خَـيْـِريَّـةْ
هكذا .. دون مقدمات، يمكنني القول إنها ماتت، لولا أن التاريخ سينتقص من كل من عايشها، ومن كل من عرفها، وربما من كل من سمع بها، ولم ينصفها لأنها منعطف مهم من منعطفاته.. هي خيرية .. لكنها ليست كأية خيرية، وليست الخير مجردا مضافا إليه ياء النسبة وتاء التأنيث وحسب.. إنها ذلك كله، ومعه مزيج من وهج الحياة، ورقة النسيم في وقت الأصيل، وأصالة الانتماء عندما كان الناس جميعا يدركون معنى الانتماء، هي امرأة اعتيادية في كل شيء، وغير عادية في كل شيء أيضا، ولعل البعض لا يدركون معنى هذا؛ لأنهم لم يعايشوا نموذجا مثله، مع أن الأمر بسيط، فهل تعرف ما معنى أن تمسك الحب والطهارة والنقاء بيدك وتوزع منه على المحتاجين؛ كل على قدر حاجته؟ ولأبسّط الأمر أكثر، هل تعرف ما معنى أن تكون أنت وفق ما تشتهي وتحب لا كما يراد لك أن تكون؟ معنى ذلك أن تكون متشبها بإنسانية خيرية.
خيرية انبثاق الروح من جسد الحياة، خيرية حب بلا حدود، خيرية امرأة لا تشبهها أية امرأة مهما حاولت التشبه بها، خيرية عطر القلب، وعبق النفس، ولذة الوجود، خيرية التعبير المباشر عن كينونة الفلسطينية التي خلقت لتكون فلسطينية، مكتسبة من رحابة مرج ابن عامر سعة الأفق، ومن جرزيم وعيبال، بل والجرمق وتل العاصور شموخها، ومن بيت المقدس طهارته، ومن الأغوار الدفء والحنان، ومن الخليل عبق الكروم، ومن الثورة عنـفـوانـها، ومن بيت فوريك عنوانها الواضح، ومن سالم ينبوعها العذب. خيرية امرأة أحببتها كما لم تُحب امرأة غيرها، خيرية امرأة لا يمكن وصفها، لأنها أرق من الوصف، وأعنف من التشبيه، وأعمق من الكناية والاستعارة، وأوسع من كل أبواب المجاز على اختلافها، لأنها البيان والبديع كلها، لأنها المعاني التي قد لا تخطر على قلب بشر، لأنها أعقد من التصور وأبسط من رموز الطفولة، هي بلاغة الجمال وفلسفة الإبداع. خيرية انطلاق الوهم والتوهم والإيهام في أخيلة الشعراء لو كان هناك شعراء يمتلكون الجرأة على نزف دم القلب وحبر العين ونسغ الحياة لصياغة قصيدة بعنوان خيرية.
لا أذكر متى قبلتها أول مرة لأنني لا أجرؤ على التذكر، فالذاكرة التي تحمل كل صفات خيرية من الصعب عليها أن تتذكر بداياتها، لأن الذاكرة أضيق من أن تتسع لتاريخ يحفل بما يحفل به تاريخها، لكنني أذكر أنني كنت دائم التقبيل لها لأنني أحبها - تبا للكلمات التي لا توجد فيها كلمة واحدة يمكنها التعبير عما في قلبي من تعلق بها- ولأنني أزعم أن الكلمات تطاوعني في كثير من المواقف فقد قررت الكتابة عنها...
الآن، وشريط يلقي بأحماله على كاهلي أكتب عن خيرية، ينبوع الحنان المتدفق، قبل قليل وُوريت الثرى جسدا مسجى، لم أتمكن من تخيل عظمة هؤلاء الذين حملوا هذه العظيمة فوق أكتافهم كيف احتملوا وضعها في قبر، وهم جميعا يعرفون أنها باقية ما بقيت الأيام، باقية في ما خلفته من ذكر لا يمّحي، باقية في عشق لا ينطفئ أواره، في دفء لا ينضب معينه، وإصرار لم يخلق بعد مثيله، باقية فينا؛ نحن الذين نحملها في كل نفس فينا، وفي كل نقطة دم تحيينا، وفي كل نبض يعني وقتا إضافيا نعيشه، وفي كل حاضرنا وماضينا.
