درويش أول فدائي حرر الشعر الفلسطيني
يعد موسى حوامدة واحدا من أهم الشعراء الفلسطينيين الذين تتمثل فيهم مأساة الشعر الذي أجبر على حمل قضية لا يستطيع منها فكاكا، فهو الممزق بين واجب القصيدة في الذهاب إلى الجمال فحسب، وبين واجب الوطن في الذهاب "ربما" إلى الموت ليحيا الوطن. وهو الممزق بين شعب يدافع عن حريته ويسعى جاهدا لتحقيق حداثة تليق بهذا الشعب، وبين سكاكين التكفير التي حملها "قسم من هذا الشعب" الذي أهدر دم الشاعر وأباحه على الملأ، متهما إياه بالمس بالذات الإلهية بسبب ما جاء في قصيدته "يوسف".
بين هذه التمزقات يحاول موسى حوامدة السير بالقصيدة نحو أرض بكر تسمح للشعر أن يبوح دون أن يخسر الوطن.
هنا حوار مع الشاعر موسى حوامدة:
تقول في قصيدتك:
- كمن يدير وجههبعيدا عن شعاع الشمسيرتعش اسم فلسطين- الحنينُ لشيء لن يأتيلدولةٍ لم تجئْلفراشةٍ أحرَقَها النور
،هل فقدت الأمل بعودة فلسطين؟
– في العمق لم أفقد القناعة بأن فلسطين أرض عربية، وأن الفلسطينيين وإن واصلوا رحلات الخسارة منذ بدايات القرن الماضي حتى اليوم، لكنهم نجحوا في منع ذوبان هويتهم وتفتيتتها وتلاشيها، وهذا انتصار كبير في وجه الذين راهنوا على (موت الكبار منا وتناسي الصغار) كما قالت غولدا مائير، وبما أن الهوية الفلسطينية صارت أمرا واقعاً، وصار من المستحيل انقراض الفلسطينيين، فلا بد أن تتراجع الطبيعة والكون، عن ظلمهم، ولا يمكن أن تنتهي الرواية إلا بإنصافهم، لكن هذا الإيمان شيء، وتلك المسيرة التي انجرت لها منظمة التحرير الفلسطينية بضغط عربي وأوروبي، وحققت اوسلو التي كانت مصيدة للشعب الفلسطيني، شيء آخر.
تحايلت اسرائيل على فكرة السلام، وتلاشت الدولة الفلسطينية المزعومة، تلك الدولة التي لم أعد أجد نفسي متحمسا لقيامها، وفكرة الدولة نفسها لا تعنيني قدر ما يعنيني كسر الفكرة الصهيونية وتحطيم حلمها، بامتلاك كل فلسطين نظيفة من أهلها. وسواء كانت فلسطين دولة مستقلة أو كيانا حرا، وسواء عادت جزءا من سوريا أو توأما مع الأردن أو ملحقا مع دولة عربية مجاورة، أو مع جزر القمر، ولاغوس أو نيوزيلنده، فلم أعد مشغوفا بفكرة العلم والدولة والرموز.
هل ترى فرقا بين كونك شاعرا وفلسطينيا على الصعيد الشخصي (كفلسطيني) وعلى الصعيد الإبداعي كشاعر؟
– لا أجد تمييزا بين كوني فلسطينيا وبين كوني شاعراً، فالمشاعر التي أحملها يحملها ملايين الفلسطينيين، والأسى الذي يجتاحني لا يصيبني وحدي، لكني دائما أرى الأمل متاحا رغم كل هذه الخسارات والسنوات العجاف.
ومما يعزي النفس أن حلم العودة وحلم التحرير صار صلاة الفلسطيني، ودخل في الحلم الجمعي لهذا الشعب، ومن هنا صار تحقيق ذلك أمرا أكيدا، مهما طال الزمان.
