ما تدوم هذه المنحة ؟ ثم أنك تخجل أن تفاتحه في الموضوع … وربما كان سر إعراضها عنك هو لحيتك الكثة وشعر رأسك الذي تجعد من الإهمال … ثم قل لي كيف يعقل أن تتعلق فتاة ناعمة كفتاتك بشاب خشن مثلك لا يعتني بمظهره؟! وربما لو كنت سنيا صميما كما تزعم لأعارتك بعض اهتمام، فالسنة دنيا و أخرى, وتحرص على المظهر حرصها على الجوهر إلا فيما يجاوز الإعتدال إلى الإفراط أو ينقصه إلى التقصير … ثم ماذا لو حلقت هذه اللحية من جذورها وحلقت شعر هذا الرأس الكبيرة على الموضة ؟ يا إلاهي تكون النهاية لا محالة… ولكن طيفها يلح عليك إلحاح حاجتك إلى الماء والهواء ولا تتصور الحياة بدونها … لقد وقعت في شراك الفتنة يا مصطفى وعليك أن تختار بين دنياك وأخراك وإلا فالويل لك من شر آت… توشك رأسي أن تتفجر لهذا الصراع الذي يقسم شخصي نصفين، وعلي أن أتخذ قرارا حاسما في هذا الشأن وفي أسرع وقت ممكن … لكن أنى لمثلك أن يقرر حتى ولو أمكنه أن يميز بين الجيد والرديء. إنك محكوم لا تملك قراراتك، وساعة تملكها ستكون أول ثمرة أن تُطرد من البيت ومن الدنيا بأسرها كأخيك محسن الذي سولت له نفسه يوما أن يعارض أمك في بعض تفاصيل زواجها من المحتسب فطردته من البيت ثلاثة أيام لولا شفاعة خالك منصور لديها. يجب أن تصارح الشيخ كي يستريح ضميرك وتسكن اضطراباتك. لكن ما يدريك أن ضميرك سيستريح وأن اضطراباتك ستسكن … ربما حطمك الشيخ وقضى على عاطفتك و محا لون السعادة من حياتك عن غير قصد أو لأنك ستسيء فهمه؟ ما أمر الحيرة والصراع… لأتغلب على خجلي ولأصارح الشيخ بلواعجي. أخشى أن يصدني كما فعل منذ قليل … لكنني سألح عليه إلحاحا لا يجد معه مهربا حتى ولو اضطررت أن أخرج على أدبيات الحديث التي علمنيها ..وتنبه إلى الشيخ وهو يقول :
- إننا لا ندرك الصحوة الإسلامية إلا من خلال الصحوة الحضارية العالمية، وإحاطتنا بجميع التطورات في جميع الميادين أو في بعضها هو نقطة البداية للسير على النهج القديم في ضبط شؤون المجتمع والرقي به.
ووجد نفسه منذمجا في كلام الرجل دون أن يشعر واستأذنه قائلا :
- وهل تظن، يا سيد عبد الصمد، أننا بإمكاننا استدراك الصحوة، وحتى إن تأتى لنا ذلك فكيف سنبقي عليها بالنهج القديم وداخل نظام عالمي كافر.
-بالصبر يا أخي تلين الصعاب، ولنبدأ من حيث بدأت: كلنا يعلم أن الصحوة ليست حكرا على المعرفة الدينية اللاهوتية، بل على العموم بشتى أصولها وفروعها وأنواعها. لذا يجب أن نخوض في الإقتصاد والسياسة وسائر العلوم خوضنا في أمور ديننا. وقديما قيل: "إعمل لدنياك كأنك تعيش أبدا واعمل لآخرتك كأنك تموت غدا". دين ودنيا يا أخ مصطفى. ولقد كان للأجداد السبق في هذا المجال، وهم خير من مثلوا الصحوة باختلاف مقاييسها وأبعادها. ومن هنا نستمد النهج الذي نسير عليه، أقصد من حيث بدأ التطور الإسلامي على جميع الأصعدة وغمر الآفاق، ولولا ركوننا إلى العبث والإستهتار والتطاحن وإهدار الكلام لكانت الحضارة العالمية الآن إسلامية محضة ننعم في ظلها بالطمأنينة لا بالخوف والدمار, نُطحن بين شطري رحاها.