خيرية.. أستعذب هذا الاسم لأنه أعذب الأسماء، وأترنم مع كل حرف فيه، ولا يسعني إلا أن أناجيه، لعل الله يبقيني ويبقيه، ملاذا لي إذا ما استغلقت كوى الآمال في عمري، أناغيه، ففي أحلامنا دوما أمانٍ لا نلاقيها، وإن كانت تلاقيه.
* * * * *
هو الموت إذن، يصفعنا في كل مرة، صفعة تهز ماضينا كله، الموت زلزال يدمر أركاننا فيتركنا بقايا نتخبط في ظلمات اللامعلوم. وقبل أن نبدأ بلملمة ما تبقى من هيكل الجسد ندرك - وقد لا ندرك - أننا ما زلنا لا نعرف ما بعد الحافة؛ فالموت بعد حافة نراها ولا نعرفها، ما قبلها مرتبط بأسئلة وجودية كثيرة لا حصر لها، وما بعدها مرتبط بأسئلة غيبية أكثر لا جواب لها في حدود معرفتنا المادية.
كل ما أتاح لنا الله - تعالى- أن نعرفه ونصنعه، أتاح لنا القدرة على تمييز خصائصه وربما العبث بها إلى درجة اللهو أو الاستعباد أو التملك أو التغيير فيه، حتى وصوله، أو وصولنا، إلى تلك الحافة. التي يبدأ بعدها الغيب والمجهول الحقيقي. كيف يكون مجهولا وحقيقيا في الوقت نفسه!؟ لا أحد يملك إجابة قاطعة في هذا الشأن.
الموت جواب لا سؤال له، كيف.. لماذا.. متى.. أين.. كلها عبثيات نحاول أن نتستر بها على جهلنا، الجهل بماهية الموت هو الجهل الوحيد الذي ينبغي ألا نخجل منه. وأن نعترف به باعتزاز.
نعرف من الموت أنواعا كثيرة، لكننا لا نعرفه. نعرف من أنواعه ما يتركنا وسط النيران تلتهمنا رويدا رويدا، وما يتركنا أسرى هواجس تعبث بنا ثم تمضي بنا إلى حتفنا، وما يتركنا حيارى.. وفي كل مرة يتركنا أجهل مما كنا فيه.
من اللطائف الطرائف الغريبة، والمفارقات العجيبة أن جدتي خيرية حاولت ردعي عن التدخين، وبالرغم من كل طرق الإصرار التي مارستها معي كي أتوقف، لم أبال حينها، إذ كنت صغيرا، كانت تنظر إلى الأمر بوصفها جدة، (تخاف على أحفادها من نسمة الهواء) على أنه موضة وتقليد عند (شباب اليوم) وبعدما عجزت لجأت إلى (الاستهزاء) بوصفه طريقة يمكن أن تعالج الأمر، ومما أذكره، وما زال محفورا في ذاكرتي قولها مستهزئة بالمدخنين :"دخن يا ستي دخن، الشاب بلا سيجارة مثل الكلب في الحارة" وكنت أجعل من الأمر وكأنه تأييد لي. فأحيل استهزاءها من تدخيني إلى نكتة، وأسايرها في ما تريد وأحتال عليها لتدلني على كيس الدخان الذي كان يزرعه جدي ويخبئه (مؤونة السنة كلها). وجدي كانت له قصة طويلة مع الدخان والتدخين؛ فقد تعلم التدخين مبكرا أسوة بمعظم أبناء جيله الذين ولدوا وترعرعوا إبان نهايات الحكم التركي في البلاد (فهو من مواليد بداية القرن العشرين) وعلى الرغم من كل ما تعرض له من محاولات ردع عن التدخين من ذويه وعقوبات بشتى أشكالها، إلا أنه أصر على مواصلة التدخين. وظل طوال حياته متعلقا به وكأنه جزء لا يمكن فصله عن حياته، حتى انه لشدة إدمانه عليه كان يعتبره أهم من الخبز! ومن تأمين متطلبات الأسرة الرئيسة والضرورية. فقبل ( الموسم ) يعد البذور اللازمة لزراعته والأرض اللازمة المناسبة من حيث البيئة والطبيعة والجغرافيا، فلا تكون الأرض نفسها التي زرعها في العام السابق مثلا، ومنذ الحراثة مرورا برش البذور وإزالة العشب، ومراقبة نمو النبتة، كان يظل هاجسه الأكثر إلحاحا ومراعاة، لدرجة أن الموضوع الأهم في حكاياته كلها هو صيرورة شتل الدخان وكيف اختارها بعناية، وكيف حرث أرضها ( وطيب الحرث ) وكيف راقب نموها، وكيف أزال كل الأعشاب الأخرى من بينها والتي يجتهد عند الحديث بتسميتها باسمها، وكيف رعاها شتلة شتلة، إلى أن أحصدت، وكيف حصدها بعناية، وكيف جففها، باهتمام كي لا تجف تماما، ولا تظل رطبة تماما، فالمسألة تحتاج إلى خبرة وحنكة.
والتدخين عموما يندرج في إطار الممارسات الخاطئة، والتي نعلم أنها خاطئة ومع ذلك نمارسها. وهو من حيث المدخنين أنواع، ومن حيث الماهية أنواع أيضا؛ فمن حيث المدخنين: منهم من يدخن لأنه يحب التدخين، ومنهم من يدخن لأنه عدو نفسه ( علم ذلك أم لم يعلم )، وتحت هذين العنوانين تندرج أقسام فرعية أخرى كثيرة، منها: من تعود رائحة الدخان فأحبها بالعادة، ومن يستعذب فعل النيكوتين في دمه، ومن يتخلص من وحدة تراكمت في نفسه مع مرور السنوات، ومن ينفعل سريعا فينخدع بإحساس الحاجة لمزيد من التدخين، ثم من ضاقت به سبل الوصول إلى تحقيق بعض أهدافه، فانهزم أمامها ولجأ إلى التدخين، ومن لا يرضون عن الواقع الذي يعيشون، فينتقمون من أنفسهم لأنهم وجدوا في عالم لا يحسنون التعايش معه أو لا يستطيعون أو لا يريدون ومعظم أفراد هاتين الفئتين الأخيرتين يدخنون بشراهة دائما ومما درج المدخنون على قوله :" أوله دلع وآخره ولع " في إشارة إلى أن التدخين يبدأ بغير قصد ثم لا يستطيع المدخن تركه.
تكون بداية التدخين عادة نزوة غير واعية في غياب رقابة الأهل، وانشغالهم بأمور يرونها – وقد تكون كذلك – أكثر أهمية. ثم يصبح في ريعان الشباب غابة منسية من التراكمات التي يتغلب على نتائجها جسد الشاب المفعم بالحيوية والمقاومة، وفي المرحلة الثالثة يبدأ بماهيتة وأضراره، مع بداية ظهور النتائج المعروفة سلفا. كل المدخنين يدركون ما ستؤول إليه نتائج تدخينهم، لكنهم ينتظرون تلك المرحلة، وعندما تظهر يبدأون محاولات ترك تعاطي التدخين، وفي هذه المرحلة غالبا ما يخفقون.
أما في المرحلة الأخيرة فيبدأ الصراع الأخير الذي ينتهي غالبا بفوز الدخان (الصديق اللدود) على صاحبه.
خيرية.. خرقت كل هذه القواعد، فدخنت في السنوات الأخيرة من عمرها، متجاوزة كل عادات المدخنين، دخنت ولم تدخن؛ كانت تشعل السيجارة ولا تعبها إلى الرئتين بل تنفثها خارجا، وكأنها أرادت أن تقول – دون أن تعلم – أستطيع أن أدخن ولكنني لا أريد التدخين.
لعل فكرة (سي السيد) ليست غريبة عن تفاصيل حياة كثيرين من الناس الذين سبقوا جيلنا، وأخال في كثير من الأحيان أن جدي كان يشبه هذه الفكرة، إذ عندما أتذكر كيف كان قاسيا حاد المزاج أتخيل أنه كان مع جدتي كذلك، فقد كان نتاج مجموعة من الظروف العصيبة التي عاشها مع أبناء شعبنا منذ أن وعى الحياة، بدأ بالمشاركة بالثورة الفلسطينية ضد الانتداب البريطاني على فلسطين حتى اعتقل سنة 1936 إبان الثورة، وواصل النضال حتى بعد استشهاد شقيقيه (عبد اللطيف وأحمد). وعندما حلت النكبة على الفلسطينيين والأمة شارك في ما يمكنه المشاركة فيه، حتى باتت الثورة ضد الظلم والظالمين تنتقل في عائلتهم بالوراثة، فقدم ولده الأول (فريد)عام 1967 أسيرا ليغيّب في غياهب المعتقلات الصهيونية، التي مكث فيها خمس سنوات قبل أن يتم إبعاده إلى الأردن عام 1972 . وفي العام 1969 قدم ولده الثاني (شفيق) شهيدا على مذبح الحرية والكرامة (الأمر الذي سنفرد له كتابا خاصا- إن شاء الله-)، وفي العام 1980 كان ولده الثالث (يوسف) قد زج في المعتقل بتهم الانتماء للوطن والدفاع عنه أيضا، فأصبح جدي غريبا في وطنه، ويبدو لي أنه كان غريبا حتى عن نفسه، وربما – ولا أستطيع الجزم- أنني لم أكن متمكنا من فهمه آنذاك، وظل هكذا حتى العام 1985 إذ خرج يوسف من المعتقل (ضمن صفقة تبادل الأسرى) وسمح في العام نفسه لولده فريد وللمرة الأولى بزيارة الوطن. لا أعرف إن كان قد استطاع استيعاب ما حدث، أم أنه كان ينتظر شفيقا، ولهذا كنت أراه طوال الوقت يرسم على محياه ملامح موناليزية خاصة، لا أستطيع حتى هذه اللحظة أن أتحدث عنها، أو أحاول وصفها، ويخيل لي أنها كانت خاصة به، يريد أن يشارك الجميع فرحته وفرحتهم، لكنّ كوى الفرح ظلت محدودة في عقله الباطن الذي لا يستطيع أحد أن يغير ملامحه، فنحن في العادة-على الصعيد الشخصي- نستطيع تغيير الواقع أو نستطيع التحكم ببعض ملامح المستقبل، ولكننا لا نستطيع تغيير الماضي. وهكذا كان جدي (في المرحلة التي بدأ وعيي ينضج) مزيجا من عبق الأيام الخوالي، وفي حلقه غصة لا أحد يمكن أن يتكهن بكنهها، ومرارة الشيح عالقة في فمه من قبل أن يبدأ بتناوله علاجا لبعض آلامه. وتنتفي صفة سي السيد بفكرتها الشائعة ولكنها تتخذ ملامح خاصة، وربما خاصة جدا بـ (جدي).
جدتي وحدها التي كان يمكن أن تعبر عن مخاض أفكاره. عندما تركتُها وسافرتُ ظلت كل الحكايات التاريخية التي روتها لي بكل تفاصيلها عالقة في ذهني، حتى قصة انتظارها لولدها شفيق كدت في مرحلة أصدقها لولا أنني كنت قد سمعت القصة بتفاصيلها من آخرين، وعرفت أنها لم تصدق خبر استشهاده، أو أنها لم تكن تريد تصديقه، وظلت كذلك حتى وفاتها. كانت كأية أم تفكر في تفاصيل صغيرة لا نتنبه لها في مجمل الأحوال، ولذا كان من البديهي أن تعرف بوضوح كيف كان يفكر زوجها، لذا أستطيع القول أنها تحملت كل آلامه وتحملته في كل مراحل حياتهما معا. وفي هذا وحده قدرة لا تستطيع امرأة اعتيادية بذلها.
عندما كانت خيرية تعاني من سكرات الموت جئت إليها وجلست قربها وكانت النسوة يتحلقن حولها، فخاطبتها – ولم أكن خائفا عليها من الموت، ولا أعرف لماذا، ربما لأنها آن لها أن تستريح – وطلبت منها أن تضربني (بالكف) على وجهي، كما كانت تفعل دائما، وألحت عليها أمي كي تعرفني، وكانت لا تعرف أحدا تقريبا، إلا أن الجميع فوجئ بها تقول اسمي، لذا عرفت أن لي خصوصية في عقلها، وهذا أفرحني كثيرا في الوقت الذي كان الحزن مخيما على المكان ومسيطرا على الجميع. ورفعت يدها بصعوبة بالغة ووضعتها على وجهي لتعبر عن أنها ضربتني بالكف على وجهي، والضرب بالكف على الوجه، ربما يستخف بفكرته ويستهزئ به من يسمع عنه، إلا أنه كان له معنى خاص عند خيرية، فقد حاولت ذات مرة ضرب جندي صهيوني أثناء زياراتها لأحد أولادها المعتقلين، وأبعد الجندي وجهه فجاء الكف على وجه شاب عربي كانت تحترمه كثيرا، ومنذ ذلك الحين تحول الكف إلى رمز للحب عندها على العكس من معناه المتداول، لهذا كنا جميعا نحب أن تضربنا بالكف على وجوهنا، وعندما كانت تريد أن ترسل سلاما لشخص تحبه وتحترمه، كانت ترسل له كفا، كما تفعل عندما ترسل معي سلاما خاصا لعدنان الهندي أو لحاتم الحاج حسن أو لعدوان البرهم.