العلاقة بين الشعر والحدث اليومي الراهن علاقة إشكالية ومعقدة لأن الراهن يثقل الشعر ويخفف من صفائه، ولكن كفلسطيني مهموم بقضايا وطنه وشعبه، كيف توفق بين واجبك الفلسطيني في ضرورة تبني ألام شعبك، وبين واجب الشعر الذي يريد التحرر والانعتاق؟
– في بداية مسيرتي الشعرية كنت مؤمنا أن الشعر إن لم يكن فلسطينياً فلا نفع فيه، وأن الوطنية هي الدافع للكتابة، وأن الالتزام بالموضوع الفلسطيني قضية راسخة وأبدية، ولكني اليوم تبدلت كثيرا؛ صرت أكثر انفتاحا لقبول جراح الآخرين، صرت أرى دماء البشر حمراء وأوطانهم مقدسة، مثل وطني، وشعورهم بالظلم متشابه، وقد توسعت في النظرة للعالم وللبشر، وصرت أؤمن أن الشعر لا يجب أن تسيطر عليه نمطية محددة، وان انفتاحك الانساني لا يعني التفريط بحقك الوطني، بل من الضروري أن تحس كإنسان وتكتب بمنطلق أرحب، وليس من الخطأ أن يكتب الفلسطيني عن الحب والعشق والإيروتيك حتى، وليس عيباً أن يواكب الفلسطيني الحداثة والعصر، وأن يفكر بالحياة وبالوجود وألا يزج باسم فلسطين في كل قصيدة وسهرة وحديث جانبي، بل صرت أرى ضرورة الإنطلاق بعيدا، والاغتناء بتجارب الأمم ولن يضر القصيدة، أن ينفتح صاحبها على الكون، ولا يضر فلسطين، أن يكتب أبناؤها شعراً غير سياسي، أضف إلى أن المباشرة لم تعد تحمل قيمة فنية بل صارت تفقد الشعر الكثير من جمالياته، كما أن تحرر الشعر والشاعر وانفتاحه على الحياة، أهم بكثير من كتابة قصائد وطنية تقليدية لا تقدم ولا تؤخر، أما الألم سواء الوطني او الشخصي فلا يكون مجديا في الكتابة، ولا مؤثرا، إن لم يكن نابعا من الداخل، وإن كان كذلك فلا يعدم المرء تبيانه وترجمته في كل ما يكتب، حتى لو كان يكتب عن جرح طائر، أو مرض فراشة.
كما ان تعميم التجربة الفلسطينة، يتطلب ألا تظل نظرتك قطرية إقليمية محدودة، وتصب في خانة واحدة، بل عليك الذهاب إلى ما وراء المألوف، لتحقيق اختراقات شعرية غير مسبوقة، وبذلك فانك تقدم للعالم شيئا نافعا وتسهم اضافة الى انتمائك الوطني في تقديم قيمة جديدة لموهبتك أولا، ولإنسانيتك ثانيا، كما أن كتابة الفلسطيني بهذه الطريقة، تجعله ابن العالم وجزءا منه، وتقربه من الآخرين أكثر، وتمكن الآخر من فهمنا بصورة أفضل.
– كونك فلسطينيا وتعيش في منفى عربي، كيف ينعكس ذلك في شعرك؟ وهل يمكن أن تصبح اللغة بديلا عن الوطن؟
– كيف تقيّم الشعر الفلسطيني الآن؟ وهل تحرّر من أن يكون تابعا للقضية على حساب الشعر؟
– كان محمود درويش الفدائي الأول في تحرير الشعر الفلسطيني من تبعيته للقضية، وهو يحاول القول أن تناول القضية الفلسطينية، بشكل مباشر يحرم الشاعر من البحث عن المعايير الجمالية، ويمكن القول أن أغلب الشعراء الفلسطينيين باستئناء بعض الأصوات التقليدية، لم يعودوا يؤمنون أن الشعر يجب أن يكون معبراً عن القضية أكثر من الإعلام، ولا بد من التوضيح أن الابتعاد في القصيدة عن القضية، لا يعني التخلي عنها بل نحن في صراع طويل ومؤلم مع العدو، الذي أراد أن يحصرنا في قالب محدد، وحين ننطلق لنكون بشراً عاديين فهذا يعني تسجيل انجازات حضارية سوف تؤذي العدو أكثر، أما أن يظل الشعر الفلسطيني مجرد ترديد لنفس المعاني فسوف ينحسر ويموت.
