الخميس ٩ تشرين الثاني (نوفمبر) ٢٠٠٦
بقلم عبد الإله الراوي

خنساء العراق

أم الشهداء البالغة من العمر 62 عامًا أم لثلاثة أبناء كلهم استشهدوا في معركة الفلوجة الثانية أحمد ومهيب وعمر.

تسكن الآن وحيدة في بيت صغير في الفلوجة وتجني قوتها من عرق جبينها على الرغم من كبر سنها حيث تعمل على صنع المكانس وتبيعها لأهل المنطقة مقابل قليل من المال تشتري به ما يسد قوة يومها، رافضة كل المساعدات التي عرضها عليها التجار والميسورون من أهل الفلوجة، لقد عرفت في الفلوجة بأنها صاحبة دعوة مستجابة، ولهذا يأتي يوميًا العديد من الناس إلى أم الشهداء طالبين منها الدعاء لهم خاصة النساء اللاتي أشرفن على الإنجاب أو الذين ينون السفر أو المرضى وحتى بعض رجال المقاومة، يأتون إليها قبل كل عملية لهم يطلبون منها الدعاء بأن يسدد الله رميهم ويحفظهم.

دخلنا إلى منزلها الصغير وكانت تخصف المكانس في حديقة المنزل يحيط بها من كل جانب سعف النخيل الأخضر مع خمس دجاجات تربيها في باحة منزلها الصغير.

ودخلنا إلى الدار

السلام عليكم يا خالة.

وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته الله حَيّهم وِلْدِي تفضلوا.

دخلنا إلى الدار وجلسنا إلى "مندل" بساط من الصوف، فتركت ما بيدها وتفرغت لنا بعد أن شاهدت الكاميرا ودفترًا صغيرًا نحمله معنا.

تفضل ولدي أي خدمة

نحن من "مفكرة الإسلام" يا خالة ونريد منك أن تتكلمي معنا عن قصتك في الفلوجة أثناء معركتها الثانية إذا لم يكن هناك مانع.

وهنا أبدت أم الشهداء استغرابها وقالت: "مفكرة الإسلام" هذه وين تطلع ما سامعة بيها على التلفزيون.

 مفكرة الإسلام يا أمي هذه موقع أخبار إسلامي على الإنترنت يهتم بأمور المسلمين في العراق وبقية بلاد المسلمين.

 تضحك أم الشهداء وتقول والله يابن الحلال ماني عارفة على إيش تتحدث لكن تفضلوا اسألوا وآني أجيبكم إن شاء الله.

نريد أن تحدثينا عن أم الشهداء في معركة الفلوجة الثانية، وهنا حرك مراسل مفكرة الإسلام العدسة عفويًا ولم يكن قصده تصوير أم الشهداء فقالت :والله يا ابني أنا لا أحب هذه الصور فهي حرام وأنا أمكم امرأة مستورة وعلى الرغم من كبر سني إلا أنني أبقى امرأة ولا يجوز لي ما حرمه الله على النساء.
أما عن قصتي فهناك العشرات مثلي في هذه المدينة إلا أني كنت أكبرهن مصابًا فقد فقدت أبنائي الثلاثة أحسبهم عند الله شهداء.

وهنا تسرد الحاجة زكية أم الشهداء قصتها وتقول:

أنا عجوز فلوجية أيقنت أن الله حق فامتحنها الله ولا يزال ...وأرجو منه أن يوفقني في اجتياز الامتحان فقد تعبت كثيرًا والله.
توفي زوجي قبل عشر سنوات ـ ونعم الزوج رحمه الله ـ ورزقني الله بثلاثة أبناء وبنتًا واحدة هم أحمد ومهيب وعمر وخلود وكان أكبر أولادي أحمد عمره 35 عامًا ثم خلود ومهيب وأصغرهم عمر، عكفت أنا وأبوهم على تربيتهم وحمايتهم ورعايتهم وكان أبوهم ـ الله يسكنه الجنة ـ يعلمهم ويوجههم حتى كبروا وصاروا خريجي كليات والتزموا المساجد منذ صغرهم حتى موتهم وانضموا إلى فصائل المجاهدين في الفلوجة بعد الاحتلال.

هذا عن عائلتي أما عن الفلوجة وبداياتها فهي طويلة سأختصر لك الكلام لأني صائمة وعندي عمل كثير في البيت وهناك ناس دفعوا لي المال كي أخصف لهم المكانس.