وهنا تدخل الشاب ضخم الهيئة سائلا :
-وهل بإمكاننا أن نحدد شكلا لهذا النهج ؟
إن هذا الماكر يستدرج الشيخ ويتصنع حب المعرفة، لكنه لن يفلح في سعيه، وأنا من سيوقفه عند حده وتولى الإجابة عن الشيخ قائلا :
-ليس باستطاعة أحد، بل ليس من حق أي كان أن يزعم أن بإمكانه تحديد النهج الذي تسير عليه الأمة، ذلك أنه ليس باستطاعتنا إيجاد شخص ملم بكل الحقائق، ناهيك عن أمور السياسة التي لا يجب أن تظل حكرا على رجل واحد أو مجلس بأكمله من العارفين الأتقياء وإلا فسيكون الأمر استبدادا… مجرد استبداد.
-لا تسيء فهمي يا أخ، أنا لم أطلب تفاصيل أو رأيا نهائيا شاملا.
-وهل لديك فكرة محددة ؟
-إنك تبادلني سؤالا بسؤال. ولو كنت أعرف لما سألت، أليس كذلك يا سيد عبد الصمد؟ وتدخل الشيخ قائلا :
-لا تتجادلا واعلما أن عاقبة الجدال الخصام. غدا إن شاء الله نكمل حديثنا عن الصحوة. ولنستعد من الآن لقيام الليل.
كان صاحبنا يحب أن يستفز بالسؤال وألا يقتنع بالجواب مهما كانت نسبته من الصحة، لهذا فهو يكثر من المعارضة والرد بـ "لا" حتى لا يسفه كلامه ويؤخذ مأخذ الإستضعاف, ولقد أتاحت له عجرفته المتوارية خلف ستار الخجل أن يتعلم الكثير، فهو يرفض الإستسلام لرأي الآخر ويكره أن تظل الحقيقة من نصيب شخص واحد، لا تتبدل ولا تتغير. فكون الحقيقة المطلقة متعذرة المنال هو الدافع إلى السعي وراءها باستمرار وفي هذا لذة ما بعدها لذة. وهو يصر على حرف "لا" ويكثر من ترديده بينما يأخذ في الحديث، والظاهر أن بعض طاقات العنف المكبوتة لديه هي التي تحفز عدوانيته اتجاه الآخرين، ولو تفجرت باقي هذه الطاقات لما اقتصرت عدوانيته على الكلام، بل لتعدته إلى الركل والصفع والأخذ بالتلابيب، وإن به للكثير منها. إنه يستنح، بالتحدث إلى الناس، فرصا للإنفراج وإثبات الشخصية، لا كما الشأن داخل البيت حيث كلمة "لا" و"نعم" من حق الأم لوحدها. لقد كان في كلامه مع الشاب بعض وقاحة ونسي ما يكن للشيخ عبد الصمد من مودة واحترام.
ولولا هذا المخادع المتصنع لما ذهب مذهبه منذ لحظات. والحقيقة أنه لم يكن يقصد الشيخ بوقاحته، وأراد من خلال ذلك أن يجنبه الوقوع في مطب الإفصاح عن أفكاره الإصلاحية بيد أنه أوقع نفسه في المحذور دون أن يشعر، وربما سيضاف منذ الغد إلى سجل الإخوان النشيطين الذين يُخشى من لحيهم أكثر من أفكارهم... سذاجة ما بعدها سذاجة، أليس كذلك ؟
وكان يخشى أن يكون قد أساء الظن بصاحبه الشاب، لكن شيئا ما في قرارة قلبه يلح عليه ويحذره إياه فليصبر حتى يتضح الأمر وتتكشف السرائر وتنجلي الخفايا. لكن إلام؟ هل إلى أن يُزج به في السجن ويُقبر في سراديبه مع من قُبروا. على العموم سوف يتأكد من الأمر بنفسه وسيراقب تحركاته، فربما يكون على علاقة بأحدهم ممن يكيدون للجماعات.
