صفق … صفق.. أو تموت .. ياصديقي .
علي أن أوضح للقارئ الكريم بأني منذ مدة طويلة لم أكتب أي قصة أو مقال أدبي ، الاحتلال فرض علي أن احمل قلمي بيدي للدفاع عن الوطن . لأني للأسف لم أكن عسكريا ولم أتعلم بصورة جيدة حمل السلاح . فمعذرة لأبطال المقاومة لأني لا أستطيع أن أكوب بقربهم جسديا . ولكني أعيش معهم دائما ليس بقلمي فقط ولكن بكل أحاسيسي .
عفريت رهيب يتقمصني .. صوته الأجش يلاحقني كظلي .. أنت غريب .. غريب غير منسجم مع نفسك ومع العالم .. سوف لا تحصد من عنادك إلا المعاناة والندم .. ستكون منبوذا . منبوذا . . ستقضي بقايا أيامك منطويا على نفسك .. ناسك في صومعة .
ستكتب عليك اللعنة .. سيرجمك الجميع لأنك لا تحتقر النمل ولا تنحني للأسود كما يفعل أقرانك . إذا لم تتعلم كيف تطأطئ رأسك .. فهذه الرأس مصيرها البتر .. الشجرة التي لا تنحني للعواصف .. تتكسر .
هل أنا الضحية وهم القتلة أم أنا القصاب وهم الخراف ..؟
لا أدري .. إن عقلي المتحجر غير قابل للتطور حسب طريقتهم .
السلسلة تضيق على رقبتي .. أشعر بالاختناق .. أتلهف للانقضاض .. أن أثور بوجهه .. بوجوههم جميعا .. عليّ أن أحاول قبل أن أتحول إلى جيفة مثلهم .
أرغب بالجري دون تحديد المسار .. مع ذلك أحاول إلى الأمام .. عملية شاقة .. لا مخرج .. كل المنافذ مغلقة بجثث متعفنة .
أقرأ
لافتة جثث الخونة .. ممنوع .. أسلاك شائكة .. جنود … شرطة .
ليس باستطاعتي الانطلاق .. سأجري إلى الخلف .. للخروج من هذا الخندق الذي تنبعث منه عفونة لا تطاق .. لأهرب من معاناة التمزق بين الواقع المخزي .. والأحلام.
أسمع قهقهة العفريت المدوية .. أحلام .. ها .. ها .. ها .. أحلام .. هذه الكلمة فقدت معناها منذ زمن سحيق .
قهقهته الشيطانية تقطع أوصالي .. تكتم أنفاسي .. تسرق مني كل محاولة للتفكير.
أقلب قصاصات الصحف العتيقة لمحاولة استقراء الماضي .. جاهدا استنباط حزمة نور تمنحني طاقة جديدة لسبر أغوار المستقبل .. أملا كبح سيطرة الغول العين الذي يريد محو كياني .. أرفض أن يبتلعني .. ويرسم اللعنة على جبهتي.
الرجوع إلى الماضي المشرق .. إلى بطولات الصحابة .. المعتصم .. صلاح الدين .. لعبة لطيفة ومسلية .. إيقاع الخيول .. صلصلة السيوف .. تغاريد العذارى .. موسيقى عذبة ينساب منها دفئ لذيذ .. ولكنها بعيدة الصدى لا يسهل علي التقاطها .
إذا لأعد إلى قبل عشرات السنين .. كنت في عنفوان الشباب .. ابتسامة الأمل تشرق كشمسنا التموزية على شفاه أولاد محلتنا .. الأحلام الوردية تلون ليالينا ..أحلام وردية قانية .. كدماء الشهداء التي عطرت مياه أنهارنا وودياننا .. وروت أرضنا الجرداء لتحولها إلى حقول مزهرة .
دماء الثوار .. لآلئ ساطعة .. أنشودة رددتها جبالنا … وسهولنا .. وأهوارنا .. منادية بالحرية ..
نستحث الخطى .. نطلق الأشرعة لتبحر الزوارق .. متحدية الأمواج الهائجة ..حاملة الورد لأطفالنا .
الدماء جرت أنهارا في كل بقعة من أرضنا المعطاء … تجنبا للعنة الأحفاد .. منطلقين بأن الزمن لا يفتح ذراعيه أكثر من مرة .. قبضنا عليه بأسناننا كي لا يهرب .
رغم سياط أمواج البحر العاتية .. رغم سيوف الجلادين المسلطة على رقابنا .. كانت ضحكاتنا تمنحنا الاطمئنان .. القدر لا يخدعنا .
لقد خرجنا من الجحيم .. أرى بوضوح لا يقبل الجدل .. الطيور طليقة تغرد بنشوة غامرة .. الأشجار تتباها بجمال ثيابها وثمارها .. القمح يطرز حقولنا بابتسامته الذهبية الساحرة .
لقد وصلنا .. لم تبق إلا خطوات .. خطوات معدودة .. وتتحقق آمالنا.
أستيقظ بعد أكثر من ثلاثين عاما .. ثلاثون طنا من الآلام والمعاناة .. الجلاد صنما على رأسي ورؤوس أولادي .. لا طيور .. لا ورد .. لا قمح ولا بذور .. ولا ابتسامة .. لقد سرقوها .. سرقها الأوغاد الكبار.
شربوا دماءنا وعرقنا .. وعربدوا .. قتلوا أحلامنا وأكلوها بنهم .. ولحسوها .. لم يبقوا لها على أثر .. دون أن يصابوا بالتخمة .
أنظر حولي .. جماهير لا تعد .. ضوضاء مقرفة .. وجوه غير مألوفة .. موكب ضخم يمر .. صراخ .. تصفيق .. هتافات : عاش .. عاش.