قبل معركة الفلوجة الثانية بأسبوع واحد كنت أجلس مع أحمد ومهيب وعمر أولادي رحمهم الله في منزلنا القديم في حي الشهداء يشربون الشاي عصرًا معي، وهم يحاولون طيلة جلوسنا أن يقنعوني بالذهاب إلى بيت أختهم في قرية خارج الفلوجة خوفًا علي من المعركة، وكان الأمريكان والشيعة والأكراد يتجمعون مثل الجراد حول بوابات الفلوجة الأربع.

إلا أني رفضت ذلك وتوسلوا بي كثيرًا ـ رحمهم الله ـ على الخروج خاصة عمر وهو أصغر أبنائي كان
يقول لي: "يا أمي اطلعي من الفلوجة وخلينا نقاتل وإحنا قلوبنا مطمئنة من جانبك اطلعي تراني أجيب سيارة بيك أب وحطك بيها وطلعك بالقوة" وكان يمازحني رحمه الله، كما أنه كان كثير المرح يحبونه كل أصدقائه لخفة دمه حتى أنه يسميني حجي وليس حجية ويقول لي: "إن شجاعتك هذه للرجال مو للنساء".
ومع إصرار الثلاثة إلا أنني رفضت طلبهم وقلت لهم: "أبقى أطبخ لكم الطعام ولجماعتكم وأداوي جرحاكم ما أطلع من الفلوجة ما دام أنتم بها، والله ما أقدر أخلي قلبي في الفلوجة وأطلع منها"،
ومع إصراري تركوني على ما أريد ـ رحمهم الله ـ وكان القرار النهائي لي ولهم هو البقاء في الفلوجة حتى نهاية المعركة إما النصر أو الشهادة والحمد لله نال أبنائي الشهادة.

كان أحمد وعمر ومهيب فصائل مختلفة وكانوا يتحدثون فيما بينهم عن خطة تبقيهم على اتصال أثناء المعركة، وكنت أسمع حوارهم بشوق، وأنا أتخيلهم كيف كانوا صغارًا وكيف كان أبوهم في الحياة يحملهم ويلاعبهم وكيف كبروا، وكيف صاروا في المدارس، وكيف أصبحت لهم لحى وشوارب، حتى أنني كنت أتذكر كل واحد منهم كيف خطا أول خطوة في حياته، وأتذكر يوم فرحي بممشاهم وكيف ظهرت أسنانهم وأحط يدي بها حتى يعضوها، وأنا أضحك عليهم وكيف كان يومهم الأول في المدرسة ومعهم حقائبهم الصغار.

كنت أبكي سرًا عليهم دون أن يعلموا لكي لا ينهاروا لأني كنت متأكدة أنهم سيقتلون في تلك المعركة "وجيبوا لي أم تتخيل أولادها كلهم يقتلون إيش تسوي؟" لكني كنت أدعو الله أن يأخذ روحي أيضًا فيها حتى لا أذوق لوعتهم وحسرتي عليهم.

وهنا تبكي أم الشهداء بكاء بمرارة بدون صوت والحقيقة فقد بكينا لكنا معها

وفجأة نهضت وقالت: "أمهلوني أروح أشوف شوربة العدس أخاف لسعته النار واحترقت"

إلا أنها في الحقيقة لم تذهب إلى المطبخ فقد كنا نسمع بكاءها في غرفة مقابل شباكها للحديقة، بكاء يختلف عن بكاء النساء المبتليات صاحبة دعاء تفوهت به تلك العجوز.

حيث قالت: "يا رب الملوك والرؤساء يأتون إليهم الناس فلا يردونهم ويلبون مطالبهم حتى إن كانوا محكومين بالإعدام فكيف بك يا رب وأنت ملك الملوك أقف الآن على بابك وأطلب منك أن تقبض روحي فإني اشتقت إلى أولادي وزوجي ولم يعد لي بهذا الدنيا أحد، يا ربي لا تردني مسكينة وأرملة وميت أولادها يا رب أنت قادر فلا تخيبني"

بعد دقائق عادت أم الشهداء إلينا وكانت عيونها محمرة من البكاء وجاءت تمشي متكأة على عكاز لم تكن تحمله في بداية مشاهدتنا لها ويبدو أن جسمها انهار بعد البكاء مع ما فيها من ضعف وقالت بتلطف :"الغاز اتحطه منا على الطباخ هو يخلص منا بيوم واحد أكيد يغشون الغاز ويبيعوه لنا بسعر غالٍ الله يسامحهم".
ولم تعلم المسكينة أننا كنا نسمع بكاءها ودعاءها .