لم يعد من المفيد أن ننظر إلى فلسطين تلك النظرة التقليدية، ونحن نعيش هذه الظروف المأساوية سواء في الشتات أو في المنافي أو داخل الوطن، ولو أن الشعب الفلسطيني انهار وظل يبكي يوم النكبة، لما صار تعداد الفلسطينيين المقيمين خارج بلادهم تسعة ملايين وأكثر، وقد كرسوا هويتهم وصار من المستحيل تذويبهم. ولعلي أكون أكثر صراحة حين أقول إن لم ينفتح الشاعر والكاتب والشعب الفلسطيني نفسه على الحياة أكثر، فإن فلسطين ستصبح مجرد دمية حزينة، أما وهم يتحولون للحياة دون التراجع عن هدفهم وحلمهم، فهم أقرب لبلادهم وأجدر أن يعودوا لها وتعود إليهم، ولا تنسى أن الشاعر لم يعد زعيما سياسيا أو منظرا حزبيا، كما لم يعد مذيعا يصيح محرضا في الإذاعات، فهو في النهاية لا يستطيع أن يترفع أو يتعامى، عما يجري في روحه وذاته وعما يجري في العالم من حوله.
– التمرد والقلق سمتان أساسيتان لقصيدتك؟ إلى أين أوصلك هذا بعد تسع وأربعين سنة من التعبد في محراب الشعر؟
– إلى القلق نفسه وإلى التمرد عينه، لم يوصلني إلا إلى القناعة بأن السكون رديف الموت والتحنيط، لكن القصيدة لا تترك صاحبها ساكناً هادئ البال مطمئنا، الشعر نار، ولا تسكن النار في ثلاجة، ولا تنام فوق سرير من ماء، هي بطبعها مشتعلة لا بد أن تحرق من يحملها ويحس بها.
لقد أورثني الشعر عداوات كثيرة، كما سبب لي، ولمن حولي تعبا ومحنا متعددة، هل أنزوي إلى ركن الطمأنينة لأربح الهدوء؟ لو كنت أقدر لفعلت، لكني أيضا ضحية نفسي وقصيدتي.
– بين ديوانك الأول وديوانك الثاني عشر سنوات، لم هذا الغياب؟ ما سبب انقطاعك؟ وهل حقا كانت سنوات خالية من الشعر؟
– كانت سنوات الثمانينات في الأردن صعبة جدا، كنت قد تخرجت من الجامعة وكنت ممنوعا من العمل والسفر، وغير قادر على العودة إلى فلسطين، فتعبت كثيرا في الحياة وفي مطاردة الرزق، عملت في مهن شتى لكي أحصل على قوت يومي، ومع ذلك لم انقطع عن كتابة الشعر، وإن في فترات متفاوتة، وقد كتبت المجموعة الثانية (تزدادين سماء وبساتين) في نهاية الثمانينات، والتي ظلت عقدا كاملا دون نشر، أما خلال عقد التسعينات فقد كنت أكتب قصائد متفرقة ونادرة، وقد جمعتها فيما بعد في (شجري أعلى)، لكن الشعر لم يكن أولوية، كانت الظروف طاحنة وقاهرة، وكان من المستحيل أن أعطي الشعر اهتماما على حساب الحياة نفسها.
