عودة عمود الشعر
قراءة في ديوان «لمن الرحيل»للشاعر محمد راشد شبيطة
هذا ديوان شعر جديد لشاعر لم يألف نشر شعره من قبل، وقد تعرفت شعره عندما قرأته بين يدي ابنته وهي إحدى طالبات قسم اللغة العربية في الجامعة، وسرني أن ما زال بيننا من يتمسك بعمود الشعر بل وينادي بالاحتفاظ به، ويعيدني إلى شروط المرزوقي لعمود الشعر وكأنه يريد تطبيقها بما هي عليه، وتبدأ بقراءة شعر شبيطة ودون أن تدري يحملك على أكف الحنين إلى ذلك الشعر الرائع الذي تتلمذنا على أيدي شعرائه في الزمن الجميل، من قبل أن نكون، على أجنحة ست وثلاثين قصيدة عمودية تبدأ من مقطعات تقل أبياتها عن عشرة أبيات وعددها اثنتا عشرة مقطعة، وست قصائد زاد عدد أبياتها عن عشرة أبيات وقل عن عشرين، وما تبقى تراوح بين عشرين وأربع وخمسين بيتا، كلها قصائد التزمت عمود الشعر حتى القصيدة اليتيمة التي أشار الشاعر إلى أنها قصيدة تفعيلة (يا نوح) لم تكن كذلك وهو لم يردها أيضا كذلك، وقد جاءت جميع القصائد على خمسة بحور هي الوافر (13) قصيدة، الكامل(11) قصيدة، البسيط (9) قصائد، الطويل قصيدتان، الرمل قصيدة واحدة.
الشاعر يعد ديوانه هذا ليلقيه إلى المطبعة وهو متردد كثيرا، ولسان حاله يقول ما زال الوقت مبكرا، الأمر الذي اعترضت عليه، وتشجعت لكتابة مقدمة له ليس من أجل أن أشجعه على طباعته فحسب؛ وإنما من أجل أن أبين له أنه يمتلك الكثير ليقوله، وما زال الوقت مبكرا على التقاعد. وخصوصا أنه جال في طول البلاد وعرضها وفقد الكثير مما كتب، وآن الأوان لترى قصائده النور.
جولة في مضامين القصائد:
ما زلت أقرأ هذه القصائد المكتوبة بخط يد الشاعر، وأتذوق روعة التعبير وجماليات الخط معا، وهو يأخذنا متجولا في أغراض متنوعة تفاوتت في مضامين سياسية واجتماعية وغيرها إلا أنها جميعها على العموم تكتسي حلة دينية فيها طابع الأناة والرفق والالتزام، ولم يتعد طوره هذا إلا عندما كان الأمر يتعلق بموقف تجاه الدين الإسلامي الحنيف الذي لا يقبل الشاعر أي تجاوز على حدوده مهما كان السبب، بل نراه يحمل على من يتهاونون في تحمل مسؤولياتهم.
ويمكن القول إن الخطوط العريضة التي تسم قصائد الديوان هي:
الموقف السياسي:
ويبدو ذلك جليا لا لبس فيه عندما نقرأ مثلا القصائد (في الذكرى التسعين لهدم الخلافة) و(هذي الخلافة) و(هي الخلافة) وغيرها، وهو موقف يطيب للشاعر أن يعبر عنه دون مواربة أو ترميز أو إلغاز، بل مباشرة وذلك كله اعتزازا بالموقف الذي يراه في خدمة أهداف الأمة التي ترنو للتحرر من ربقة المحتلين والظالمين وخدام الأعداء، يقول في قصيدة في الذكرى التسعين لهدم الخلافة:
يا ويحهم هدموا صروحا قد علتوقفت علوج دونها ومجوس
وفيها أيضا يقول:
تسـعون عاما والســماء كئيبـةوالدهر أكدر والزمان عـبوستسـعون عاما كـل يوم نكبـةلا تـنـتهي وتـأخـر ونـحـوس
ويتناسب هذا مع صرخته في قصيدته هذي الخلافة التي منها قوله:
أنا العقاب وذي الرايات لي خضعتسيشهد الكون كل الكون دولاتيهذي الخلافـة قـد لاحت بيارقـهاتحت البيارق يحدو ذو الكراماتغـدا ربـوع بـلاد الله قاطـبةبعض الولايات حتما في ولاياتي
وهذا يؤكده قوله في قصيدته هي الخلافة فيها جئت مفتخرا:
هي الخلافة فيها جئت مفتخراهي ازدهتني وفيها كنت أنصــهر
والتي فيها يقول أيضا:
هي الخلافة منجاة لمن عملوالا يخسرون وكل الناس قد خسروا
في هذه النماذج الثلاثة ما يوضح موقف الشاعر السياسي، وهو يتجلى في الدعوة لإعادة بناء الخلافة الإسلامية التي منذ أن هدمت على يد كمال أتاتورك، لم تقم للأمة الإسلامية قائمة، بل إنها في حالة رجوع إلى الوراء ما دامت هذه الأمة تدور في فلك الذين يذبحونها يوما بعد يوم، بل إن الشاعر يؤكد أن مجد الأمة سوف يظل الأمل المنشود الذي نتطلع لتحقيقه إذا تمكنا من إقامة الخلافة مجددا لأن ذلك سوف يعيد تاريخ الأجداد الأفذاذ الذين انتصروا لدين الله فأعزهم الله تعالى.
