درب التبانة
واستمر السلم يتصاعد تحت قدمي، والنجوم الصغيرة تكبر أمامي مما يدل على اقترابي منها وأنها تبدو أوضح ! والحرارة تسمط خشب السلم ، فأرفع قدمي الحافيتين عن درجات السلم إلى غيرها فلتذعني نفس السخونة ! وفي كل درجة تشوى قدماي كأنها الوحيدة في المدار التي تبتلع الفلقة بالمربع والمستدير والعمودي !
وأشعر أن ملايين الكيلو مترات قد التهمتها درجات سلمي المتصاعد ، لذا بدأ إحساس الصبا يتلاشى في مسيرتي لأن السنين انغرست في قدمي واشرأبت عناقيد تشبه القرون من ركبتي وباطن سيقاني ، وراحت مع الانطلاق المتوالي تتلوى على أضلاع السلم وتلتف حول القوائم العريضة ! وما هي إلا بضع من سنة ضوئية حتى تكون من جسدي والسلم خارطة تشبه السهم أو الخنجر ! وكلما انطلق السلم بات ينطلق بدون قدمي تلقائياً لشدة اعترافه بمدلول انطلاقي.... فيبدأ أوتوماتيكياً بتنفيذ برنامج الانطلاق فالضوء في جسدي توحد مع غربتي الطويلة العجيبة ، وخصوصا غربة جدتي وجنون أمي النائحة على كل شيء يشبه البلاد ! وألسنة النار الباردة الغريبة في جسدي ، تتماوج كأنها أيام السنة الضوئية الخاصة في سلمي .....وعددها لا حصر له في مسامات جسدي الطالع إلى الأعلى !! وبالتأكيد أنها تلك التي تساوي نحو تسع ملايين مليون كيلو متراً.... وأنني بالتأكيد سأصل إلى الشمس الصديقة ، فلطالما تغنيت بالشمس... وسأصل إلى محبوبتي الشمس ... فأنا الحاملة للقهر والغربة والسفر الناتج عن الظلم ... وبما أن أقرب نجم للشمس هو الظلمان القريب ،! والظلمان أقرب للظلم وأشد التصاقاً بما أكابده ، وهو المطلوب دون غيره ! فأصل ولا حول ولا قوة إلا بالله !
هو ليس إلا سلماً واحداً بشكله وتكوينه .... وحتى الشعار الواقف على أعلى رأسه والمتشكل بالنسر الفارد جناحيه، بات يعرف السلم جيداً، وازدادت علاقتي به بأن أصبح هذا السلم معروفاً لدي وحميماً لا أخشاه ولا أنفر منه في أحلامي ! بينما ينفر منه ربعي وأصدقائي وأقربائي وباتوا يشعرون بالملل لسماعهم قصتي ! حتى أنهم باتوا يديرون ويقلبون وجوههم عند التحدث عن السلم والحرارة واللسع والانطلاق والبحث عن كوكب اسمه المأوى ! وباتوا إذا أرادوا التسلي خلال أفراحهم الكثيفة ولتخفيف تمطيهم ، ولتبرئة انسلاخهم يطلبون مني أن أعربد لهم بعض الشيء عن عاشق ليالي الصبر مداح القمر فيتعملق السلم بانطلاقته وناره لتعذيب قدمي العاريتين على درجاته ، فأفعل مغلوبة على أمري بسبب حاجتي لهم .... وبسبب أن الله صاحب الملكوت الذي أسبح فيه على السلم ، فرضهم علي أهلاً غصباً عني ! ولا مجال للتملص حين يطلبون التسري بقصصي في الفضاء واستبدال وقفوني عالحدود قال بدهم هويتي بعاشق ليالي ال ........ ! هذا بالإضافة لتكبيرهم رأسي بأني حفيدة خولة بنت الأزور وزنوبيا ملكة تدمر.... وملأوا رأسي بأن شجرة الدر العظيمة لم تمت بالقباقيب لأنها جدتي الشرسة ! وذات يوم نزلت السوق لشراء قصة حياة شجرة الدر خصيصاً لأقلب مفاهيمي ، فلمحني بعض الأقارب خلال تقليبي للكتاب ، وما هي إلا ثوان حتى هجم على الكتاب وصرخ : الله أكبر وهل هناك مجال لقراءة الكتب الفارغة والسلم يلتمع تحت النار وفوق النار ؟ ما أنت يا ابنتي إلا ابنة النار وجبل النار وفلذة كروم الخليل المشتعلة ، فكيف تسمحين لنفسك بقضاء الوقت وإضاعته باللهو والقراءات التي لا تسمن ولاتغني من جوع ! أسمعيني أغنية وقفوني عالحدود بالله عليك ....... !