وصُليت العشاء وقيم الليل كالعادة. وكان الشيخ عبد الصمد يصر على السور الطوال في قراءة النوافل كالبقرة وآل عمران حتى أن الشاب هم أكثر من مرة أن ينسحب من شدة ما يأخذه من التعب. لكنه قرأ هذه المرة بقصار السور، كما أنه لم يكثر من النوافل وكأنما دهمه الجهد. ولقد تنبه الجميع إلى حماسته الفاترة، لكن أحدا لم يتحدث إليه بهذا.
كانت الساعة قد شارفت على الثانية بعد منتصف الليل، وقد أسدل الليل على البيوت والشوارع رداء الوحشة والسكون، ولم يعد يتناهى إلى المسامع غير بعض أصوات كلاب وقطط وهدير سيارات. وزاد من عمق هذا المشهد برد يناير القارص الذي يَخِز وخز الإبر فتقشعر له الجلود التي لم تأخذ كفايتها من الدفء، حتى أنك تسمع للكلاب عويلا كعويل الذئاب وللقطط مواءًا حادا مسترسلا يشبه إلى حد بعيد بكاء الأطفال. والكلاب يحلو لها أن تخرج حشودا حين يقل بنو البشر، فتراها متنقلة باحثة في أكياس القمامة عن بقايا الطعام. ولقد عانى صاحبنا من الكلاب ما عانى. ومما يذكر أنه في إحدى تلك الليالي الباردة خرج من بيت الشيخ متجها إلى حي الشيخ، وبينما هو غارق في يم أفكاره، وكان أوشك أن يصل، فإذا به يسمع صوت أقدام خافت للتو، وأدرك أنها ليست أقدام بشر فلم يكلف نفسه الإلتفات إليها. غير أنه أحس أنها تتبعه مذ سلك شارع علال بن عبد الله، وصارت تدنو منه شيئا فشيئا حتى لم يعد ير بدًا من الإلتفات فإذا به قطيع من الكلاب الضالة قدره بزهاء الأربعين، فلم ير بدًا من أن يطلق ساقيه للريح، ولولا تسلقَ أحد أعمدة الكهرباء المدرجة لوزعته الكلاب توزيع الطريدة. ولقد خرج هذا الصباح متسللا من عند الشيخ كسائر أفراد الجماعة متعقبا أنوار الطريق، وسلك مسلكه المعتاد إلى حيث سيعالج قفل الباب بعناية كي لا يزعج أمه وإخوته النيام. ولطالما زجرته أمه ونهته عن خروج الليل المليء بالآفات، لكنها سرعان ما استسلمت لإصراره وتغافلت عنه غير ناسية أن توبخه على تأخره بين الفينة والأخرى. أما هو فقد ألف نظامه الجديد ولن ينفك عنه مادام يجد فيه بعض الراحة وبعض السلوى. ثم أنه لا يحتمل ألا يتطلع إلى شباك ذاك المنزل الذي يضم بين جدرانه جوانح حبيبته وروحها ويردد أنفاسها وكلماتها كما هو ديدنه صباح مساء. ولولا أنه شعر هذه الليلة بتلك الخطى تطارده لجلس أمام بيتها أو على عتبته حتى تطلع شمس الصباح، على الأقل كان سيحظى بالإقتراب من المكان الذي تتردد عليه قدماها باستمرار، وربما لن يفصل بينها وبينه ساعتها سوى هذا الباب أو ذاك الجدار من البيت. وتساءل إذا ما كانت أغمضت جفنيها واستسلمت للنوم أم أن ليلها كليله الذي سلاه فيه النوم وقضى فيه مضجعه. وربما كانت تعلم بمروره ببيتها في هذه اللحظة من الليل فجلست إلى خصاص النافذة ترقبه وتبادله نفس الشوق والنظرات الحزينة التي رسمها الفراق. لكن هيهات له أن يطمح مثل هذا المطمح أو تكافئه مثل هذه المكافئة على عذابه وعواطفه الجياشة الصادقة النبيلة، وهيهات أن تحتفظ عيناها بجمالهما لو سهرتا سهره وبكتا بكاءه في الآونة الأخيرة وتطلعتا تطلعه إليها في يأس.