– تقول في قصيدة البحر من ديوانك "من جهة البحر":
(ليس للبحر وطن يفسد لذته
ولا أعداء يتآمرون عليه
أو مخبرون يتعقبون همساته)
هل الوطن يفسد عليك لذة الحياة، هل أتعبتك فلسطين إلى هذا الحد؟
– آعترف أنها حمل ثقيل وعبء تنوء تحته جبال، تخيل أنك تولد في وطن مغتصب وممزق، وأنت تعي ذلك منذ سنوات الطفولة، وتقوم أمام عينيك وعلى ما تبقى من وطنك حروب العرب الخاسرة، ويتم التآمر على ثورات الشعب الفلسطيني منذ العشرينات، وتتكالب أمم ودول العالم لتدعم أعداءك، وشعبك يقدم الخسارات تلو الخسارات، من مذبحة إلى مذبحة، ومن هجرة إلى هجرة، إلى نفي وطرد، إلى نزوح وتشتيت، ومن إحباط إلى آخر، وانت متعلق بهذا الوطن، وتحس بعاطفة قوية تجاهه منذ سنوات طفولتك الأولى، التي تفاجأ فيها أن البلدة التي ولدت فيها يتم تدميرها بالكامل من قبل الجيش الاسرائيلي، وحينما تكبر قليلا، ترى كل هذا الخراب والتمزيق للوطن، وزيادة بناء المستوطنات ومصادرة الأراضي وتقسيم هذه الأرض الصغيرة، إلى كانتونات معزولة وتقسيمات غريبة وعجيبة، وترى هذا التراجع على صعيد العالم كله، والتخلي عن حلم الوطن الكامل، والتسويات والمماحكات والمفاوضات، وقبول قرارات شرعية ودولية غريبة وعجيبة، وتخلي كثير من المؤيدين وكل ما يجري على الساحة الفلسطينية، وكل ما جرى منذ مؤتمر مدريد والتحولات الخطيرة التي حدثت في العالم العربي، كل ذلك جعل الطريق إلى فلسطين أبعد وحملها أثقل، في الوقت الذي انطفأت فيه الكثير من النجوم والآمال، كل ذلك جعل هذا الوطن ثقيلا ومرارته ثقيلة، وطن لم تحصل منه إلا على الآلام والفواجع ولم يقدم لك إلا النزيف والشهداء والموتى والمنفيين، فهل من السهل أن تحمل كل هذه الأثقال؟
لا تسألني هنا عن الأمل، أنا أكثر الناس معرفة به وحبا له، ولن أتخلى عنه، لكن الأمل لا يحيا على اليأس، ولا يستمر بلا شموع.
– في قصيدة طوبى لعائلة الخيانة تقول:
طوبى لمن يرزح تحت الحراب
طوبى لعائلة الخيانة
بلا قضاة أو شهود
علّقوا كلماتي على حبل الإعدام.
هل هذا الكلام في قصيدتك تقوله لمن حاكموك ورفعوا دعوى ضدك، هل تقتص من ظالميك بالشعر؟
– لأن الشعر درعي الأول والاخير، ملاذي الأبدي، هويتي الوطنية والإنسانية أسلوبي في الحياة، وسلاح النجاة، فربما عبَّر عني ضد من ظلموني بسببه، ومن كان سوءُ الفهم طريقَهم للتخاطب والتفاهم، لذلك من الممكن أن يكون الشعر نفسه كافأهم على نواياهم، لكنه لم يحمل سيوفا ولم يطلق رصاصا، فرغم كل هذه الأهمية للشعر لكنه يظل يتيما، أعزل في زمن يؤمن بالقوى التقليدية ويحسب حسابا لكل قوى المجتمع إلا للمثقفين والشعراء.
– وهل يصلح الشعر ليكون ميزان عدالة؟ أو أداة انتقام؟
– إذا نظرت له نظرة شعرية فهو ليس ميزان عدالة فحسب، بل نظام دولة وقانون معيشة، وهو المدينة الفاضلة التي غابت عن بال أفلاطون، والتي تساوي بين البشر، وترفض الظلم والاضطهاد، وتسمو بالحياة بعيدا عن رداءة بعض العقول، لنكن منصفين أكثر ونقول أن العدالة نفسها شعرية.