فواصلت حديثها معنا وقالت :في يوم 7/11/2004 اشتد القصف وكانت هناك محاولات لاختراق الفلوجة من الجانب الشمالي صاحبها إلقاء قنابل مضيئة في الفلوجة، وكانت الساعة الحادية عشرة ليلاً كنت وحدي في المنزل وبدأت أقرأ ما أحفظه من القرآن على صدر فأكملت كل السور الصغيرة التي أحفظها وبدأت أدعو الله بالنصر أولاً، وبحفظ أبنائي ثانيًا، ولم أنم تلك الليلة حتى صلاة الفجر أحسست بعمر وهو يقف فوق رأسي وكنت ممددة على السجادة وهو يقول لي: "ها يمه اشو بعدك ما نايمه إحنا بخير وآني كنت عند مهيب وأحمد وهُمّه بخير ويريدون تسوين أكل وشاي يكفي لـ14 مجاهدًا . إيش رأيكي ما تبغين الأجر"، فرحت والله بضيوفنا وأسرعت إلى المطبخ وأعددت لهم أكلاً يكفي لثلاثين رجلاً وشايًا وخبزًا حارًا خبزته بسرعة .
ذهب عجل وخرجت معه إلى الباب أساعده بحمل الأكل حتى وصلته إلى السيارة وقال لي: "يمّه الغداء اليوم عليك، أخي مهيب تبرع للمجاهدين العرب بوجبة الغداء".

صليت الفجر ودعوت الله أن يحفظهم أجمعين.

وكانت حينها الفلوجة لا تزال تتعرض لضربات من الطائرات الأمريكية والمدافع ومع كل ضربة يهتز البيت فوق رأسي حتى يكاد يسقط، وأتوجه إلى الله بالدعاء والقرآن بالفعل أعددت الغداء لهم، وجاء مهيب وقبل يدي كعادته وطلب مني أن إذا جاء أحد إخوته أن يقابلوه لأمر مهم سألته عن الأمر فأجابني بأنه شيء بسيط لا تشغلي بالك به.

ذهب وبقيت أنظر إليه حتى غاب عن نظري وكان رحمة الله طويلاً ضخم الجسم.

في نهار اليوم التالي وكنت قد خبزت أكثر من 200 رغيف حتى تعبت يداي من طرق الخبز وأعددت قدرين كبيرين من الأرز والمرق، جاء الثلاثة معًا وجلسوا عندي لساعة واحدة وكنت أقبلهم وأشمهم كما لو كان صغارًا، وأتمعن بالنظر إليهم جيدًا كأنني كنت أعلم أني لن أراهم بعد اليوم، والله ما أنسى قبلتي لهم ما بقيت، ولا تلوموني مات أبوهم وما عاد لي في الدنيا إلا هم، وكنت والله أعرف الواحد منهم من ريحه الطيبة، خرجوا سوية بعد ساعة وأخذوا الأكل معهم وقبلوا رأسي ويدي وقالوا لي: "يمه ادعيلنا بالله عليك"

فقلت لهم: لماذا تحلفوني بالله أن أدعو لكم ليل نهار، فقالوا لي: ليس لنا بل للفلوجة أجمع. وخرجوا ولم أرهم بعدها.

ومضت على الفلوجة عدة ليالٍ في قتال شرس يأخذ العقول، لا أسمع إلا صيحات التكبير ودعاء المساجد وضربات المجاهدين وقصف الاحتلال. كنت يوميًا أجلس على باب الدار ساعات وساعات وأنا أنظر إلى الشارع أملاً بقدوم أولادي، وكنت أسال أي شخص من القادمين باتجاهي وأركض نحوه "ها يبو الغيرة (يعني يا صاحب الغيرة) ما شفت أحمد ما شفت مهيب ما شفت عمر ولدي"

وهنا تبكي مرة أخرى أم الشهداء .