مسكين هذا الفتى … إنه ينام على الأسى ويفيق ونصيبه من الفرح زهيد ولا يقدر إلى حزنه إلا كما البرق الخاطف في ركام السحاب الأسود…إنه سيذهب لينام ساعات قليلة ولن يطوع النوم إلا بعد جهد جهيد ليفيق على صوت أمه في العاشرة أو الحادية عشرة صباحا ينتهره ويأمره بالإستيقاظ والذهاب للبحث عن عمل بدل الخمول، ويذكره أنه صار مسؤولا عن نفسه وأحرى به أن يكون رجلا لا أن ينتظر اللقمة في البيت كالنساء. والحقيقة أن الوظائف بدأت تقل في تلك الآونة وارتكزت على أصحاب الوساطات والرشاوى، ولم يكن خنوعه وخموله سوى نتيجة لهذا الوضع الإقتصادي والإجتماعي الذي بدأت تعيشه المدينة خاصة منذ تأسيس الحي الصناعي وانكباب الناس باختلاف مستوياتهم وحاجتهم على الوظائف في المصانع خاصة منهم النساء اللواتي غلب عددهن على عدد الرجال. ومن يتطلع إلى حافلات المصانع أو إلى العمال ذاهبين منها أو إليها يدرك هذا الحقيقة. ثم أن صاحبنا لم يكن لديه الحماس الكافي إلى العمل، بل إنه لم يكن نشطا بالقدر الذي يخول له أن يوضع في مصاف المؤهلين المستغنين عن الوساطة أحيانا قليلة. وكان يعرف عطلته إلى أنه ليس متملقا أو أفاقا كسائر العاملين في جو المصانع الموبوء، ولو كان كذلك لكان توظف من زمان، ولكان ارتقى سلم العمل كأغلب زملائه من الدفعة. غير أنه بين الفينة والأخرى كان يؤنب نفسه على تهاونها واستسلامها إلى الفراغ. وكان يحز في نفسه سني حياته التي تذهب سدى، وأنه مقبل على المستقبل بيد عاجزة وجيب فارغ. ولقد قضى جل وقته في التفكير في كوامن هذا الصراع حتى انفرطت أيامه كحبات الدر في الليل الحالك، وفقد القدرة على تداركها واستسلم لرياح الزمن تطوحه كأوراق الخريف التي قضى الصيف منها مآربه. أو كالأشياء الثابتة العاجزة عن مسابقة الزمن. ولولا تعوده الجديد لجف ماء الحياة في كيانه، ولذبلت زهرة شبابه تماما ولشاخ قبل الأوان. وإنه ليحمد الله أن ساق في طريقه الشيخ عبد الصمد وهذه العصبة من الشباب المتدين الصبور الطموح، والتي قاسمته همومه وثورته على الواقع. فهو حين يجلس مجلسه منهم يشعر بالمساواة والسكينة، خاصة وأنهم متواضعوا الهيئة والمعاملة ومتسامحون أيضا، وليسوا من شاكلة أصدقائه من حي الشيخ، والذين يحس اتجاههم بالنفور لعجرفتهم وتطاولهم عليه وتسفيههم أفكاره. وكان يحس أن انذماجه في جو الحي هو من قبيل التكلف الذي يشق عليه، خاصة بعدما شق لنفسه هذا الإتجاه من التفكير الجاد والسلوك الملتزم، لهذا فهو يصر على عدم الإستسلام لتفاهاتهم واستهتارهم وخوضهم في أعراض الناس بلا حياء. ولطالما أوقع نفسه في مطبات جديته حين يأخذون في أحاديث السفه فينكلون به أشد تنكيل، بل إنهم يتواطئون في هذه المسألة حتى إنه لينسحب من بينهم