– نلاحظ استخدامك للجملة القصيرة في الشعر غالبا، خصوصا في قصائدك القصيرة، لم؟ هل ترى أن الشعر يجب أن يكون مكثفا أم أنه خيار تعبيري فقط؟
– شكل الكتابة له علاقة بالحالة النفسية للشاعر والكاتب، فهي التي تفرض مزاجها وسطوتها، أحيانا تجيء هذه اللحظة منسابة مسترسلة، وبذلك تحتاج إلى تفاصيل وتأمل، واحيانا تجئ مثل نيزك يحترق بشكل خاطف، أعترف لك أن لدي مشكلة لحظة الكتابة، وهي سرعة تدفق الفكرة بغزارة، في الوقت الذي تطاردني رغبة محمومة؛ بسرعة التخلص من الحالة وتفريغ اللحظة بأقصى ما يمكن من السرعة، لماذا؟ لا أعرف ليست لدي استراحة وأنا أكتب، تندفع الفكرة بشكل مرضي تطاردها فكرة وفكرة وصورة وصور تتدفق بشكل سريع، فالسرعة التي أحس بها وقت الكتابة تفرض علي أحيانا التكثيف والاختصار، والانتقال من نيزك يحترق إلى شهاب مشتعل، إلى ومضة، إلى شعاع، لا هدوء وقت الكتابة، وكأنها حالة مرضية لا أريد لها أن تطول فتقتلني، أو تفتك بي، لا أقول أن التكثيف دائما أجمل، ولا أقول أن التطويل دائما أقل جمالا، لكن الجملة القصيرة تناسب روحي أكثر، إلا أنها أيضا قد تهمل الكثير من الإطناب الذي يحبه البعض، أو بعض التفاصيل الجميلة، والتي قد تتيح للشاعر أن يكتشف عبر الكتابة صورا ومعاني جديدة، لكني كما قلت لك لا وقت لدي للاسترسال وقت الكتابة، كل همي أن أقذف بها، وأتخلص من شرها وثقلها.
– في ديوانك سلالتي الريح عنواني المطر نلاحظ ظلالا صوفية متناثرة هنا وهناك ولكن في كتابك الجديد "كما يليق بطائر طائش" نلاحظ الحضور الصوفي الكثيف؟ هل تعيش تجربة صوفية على الصعيد الشخصي؟
– أعيش كل الحالات في وقت واحد، لكني لم اتجه بكليتي للتصوف، وجدته ملاذا ومتنفسا مؤخراً، ووجدت روحي تميل للتصوف، وبينما عقلي يذهب للتشاؤم، أجد قلبي يميل للحياة أكثر، لكني لم أرتكب جناية كاملة في أي نحو أو مذهب، كل ذلك ينتابني ويتبدل، لكن لم أذهب للتصوف كلية، فما زال لدي ظلال من ندم التورط في حالة مزاج واحد، وربما لم أصل بعد إلى لذة الكشف التي تحدث عنها الحلاج وابن الفارض وابن عربي والبسطامي وغيرهم.
