دقة الوصف والملاحظة عند دستوفسكي رواية "المراهق" أنموذجا
الكثير من كتاب الرواية أو القصة القصيرة يعيبون على كاتبها إذ تطرق في كتابة قصته أو روايته إلى الوصف أو حاول التعكز عليه، إلا أن الرواية أو القصة من دون وصف قد تفقد جماليتها ورونقها فكاتب الرواية لن يبدع في كتابة روايته إلا من خلال وصف أدق الأشياء وصفاً دقيقاً وفي غاية الروعة، ولكل كاتب أسلوبا خاصاً يحاول فيه التجديد والانتقال من نمط معتاد عليه إلى نمط جديد وأسلوب آخر يبتكره لذاته ونفسه فرواية " المراهق" رواية تتألف من جزأين بـ (1000) صفحة إذ يحتوي كل جزء على (500) صفحة وبضع الصفحات التي اعتلت الخمسمائة تطرق فيها الكاتب إلى الواقع المأساوي الذي عاشته روسيا في تلك الحقبة والتي يصفها في بعض الأحيان بالمظلمة، الشاب المراهق امتلك الشجاعة والعناد والمثابرة والعزلة التامة والسر المكتوم كما يصور كرهه بالعلاقات الاجتماعية كرهاً عظيماً إلى آخر لحظة حيث يقول إن الفائدة التي جنيتها من قطعي للعلاقات الإنسانية هو الاستقلال وهدوء البال ووضوح الهدف.
كان قليل الإنفاق على نفسه حتى في طعامه حيث أكل خبزاً وملحاً في يومين متتاليين وينفق في اليوم الثالث كل ما أدخره من مال، اتخذ من الشارع مسكناً له في أحنك الظروف وإذ اقتضت الضرورة يلتجأ إلى المبيت في الملاجئ التي يعطى النائم فيها عدا الغطاء قطعة خبز وكأس من الشاي، كما عانى الفقر والاضمحلال في الملبس والمأكل والمشرب إذ أحاطته ظروف قاسية حولته إلى إنسان يعاني من كل الذين حوله، كما تطرق الكاتب في روايته إلى الفرق بين الطبقات الفقيرة والطبقات الغنية والفرق الكبير بينهما من خلال رسم صورة كبيرة لما يقتاته الفقراء من خبز يابس واسود، والنوم على أرصفة الطريق بينما يترنح الأغنياء على ألذ الموائد، حاول الخروج من المجتمع الروسي ليعطينا فكرة عن واقع باريس قبل الثورة الفرنسية إذ ذكر حب الناس للمال وذلك من خلال البيت الذي تجري فيه بيع الأسهم إذ يصفه بالبيت الذي يبتلع أموال باريس كلها، كانت تتوافد كل الطبقات على هذا البيت بما فيهم البورجوازيين والنبلاء وأولادهم ومن كونتيستات ومركيزات ومومسات، بعدها انتقل للمجتمع الروسي الذي كان يقدس آنذاك أصحاب الجيوب الممتلئة إذ يقول"لو كنت غنياً مثل روتشيلد لكان يكفي أن أصفر صفرة واحدة حتى تهرع إليّ ألوف النساء تعرض عليّ محاسنها" وكان للملحد الروسي نصيب في روايته فيقول "هو خير إنسان في هذا العالم فهو يميل دائماً إلى أن يعامل الله بالحسنى لأنه طيب من كل بد، وهو طيب لأنه مسرور بإلحاده سروراً كبيراً، إن الملحدين في بلادنا روسيا أناس جديرون بالاحترام، وهم دعامات الوطن" ثم يعرج ليذكر القرآن الكريم بشيء ما في روايته إذ يقول "ففي سورة من سور القرآن يأمر الله نبيه بان ينظر إلى الكفار نظرته إلى فئران وان يحسن إليهم ويمضي في طريقه إن في هذا شيئاً من تعال ولكنه صدق وحق".
الملفت للنظر في خضم الرواية وعلى الرغم من تفشي الحركة الشيوعية في روسيا إلا أن للمسيحية نصيب كبير في ذلك المجتمع إذ كان دائماً ما يذكر الرب ويتوسل إليه من خلال الدعاء فكان للمسيحية حضور فاعل وقوي في روايته.