مكسورا مهزوما مهموما من كثرة إحاطتهم إياه بالمزاج الثقيل. والحق يقال أنه كان يبالغ في جديته ويصر على توجيه الأحاديث هذه الوجهة وطبعها بهذا الطابع. وكان يجد نفسه مرغما على سلك هذا الإتجاه لما يطبع حياته من الحزن والقلق الدائم، فلا ينذمج في فرح سويعة إلا تسللت إلى كلامه نبرة الشجى. هذا إلى أن آراءه في الحب ونظرته الصارمة إلى المرأة كانت تتعارض مع آرائهم ونظرتهم الجنسية الصميمة، فهو يرفض أن ينظر إلى المرأة على أنها مجرد كثلة لحم أو متنفس للرغبات الجنسية، لهذا فهو يركز على الجانب العاطفي متناسيا رغبته الجامحة في الجماع وخياله الخصب في هذا المجال. والمرأة في نظره ونظر معظم إخوته كيان ومشاعر وشخصية وجسد … هذه هي المرأة، وعلى هذا الأساس يجب التعامل معها. ولقد استمد أحلامه العاطفية تلك من القلق والصراع اللذان طبعا علاقة أمه بأبيه فحلم بالخروج على هذا الواقع وضبط موازينه. وأدرك أنه لا يمكن فصل العاطفة عن الجنس، كما أدرك، مذ شق الصراع طريقه إلى الأبوين، أن كنه هذا الصراع هو إهمال الأب لأحد قطبي العلاقة: العاطفة أو الجنس. كما رجح الجانب الثاني معللا ذلك برقة أبيه التي كانت وبفيض عاطفته عاطفته اتجاه زوجته وأبنائه. بيد أن تغافله عن الجانب الجنسي كان يعذبه ويتعارض مع ملكته الخارقة فيه، علاوة على أن درجة الوازع الإيماني لديه لم تكن كافيه لردع هذه الملكة وتوجيهها الوجهة الصحيحة. وكان يطلق العنان لخياله حين يخلو إلى نفسه فيتصور الأعاجيب، مجردا هذه من ثيابها وعابثا بتلك بشتى الطرق والأشكال، وأدنى ما يجود به خياله قبله طويلة ساخنة. ولم تكن استنباطاته هذه من تجارب شخصية، بل مستوحاة مما يوصف له من مغامرات أو مما كان يشاهد من أفلام إغراء فيما مضى في سينما كاميرا أو سينما الزهراء. وهو إلى ذلك يغض بصره حين تمر من أمامه فتاة كاعب أو امرأة مكتنـزة متشبتا بحيائه أو على الأحرى بخجله من نفسه ومن طموحاتها الجنسية الغريبة. لكنه لن يغض النظر عن فتاته الجميلة بداعي أنه يحبها بعفاف رغم أنه يسترق النظر إلى مفاتنها حين تمر من أمامه أو حين تطل من بيتها، ويشفع له في ذلك عاطفته الصادقة وحرصه على التعرف إلى قسماتها ولو عن بعد. وهو إلى الآن حفظ منها قدها الرشيق اللجيني، ولن يفتأ يتخيل صدرها الناهد ويتمنى لو يحضنه ذات يوم ولمدة لا تقل عن عشر سنين، فحنينه إلى الصدور الفتية الرطبة جارف -وحنينه هذا مبني على التصور لا غير - وهو لا يذكر أنه حضن امرأة في حياته. وغير هذا فهو لا يملك أن يطيل النظر إلى وجهها كي يتعرف عليها بالدقة التي تتطلبها عاطفته الجياشة اتجاهها، اللهم إلا عيناها الخضراوين العميقتين، واللتان كانتا تنطقان بثقة تامة وراحة نفسية تنبعث من جو