– لكننا نلاحظ حضور السخرية المرة في ديوانك "شجري أعلى" ونلاحظ حضور الصوفية في كتابك "كما يليق بطائر طائش" ونلاحظ الجدية الشعرية – إن صح التعبير- في ديوان سلالتي الريح إضافة إلى مراوغة المقدس وملامسة المحرم السياسي والجنسي، أين أنت كإنسان من كل هذا؟ ماالذي يعبر فعلا عن موسى حوامدة؟ مالذي تتوقه روح موسى حوامدة؟
– لا أدري ما الذي تريده هذه الروح فعلا، ولو كنت أعلم لسلكت درب الطمأنينة، واقتنعة بنصيبي منها، لكن الشك يعصف بي في كل حال، وربما ينجح التأمل في الذهاب نحو التصوف أكثر، أفكر؛ انني في هذه اللحظة ميال لكل هذا الذي قلت، لدي تحولات وأحوال لا أتحكم بها، فمرة أجدني قديسا ومرة شيطانا، لكني لا أهرب من شر هذا الأخير ولا أتمترس في كهنوت الأول، لدي كل ما يصلح لأركب الفراغ، وأحدق في عين الشر، واكسر طاعة العبيد، ولا أفقد شهوتي للتصوف، ولا إعجابي بالزهد والزاهدين، لكني لا أتخلى عن ولعي في الحياة، أنا مزيج من النار والماء، مزيج من الصدأ والماس، لا أتدين في مزاج، ولا أتشبث بيقين، بل أطيع الروح حين تسمو، وأطيع القلب حين يحب، وأخلص للحواس كلها، ولا أنفر من دناءة الجسد.
– حزت على جائزة لابلوم الفرنسية من مهرجان تيرانوفا، والجائزة الكبرى من مؤسسة أورياني الفرنسية عن (سلالتي الريح عنواني المطر) ماذا تعني لك الجائزة؟ وماذا تقدم للمبدع عموما؟
– لا تعني شيئا على الإطلاق، ولم تشكل لي أي إحساس بالظفر، تم تكريمي من قبل المؤسسات الفرنسية، ومنحوني هاتين الجائزتين بعد أن ترجموا هذه القصيدة وغيرها، لكن لم أتوهم أن ذلك قدمني بشكل كامل للقارئ الفرنسي او الغربي، ربما تمنح الجوائز أصحابها إحساسا زائفا بالتفوق لكني بصدق لم اشعر بذلك، ولا اعتبر الجوائز عادلة، فهي تجيء في ظروف معينة، وربما تمتاز الجوائز الاجنبية بحسابات للمعايير الفنية أكثر منا، خاصة وان الجوائز العربية تعطى بقرارات لجان وحسب المناطق وللأسف فإن كل شئ يتم اعتباره في تقديم الجوائز العربية إلا المعايير الجمالية. من هنا قد يكون الفرنسيون الذين منحوني الجائزة أقرب إلى قصيدتي من بعض قراء العربية، وهذا ما يحز في النفس نوعا ما، لكن كما قلت لك؛ لا أعول على الجوائز، وهي لا تعني أن من ينالها أهم ممن لم ينلها، لان الإبداع يجب أن يكون فوق الجوائز والمكرمات والأعطيات وكل الحسابات الرقمية.
- تقول: أنا عارُك يا أبيأنا فضيحتك بين أهلِك وعشيرتِك الكذَّابينأنا فضيحتهم لو يفقهون.إلى أي حد يجب أن يكون الشعر فضيحة؟
– الشعر أساسا فضيحة، فضيحة في التعبير عن المشاعر والهواجس والظنون والمخاوف والغرائز، ألم يكن شعر المتنبي فضائح وشعر أبي نواس وعمر بن ابي ربيعة وقيس وجرير والفرزدق، ونزار قباني وأمل دنقل والسياب ومظفر النواب، ألم يحمل فضائح، بل إن كل الشعراء الذين خلا شعرهم من الفضائح كانوا مقنعين ومتسترين وراء جدران قاسية، لكن الفضيحة قد لا تكون خطيئة او غريزة فهناك فضائح تشبه الكشف مثل فضيحة الحلاج والمعري، كما أن الفضيحة الشعرية لا تشبه الفضيحة الاجتماعية او السياسية فضيحة الشعر ميزة لصاحبها، بينما القول بتلبيس القصيدة حجابا او غطاء شعريا لا تعني المحافظة على القيم او الاخلاق بل هي نقيض كامل للأخلاق، فالشعر ليس وسيلة للوعظ والإرشاد، وكل الألفيات والمواعظ الشعرية والنصائح والحِكم تنصب في باب النظم وليس الشعر. لا ادافع هنا لأني ارتكبت فضيحة شعرية، ولا أقول أن الفضيحة وحدها قد تكون سندا للشعر، فربما تجد قصيدة تخلو من الفضح لكنها جميلة وربما تجد قصيدة شعرية تحمل فضيحة لكنها نفسها فضيحة بالمعنى السلبي إنما في العمق لا بد ان يكون الشعر فضحا وكشفا بلا حدود.