تعجبت من أحاسيسه الوطنية المشرفة ، وأصابني الاطمئنان بأن في الربع شعوراً يركض نحو ذاك الوطن الذي يؤرقني ... ورميت الكتاب وراجعت نفسي فوجدته على صواب ، ووجدت نفسي أرتقي السلم نهاراً كجزء من أحلام اليقظة الطاغية إلى أن يحين وقت الليل ، وينقلب السفر إلى الشمس بدل القمر .... وتنقلب مفاهيم أغنية ( عاشق ليالي الصبر مداح القمر ) وبقيت أنتظر قريبي الذي وعدني بالحضور للاستماع لآخر منولوجاتي ، وانتهى الليل وأنا سهرانة أنتظر قريبي ! وأعد أغان حول هويتي والليل والناي الكسير ، وأعددت أيضاً أغنية مجروح يمه والجرح بسيل ما لملموه خلان وسط السيل ، وكذلك أعددت مناحة أمي الخاصة على أخوتها الشهداء التي اعتادت ترنيمها على مخدتي الأنفة الذكر : يا بنات الحور جدلن الشعر عالشاب المزيون طاح المقبرة ! وأنا اشعر بأنه راح إلى الشمس ، أي صعد ولم يطح !! بعكس ما يعتقدونه من نزول !
وتسلل حلم السلم من جديد لي وحدي، ووجدت أني القلب الوحيد المنسجم معه في التحليق إلى حدود الوهم، والبحث عن الإله المعبود كالشمس والقمر أو أحد الكواكب السيارة !
لكن في تلك الليلة .... حدث ما لا تحمد عقباه ... فهبط على ظلال السلم الخاص بي ، كوكب كبير صافحني واحتضنني قائلاً:
– سأسلط عليك الضوء !
– قلت وأنا أرتعد تحت هجمته وأرفع ذراعي وأكبر... الله أكبر : أأنت هو من عبده جدنا إبراهيم ؟ وقال عنه لا أحب الآفلين ؟
– قال : سأسلط عليك الضوء !
وأعرف أن هناك نجوماً أكبر كثيراً من غيرها وأعرف أن بعضها أعظم إشراقاً، ربما لإطلاقه كمية عظيمة من الضوء أو لأنه أقرب إلي للتحقق من حلمي كما تقول جدتي ! لكنه ليس الإله المنشود !
وبالرغم من أن النجوم بعيدة جداً بعضها عن البعض ، فإنها تقع في مجرات تسمى متجمعات! والشمس الأقرب إلى طموحي بعد كل هذه المطامع لأنها أقرب إلى التفكير ! فالشمس هي واحدة من ملايين النجوم التي لا تحصى والتي تؤلف مجرتنا المملوءة بالحزن المناسب... درب التبانة !
ودرب التبانة لها حكاية في قصص جدتي حيث أنها تعتقد أن الحصادين في قرية جدتي كانوا يحبون التغني بدرب التبانة ، حيث كانوا يتجمعون لمشاهدة قسم من مجرتنا ممتد كشريط خافت من النجوم في الفلك ، وهذا الشريط هو المناحة المشهورة لجدتي ( درب التبانة ) ... !