حقيقة تشظى كثيراً وكان يمتلك قابلية على السرد المطول أضف إلى ذلك المقدرة على تعدد الشخصيات التي اعتمدت عليهم الرواية، إذ أن الرواية لم تكن تحتوي على محور ومضمون تدور حوله الرواية لكنها كانت عبارة عن سرد لذكريات أليمة وجميلة مر بها الكاتب إذ لم تفته أي شاردة ولا واردة لكنه تناول مجموعة من القصص الجميلة التي حاولت أن تعيدك إلى جو الرواية الذي كان في بعض الأحيان يجرك إلى الملل وكلما تعيش نوعاً ما من الشرود الذهني تظهر لك قصة تحاول إعادتك إلى جو الرواية من جديد ففي ج2/ ص202 من الرواية يروي لنا قصة جدا جميلة إذ يقول "أحب أن أسوق الآن قصة من قصص ماكار ايفانوفتش وقع عليها اختياري عرضاً لسبب واحد هو أنني أحفظها أكثر مما أحفظ القصص الأخرى، هي قصة تاجر أظن أن مدننا الكبيرة والصغيرة تجري فيها آلاف من القصص تشبهها، فيكفي أن نحسن النظر حتى نراها وللقارئ أن يقفز فوق هذه القصة إن شاء، لاسيما وأنني ارويها بأسلوب صاحبها....." ثم يتطرق بعد ذلك إلى القصة بكافة تفاصيلها دون استثناء لأي حدث صغيراً كان أم كبير، حقيقة كانت قصة في غاية الروعة تحمل آلام وهموم زوجة فقدت زوجها وفي عاتقها خمسة أيتام ولد وأربع بنات، إذ ماتت البنات الأربع بسبب فقر حالها وبقى الولد الأوحد الذي عانى الأمرين، إلا أن مكسيم ايفانوفتش استطاع انتشال الطفل من أمه واضعاً لها شروطاً قاسية لمعيشته عنده مقابل أن لا تراه سوى في المناسبات والأعياد فقط وفي مقابل ذلك سيكون وريثاً شرعياً لجميع أملاكه لكن قساوة مكسيم ايفانوفتش حالة دون ذلك بسبب تزمته وعنفوانه مما جعل الطفل يخرج مذعوراً خائفاً ليستقر في قاع النهر مفارقاً الحياة.
أجمل ما في القصة أن مكسيم ايفانوفتش دعا معلم الطفل وابلغه برسم لوحة تخليدية له طالباً منه رسم أكبر لوحة ممكنة تحتل الجدار كله، يقول له ضع فيها النهر، والمنحدر، والمعدية، وجميع الناس الذين رأوا المشهد، ضع الكولونيلة وابنتها والقنفذ، وارسم الشاطئ الآخر كله بحيث يراه الناظر كما هو: الكنيسة والميدان والدكاكين والمكان الذي ترابط فيه العربات، ارسم كل شيء كما هو في الواقع وارسم الولد أمام المعدية، على ضفة النهر، في ذلك المكان نفسه، واجعل قبضتي يديه مضمومتين إلى حلمتي صدره، شُق السماء فوق الكنيسة، وصوّر جميع الملائكة في النور السماوي وهم يطيرون للقائه.
كانت لوحة جداً جميلة تعبر عن مأساة تعلق بها مكسيم ايفانوفتش وهو الطفل وبراءة الطفل الذي فقدته أمه بعد الأربع بنات لتكون فاقدة للزوج والأولاد، دارت هناك مجموعة من العوامل المؤثرة على الزوجة لتكون بعد ذلك زوجة لمكسيم ايفانوفتش الشيطان المتمثل بهيئة إنسان، استطاعت تلك الأرملة أن تخلق منه رجلاً ناجحاً طيب القلب غزير الدمع متأثراً بأبسط الأشياء محبوباً لدى الأوساط التي كانت تشمئز منه أيضاً، استطاعت أن تنجب له ولداً، لكنه مات بعد فترة من ولادته الأمر الذي جعله يترك زوجته ويودعها معاقباً نفسه لما فعله من ظلم حثيث قبل زواجه من هذه الأرملة … هذه إحدى القصص من مجموعة من القصص الجميلة التي تضمنتها الرواية.
أما في نهاية الرواية أعطانا صورة عن ماهية المراهق الذي ينتمي إلى ذلك العصر المضطرب إذ يوصفه بحث لا تغمط قيمته، مادام المراهقون هم الذين تتألف منهم الأجيال.. كان يمر على الأشياء مرور الواصف للشيء إذ وصف كل شيء وصفاً دقيقاً من رأسه إلى أخمص قدمه تعمق كثيراً بالوصف وغاص في بحور الشخصيات إذ استطاع أن ينتشل من قاع تلك الشخصيات أدق الأشياء، لذا سنتطرق إلى تلك الشخصيات التي وصفها في روايته بالإضافة إلى الأشياء الغريبة التي تناولها في وصفه مثل الشقة والقبعة والورقة والألبوم....
ففي ج1/ ص45 يصف لنا تاتيانا بافلوفنا "هي امرأة قصيرة القامة، جافة الطبع، ذات انف دقيق مدبب كانف عصفور، وعينين صغيرتين ثاقبتين تشبهان أعين العصافير أيضا".
وعند ص53 يصف لنا المكنون الداخلي للأمير الشيخ.. يقول( رغم ما يبدو من طبعه من رخاوة وجبن، رجلاً صعب المراس عسير القياد) ثم يعود ليصف لنا مظهره الخارجي في ص54 ( انه جاد أقصى الجد ويكاد يكون جميلاً جاف أشد الجفاف، ذو شعر مجعد أبيض كثيف، واسع العينين وكان نحيفاً كله، وكان حسن القامة، غير أن وجهه يمتاز بصفة أقرب إلى أن تكون مزعجة، حتى لتوشك أن تكون غير لبقة، فهو ينتقل فجأة من أقصى درجات الجد إلى أقصى درجات العبث انتقالاً لا يمكن لامرئ أن يتنبأ به إذا كان يرى هذا الرجل أول مرة).
أما عند ص63 فانه يصف لنا نيقولاي سيمينوفتش (إن شعره أسود سواداً مخيفاً، ووجهه أبيض على احمرار بلون الأرجوان فكأنه قناع، وانفه طويل أقني كأنوف الفرنسيين، وأسنانه بيضاء وعينيه سوداوان ) ثم يعود في ص75 ليصف لنا اولمبيادا (قد أنعمت النظر إليها فعلاً، فلم أجد فيها شيئاً خاصاً يلفت البصر: هي فتاة متوسطة القامة، بدينة الجسم، حمراء الخدين احمراراً شديداً، وجه ممتع على حال، من تلك الوجوه التي ترضي المادّيين، ولقد يعبر عن طيبة، لكنه يعبر أيضا عن خفايا، ليس الذكاء هو الذي يمكن أن يجعل هذه الفتاة لامعة، واعني بالذكاء معناه العالي فقط، لان المكر واضح في عينيها، إنها لا تتجاوز التاسعة عشرة من عمرها، لاشيء فيها يخطف البصر إذن، فلو كنا في المدرسة الثانوية لوصفناها قائلين: مخدة طرية) ثم يعود ليتحدث عن بنت فرسيلوف في ص76(هي فتاة فارعة القوام، أميل إلى النحافة، ذات وجه بيضاوي واضح الشحوب، ولكن شعرها فاحم غزير، عيناها قاتمتان واسعتان، نظرتها عميقة شفتاها رقيقتان بلون الأرجوان، فمها غض نضير، إنها أول امرأة لم توقظ مشيتها في نفسي شيئاً من الاشمئزاز، ثم أنها رقيقة الحاشية على شيء من جفاف، وجهها لا يعبر عن طيبة القلب بقدر ما يعبر عن الجد والاتزان، وهي في الثانية والعشرين من عمرها ولا يكاد مظهرها يشبه مظهر فرسيلوف في شيء، ومع ذلك يشعر المرء، لا ادري كيف، بأن بينها وبينه شبهاً عجيباً خارقاً في تعبير الوجه والسحنة، لا ادري أهي تعد جميلة أم لا، فالآمر هنا أمر ذوق وكانت الفتاتان كلتاهما ترتديان ملابس بسيطة متواضعة، ليس فيها ما يستحق أن يوصف) فكل هذا الوصف..ليعود في نهاية الوصف يقول ليس فيها ما يستحق أن يوصف، على ما يبدو أن للكاتب نظرة بعيدة جدا في وصف الأشياء إذ انه يتعامل مع دواخل الأشياء، لا فقط في وصف المظهر الخارجي لتكتمل عنده نظرية الوصف.
ثم يعطينا في ص86 فكرة مبسطة عن " ألبوم" للصور فيقول (ألبوم، مجلد بجلد أحمر، مستعمل، عليه رسوم بالتلوين المائي والحبر الصيني، في علبة من عاج محفور مع مغاليق من فضة: روبلان!)....كان الألبوم يبدو أنيقا إلا أن في شغل عاجه عيباً..بعد ذلك يعود في ص87 ليكون أكثر دقة في وصف الألبوم (وأخذت أتأمله محموماً مسرعاً، إذا صرفنا النظر عن العلبة فان "الألبوم" أبأس "ألبوم" في الدنيا بأسرها … هو ألبوم صغير ليس أكبر من ورقة صغيرة من أوراق الرسائل، نحيل، شديد النحول، قد حال تذهيب أوراقه أو كاد يشبه تماماً تلك الألبومات التي كنا نراها لدى الفتيات بعد انتهائهن من المعاهد الداخلية، وقد رسمت عليه بالتلوين المائي والحبر الصيني رسوم معابد فوق جبال ملائكة الحب، وغدير تسبح في مائه بجعات، وكتب كذلك أبيات شعر:
أنا ذاهب مسافر بعيداًأنا تارك موسكو ولن أعودتحية الوداع يا أحبتيإلى بلاد القرم صارت وجهتي)
فلم يكن واصفاً للشخصيات فقط فها هو قد أعطانا فكرة جميلة بوصفه لنا ألبوم الصور، بعد ذلك يعود ليعطينا وصفاً مبسطاً وعابراً ليس دقيقاً للسيد ذو المعطف الأزرق ص88 إذ يقول (هو سيد يرتدي معطفاً ازرق، حسن القامة، جميل الهندام) حتى الشخصيات ذات الدور غير الفاعل كان لها نصيب من وصف الكاتب.
تطرق بعد ذلك لشخصية عابرة في روايته وهي السيدة التي وقعت منها المحفظة ص90 (سيدة باذخة المظهر، في ريعان الصبا، بارعة الجمال، واسعة الثراء، ترفل بحرير ومخمل، ويبلغ ذيل ثوبها مترا ونصف المتر) فكانت قبعته حاضرة في الوصف (وفجأة أفلتت من يديها محفظة جميلة صغيرة فسقطت على الأرض، واستقرت السيدة في موضعها من العربة، فمال الخادم على الأرض يريد أن يتناول المحفظة، ولكنني أسرعت فالتقطتها بوثبة سريعة، ومددتها إلى السيدة رافعاً قبعتي "وهي قبعة عالية").
وفي ص 92 يعود بنا ليصف لنا درجاتشيف (إن شعره يشبه من شدة شقرته أن يكون ابيض وان وجهه مدور مسرف في بياضه إلى حد غير لائق، يكاد يكون وجه صبي صغير، ورغم انه أطول مني فلقد كان من المستحيل أن يحسبه المرء فوق السابعة عشرة من العمر).
وفي ص95 يعطينا فكرة عن وجه كرافت (ما من جمال خاص يلفت النظر، غير أن في وجهه رهافة خالية من أي خبث أو مكر، إلى وقار شخص يتجلى واضحاً في كل شيء هو في السادسة والعشرين من العمر، نحيل بعض النحول، أطول من متوسط طول الرجال، أشقر، توحي إليك سحنته بالجد على رقة وعذوبة، إن نوعاً من هدوء يشع في شخصه كله، ومع ذلك أقول لك، إذ شئت أن تعرف هذا.....).
بعد أن وصف لنا وجه درجاتشيف يعود ليعطينا صورة عكسية لذلك ليصف لنا المظهر الخارجي لدرجاتشيف ومن ثم وجه فاسين في ص96 (كان درجاتشيف متوسط القامة، قوي الجسم، اسمر اللون، عريض المنكبين، ذا لحية كبيرة، انك ترى في نظرته الذكاء العلمي، والرزانة في كل شيء، وشيئاً من ترو لا يخطئه قط، ومع انه صامت أكثر الوقت فقد كان واضحاً انه هو الذي يدير دفة الحديث..).
أما فاسين (فلم يلفت وجهه نظري كثيراً، رغم كل ما كنت قد سمعته عن ذكائه النادر، شاب أشقر اللون، واسع العينين إن لونهما رمادي أشهب، شديد انبساط الوجه ولكن على شيء من صلابة مفرطة....).
وفي ص125 يصف ابنة اخماكوف زوج ايكاترينا نيقولايفنا (كانت ابنته هذه فتاة ممراضاً في نحو السابعة عشرة من عمرها، مصابة بالسل، فاتنة الجمال فيما يقال، وكذلك جامحة الخيال،...).
بعد ذلك انتقل من تصوير الشخصيات ليكون للمطعم حصة في روايته ففي ص137 يصف لنا مطعما فيقول (دخلت مطعماً صغيراً واقعاً في شارع بولشوي بروسبيكت بحي بطرسبرجسكايا نفسه.... كان المطعم في الداخل حافلا بجمهور من الطاعمين، رائحة زيت يحترق، ومنشفات وسخة، ودخان تبغ، جو فاسد، وفوق رأسي هزار لا يغني، قاتم واجم، يضرب بمنقاره قاع قفصه، وفي صالة البلياردو ضجة وصخب ولكنني بقيت جالساً في مكاني أفكر).
أما في ص181 ينتقل بنا إلى شقة أمه ليعطينا أدق الوصف عنها إذ يقول (إن الشقة تضم ثلاث حجرات: الحجرة التي يلتئم بها شمل الجميع كما العادة، والحجرة الوسطى أو الصالون، وهي حجرة واسعة سعة كافية وتكاد تكون لائقة، ففيها دواوين حمراء طرية، لكنها مهترئة اهتراء شديداً وفيها بضع سجادات وعدة طاولات ومناضد لا فائدة منها، ثم غرفة فرسيلوف التي تقع على اليمين وهي غرفة صغيرة ضيقة ذات نافذة واحدة، فيها مكتب حقير ألقيت عليه عدة كتب مهجورة وأوراق منسية و أمام المكتب مقعد رخو لا يقل عنه حقارة قد نفذ نابضه المكسور فانتصب في الهواء، وذلك ما كان يحمل فرسيلوف كثيراً ما على الأنين والتجديف، وفي تلك الغرفة نفسها إنما جعل له سرير على ديوان رخو مهترئ أيضا ولقد كان فرسيلوف يكره هذا المكتب، وأظن كان لا يستعمله ابدأ وإنما يؤثر أن يبقى في الصالون ساعات كاملة بغير عمل، وعلى يسار الصالون توجد غرفة صغيرة مماثلة تماماً كانت تنام فيها أمي وأختي، وسبيل الوصول إلى الصالون دهليز يؤدي إلى المطبخ الذي تسكن فيه الطباخة لوكيريا، فإذا كانت لوكيريا تطبخ انتشرت رائحة الزيت الشائط في الشقة كلها فكان يتفق لفرسيلوف في بعض اللحظات أن يلعن حظه وحياته كلها بصوت عال بسبب روائح المطبخ هذه، وكنت أنا من هذه الناحية وحدها، أوافقه كل الموافقة، إنني أكره هذه الروائح أنا أيضا، رغم أنها كانت لاتصل إلى حينذاك، فلقد كنت أسكن في أعلى، في حجرة تحت السقف أصعد إليها على سلم شديد الصرير، وكان من طرائف هذه الحجرة التي أسكنها أن لها كوة صغيرة نصف دائرية، وسقفاً واطئا إلى حد رهيب، وان فيها ديوانا مغطى بقماش مشمع كانت لوكيريا تغطيه في المساء بشرشف وتضع عليه مخدة، أما باقي الأثاث فهو شيئان: طاولة من ألواح خشبية بسيطة، وكرسي خاسف من خيزران...).
وبعد أن غاص في أعماق شقة أمه عاد ليوصف لنا أمه في ص185(إن وجهها في بعض الأحيان فتان..وجه طيب … وليس عامياً البتة.. وجه شاحب قليلا، هو وجه إنسان مصاب بفقر الدم، خداها نحيلتان جداً، بل خاسفتان، وقد أخذت تتراكم على وجهها غضون كثيرة، ولكن الغضون لم تظهر حول عينيها بعد، وهاتان العينان، الواسعتان المنفتحتان، تلتمعان دائماً ببريق ناعم هادئ جذبني منذ أول يوم والشيء الذي كنت أحبه أيضاً هو أن وجهها ليس فيه شيء من حزن أو مذلة).
ثم يعود بعد ذلك ليعطينا وصفاً لشقيقته ليزا بعد مخاض ٍعسير في تفاصيل وجه أمه ففي ص187 يقول (إن أختي شقراء، شقراء شقرة زاهية، شعرها ليس كشعر أبي ولا كشعر أمي ولكن عيناها تكادان تكونان عيني أمي، وكذلك وجهها البيضوي، انفها مستقيم صغير متسق وهناك خاصة أخرى: إن في وجهها نمش، وذلك ما لا تجده في وجه أمي).
ينتقل مرة أخرى ليعطينا فكرة عن قبعة فرسيلوف إذ يقول في ص191 (إن قبعاته رخوة سوداء عريضة الحافات دائماً، وكان إذا خلع قبعته نزلت على جبينه خصلة من شعره الذي كان شديد الكثافة والغزراة وإنما يخالطه بياض كثير، وكنت أنا أحب أن انظر إلى شعره حين يخلع قبعته).
ثم ينتقل في ص263 ليصف السيد ستيبلكوف الواقف أمام باب فاسي إذ يقول (انه رجل حسن الهندام، يرتدي ثياباً من تفصيل أفضل الخياطين على ما يبدو، ثياب سيد كما يقال، ولكن ليس في هيئته ما ينم عن انه سيد، رغم رغبته الواضحة في الظهور بهذا المظهر، وكان طلقاً غير متحرج، بل قل كان وقحاً على السجية، وهذا اقل كراهية إلى النفس من رجل وقح درس نفسه مدة طويلة أمام مرآة، وكان شعره الكستنائي الذي خطه الشيب قليلا، وحاجباه الأسودان، ولحيته الكبيرة، وعيناه الواسعتان، كان ذلك كله لا يهب له طابعا خاصا، بل يسبغ عليه، لا أدري أي نوع من الشبه بجميع الناس،، إن رجلا مثله يضحك، ويهم أن يضحك، ولكنك لا تشعر في صحبته بشيء من المرح أبدا، ومن الهزل ينتقل بسرعة إلى الوقار، ومن الوقار إلى المرح، أو إلى غمزات الأعين ولكن هذا كله يتعاقب فوضى وبغير علة ظاهرة...على كل حال، لا داعي إلى وصفه سلفاً).
أما في ص274 يعطينا وصفاً للبنت الشابة الموجودة مع المرأة المسنة الواقفة على مسافة خطوة منها (أتذكر أن الفتاة المسكينة كانت مليحة: إنها في نحو العشرين من العمر، ولكنها نحيلة هزيلة، مريضة الهيئة، يضرب لونها إلى الحمرة وتشبه أختي بعض الشبه وجهاً، وتلك سمة خطفت بصري، ونقشت في ذاكرتي.....، كانت شفتاها بيضاوين، وكانت عيناها الشهباوان تقدحان شراراً، وكانت ترتعش من شدة الحنق من قمة رأسها إلى أخمص قدمها).
بعدها ينقلنا في ص279 ليبلغنا عن ماهية الطباخة الفنلندية (إنها فنلندية سيئة الطبع فطساء الأنف، أظن أنها كانت تكره مولاتها تاتيانا بافلوفنا ولكن تاتيانا بافلوفنا كانت لا تستطيع أن تنفصل منها، وكانت تتعلق بها تعلقاً شديداً كتعلق العوانس بكلابها ذات الأنوف الرطبة، أو بقطعها الغافية دائماً، كانت الفنلندية تتقلب بين حالتين: فهي إما متأففة متذمرة، وإما صامتة في اثر شجار تظل خرساء لا تنطق بحرف واحد خلال أسابيع بكاملها عقابا لمولاتها، ولاشك أن مجيء قد صادف يوما من أيام الصمت هذه، لأنها حين سألتها: " هل السيدة في البيت؟" - وأتذكر جيداً أنني قد ألقيت عليها هذا السؤال - لم تجبني بكلمة، ورجعت إلى مطبخها دون أن تفتح فمها....).
وبعد وصفه لشقة أمه يعود في ص280 ليصف لنا شقة تاتيانا بافلوفنا (والحق إن الغرفتين اللتين تتألف منهما هذه الشقة أشبه بقفصين من أقفاص عصافير الكناري، قد ألتصق احدهما بالآخر، وكان كل منهما أصغر من أخيه، وهما تقعان في الطابق الثاني، وتطلان على فناء العمارة) هذه نظرة بصورة عامة…
بعد ذلك يعود ليعطينا تفصيلا كاملا عن بواطن الشقة (انك حين تدخل هذه الشقة يطالعك في أول الأمر ممر صغير ممطوط، لا يزيد عرضه على متر، ثم ترى قفصي عصافير الكناري المذكورين على يسارك، فإذا نظرت إلى أمام، عند آخر الممر، أبصرت مدخل مطبخ صغير، إن المتر ونصف المتر المكعبة من الهواء، التي لابد منها للإنسان حتى يعيش اثنتي عشرة ساعة، قد تكون متوفرة في هذا البيت، ولكن لاشك انه لا يتوفر فيه من الهواء أكثر من ذلك، الغرفتان واطئتان إلى حد مخيف، والأبشع من هذا أن النوافذ والأبواب والأثاث، إن كل ذلك كان مكسوا أو مغطى بقماش قطني فرنسي جميل مزين بهداب، لذلك تبدو الغرفة اشد ظلمة من واقعها مرتين حتى لكأنها جوف عربة، ولقد كان المرْ يستطيع في الغرفة التي كنت انتظر فيها أن يتحرك ملتفتاً إذا أراد، رغم أن المكان مزدحم بالأثاث، ولم يكن الأثاث رديئاً: ففي الغرفة أنواع شتى من الطاولات الصغيرة المصنوعة من خشب مرصع مزدان بالبرونز، وفيها أنواع من العلب، ومنضدة لأدوات الزينة رائعة الجمال بل واسعة الثراء أما الغرفة الصغيرة الأخرى التي كنت أتوقع أن تخرج منها تاتيانا بافلوفنا، وهي غرفة النوم التي تفصلها عن الأولى ستارة سميكة، فليس فيها إلا سرير كما عرفت ذلك من بعد، إن هذه التفاصيل كلها ضرورية لفهم الحماقة التي ارتكبتها).
أما في ص315 فهو ينقل صورة أم الفتاة التي انتحرت ويقدم لها وصفاً دقيقاً إذ يقول (هي في نحو الخمسين من عمرها، وكانت شقراء هي أيضا، ولكن عينيها غائرتان وخديها خاسفان وأسنانها كبيرة صفراء متفاوتة، وكل ما فيها يمت إلى الاصفرار بصلة: فجلد الوجه واليدين أشبه بالرق، وفستانها القاتم قد اصفر من فرط قدمه، وظفر السبابة من اليد اليمنى كان مدهونا بشمع اصفر لا ادري لماذا).
فيعود بعد ذلك في ص332 ليصف ورقة إذ يقول (فتناول فاسين الورقة، وإذ رأى أنني انظر إليه مستطلعا، اعطانيها لاقرأها … إنها بطاقة كتب فيها سطران مضطربان كتبا خربشة بالقلم الرصاص، واغلب الظن أنهما كتبتا في الظلام...)
أما في ص343 فانه يعطي وصفاً للضابط (انه نحيل الجسم، حسن القامة، كستنائي الشعر، نظر البشرة على شيء من صفرة، جازم النظرة، تبدو في عينيه القاتمتين قليلا، مشوه، حتى حين يكون هادئاً، ولكن نظرته الجازمة هي نفسها الشيء المنفر فيه، لان المرء يحس أنها لا تكلفه إلا ثمنا بخسا جداً..).
وفي ص367 يعود مرة آخري ليصف لنا الزائر (... في نحو الأربعين من العمر، مجدور الوجه، مدقع الفقر، مثقل بعبْ زوجه مصدورة وابن مريض، له طبع منفتح سالم موادع رقيق...).
أما في ص404 فانه يصف ستيبلكوف إذ يقول (لا يزال كما كان، حسن الهندام انيقه، ناهدا بصدره إلى أمام، محدقا بنظره تحديقاً أبله، ظاناً نفسه أمكر من غيره، راضياً عن ذاته أعظم الرضى.....).
ثم يصف لنا زائر الأمير ايبوليت الكسندروفيتش ناشكوين في ص409 (انه شاب في نضارة الشباب، وان يكن في الثالثة والعشرين من العمر، يرتدي أجمل الثياب وينتمي إلى أسرة كريمة، ويتمتع بوسامة حلوة، ولكن لاشك أنه يختلف إلى مجتمع سيء الصيت.....).
ثم ينتقل بنا إلى ص421 ليصف لنا منزل ستيبلكوف (منزل يتألف من أربع غرف رائعة، جميلة الأثاث، مع خادمين رجل وامرأة ومع مديرة للبيت متقدمة في السن...).
وفي ص457 فانه يعود ليصف لنا وجه الأميرة كاترينا نيقولايفنا إذ بدأ واصفاً جبهتها لينحدر بعد ذلك إلى وجهها (لم أتخيل في يوم من الأيام جبهة كهذه الجبهة: إنها ضيقة قليلا كجباه التماثيل، لكنها طرية بيضاء كالمرمر، تحت شعر غزير رائع، وان لها صدراً عالياً ومشية مرنة، وجمالاً خارقاً....).
لقد كان الجزء الأول حافلا بالكثير من الشخصيات التي قامت عليها الرواية لذا فقد أعطانا وصفاً لكل الشخصيات، أضف إلى ذلك بعض القضايا العابرة التي لم تفته بل كانت حاضرة في روايته هذه مثل الشقة والألبوم والورقة والكثير من الأشياء التي لا تحتاج بالأساس إلى هذا الوصف الدقيق، انتقل بعد ذلك إلى الجزء الثاني من الرواية ليكون الكلام عنه أقل من الجزء الأول.
الجزء الثاني من الرواية:
في ص9 يصف المؤجرة التي لم يكن لها دور فاعل في الرواية إلا انه ذكرها ضمن القصص التي احتوتها الرواية إذ يقول (إنها امرأة موظف مصابة بداء السل إصابة قوية، وهي ربما طيبة القلب، لكنها كسائر المصدورين، صاحبة نزوات جامحة...) ثم يعرج مباشرة على وصف المستأجر الذي اسماه بالغبي إذ يقول (هو موظف في بنك، غليظ القلب، فظ الطبع، أناني، مجدور الوجه، اسمه تشرفياكوف).
وفي ص14 يعطينا فكرة عن محلا للقمار إذ يقول (انه صالة روليت حقيرة، صغيرة تديرها امرأة خليلة كانت لا تظهر في الصالة مع ذلك أبدا).
وأخيرا في ص141 يصف لنا الشيخ العجوز إذ يقول (شيخاً أشيب الشعر تماماً له لحية كبيرة بيضاء بياضاً هائلاً.... وكان يرتدي فوق قميصه سترة مبطنة بفراء خروف، ويغطي ركبتيه بحرام لامي، وينتعل بابوجين، لابد انه طويل القامة، وهو عريض المنكبين، تدل هيئته على شكيمة قوية، رغم مرضه ورغم شيء من الشحوب والتحول، وهو بيضوي الوجه، شعره غزير لكن ليس طويلاً جداً، ويبدو انه تجاوز السبعين من عمره... ).
حقيقة لا أريد أن أخفيها لقد كان الأجدر به أن يبتعد عن وصف بعض الأشياء الزائدة التي ليس لها دور فاعل أو شخصية تقوم على أساسها الرواية، لا أريد أن انتقد دستوفسكي ككاتب لأنه لا يحق لي الوقوف أمام جبل شامخ ككاتب الرواية ولكن يجب الوقوف على بعض القضايا الزائدة في الرواية إلا أني حاولت أن أحصي جهد الإمكان كل القضايا الوصفية التي تطرق إليها الكاتب، لذا فإذا أردت أن تكون روائيا أو قاصاً ناجحاً فعليك بالوصف، لان الوصف يدلل على مقدرتك في تشبيه الأشياء، وإذا ما تعرضت في يوم من الأيام إلى انتقاد من قبل النقاد فعليهم أولا بانتقاد دستوفسكي وعلى ما يبدو لي أن من ينتقد الروائي دستوفسكي سيوصف عند أغلب الأدباء بالجنون وهذا مما لا يحمد عقباه.