وكان بعضهم يقول لي إنه لا يعرفهم، والبعض الآخر يقول لي إنه لم يرهم إلا واحدًا منهم قال لي:
يا أمي أحمد وعمر في حي الجمهورية ومهيب في حي النزال وهم بخير.

وكان مسرعًا فركضت خلفه فعثرت قدمي وسقطت على الأرض ونزف أنفي الدم وأنا أتوسل به أن يقف ليكلمني، فتوقف مرة أخرى وقال لي: يا أمي قلت لك إنهم بخير وما بيهم أي شيء والحمد لله لكن لا تأخريني عندي عمل مهم إذا شفتهم مرة ثانية راح أبلغهم سلامك وأعطاني غترته وقال لي: نشفي دمك يا أمي وذهب .

وبقيت على هذا الحال حتى يوم 12/12 لكني قررت خلال الأيام التي سبقت هذا التاريخ أن أقوي قلبي وأتوكل على الله وأفعل شيئًا للمجاهدين، فقمت بطبخ الطعام وتوزيع المياه للمجاهدين العرب، وأصنع اللفافات من ستائر المنزل وشراشف البيت ووجوه "المخاد" الوسائد وأداوي بها المجاهدين الذين يصابون في المعركة، والحمد لله والله كل الذين عالجتهم عادوا إلى القتال، وبلغ عددهم أكثر من 20 مجاهدًا.

وقبل أن أصل بكم إلى يوم 12/12 في يوم 9/12 والتواريخ هذه كلها مضبوطة عندي كوني كنت أحسب على تاريخ فراق أبنائي لي، قام اليهود في هذا اليوم بالفاء الكيماوي على الفلوجة بشكل كثيف خاصة في وسطها، استشهد عدد كبير منهم وأحرق هذا الكيماوي حتى الشجر والحيوانات مما ساعد الاحتلال على التقدم إلى وسط الفلوجة خلال ساعات مع استشهاد العشرات من المجاهدين، ثم أعقبها إشاعة بثت في صفوف المجاهدين من مصادر مجهولة لم نعلمها حتى الآن إلا أنها من عملائه بدون شك.

تقول: إن عمر حديد وعبد الله الجنابي قتلا في هذا الكيماوي فشاعت فوضى داخل الفلوجة في صفوف المجاميع لا يعلمها إلا الله، وكنت أسمع عن هذا من بعض الجرحى الذين أقدم لهم المساعدة.
إلا أن عمر حديد وعبد اللة الجنابي سارعا بتفنيد تلك الإشاعات حيث تجول الاثنان بين المجاهدين في ذلك اليوم، الأمر الذي أعطى روحًا معنوية للمجاهدين كبيرة كبدت الاحتلال خسائر لا يعلمها إلا الله
استمر القتال الشرس كر وفر بين المجاهدين والاحتلال بشكل كبير وكنت أسمع عن شهداء بين المجاهدين بالعشرات وأدعو الله أن يقر عيني برؤية أولادي الثلاثة يوميًا.

حتى يوم 12/12/2004 وكان يوم الأحد الساعة الحادية عشرة ليلاً حيث دارت معركة قوية جدًا بين المجاهدين والأمريكان في محاولة منهم للسيطرة على حي الشهداء قادمين من خارج الفلوجة وليس من داخلها.

وكان القتال قريبًا من بيتي وكنت أنظر إلى السماء وهي تشتعل بالنار منظرًا لن أنساه أبدًا سقط في المعركة عدد من الشهداء كنت أسمع أنينهم قرب بيتي واستمرت قرابة أربع ساعات من الساعة الحادية عشرة وحتى الثالثة أو أقل بقليل، فشل خلالها الأمريكان من اقتحام الحي، خرجت إلى باب الدار فسمعت أنينًا يخرج من أحد المجاهدين وكان مصابًا ويذكر الله وما ينفك عن لا إله إلا الله محمد رسول الله.