الترف الذي تحيا فيه. يتمثلها عصفورة في سمائه الخريفية أو نسمة صيف أصيلية، بل يتهيأها مع كل شيء تطبعه الرقة ويسمه الجمال، ويتطلع إليها كحبل نجاة ممدود من السماء يشيله من واقعه الذي لا ينصفه ولا يعرف له قدرا إلى عالم علوي السمات. إنه يؤمن الآن بالحب وبقدرته على التغيير إلى الأفضل إيمانا حقيقيا، ويحترم المرأة احتراما كبيرا. فما بال الرجال يجمعون على أنها لا تستحق هذا الإهتمام كله وأنها لم تخلق إلا للمتعة الجنسية؟ ربما لو تزوجها لطار الجمال والخيال ولنظر إليها نفس النظرة، لكن هيهات لحبه أن ينضب, ولن ينفك يتطلع إلى الأفق الحالم والسماء الزرقاء والنجمة الساطعة. وإلا فما قيمة العيش دون خيال وأحلام ونظر إلى المدى البعيد؟ وما قيمة الإنسان في حدود الواقع؟
إن الشيخ لا يحب أن يجادل تلاميذه في مواضيع الحب ويجنبهم أكثر الحديث عن علاقة الرجل بالمرأة، فهو يعلم أن معظمهم شباب لا يستطيع الباءة، ويعد الخوض في هذا الشأن إثارة ما بعدها إثارة، وربما أطاح بهم في كبيرة الزنى عن غير قصد. إنه يتمنى لو يستطيع تحصينهم وتحصين جميع الشباب الذين لا يقدرون على الزواج، لهذا فهو يبتعد بهم إلى الحديث عن الإصلاح والصحوة وأمثال ذلك من المواضيع التي تحث على العمل وتكاد تخلو من التلميحات العاطفية. فالشيخ ملم بالكثير من جوانب الحياة وخبرته فيها لا يستهان بها، كما أن نظرته إلى الأشياء تكاد تكون شاملة لاطلاعه الواسع على جل ميادين المعرفة من فقه واقتصاد وطب وفيزياء وسياسة و غير هذا... وهو بالخصوص يعلم الكثير عن فيزيولوجية الإنسان وعلاقتها بنفسيته ويعلم أن الشهوة تجتمع بالنشاطات الهرمونية التي تتحكم في دورتها عوامل خارجية داخلية كالغذاء والتفكير والإستماع والمشاهدة، ويعي جيدا قوله تعالى: "ولا تقربوا الزنى".
نشأ في بيئة بدوية محافظة، و لم يكن تحفظ أهله دينا صميما بل من قبيل الأعراف وهو لم يأخذ عن وسطه سوى هذا التحفظ وبعض عادات ذات نفس إسلامي وطابعها عربي أصيل، وما عدا ذلك فمجمله من تجاربه الشخصية. ولقد عانى هو الآخر في شبابه من اضطرابات نفسية وسلوكية كثيرة وغرف من ملذات الحياة الشيء الكثير. وبدأ خلقه يستقيم مذ توفي أبوه شهيدا برصاص الإحتلال ومذ صار حتما عليه أن يخلف أباه في رعاية الأسرة إلى أن توفيت أمه كمدا على زوجها فقام ببيع نصيبه من أرض أبيه ونزح بالإخوة إلى سطات، وابتاع بيتا هو بيته الحالي كما ابتاع دكانا جعله مكتبة يتناوب على البيع فيها مع رجل آخر، مقسما وقته ما بين المكتبة والأمور الخاصة من جهة وبين "التعبئة" الدينية من جهة أخرى. وهو الآخر ذاق مرارة الإعتقال والإضطهاد، وشرب من جام الأحزان والمعاناة ألوانا، خاصة بعدما توفيت زوجته ولم يكن أنجب منها