موقف من الزمن:
وقد تجلى هذا الموقف في عدد من القصائد منها قصيدة (رحلة عمر) وقصيدة (درب الموت) وقصيدة (فلسفة الحياة) وقصيدة(وداعا عامنا الماضي) وغيرها، ويمكن تلمس ملامح فلسفة الشاعر وموقفه من الزمن عند حديثه عن الحياة والموت، فالحياة رحلة قصيرة مهما طالت وما يرجوه منها هو أن يرضى الله عنه، فذاك غايته ومطلبه، ولا أدري لماذا ابتسم الحظ له بعدما دخل الستين من العمر! ولكنه يبين ذلك على نحو خاص فالستين تعني له أنه آن له أن يجنح للتفاؤل ما دام التفاؤل قد جنح له، فهو موقف مغاير لما دأبنا على تداوله، يقول في رحلة عمر:
تصبرت حتى صار لي الصبر صاحباوقلت ألا صبرا فما خانني الصبروما العمر إلا لحظة سوف تنقضيومن يصطبر يغنم وإن غاله الدهروجاءت يد الرحمن من غيهب الفضاومرت على وجهي فعاد له البشر
فالله تعالى هو الذي ينتشلنا من الأسى ولولا رحمة الله لبقينا في قيعان بحار الهموم، وينسجم مع هذا موقفه في قصيدته درب الموت، التي فيها يواجه الموت بحقيقة معرفته بماهيته، الأمر الذي ما زال مجهولا؛ فالموت لا أحد يعرف ماهيته وكنهه، لأن لا أحد عاد منه، يقول:
وسط درب الموت إني واقفوالردى قربي وجنبي يزحفقلت من تبغي فدوّى صائحابغيتي سرٌّ ودربي أعرفقلت دوري؟ قال يأتي بغتةكل حي يومه لا يخلف
فالشاعر يحادث الموت حديثا وديا، فهل الأمر كذلك؟ ما زال الشاعر يحاول الإجابة عن هذا اللغز المحير كما حاول كثيرون، ولكنه في النهاية يعود في مطلع قصيدة فلسفة الحياة للقول:
الموت حق والحياة عزيزةوكلاهما حتم على الإنسان
وفي نهايتها يقول:
إن الحياة حقيرة وعزيزةإني لأعجب من حقير جانِ
وأرى أن عجز الإنسان عن تفسير ماهية الموت هو الذي يقوده دائما إلى القول بمساواة الحياة للموت، وقد يكون العجز الذي علينا أن لا نخجل منه هو الذي يقودنا إلى ترك أمر الموت دون الخوض في غماره.