فأسرعت عليه وكان لا يزال حيًا فسحبته بكل قوتي وكان مصابًا في صدره ووجهه وأدخلته إلى المنزل، وأسرعت بالماء وغسلت وجهه وربطت جرحه كي يقف النزيف، وكان يبكي فظننت أنه يبكي من شدة الألم وكان كلما ينظر إلي يبكي فقلت له: "توكل على الله يا رجل جرحك هين وإن شاء الله طهور وخير ما بيك كل شيء، والصبح قرب على الطلوع وراح يجون ربعك يأخذوك يداووك لكن خلي أروح أشوف ربعك بيهم روح ولا لأ؟"

فأخذ يبكي أكثر كأنه لا يريد مني الذهاب فتوقعت أنه يريدني بجانبه وهو يشعر بقرب موته ولا يريد أن يموت وحيدًا فأقنعته أن رفاقه بحاجة إلى العون وسأذهب وأعود بسرعة.
خرجت بعد أن ربطت خصري بعبائتي إلى الشارع.
خرجت إلى الشارع فقررت أن أبدأ بالجرحى وبالفعل وجدت جريحًا ثانيًا وكان عربيًا فسحبته إلى داخل الدار وقمت بما يتوجب علي القيام به لكني تفاجأت عندما خاطبني بقولة خالة أم مهيب كونه يعرفني أولاً وكون الناس تسميني أم أحمد فاعتقدت أنه صديق ابني ويعرف بيتنا.

وكان جرحه تحت السرة رحمة الله تعالى وكانت أمعاؤه خارجه إلى الأمام فأخبرني أنه يريد طينًا من الحديقة وملحًا ولفافًا فقط، أعطيته ما أراد وخرجت من الغرفة إلى الشارع مرة أخرى.
وجدت جثتين تبعدان منزلين عن منزلي سحبت الأولى بكل قوتي إلى المنزل وقمت بوضعها في الحديقة وجلبت "الكرك" معول لحفر قبر له.

وبالفعل قمت بحفر مسافة عمق ثلاثة أشبار وعلى طوله مترين تقريبًا ودفنته وبالكاد كاد التراب أن يغطي وجهه رحمه الله، لكني نويت أن أودعه أمانة عند الأرض تحفظه حتى يأتي أهلة أو رفاقه لنقل جثته ودفنها بشكل شرعي وملائم.

وبعد أن دفنت الأول تعبت جدًا حيث إني أكبر من أن أسحب جريحين وجثة ميت لمسافة عشرات الأمتار، لكني توكلت على الله وقلت في نفسي عسى أن يحفظ الله أولادي من الموت جزاء فعلي هذا،

خرجت مرة أخرى إلى الشارع فوجدت شهيدًا آخر وكان ضخم الجثة طويلاً فقمت بسحبه من قدميه ببطئ، كوني تعبت وخلال دقائق أوصلته إلى حديقة المنزل، وهناك ساورني الشك بأن هذا الشهيد هو شخص أعرفه وكان قميصه قد تمزق من على ظهره حيث كانت رائحته مألوفة عندي وكان الليل معتمًا لا أكاد أرى كف يدي، فركضت إلى البيت وجلبت فانوسًا على الرغم من خطورة أي نور يخرج من بيت، حيث إن الطيران ممكن يقصفه بأي لحظة.

وهناك عندما جلبت الفانوس وقربته من وجهه الشهيد المغطى بالدم والتراب صعقت وتجمدت في مكاني وانشل لساني وجسمي كله لدقائق، حيث كان الشهيد هذا هو ابني مهيب ولدي الأوسط.
وهنا تقطع أم الشهداء حديثها وتجهش بالبكاء وتقول والله يا مهيب كسرت ظهري أنت وإخوتك تركتموني ورحلتم، ثم قالت: إنا لله وإنا إليه راجعون حسبي الله ونعم الوكيل.

كنت قد قررت أن لا أبكيهم واليوم هذه المرة الثالثة التي أبكي عليهم.

وتواصل حديثها المؤلم فتقول: رفعت رأسه وأخذته إلى صدري وبكيت فوقه وتكلمت معه لمدة نصف ساعة كأنه حي أذكره بسوالفه الطيبة معي ويوم كان صغيرًا يرقد في حضني وقلبت شعره الجميل الناعم بأصابع يدي كما كنت أفعل كل مرة، وقلت له: "يا مهيب إني أمك ... نام يا قرة عيوني نام وارتاح من هذي الدنيا فزت يا وليدي والله ما أردت أن أخليه ينزل من حضني" ودفنته تحت الزيتونة التي كان يحبها ويقرأ تحتها دروسه عندما كان صغيرًا وعمقت الحفر له لأني قررت أن يكون قبره في منزله.