أطفالا يدفئون لياليه التي أصقعتها الوحدة. لهذا فهو يقضي جل وقته خارجا عن البيت، وينام ساعات قصار بائتا أو مقيلا، معوضا بنوم الظهيرة ما فاته من نوم الليل وهو يطالع أو يتهجد مع الإخوة في الله. ثم أن إخوته ذهب كل منهم مذهبه، فهذا الذي يدرس بالخارج، وهذه التي تزوجت… إلى أن تحول ذاك الجو المشحون إلى صمت قاتل، فانكب على الكتب والتجمعات يذيب فيها شجونه ويغرف منها أصوات أنسه. وكان يردد على مسامع تلامذته حديث "الوحدة قاتلة إلا مع الله" كلما سأله أحدهم عن السر في إعراضه عن الزواج مرة ثانية، متجنبا الحديث عن تجربته السابقة، وعن زوجته التي ماتت من التعذيب والفرق على الشرف المجهوص. وإنه ليختزن في صدره بحرا من الدموع وبراكين من السخط، ويعزي نفسه بالصبر والصلاة وكثرة الذكر. وفوق هذا فهو يكتم مواقفه الصريحة من السلطة ويكتفي بالتلميح، كما يحرص على اللين والموضوعية والإعتدال في كل شيء حتى في الثورة المكبوتة والمتفجرة. غير أن عذاباته لا تُنسى وآثارها لن تنمحي رغم مضي السنين. ولن يفتأ يتذكر بعضا ممن أشرفوا على تعذيبه وزوجته واستباحة عرضهما فيزداد إصراره على الإنتقام، لكنه لن يستغل حماسة تلامذته في هذا الأمر الذي يعتبره شخصيا، وإنه لمن الأنانية والجبن أن يوكل عنه غيره فيه.غير أنه يتحرى أخبارهم ويتتبع خطواتهم ويرصد تحركاتهم، حتى أنه يوافى بأخبار الذين تم نقلهم إلى مدن أخرى ويتمنى أن تواتينه الفرصة للإطاحة بهم واحدا تلو الآخر، وتنثابه السماحة أحيانا فيحتسب أجره عند الله.
ولا زالت في جسده آثار من ذاك الماضي وفي قلبه وفي نفسه أيضا، وهو يتحاشى أن يحادث تلامذته في أمر تلك التجربة رغم ما ترامى إليهم من أنبائها، وبرغم كونه يتوق إلى التنفيس عن مخلفاتها التي تحز في قلبه باستمرار، والتي لا يخبو لهيبها، ذلك أنه يخشى أن يتبط عزيمتهم وأن يزرع الخوف في قلوبهم وهم لم يزالوا بعد في بداية الطريق. وبالمقابل كان يفيض في الحديث عن البطولات وعن أصحابها وتضحياتهم وشجاعتهم وبذلهم في الخطوب. وكان ينهج أسلوب التدرج في تلقينهم منذ إشرافه على الخلية، وهو لا يغرض من وراء هذا سوى إلى تجنيبهم الوقوع في التطرف. وكان مرنا في تعامله صارما في الحدود، لا يحب أن يتناهى إلى مرآه أو إلى مسمعه فاسد من صنيع تلامذته خاصة وأنهم منه بمنزلة الأبناء الذين حُرمهم. وكان صاحبنا من أحبهم إلى قلبه وأقربهم إلى تفكيره، فهو يذكره شبابه الذي قضى معظمه في البادية منقادا لتقاليد الأسرة وأعراف القبيلة، ويرى في نظراته الحزينة الساهمة تاريخه الحافل بالمآسي والصراع، وذاك الإحساس القاتل بالظلم والغبن، ثم أن سحنة صاحبنا وقسماته العميقة توحي بالحرمان وتعكس خصوصية في قهر شخصه وعمومية في قهر الناس.