الفضول آفة قاتلة .. حاولت تلمس طريقي بين الأكداس النتنة .. لأرى الموكب … لمشاهدة صاحبه .. كومة عفنة.
أرجل الحراس تركلني .. سياطهم قاسية تؤلمني .. العرق ينهمر مني بحرا .. أشعر بالإعياء .. بالبرد.. بالحر .. اختلط الدم والعرق في فمي .. مذاقه غير مستساغ .. أشعر بالقرف .. حاولت التعبير عن رفضي .. عن عدم تقبلي لأساليبهم الجهنمية .. صرخت بأعلى صوتي : يسقط .. يسقط .. كلماتي تلاشت بين صيحات الرعاع .. بلا صدى .. أو ربما أني لم أصرخ .. توهمت بأني فعلت .. لا أدرى .. حاولت لملمة أفكاري لأتأكد بأني لست في حلم مزعج .. ربما إنه كابوس مزعج ليس إلا ..ولكن هذا أنا ممدد على الأرض .. قواي تخونني .. أشعر بخور لذيذ .. بأنغام سرمدية .
أين كنت .. منذ متى أنا ملقى هنا ؟ .. الزمن لم يعد له معنى .. أتلفت حولي .. لا أحد .. رمال ,, رمال على امتداد النظر .. جمعت بقايا جسدي .. امتطيت فرسي العجوز .. تقلدت سيفي الصدئ .. اكتشفت مدنا كثيرة .. قرى .. شوارع .. ساحات .. المشهد نفسه يتكرر أينما حطت قدماي .. تصفيق …هتاف ... يعيش .. يعيش ..
قواي العقلية تخونني لا محالة .. ولكن في هذه اللحظة أجد مفتاح السر .. ينتصب أمامي رجل لحيته بيضاء كالثلج .. جبته ناصعة .. إنه بلا شك أحد الملائكة .. إن الله رأف بعبده .. أرسله من السماء ليأخذ بيدي .
حييته .. ابتسمت له .. تقرب مني حذرا .. وضع يده على رأسي .. جس نبضي .. عد دقات قلبي .. أهو طبيب أو ملاك .. أو شيطان متخف ؟
– أنت مريض يا ولدي ,
– مريض ! ! ؟ إنك تمزح لا محالة .. أيها الشيخ الوقور ؟
قهقهت .. بكيت .. إنه ليس منقذي .. صرخت بأعلى صوتي .. سمعت أنينا يخرج من بين شفتي .. لأول مرة منذ سنوات طويلة .. أكتشف بأن لي شيئا اسمه صوت .
وقف الرجل .. أو التمثال .. مبهورا .. نظراته تعريني .. ينظر إلى حيوان أسطوري
– إنك مريض بلا شك .. حالتك خطيرة جدا .
– أنا في أتم الصحة يا سيدي .. ولست ممن يتردد على الأطباء .
هز رأسه
– عرفت الآن سر تصرفاتك الشاذة .. أنت إذا غريب .. بإمكاني تشخيص علتك .. قرأت في بعض الكتب والمجلات القديمة التي لا يستطيع أحد استيعاب محتوياتها في يومنا هذا .. بوجود ثلاثة أصناف من البشر في الماضي : من عارض ..من سكت .. ومن صفق .
علي أن أبق متيقظا .. إنه يحاول خداعي بمظهره .. من المؤكد إنه ليس ملكا .. إنه يتصورني تعبت .. ها هو يسترسل .
– الصنف الأول انقرض نهائيا بفضل الدواء الحديث الذي اكتشفه خبراؤنا .. وبقى سرا .. لم يجربه أحد غيرنا في أية بقعة من المعمورة قلت متلهفا :
– وهل وصلنا إلى مرحلة .. الاختراع .. الاحتفاظ ؟
قاطعني زاجرا .
– عليك أن تسمع فقط .. هذا الدواء السحري .. قضى نهائيا على الصنف الأول .. الصنف الذي يعارض .. أما الذين ينضوون تحت الصنف الثاني ، الذين يسكتون ، فبعضهم استمر بالعيش دون أن يعلموا بأنهم يعيشون .. والغالبية منهم .. والحمد لله .. أصبحت كالآخرين .
لذا نحن نمرح في روضة من السلام .. لا أحد يلون نقاوة مياهنا .. نجهل أكثر الكلمات الجرثومية التي كنتم تتمشدقون بها .. مثل : خائن .. عميل ..مستغل.. يسقط . إن ما نستخدمه اليوم من مفردات .. قليلة جدا .ز لا نحتاج إلى قواميس .. أو معاجم .. ولا إلى صحف ومجلات متعددة .. مطبوع واحد فقط .. يطبع بعدة ألوان .. لذا نرفض أن تسمم وجباتنا ممن يحمل أمراض معدية قاتلة .
أفهمت الآن لماذا سأصطحبك إلى أحد الأخصائيين ليعالجك ..؟ لتصبح كالآخرين .
إنه يضحك على نفسه .. بمحاولته الضحك علي .. لا .. لا أستسلم .. إنه يعرفني جيدا .
صرخت
– لكن لماذا يتوجب علي أن أصبح كالآخرين ؟
– استئصال المرض من ينابيعه .. علاج سحري اخترعه فطاحلنا .. وضعك خطير يا صديقي .. سرطان يهدد بالانتشار .. أسئلتك العقيمة تعكر صفاء أجوائنا .. تسمم عقول أطفالنا .. معالجتك قضية مفروغ منها .. لتصفق .. تصفق .. أو تموت ,
– صرخت بأعلى صوتي .. لا .. لا .. لن أموت وإذا مت سأبعث .. كما كنت .. من جديد .