فكم من نساء أهلي جلسن في الليل الطويل السواد ، ينظرن إلى الغبار والسديم المعجون بالندى والمنطلق إلى السماء ، وهن يبكين الشباب الشهداء فداء الأرض ، ويقلن أنهم يصعدون الآن للسماء عن طريق درب التبانة ! فاحلق مع الغبار كأن عطراً يتراشق حولي ، ودرب التبانة يخترق الفضاء !
وكلما يخيم الصمت والظلام.... أنطلق على سلمي الصاروخي وأرى ملاذي في نهاية النفق العالي بعيداً لكنه قريب ! فالمجرة ضخمة تشبه العالم الواسع بل أكبر، وأنا أحتاج للوصول إلى كوكب يأويني على السلم المنطلق إلى مائة ألف سنة ضوئية للوصول ، لذلك أنا كامرأة شابة تنطلق بمغامرتها ، تحتاج مليوني سنة !!! فأتساءل كم يحتاج هؤلاء الشهداء الصاعدون للوصول ؟ لا بد أنهم يصلون بسرعة البرق .. لا شك في ذلك !
وذات حلم أخضر ارتفع السلم وارتفع وارتفع إلى السماء, ودخت في غيوم كثيفة بيضاء ورمادية وغيوم سوداء وغيوم داكنة قطنية ! ورحت أتصاعد والسلم يتصاعد, وكلما رفعت قدمي بطريقة أوتوماتيكية, يطير السلم أسرع فأسرع..... وتخيلت أنني أقود عجلة بسكليت و بدأت أبدل البدالة بسرعة وبسرعة وبسرعة ! والسلم ينطلق مثل الصاروخ ثم احتضنته بذراعي و ثم نمت على بطنه , ثم وجهت وجهي باتجاه اليمين وأسلمت أمر رحلتي إلى الفضاء الواسع حيث البرودة اللاسعة والأوكسجين المفقود , وبدأت أشعر بالرحيل في عيني , ثم بالتنازل عن كل ما املك من كتب ولوحات فنية , وفساتين وتحف وبرامج متراكمة في أقراص مضغوطة ، وبدأت اقتنع أنني لا أحتاج إلى قريب أو بعيد أو حبيب على الإطلاق وبدأت أشعر بالقناعة أن شيئاً هلامياً بارد الملمس بدأ يغلفني بحنان ، وبدا يتصاعد معي , فأحسست أن كفي تمسكان بدفتي السلم وأن يدي أقوى من خشب السلم , وأن لا أمل من معانقة السلم ولا أخشى السلم من الانفلات مني , وكان يطير.... وانا معه حتى اختفى الرجال والناس , وأنا أحط على سفح جبل غارق بالمياه العذبة وبعض العصافير تغرد وكانت أشكالها غير تلك المألوفة على أرضنا التي نريق دماءنا من اجلها !!!
وجاءني عصفور ينقر باطن كفي, واعتقدت أنه يريد شيئاً من لحم يدي, وتكلم قائلاً: نحن هنا لا نأكل اللحوم أبداً, فلقد تغير لحم يدك إلى أثير سماوي, لا تخافي أنت في الجنة ! فقلت بهلع: قبل أ ن أحقق حلم جدتي القابعة في الخيمة.... يارب ؟ كيف أدخل الجنة وجدتي ما زالت تلهث باتجاه الكوكب المنتظر ليأويها ؟ نعم تنتظر الشمس أو القمر؟؟؟ وقد ضاعفت عبادتها منذ عهد جدنا إبراهيم لخالق الآفلين... حيث هي أيضاً لا تحب الآفلين ؟ يا ويلتي .. هل أصبحت أنا من الآفلين ؟؟؟ كيف أدخل الجنة الآن وحدي بعد كل هذه السنين الضوئية التي طرت فيها أبحث عن وطن لجدتي ؟ فالجنة بدون جدتي والناس لا يمكن أن تداس !!! وفجأة شعرت بسقطة طرقت رأسي حتى أخمص قدمي ، وجدتي تحتضنني بجانب شجرة احترقت وأصبحت جذوعها الممتدة نحو السماء على شكل السلم الهلامي بالضبط ! على شكل درب التبانة !!