- تقول: وحين عدتُ للشامعاتبني سيف الدولةقلت: لا أتقن حرفة المتنبيكيف تنظر للمتنبي؟ شاعرا أم مدّاحا؟ وهل يتحدد الشاعر بنصه أم بسلوكه؟
– ربما يكون المتنبي الشاعر الوحيد الذي تغفر له تقربه من السلطة السياسية ومن الحكام وتغض النظر عن نزعاته الجوانية للحكم، ولهفته على الولاية، وهو الوحيد الذي تتجاوز عن بعض سلبياته وبعض عنصريته وسرقاته الكثيرة، لأنه كان شاعرا كبيرا، ولم يذهب للشعر بحثا عن طريق للسلطة بل كان شاعرا حمل شهوة التملك والحكم، ومدح الكثيرين للوصول لكنه انتهى فاشلا في السياسة وناجحا في الشعر بل نجح أن يكون شاعرا عظيما.
لا يعظم الشاعر بسلوكه فقط، فالنص هو الذي يحدد أهمية الشاعر، ولكن لا يمكن أن نغض النظر عن سلوك الشاعر او الأديب، فحين يكون الشاعر رديئا ومواقفه السياسية مخزية يؤثر بالتاكيد على سمعته مع انه لا يؤثر على جودة ما كتب، ويجب أن نفصل بين النص وصاحبه في التقييم الأدبي، لكن لسنا ملائكة إلى هذا الحد، والسمعة السيئة قد تلحق الأذى بصاحبها، كما جرى مع سعيد عقل، فقد مكانته اللائقة كشاعر عربي كبير بسبب دعوته للعامية.
من هنا أقول المتنبي شاعر كبير لكن سلوكه لا يعجبني ولا يروق لي ولا أتمثله ولا يناسب العصر الذي نعيشه اليوم، لكن لا ننسى أن وظيفة الشعر قبل ألف سنة تختلف عن وظيفته اليوم، وما كان يمكن قبوله زمن المتنبي لا يقبل حديثا، فتصور لو أن شاعرا معاصرا قام يمدح محافظاً او سفيرا أو رئيس بلدية أو زعيما، ولو أن شاعرا تخلى عن وظيفته الجمالية وصار جزءا من السلطة، كما فعل البعض بالتأكيد سيحصل على مكاسب من نوع ما لكنه سيخسر الكثير حتى لو كان ذكيا وحافظ على خط فاصل بين شعره ومواقفه السياسية، فهناك شيء ما ينكسر داخل القصيدة، حين يقترن الشاعر بسلطة سياسية.
– تقول: (المرأة التي لا تصيبني بالحسرة وردة بلا شذى)
أي نوع من الحسرات تعني؟ وهل على كل امرأة أن تحمل نكهة حزن في عينيها كي تغري الشاعر فيك؟
– يا إلهي هل قلت انا ذلك؟؟ هذا جنون وشبق لا حد له، ومن أعطاني الحق لأجبر كل امرأة في الدنيا أن تصيبني بالحسرة، وأجبر كل وردة في حديقتي أو حديقة الجيران لتمنحني بعض شذاها، هذا منتهى الأنانية والمرض، بل جنون ليس من حقي أبدا سواء كانت تحمل في عينيها حزنا او فرحا، أن تحاول إغرائي أو إغوائي، ليست هذه مهمة المرأة على كل حال، لكن لماذا قلت ذلك، ربما لحظة الكتابة كنت مريضا او لدي شعور بنقص ما.
– نلاحظ سيادة اليأس والقنوط عموما على نصوصك، ألا من فرح ما؟ متى يفرح موسى حوامدة؟
– حين انتهي من التخلص من شئ من اليأس والقنوط اللذين يسكنان داخلي، أشعر بشئ من الفرح، لكن ذلك يكون مؤقتا لان الشعور بالغبطة بعد انتهاء الكتابة سريع الزوال، إنما لم أتخل عن ايماني بان هناك فرحا ما، قد يكون مخبئا، ويحتاج إلى إشراقة ما، دعنا لا نفقد الأمل بحتمية الفرح.
– الشعر ابن الطفولة، ماذا تحدثنا عن حوامدة الطفل؟ أحلامه وشقاوته؟ وما لذي تبقى من أحلامه الآن؟
– يا إلهي لماذا تعيدني إلى تلك السنوات، ألا يكفي انني احملها داخلي وأنزف منها، ولكني أسأل هل ما مر معي في تلك المرحلة كان طفولة؟ أم كانت ظلال حياة تلاشت وبشر مضوا، هل كانت حياة طبيعية، ام حلما قاسيا، لكني أتذكر، أتذكر يا محمد، أنني كنت طفلا شقيا وعنيدا وصعبا، أتذكر أنني كنت أسأل أبي عن معنى الوطن وعن اسرائيل واليهود وعن الفدائيين منذ كنت في الرابعة، فقد كان الحديث دائما عن السياسة والهجرة وعبدالناصر والحروب، لا يعني ذلك أنني لم أكن ألعب أو ألهو كان في حوشنا القديم صوامع للحبوب ومصطبة وكان يحيط بيتنا جدار عال من الحيطان كنت دائما أتسلقه وأبحث عن الافاعي داخله، وكان للعتمة سلطة لعينة تفتح الخيال للبحث عن العفاريت والخوف من الحكايات الشعبية، كنت ألعب مع ابن عمتي، كان اسمه صالح وكنا قد ولدنا معا، لكنه مات طفلا صغيرا جدا، ربما في بداية الستينات، فقدت صالح ولم أفهم معنى الموت، كانت المقبرة التي دفن فيها تحت بيتنا، وكنت أذهب إلى قبره أحاول إخراجه، ولم أعترف بموته فقد بقيت أنتظر عودته وأحتفظ ببعض ألعابه، ورغم أن أمي كانت تقول لي انه صار طيرا من طيور الجنة، لكني لم أصدق ذلك، وكنت أنتظر رجوعه واللعب معه، وبقيت أتسلق الحائط وانا أتخيله معي، حتى أنني مرة تخيلته سيعود ليلعب معي، وبقيت انتظره في العتمة حتى جاء أبي وحملني إلى الداخل، وظللت أفكر كيف سيعود إلى بيتهم وحيدا في هذا الليل الحالك السواد، لم يفارقني ظلُّ صاحبي القديم حتى دخل اليهود إلى البلدة وهدموها بالكامل وحين عدنا مساء الى الركام كانت رائحة البارود والغبار والجثث، تملأ المكان لكني وجدت ورق شدة متناثرا، فجمعته وبدأت أبحث عن شريك يلاعبني.
– كلمة أخيرة تود قولها..
– كتبت الكثير من الشعر والنثر حتى اليوم، لكني ما زلت أحس أنني لم أعبّر عما يدور داخلي ولم أقل كل شئ، وأني ما زلت أعد العدة للبوح والكتابة، وكل المجموعات التي كتبتها وصدرت، أرى أنها لا تحملني ولا تقدمني، ولا يمكن أن تكون انجازا ما، إنني ما زلت اشعر بالارتباك قبل كل كتابة، ولم يسعفني كل ما كتبت في التدرب على تفريغ أحزاني وآلامي، لكني لا أعرف قولا أخيرا أو فصلا بعد كل هذه الكلام الذي قلت، ولعلك تترك لي هذه الكملة الأخيرة لأقولها بعد موتي.