نفحات إيمانية:
وقد عمّر الشاعر ديوانه بنفحات طيب إيمانية تشير إلى عقيدة سوية، والملاحظ أن الشعر عند شبيطة لم يلن ولم يضعف عندما دخل في باب الخير، وإن كان في كثير من جوانبه تقليديا إلا أنه عمود الشعر الذي يتطلب أحيانا وقفات تأملية في أمور الدين والدنيا معا، وقد جاد الشاعر إلى حد بعيد بهذه النفحات، ومن ذلك قوله في قصيدة بعنوان في كتاب الله:
ألا في كتاب الله نفسي ترغبففيه الذي يسمو ويعلو ويعجبفنون وإعجاز ووشي منمقيحار به شعر ويذعن كاتبفما زيد حرف أو تنقص مثلهفقد أحكم الرحمن فهو مهذب
والديوان تعمر جوانبه كلها بنفحات إيمانية تعمقها عقيدة حية في نفس الشاعر ووجدانه، وإن لم يفرد لها قصائد خاصة، فهو مثلا في قصيدته قاهر الخلق يؤكد منذ البداية على حقيقة قدرة الله تعالى على كل شيء، وفي مقدمة ذلك كله أنه تحدى خلقه بالقدرة على الخلق والإماتة، فعجز البشر جميعا عن خلق نملة، يقول الشاعر:
الله أعجز بالممات عبادهفقضى عليهم بالممات سبيلالولا الممات تجبروا وتمردواوقضى القوي على الضعيف طويلا
وكما نقرأ مثل هذا في قصيدته لولاك:
هو ربنا رب الخلائق كلهالولاه ما هب الصبا وهواءلولاه ما عزت بأرض نملةلولاه ما ذلت لنا الأشياءحق القضاء فلست املك دفعةلكننا إن نرض فالسعداء
أغراض متفرقة:
وتستوقفني قصائد فيها أبعاد تقليدية، في شكلها بالطبع، وهي في مضمونها ذات خصوصية تشير إلى طريقة تعامل الشاعر مع تلك المضامين، مثال ذلك قصيدة بعنوان (بين يدي المتنبي) وهي القصيدة التي يقف فيها تلميذا نجيبا بين يدي معلمه الأستاذ الكبير المتنبي وفيه يتعلم فن القول وفن الفعل، وفيها يوازن بين حياته ومآسيه وحياة المتنبي ومآسيه، وينتهي بالتأكيد على أنه مثل المتنبي في شعره، ولا يقصد أن قدراته الفنية كقدرات المتنبي ولكنه يقصد أنه يحب الشعر ويعتد به ويحترمه مثل المتنبي، وإن كان قوله (شعري كشعرك) يستفز وفيه هول مفاجأة؛ فلا أحد يستطيع أن يقارن شعره بشعر المتنبي لأن جميع الشعراء يعدون أنفسهم تلاميذ للمتنبي، ولكن الشاعر يستدرك بعد القول (فيه طيب معدنه) بالقول (لكنما) الفضل للأستاذ لا القاري.
وقد استوقفني في القصيدة أيضا تكرار (عينيك) ست مرات في الأبيات الثلاثة الأولى من القصيدة، وقد ربطها في كل مرة بلازمة تلفت الانتباه؛ ففي المرة الأولى ربطها بالوحي، وفي المرة الثانية بالنار والمصباح والقيثار، وفي الثالثة بالإيهام، وفي الرابعة بالإنشاد، وفي الخامسة بالسراج والإسراج، وفي السادسة تستقر على الحيرة، ويعود في البيت الأخير من القصيدة للقول: الشعر أنسي ومن عينيك ملحمتي، ليربط الشاعر بينه وبين المتنبي والشعر وملاحمه بوساطة العينين، بوصفهما أداة ربط خاصة وكأنها لغز بين الشاعر وأستاذه المتنبي.
وعلى ما في هذه الملحوظة من إمعان في الربط : المتنبي/ الشاعر/ العيون/ الشعر، إلا أن أدوات الربط ظلت ضعيفة يمثل هذا الضعف تكرار عبارة (أنشدت أشعاري) في بيتين متتابعين، هما:
من وحي عينيك قد أنشدت أشعاريعيناك ناري ومصباحي وقيثاريعـيناك تلـهمني الأشـعار مطربةلولا عيونك ما أنشــدت أشعاريما زلت أســرج من عينيك ليلتناليس العيون إذا حارت بمحـتـار
ففي البيت الأول يحقق الشاعر ب(قد) وفي البيت الثاني يستخدم أداة امتناع لامتناع (لولا)، ليصبح التكرار لا يفيد إلا التكرار، وخصوصا أن العبارة هي ذاتها (أنشدت أشعاري) وكان يمكن أن يغير في طريقة التعبير عنها.
وللحق فإن قصائد الديوان تستحق أن يتوقف الباحثون عندها مليا، إلا أنني في هذه العجالة لا يمكنني أن أتوقف عند جميع الأغراض التي تناولها الشاعر، ولهذا فإنني أكتفي بالإشارة إلى أن الشاعر نوع في أغراضه بما يتناسب مع تنوع أغراض الحياة نفسها.
وقبل الختام فإنني أقدم هذا الشاعر للقارئ الكريم ناصحا له أن يعيش حلاوة عمود الشعر العربي من جديد بعدما كاد يركن إلى زوال، لولا وجود بعض الشعراء الذين يعيدون حياة عمود الشعر من جديد، مع مراعاة أن شعر التفعيلة هو امتداد على نحو من الأنحاء لعمود الشعر، وليس معارضا له ولا هو ضده، ويكفي أن نلقي نظرة على تشكيلات الدوائر العروضية، لنكتشف ذلك.
مع دعائنا للشاعر محمد راشد شبيطة أن يكون ديوانه هذا بداية طيبة وليس نهاية.