في الصباح وصلت مجموعة من المجاهدين وكنت لا أزال عند قبر مهيب حارسة وليدي الشهيد كأن أحد سيأخذه مني، بكيته من الليل حتى الصباح سمعت صوتهم في الشارع فخرجت إليهم وعرفوني وعرفتهم حيث إنهم رفاق أحمد وعمر من التنظيم.

سألتهم وقلت لهم: بشروني ولدي أحمد وعمر وينهم فأطرقوا رؤوسهم إلى الأرض وقالوا لي: يا خاله احسبيهم عند الله أحمد وعمر ماتا في حي النزال ليلة أمس ودفناهما في ساحة بيت حجي خليل الفياض.
لا أدري لماذا لم أبكي ساعة الخبر، قد يكون بسبب جزعي وتعبي من البكاء على المهيب أو من هول ما أنا فيه، إلا أني قلت لهم: هل ماتوا مقبلين أم مدبرين فقال لي أحدهم: والله ماتا وهما مقبلين وأخذا ثأرهما قبل موتهما.

حمدت الله تعالى وطلبت منهم أن يدخلوا إلى الدار لأخذ الجريحين.

وبالفعل دخلوا فوجدوا أحدهما وهو العربي قد فارق الحياة بينما الثاني لا يزال حيًا أخذوا الجريح معهم بينما دفنوا الجريح الذي استشهد في حديقة داري أيضًا وتعجبوا من تمكني حفر قبرين في ساعة واحدة.
فأخبرتهم أن القبر الذي تحت الزيتونة هو لابني مهيب والثاني لشهيد لا أعرفه وهو غير محفور بشكل جيد وطلبت من أحدهم استخراجه وتعميق الحفر له خوفًا على الجثة.

طلبوا بعدها مني أن آتي معهم حيث إنهم سيحاولون إخراجي من الفلوجة إلا أنني رفضت ذلك فتحدث معي أحدهم وكان غير عراقي وقال لي: يا أمي أنت فقدت ثلاثة من أولادك وإحنا كلنا أولادك إن شاء الله احتسبي أحمد وعمر ومهيب في الجنة عند الله.

ذهبوا من أمام عيني مسرعين وعدت إلى داخل الدار أصلي الضحى، دارت بعدها ثلاث معارك في ثلاث ليالي طويلة، تمكنت خلالها من سحب أربعة شهداء آخرين ودفنهم في حديقة الدار، وبذلك أصبح في حديقة الدار سبعة قبور لسبعة شهداء امتلأت حديقة المنزل والبيت كله برائحة المسك لم أشم مثلها من قبل، وكانت تجعلني أشعر بالسعادة وتعطيني الصبر ونمت أربع ليالي على التراب بجوار قبر مهيب، وأنا أشم تلك الرائحة، نمت معه مثل الأم التي تحتضن ولدها عندما ينام، وبقيت محبوسة في الدار مع الشهداء السبعة حتى يوم 13/1/2005 حيث دخل الهلال الأحمر بعد سماح الاحتلال له بالدخول من الاتجاه الشمالي أجبرني بالقوة على الخروج معهم إلى مخيم في الصقلاوية

وهناك علمت أن مهيب ورفاقه تم استخراجهم من قبل فريق المتطوعين من أهل الفلوجة بعد انتهاء المعركة ودفنهم مع إخوتهم في مقبرة الشهداء الجديدة.
هذه قصتي وأقولها على رغم كل الألم والمصاب الذي لحق بي، تمنيت أن يكون عندي ثلاثة آخرين يقتلون في سبيل الله.

على الرغم من لوعتي عليهم إلا أن أمك تفتخر كونها أم الشهداء.

اختتمت أم الشهداء حديثها ببيت شعر بدوي بالكاد تمكنا من كتابته قالت إنه لعلماء المسلمين الذين يضعون العمائم على رؤوسهم، أهدي لهم هذين البيتين أقول لهم ماذا ستقولون يوم الوقوف بين يدي المنتقم الجبار قالت فيه

بيكم هكينا وعبالنا احمولنا اتشيلون ..... وما حسبنا بيكم بالمصيبة اتروغون

بيكم هكينا وعبالي نشـــــامه أحباب ..... يا حيف خاب الأمل كله وطلع جذاب


( بيكم = بكم ) ( عبالنا = على بالنا أو ظنينا )( اتروغون = تهربون ) ( ياحيف = واأسفاه) ( جذاب= كذاب )


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء او المديرات.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى