دلالات التراكم العلمي في منهج الدراسات الدينية
لا خلاف حول أهمية المؤلفات المعتمدة في المؤسسة التعليمية الدينية ودورها في نواحي حفظ نصوص الشريعة من الإندراس، فهي تعد مادة لمصادر التشريع بوجهيها التفصيلي والإجمالي ولوظائفها العملية المهمة في تدوين التعليقات والحواشي والتفسيرات والإيضاحات. إنما الرأي هنا في مسائل أخرى غير ذات النص، وفي طرق عرض هذه المؤلفات لمادتها ومنهجيتها على وجه الخصوص لأن المؤلفات المقررة المتقدمة في المؤسسة التعليمية الدينية قد كتبت من قبل مؤلفيها إما لشرح في الشريعة بعقائدها وفقهها وبقية علومها وإما على سبيل جمع الحديث والرواية وما أشبه. ولم تكن هذه المؤلفات مكتوبة بقصد تبويب مادة التدريس وتنظيمها، فليست تضم منهجا تعليميا مبنيا على استراتيجية أو هدف في إطار تنمية شاملة متدرجة الأبعاد، أو تتكامل مع بقية المؤلفات المقررة في منهج الدراسة، أو تنسجم مع مرحلية دراسية آخذة بعين الاعتبار الناحية العمرية ومستوى الاستيعاب.
ففي مرحلة تاريخية علمية بعيدة كانت جهود التأليف منصبة على جمع الحديث ثم تطورت وظائف هذه الجهود إلى تقعيد مصادر التشريع من خلال تطور مفهوم مبدأ الاجتهاد. ولم يكن من وظائف هذه المرحلة إعداد أو بناء مؤسسة تعليمية دينية تضم تلك المؤلفات أو تهدف إلى صناعة طبقة تبليغ وإرشاد عام أو صناعة مراجع ومجتهدين، لأن مثل هذه الوظائف كانت حرة غير مقيدة بأي نظام أو وسيلة.
من هنا جاءت تلك المؤلفات لغرض حفظ النص في الدرجة الأولى، ثم تقعيد مصادر التشريع تمهيدا لترسخ مبدأ الاجتهاد في الدرجة الثانية. وإما المرحلة المتقدمة التي أوجبها تلك المرحلة السابقة فهي تهيئة الظروف في شكل علمي مركزي تتداول فيه المؤلفات وتحفظ متونها، فتمثلت هيئة أو جهة أو مدرسة أو مؤسسة تعليمية تعتمد مؤلفات الأقدمين بما يصل في نهاية المطاف إلى تسهيل الأمر للرجوع إلى مبانيها ودراستها للتهيؤ لمرحلة الاجتهاد.
يضاف إلى ذلك أن بعض هذه المؤلفات جمدت على مضامين ومباني لا رعاية فيها للمتغيرات على صعيد الحياة العامة ولا حساب فيها لتطور العلوم الإنسانية والطبيعية والرياضية وعلوم الآلة وتفاعلاتها، ولا تأكيد فيها على وظائف البحث والتحقيق. وتعد هذه من العوامل الأساسية في جمود المؤسسة التعليمية الدينية وتأخرها عن تبني المنهج العلمي الحيوي الذي يواكب الحياة العلمية وتطورها.
فمن خصائص المنهج الحديث نبذ العزلة لأن فيها انقطاعا عن نتاج التطور الاجتماعي والثقافي والعلمي. واما المنهج القديم "فليس هناك اهتمام بالتحديث والمشاكل العالقة والقضايا الراهنة والأمور الفعلية التي تواجه الإنسان في الحياة، وهناك قلة في الارتباط بالحياة العلمية، فمع العمق العلمي في الحوزات والمراكز العلمية لكن ذلك مقتصر على العلوم الدينية دون غيرها من العلوم الطبيعية أو الإنسانية. وان كان هناك تطرق لبعض هذه العلوم كالفلك والطب فهو ضعيف جدا، مع ضحالة في المعلومات وسطحيتها، وتمدد المادة العلمية إلى أكثر من مدتها الزمنية المفترضة، كأن تدرس المادة العلمية في سنة كاملة بينما هي لا تستحق أكثر من ستة شهور" (السيد محمد علي الشهرستاني. مقابلة).
ويبقى هنا: أن مؤلفات الموضوعات المقررة خلال المراحل الدراسية خصوصا في مجال الفقه والأصول والتي تعتبر محور المراحل والدروس والغاية التي يراد من ورائها الوصول إلى مستوى الاجتهاد والاستنباط ؛ هي مؤلفات لم يقصد مؤلفوها إعدادها كمواد تدريس تتنقل بطلابها من مرحلة إلى أخرى مميزة، أو من مستوى إلى آخر ظاهر، أو من فرع إلى آخر محدد مرسوم، بل هي مؤلفات تعد عند رجالها امتدادا لمسيرة التأليف التي أقيمت خلال عهد التشريع وبدأت حركتها بكتابة الأصول الأربعمائة عند اتجاه التشيع والصحاح والمسانيد عند اتجاه الخلافة، وهي مما جادت به عقول كبار فقهاء ومحدثي تلك الفترات التاريخية التي تميزت بلون خاص في التأليف قوامه اختصار شديد في العبارات وتعقيد في الألفاظ والمصطلحات لا يدرك مقاصدها وتفصيلاتها إلا مؤلفوها أو من عاصر الجو العلمي السائد في فترة التأليف تلك. وكان هدف الـتأليف حينذاك حفظ العلم لا تدريسه خضوعا عند متطلبات الهجمة الشرسة والكوارث التي نالت من التراث العلمي. لذلك تعد تلك المؤلفات مصادر تحقيق وبحث أكثر منها مؤلفات تدريس منهجي.
إن هذه العلوم ومؤلفاتها أدت في عصر من العصور دورا عظيما اختص بالمجالات العلمية والفقهية وغيرها، انسجاما مع طبيعة تلك العصور التعليمية. فتركت أثرا كبيرا في الوسط الاجتماعي وامتد بآثاره إلى واقعنا المعاصر، فخلقت سلوكا فقهيا تربويا سديدا، كما ساهمت بشكل كبير في بلورة ألفاظ ومصطلحات علمية وفقهية سادت المجتمع آنذاك. ولكونها أيضا تشكل امتدادا لتراث أهل البيت (عليهم السلام) وأفكارهم عند اتجاه التشيع، فذلك جعل منها حاجة حياتية قادت حركة المسلم ونظمتها أحسن تنظيم وأوصلتها إلى دقة في الأحكام والعقائد والأفكار في تلك المراحل الزمنية. لكنها اليوم وبالمقارنة بما وصلت إليه الحياة من تقدم وتطور في المنهج والنظام والحاجات والضرورات والأفكار والأساليب وكذلك الفرز العلمي الطائفي والمدني، فضلا عن التقنية العالية التي وفرت الفرص بأشكال واسعة جدا؛ تجد المؤسسة التعليمية الدينية نفسها في حاجة ماسة وضرورة أيضا إلى مراجعة هذه المؤلفات وإعادة النظر فيما قصر منها وما ضعف، وما جمد منها وما ضاق، وضبط منهجيتها وتنظيمها ووضوحها وسهولة عباراتها وألفاظها وتقسيمها المرحلي وضوابطها اللفظية.
تضخم المادة وتشعبها
وإذا كان الغرض من دراسة أكثر تلك العلوم المدرجة في إطار منهج المؤسسة التعليمية الدينية وغايتها هو استنباط الأحكام الشرعية والتوجيه العقائدي والفكري تحت مظلة مرجعية دينية فقيهة ومجتهدة، فإن ما يتوجب حضوره في منهج المؤسسة التعليمية هو ما يكفي من مواد وآليات وأسس ومراحل زمنية يسخرها الفقيه ذاته لاستنباط الأحكام. ولكن المواد المعتمدة في هذه المؤسسة التعليمية تشتمل على ما ليس له علاقة مباشرة بهذا الغرض.
وهنا نستعرض شيئا من مادة (أصول الفقه) المعنية بأصول القواعد الفقهية ولها أهمية كبيرة في الوسط التعليمي الديني وتختص بمجالات الاجتهاد واستنباط الأحكام الشرعية من أدلتها التفصيلية. "فأول موضع نلتقيه في هذا الكتاب الجليل (كفاية الأصول) للأخوند الخراساني الذي يعتبر بمثابة القمة في تسلسل الكتب الأصولية المقررة، هو (مبحث موضوع العلم) مطلقا وذلك لينطلق المؤلف – قدس سره - بعد تحديد موضوع العلم إلى تطبيقه هنا وتحديد موضوع علم أصول الفقه على هدي ما انتهى إليه من نتيجة. وهذا يعني- تعليميا وتربويا ومنهجيا - الخلط بين المادة المنطقية والمادة الأصولية وذلك لأن البحث عن تحديد موضوع العلم من بحوث وموضوعات علم المنطق لأنه العلم الذي كان يقوم قديما وقبل استقلال مادة مناهج البحث عنه بدراسة هذه الموضوع. فالمفروض أن لا يثار بحثه في علم أصول الفقه، وكل ما ينبغي أن يقوم به الباحث الأصولي هو الرجوع إلى علم المنطق وتبني الرأي الذي يختاره في المسألة ويتخذ منه المبدأ الذي يطبقه على موضوعه في علم أصول الفقه وهو تحديد موضوع أصول الفقه. ومن المستغرب أن بعض نتائج البحث في مسألة تحديد موضوع العلم هي أنه لا يوجد لعلم أصول الفقه موضوع، وهذا يعني أنه لا يسوغ لنا أن نطلق عليه عنوان العلم.
ثم بعد هذا نلتقي في الكتاب المشار إليه موضوع (الوضع) الذي يراد به نشأة اللغة. وأيضا هذا الموضوع هو الآخر لا علاقة له بعلم أصول الفقه وإنما هو من موضوعات تاريخ اللغة أو علم اللغة العام. يضاف إليه إننا في علم أصول الفقه نضع القواعد لدراسة نصوص الكتاب والسنة وهي نصوص عربية لها خصائصها ومميزاتها في الأسلوب والأداء. فالذي ينبغي أن يرسم خطة بحث هنا هو أن ندرس دلالة الألفاظ في إطار المصطلحات اللغوية المعروفة وهي النص والظاهر والأظهر والمؤول والمجمل الخ، وكيفية التعامل معها لفهم دلالاتها ومؤدياتها. وفي وسط مباحث الألفاظ وفي عنفوان البحث اللغوي فيها نلتقي بمسألة من مسائل العقيدة التي تدرس في الفلسفة الإلهية وعلم الكلام وهي مسألة اتحاد الطلب والإرادة، وهي من غير ريب مسألة استطرادية حقها إن كان لها علاقة بمادة هذا العلم أن يشار إليها وفي الهامش إشارة مختصرة وإلا فلا مجال لذكرها إطلاقا.
وباختصار لو رجعنا إلى كتب الفقه الاستدلالية كالرياض والمسالك والمستند والجواهر وأمثالها وتتبعنا وبدقة القواعد الأصولية المستخدمة فيها، ثم وبعد استخلاصها منها ووضعها في قائمة نقوم بمقارنة بينها وبين محتويات كتاب (الكفاية) رأينا أن جملة مما يذكر في الكفاية لا علاقة له بالاستنباط والاجتهاد وإن جملة مما له علاقة بالاجتهاد والاستنباط غير موجود في الكفاية، ولا أقل هو غير موجود وبعنوانه وباحتواء كل أطرافه كقاعدة الظهور وقاعدة الجمع العرفي والدلالي. وإلى جانب هذه الأمثلة أمثلة الأخرى في الكتاب المذكور وفي غيره من مقررات الدرس الحوزوي " (مجلة الجامعة العالمية ع2 كانون الثاني 1994ص200-201). فمثل هذا التركيب والتداخل في الكتب المعتمدة في المؤسسة التعليمية الدينية ليس مناسبا للتعليم في إطار منهج مؤسسي، ولا تدل هذه الكتب أيضا على أنها مادة تقترب من مجالها التخصصي دون زيادة أو نقصا في موضوعاتها.
وقد جاء تأليف مثل هذه الكتب ليعبر عن المستوى العلمي الكبير لمؤلفيها، فهم قمم في العلم بمختلف جوانبه، وكل له تخصصه المناسب في مجاله. كما أن مؤلفاتهم هذه تعد بحوثا وتحقيقات صادرة عن عقول سبرت غور العلوم لتسطر للمجتمع العلمي الحوزوي من خلال صفحاتها حقيقة المستوى العلمي الذي كان يجول في تلك الحقب الزمنية.
وكما أن هذه المؤلفات كانت متأخرة وسبقتها مؤلفات أخرى اعتمدت أيضا في المؤسسة التعليمية الدينية واحتلت مكان تلك المؤلفات القديمة سواء لعوامل مستمدة من حيث نظرياتها ومستواها العلمي أو من حيث وضوح دلالاتها وألفاظها أو إجمالها أو تفصيلها ؛ فإن المعتمد من مؤلفات الأقدمين - مع افتراضنا الجدلي بأنها كتبت للتدريس - فلابد وان يكون مجالها الحيوي أو زمنها قد تحول إلى الحد الذي يتطلب إصلاحا أو تطويرا أو تعديلا أو تجديدا بما يلائم المجال الحيوي الجديد والحقبة المستجدة الراهنة.
وللكتب التي مازالت تدرس في المؤسسة التعليمية في مرحلة السطوح على سبيل المثال "مقامها العلمي، وهي على العموم تعتبر حسب مراحلها التاريخية كتب تجديد ساهمت إلى درجة كبيرة في تطوير الفكر العلمي الأصولي على اختلاف درجاتها في هذه المساهمة، وقد يكون اختيار هذه الكتب الأربعة كتبا دراسية نتيجة عامل مشترك وهو ما أثاره كل واحد منها عند صدوره من شعور عميق لدى العلماء بأهميته العلمية وما أشتمل عليه من أفكار ونكات، هذا بالإضافة إلى ما تميزت به بعض تلك الكتب من إيجاز للمطالب وضغط في العبارة كالكفاية.. غير أن هذا لا يحول دون أن نحاول تطوير الكتب الدراسية وتحسينها إذا وجدت مبررات تدعو إلى ذلك وأمكن وضع كتب دراسية أكثر قدرة على أداء دورها العلمي في تنمية وإعداده للمرحلة العليا " (دروس في علم الأصول. ص 214).
لقد اصبح علم الأصول متضخما وواسعا جدا على حساب الفقه الذي يعتبر المادة الأساسية في المؤسسة التعليمية الدينية. ومن بين أهم مؤلفات علم الأصول عند اتجاه التشيع :(كتاب الذريعة في علم أصول الشريعة) للسيد المرتضى المتوفى في عام (436هـ)، وكتاب (معالم الدين) للشيخ حسن العاملي المتوفى في عام (1011هـ)، و(فرائد الأصول) للشيخ محمد حسين النائيني المتوفى في عام (1355هـ)، و(المقالات الأصولية) للمحقق الشيخ ضياء الدين العراقي المتوفى في عام (1361 هـ)، و(نهاية الدراية في شرح كفاية الأصول) للشيخ محمد حسين الأصفهاني المتوفى في عام (1361هـ)، و(كفاية الأصول) للمحقق ملا محمد كاظم الآخوند الخراساني المتوفى في عام (1329هـ)، و(القوانين المحكمة في علم الأصول) للميرزا أبي القاسم بن محمد حسن المتوفى في عام (1231هـ). وهذه كلها مؤلفات جاءت في لتعبر عن مادة علم الأصول، وتقدم كل مؤلف منها على الأخر في مجاله الأصولي، ولكل مؤلف منهجه الخاص وأسلوبه في التطوير والتجديد والتحديث، وكان لبعض مدارس المؤسسة التعليمية الدينية موقف مؤيد لبعضها أو رافض أو مستحسن، فكتاب (معالم الأصول) وكتاب (القوانين المحكمة في علم الأصول) مثلا لا يؤخذ بهما إلا للمراجعة والإطلاع عند المتمسكين بالمنهج والمؤلفات القديمة.
وكلما جاءت مؤلفات جديدة تتبع هذه المؤلفات ؛ كلما كانت أكثر توسعا في المباحث حتى ضمت إليها في وقت متأخر المباحث الغوية والمنطقية والفلسفية التي من خصائصها التضخم والتفريع. وإزاء هذا التضخم والتفريع نجد الطالب وقد صرف الكثير من الوقت والجهد في دراسة مادة الأصول الفقهية التي شمل بعضها على ما كان بعيد الاتصال بمادة الفقه وقواعدها، حيث كانت المنهجية تتطلب اختصاص منهج الأصول على قواعد الفقه فقط لا قواعد اللغة والمنطق والتفسير وما أشبه. وهذا ما دعا بعض المهتمين بشأن الدراسة في المؤسسة التعليمية إلى تقليص هذه المادة وتقرير أسسها وبعض فروعها المهمة فقط وحذف ما تبقى منها مما لا يتصل بالشأن الفقهي أو بعض المباني التي تتكرر في مواد أخرى مختصة كعلم الكلام والمنطق والتفسير والفلسفة واللغة، وكأن علم الأصول أصبح مادة تسعى جاهدة للتوسع والتضخم في سبيل جمع كل فرع من فروع العلم التي تتأسس عليها عملية الاجتهاد وجهد المجتهد، على عكس المنهجية الحديثة التي شرعت في تقسيم العلوم إلى شعب وفروع وأقسام مستقلة بذاتها في مجال اختصاصها.
إن غياب المنهج الحديث والمتطور والمتجدد أدى إلى نشوء خلل في أولويات علم الأصول فتداخلت المباحث وتناثرت على صفحاته مع مباحث علوم أخرى كقواعد اللغة العربية والفلسفة المثيرة للجدل، إضافة إلى أن أقسامه ومباحثه أصبحت مندكة في مباحث مواد أخرى، ما تسبب في زيادة في التفريعات والتقسيمات المتكررة. وقد يتطلب مستقبل هذه المادة الأصولية الفقهية تأخير دراستها في المنهج حتى يجتاز الطالب مراحل متقدمة من الدراسة في مواد أخرى ممهدة كالفلسفة والمنطق والتفسير واللغة ليصل عند منتهاها إلى مرحلة علمية تأهله للولوج في علاج ألفاظ مادة الأصول، ما يعقد الأمور ويزيدها استغراقا في الزمن، وحمل الطالب على دراسة ما لا طاقة له على تحمله.
وكما عانت المؤسسة التعليمية الدينية عند اتجاه التشيع من تداخل العلوم في مادة أصول الفقه، كذلك عانت المؤسسة التعليمية الدينية عند اتجاه الخلافة من تداخل علم الفلسفة في علم أصول الفقه منذ نشأته في القرن الثاني الهجري حيث كانت هذه النشأة متقدمة على نشأته عند المؤسسة التعليمية لدى اتجاه التشيع.
لقد بدأت المؤسسة التعليمية عند اتجاه الخلافة برعاية اللغة العربية وحمايتها من اللحن الذي بدأ يغزوها بعد توسع حرب الفتوحات الإسلامية ودخول العديد من الأقوام إلى الإسلام، ثم توسع هذا الاهتمام ليشمل ضبط الألفاظ اللغوية في الفقه للاقتدار به على شرح أدلة وشروط الاستدلال في الفقه، فنشأ عن ذلك يعرف اليوم بعلم الأصول الفقهية.
إن تلامذة أبي حنيفة هم أول من اتبع هذا الأسلوب في علم الأصول، وكان من بينهم أبو يوسف، ثم تبعهم على ذات المنهج الشافعي المتوفى في عام (204هـ). وبعد توسع هذا العلم في مباحثه مٌيز بكونه علما متضخما وخليطا بعلوم مختلفة كان من أهمها علم الفلسفة لأن مباحث علم الأصول حُققت على أساس عقلي، وضم إليه من علوم أخرى كل ما أيده وأثبته البرهان فاعتبر أصلا شرعيا. وجرى على هذا المنهج مذهبا المالكية والشافعية. ولهم كتبهم المميزة في هذا الشأن ككتاب (المستصفى) للغزالي المتوفى في عام (505هـ) وكتاب (الأحكام) لأبي الحسن الآمدي المتوفى في عام (631هـ) وكتاب (منهاج الوصول في علم الأصول) لناصر الدين الشيرازي البيضاوي المتوفى في عام (ت 685 هـ). والى جانب هذا المنهج، جمع أتباع أبي حنيفة في شكل صريح بين الفلسفة والأحكام المستخلصة عن منهج أبي حنيفة في إثبات قواعد علم الأصول الفقهية. وكانت أشهر مؤلفات أتباع أبي حنيفة في علم الأصول: (أصول الفقه وتحديد أدلة الشرع) لأبي زيد الدبوسي المتوفى في عام (430هـ) و(أصول) فخر الدين البزدوي المتوفى في عام (430 هـ) وكتاب (المنار) لحافظ الدين النسفي المتوفى في عام (790 هـ).
وكان أبو الحسن الآمدي (551-631 هـ) أشهر عناصر إدخال علم الفلسفة في علم الأصول الفقهية لكونه من المتخصصين والمعتنين والموغلين في العلوم العقلية، وكان ممن شنع عليه هذا التخصص وتعرض لأبشع ألوان التنكيل "فالآمدي درس الفلسفة بأقسامها المختلفة وتوغل فيها وتشبعت بها روحه حتى ظهر أثر ذلك في تأليفه. ومن قرأ كتبه وخاصة ما ألفه في علم الكلام وأصول الفقه يتبين له ما ذكر، كما يتبين له منها أنه كان قوي العارضة كثير الجدل واسع الخيال كثير التشقيقات في تفصيل المسائل والترديد والسير والتقسيم في الأدلَّة إلى درجة قد تنتهي بالقارئ أحيانا إلى الحيرة. فمن كرِه من الولاة والعلماء منطق اليونان والخوض في سائر علوم المنطق وخاصة ما يتعلَّق منها بالإلهيات وكرِه كثرة الجدل والاسترسال في الخيال والإكثار من تأويل النصوص و ذكر الاحتمالات خشية ما تفضي إليه من الحيرة والمتاهات مع قلة الجدوى منها تارة وعدم الفائدة أحيانا - كالأشرف والذهبي - كرِه الآمدي دينا وأنكر عليه ما رآه منكرا، وقد يجد في كتبه ومسلكه في تأليفها ما يؤيد رأيه فيه ويدعو إلى النيْل منه"" (انظر (الإحكام في أصول الأحكام). علي بن محمد الآمدي).
واتبع ذات المنهج في أصول الفقه محمد الفخر الرازي (544-606 هـ) الذي له من المؤلفات في أصول الفقه ما يربو عن 21 كتابا، من بينها كتاب (المعالم في أصول الفقه)، حيث استمد منهجه في الأصول من خلال مجموعة من المصادر كان من بينها: (المُستصفى) لأبي حامد الغزالي و(العهد) للقاضي عبد الجبار و(المتعمّد) لأبي الحسين البصري و(البرهان) للجويني. ولكن الرازي نقض منهج الجمع بين أصول الفقه والفلسفة وغيرها من العلوم الدينية، ويؤيد ذلك ما عرف عن الرازي من انقلاب على الفلسفة في أواخر أيام حياته حيث قال في وصيته: "فاعلموا أني كنت رجلا محبا للعلم، فكنت اكتب في كل شيء شيئا لا أقف على كميته وكيفيته، سواء كان حقا أو باطلا، أو غثا أو سمينا، إلا أن الذي نظرته في الكتب المعتبرة لي: أن هذا العالم المحسوس تحت تدبير مدبر منزه عن مماثلة المتحيزات والأعراض، وموصوف بكمال القدرة والعلم والرحمة. ولقد اختبرت الطرق الكلامية والمناهج الفلسفية فما رأيت فيها فائدة تساوي الفائدة التي وجدتها في القرآن العظيم، لأنه يسعى في تسليم العظمة والجلال بالكلية إلى الله تعالى، ويمنع عن التعمق في إيراد المعارضات والمتناقضات، وما ذلك إلاَّ العلم بأن العقول البشرية تتلاشى وتضمحل في تلك المضايق العميقة والمناهج الخفية" (انظر (المحصول في أصول الفقه). فخر الدين الرازي. تحقيق د. طه جابر العلواني).
وقد وجد اتجاه الخلافة أن استعمال الفلسفة في أصول الفقه قد أضر كثيرا بالفقه، وحملت الفلسفة ذاتها كمادة داخلة في منهج الدراسات الدينية العقل ما لا يقدر عليه، خصوصا في عملية استنباط الأحكام الشرعية، وساهمت في إشاعة ظاهرة الجدل بين الأصوليين للرد على بعضهم بلا جدوى فقهية، وتعمق الخلاف بين المذاهب الأربعة إلى حد القطيعة بين متبنياتها العلمية.
دلالات التراكم الفقهي
اتسمت المؤلفات الفقهية بالتضخم والاتساع، ما زاد في حركة التأليف، ووقف التراث العلمي الكبير المتوافر تحت تصرف الباحثين محرضا ومشجعا على الكتابة في مجال هذا التخصص، وساعد على ذلك: أن أهم أهداف المؤسسة التعليمية الدينية هو الوصول بالطالب إلى مستوى الاجتهاد، ومنه استنباط الأحكام الفقهية الفرعية من أدلتها التفصيلية.
وأتت المتغيرات المتعلقة بالحاجات اليومية وبحركة الناس لتؤثر في نمو الأحكام وتراكمها. فكلما تجددت مشكلات الناس وزادت حركتها في المجالات الإنسانية ؛ كان الفقه حاضرا ومتوثبا لإيجاد الحلول المناسبة المتسقة مع النصوص الشرعية. ولذلك تطور الفقه في ناحية وظيفة الحصول السهل على المسألة الشرعية واستيعاب الناس لها، وفي ناحية عمق هذا العلم ودراسته. فليس لهذا العلم خاتمة أو نهاية يمكن التوقف عندها لأن هذا العلم غير خاضع في مادته للثوابت، فهنالك الكثير من الأمور التي تتغير من حال إلى أخرى، وسواء في مجال الألفاظ والمصطلحات والأحكام وفقا لتنوع وتجدد الحوادث والمواقف والعصور.
إن هذه الخصوصية في مادة الفقه تؤسس لبعدين أساسيين في مسيرة هذا العلم، الأول: إن المؤلفين فيها يمكنهم إثراء هذا العلم بالبحوث الدائمة مثلما أثرت المؤلفات القديمة هذا الاختصاص. وإما البعد الآخر: أن قابلية تطوير هذا العلم وتجديده من حيث المتن والأسلوب ممكنة الانسياق وراء التحول والتطور في اللغة وثقافة الحضارة والتمدن التي غزت عقول الناس، فتمكن المختصين في مجال تطوير مناهج الدراسات الدينية من إعداد المؤلفات التي تهيئ للمكلف فرصا أكبر لاستيعابها بدون واسطة شارحة للعبارة ومفصلة أو مفككة لألفاظها.
إن مثل هذه العملية لا تشكو من أي تعقيد على طريق التحقق والخروج للواقع، فكيف بمهمة التصدي لإعداد مؤلفات منهج دراسي ديني يختص في معالجته ودعمه مراجع ومجتهدون منتظمون في مجلس شورى فقهي تعليمي.
إن هذا التراكم الفقهي الذي استمر على مدى مرحلة تاريخية طويلة من عمر التشريع دليل على الثراء الكبير في المادة الفقهية وما تمخض عنها من علوم، كما أنه دليل على جدية وحرص دارسيه على الالتزام بقدسية هذا العلم وجلال قدره فأحسنوا حفظه وأصروا على حضوره المتقدم بين حلقات العلم وحواضر التعليم حتى زودوه بما خفي أو أندرس منه، وذلك من خلال التنقيب العلمي الدءوب. ولو رافق هذا العلم أخذ بالتحول الحضاري في مطلع مسيرته في مجالات الحياة المختلفة لشهد تحولا وتضخما نوعيا في منهجه وموضوعاته وأساليب عرضه وتقاسيمه ومناهج تعلمه وتعليمه.
وربما كان العلامة الأميني صاحب المؤلف الشهير (الغدير) خير مثال، وهو أهم نموذج كبير مبدع في عصرنا الحديث في مجال التحقيق والبحث. فقد خرج الشيخ الأميني على التقليد الذي جبل عليه محققو دراسات المؤسسة التعليمية الدينية من تقيد بمصادر علمية سهلة المنال، إذ أخذ على نفسه عهدا بالتجوال في رحلات تنقيب واستكشاف في بلاد مختلفة قبل أربعين عاما تقريبا ليقدم للمؤسسة التعليمية ما أثرى وأغنى موادها وأضاف إلى دوائر بحوثها نصوصا تزيد من حيويتها ونشاطها، حتى أنس به المقام في خزائن (المكتبة الظاهرية) في دمشق بعد جهود ووسائط كبيرة بذلها بإخلاص لتذليل الموانع والعقبات أمام قراره وإصراره بدخول تلك الخزائن، فاستفاد منها أيما استفادة بعد أن قلب صفحات مخطوطاتها فاكتشف أن هنالك أكثر من 1200 أصل فقهي لمذاهب شتى ضمت الكثير من النصوص المؤيدة الموثقة لمنهج اتجاه التشيع في المجالات العلمية المختلفة في مقابل 400 أصل فقهي شيعي لازالت مفقودة وكانت صدرت قبل تأليف الكتب الأربعة المشهورة. فاعتزل الشيخ الأميني محيطه الاجتماعي واعتكف في تلك المخازن حتى انتهى من قراءة كل الأصول الفقهية والتاريخية وأخذ عنها. وكان الشيخ الأميني أول من استخرج مجلدات ابن عساكر من بين ركام مخازن هذه المكتبة وقدم صورا منها لدوائر البحث والتحقيق في اتجاه التشيع.
المرونة في اعتماد المؤلفات
وكما أن هنالك مرونة في اعتماد كتاب دون آخر في المؤسسة التعليمية الدينية وفقا لتناسب المادة ومنهجها وطريقة تبويبها وتقسيمها، كما هو الحال في اعتماد كتاب (الشرائع) للحلي عوضا عن الكتاب الأساس الأول (النهاية) لما تميز به هذا الكتاب من منهج تبويب وتقسيم وتصنيف مميز في ملفين منفصلين: العبادات والمعاملات. وجريا على هذه المرونة يمكن اعتماد ما يناسب المؤسسة التعليمية من مؤلفات تتوافق ومهامها ووظائفها التعليمية في هذا العصر.
لقد كان كتاب (النهاية) للشيخ الطوسي مؤلفا مهما وأساسيا قرر من قبل المؤسسة الدينية مادة تعليمية، إلا أن التيار العلمي العام استبدله بكتاب (الشرائع) الذي يعد مثالا لمرحلة انتقالية شهدتها المؤسسة التعليمية الدينية وقفزت بها من دراسة النص والمتن إلى الدراسة المباشرة للأحكام الشرعية الصادرة عنها. وقد"حقق (المحقق الحلي) به (كتاب الشرائع) مرحلة مهمة من مراحل التطوير في المتون الفقهية، وبخاصة عند مقارنته بكتاب (النهاية)، حيث لم يلتزم في تأليفه ذكر متون الأحاديث وألفاظها، ولأنه أيضا أكثر فيه من التفريع وذكر الأقوال والإشارة إلى نتائج الأدلة، ما جعله يستقطب اهتمام الدارسين والباحثين والمؤلفين، فيحل محل (النهاية)، ويزيد على كتاب (النهاية) بما وضع له من الشروح التي ناهزت أو جاوزت المائة، لا يزال حتى الآن مدار الدرس ومثار البحث، في الوقت الذي انتهى فيه دور (النهاية) بتداول (الشرائع) في الوسط العلمي" (د. عبد الهادي الفضلي. تاريخ التشريع الإسلامي. ص356).
ولم يكن استبدال كتاب الشيخ الطوسي (النهاية) بـ (الشرائع) للحلي إلا وظيفة فرضتها ضرورات التعليم والمؤسسة التعليمية والحاجة إلى مثل هذا الكتاب البسيط والسهل على استيعاب الطالب فضلا عن المُكلَف، وليس لعملية الاستبدال هذه شأن بمكانة هذا المؤلف في الناس أو في الوسط العلمي في المؤسسة التعليمية من حيث غزارة مادته أو ضعفها، كما أن هذا الاستبدال ليس تهاونا أو تقصيرا أو تقليلا من شأن كتاب (النهاية) أو من مؤلفه الشيخ الطوسي أو من المدرسة المتبنية لقرار تدريسه بين طلابها، بل كان للكتاب قبل كتاب (الشرائع) مكانته العلمية وقيمته في المؤسسة التعليمية الدينية لأنه كان يشكل خلاصة عقل استمد علومه من نفس الوسط العلمي وليس بدعا في التعليم أو خارجا عليه، وكان خلاصة عطاء مؤسس وزعيم للمؤسسة التعليمية في النجف الأشرف الذي تخرج على مدرسته مئات العلماء.
فاستبدال المؤلفات بغيرها في التدريس والتأهيل وظيفة أساسية عمل بها من قبل العلماء والفقهاء القائمون على المؤسسة التعليمية لا لأفضلية شخصية وإنما لمتطلبات فرضتها المراحل المستجدة. فذلك مدعاة للخروج من الجمود والرواح لاعتماد مبدأ الإصلاح والتجديد في المؤلفات المعتمدة في المنهج المعاصر. ويدرك الطالب والأستاذ معا هذا الوضع، لكن أسبابا متعلقة بقيود وتقاليد المؤسسة التعليمية الدينية وأعرافها العلمية في عصرنا الراهن لا تمكن من ممارسة شجاعة ابن إدريس الحلي في طرح مشروع الإصلاح والتجديد، وتظل المؤسسة التعليمية الدينية على تفضيل الركون إلى الدوامة اللفظية والفكرية والتضخم والكثافة العلمية المتنوعة في المادة الواحدة وتراكم المقاصد. ويظل الأستاذ من جهته يبذل جهدا جبارا في شرح العبارات وفك طلاسمها التي غالبا ما تستعصي على فهم الطالب، ما يجعل من الطالب شخصية غير مستقلة في فهم المادة وإدراك ألفاظها ومصطلحاتها ويقلل من أثر الدراسة الحرة في صنع ذهنية حرة مستقلة، ويبقى الطالب مقترنا بالأستاذ في حل المعضلات وفك الطلاسم والألغاز حتى تستوي الإلتواءات في العبارات، ويصفى له ذلك الخليط العجيب في العبارة الواحدة.
لقد كانت عقدة الكتب والمؤلفات الجامدة من أهم مقاصد الإصلاح والتجديد عند جهود إصلاح التعليم الديني، وبذل الكثير منها سعيا جبارا لتقديم مناهج بمؤلفات حديثة تختصر الطريق لوظيفة الاجتهاد وترفع التعقيد والتضخم فيها، لكن التقليد والتمسك بالرتب الدراسية والخشية من الإصلاح والتجديد وشيوع ظاهرة الحسد والضغائن القومية والشللية والأعراف الراسخة في بعض مدارس المؤسسة التعليمية كانت أكثر نفوذا واعز رفضا ونبذا. وان مَن برز مِن بين المصلحين بمشروعه الإصلاحي فقد كان مرجع ذلك لمواصفات شخصية ومكانة اجتماعية تحلى بها المصلح في بيئته فرضت نفسها على الكيان العلمي في الحوزة وتغلبت على الميول التقليدية، مثلما كان الحال بالنسبة للشيخ محمد المظفر الذي أدى دورا مهما في إعادة صوغ واختصار بعض مؤلفات الدراسة الدينية وأخراجها عن تعقيدها وتضخمها فتبنت بعض مدارس النجف مؤلفاته في بادئ الأمر ثم شاعت على أيدي تلامذة منتدى النشر وكلية الفقه في المدارس الأخرى في العراق وخارجه "وفكرة تبسيط الكتب أساسا ومحاولة تطويعها وترويضها لذهن الطالب: فكرة جاهد عمنا ورائدنا (المظفر) طويلا من اجلها، حتى استطاع أن ينقلها إلى الواقع... والقضاء بالتالي على الأساليب والكتب الدراسية المغلقة الجامدة التي تحشو ذهن الطالب الناشئ بالنصوص وتشغله بالرموز والشكل أكثر مما تشغله بالفكرة والمحتوى... ولذلك عمد أول ما عمد نفسه لتأليف كتابه في (علم المنطق) وكتابه الآخر في (علم أصول الفقه) وكتب أخرى في العقائد والفلسفة الإسلامية.. لتحل محل الكتب الدراسية التقليدية التي اعتاد دراستها طلبة العلوم الدينية في تلك المراكز العلمية" (عقائد الإمامية. ص15-16). بينما رفضت الكثير من محاولات التجديد والإصلاح في المؤلفات الحوزوية برغم أهمية هذه المحاولات وتميزها.
إن التعقيد في الألفاظ والأفكار والإيجاز في العبارات كان مناسبا لمرحلة تاريخية مضت لكن الاستمرار في اعتمادها دون المداومة على إصلاحها أو تجديدها أهدر زمنا طويلا من حياة المؤسسة التعليمية الدينية، إذ لا سبيل لفهم وإدراك هذه المؤلفات ومطالبها إلا بالجمود "على طريقة شرح العبارة في التدريس، لأنها بقدر ما لها من محاسن في تفتيح الآفاق الذهنية بواسطة ما يجري فيها من تحليل وتعليل ونقد واختيار، ومن ثم تنمية الموهبة الفكرية، وإثراء المعلومات ؛ عليها من المآخذ كضياع أو بعثرة الفكرة موضوع الدرس في هذا الوسط من المعلومات المختلفة التي أفرزتها محاولة شرح العبارة في محورها وحول قطبها، فكثير ما يهتم الطالب بهذه المعلومات التي لها ارتباط بفك العبارة أكثر منه بكثير من ارتباطه بالفكرة موضوع الدرس" (مجلة الجامعة العالمية. ع2 كانون الثاني 1994ص200-201)، "ولو قدر للطالب أن يصرف هذا الجهد الذي يبذله في فهم العبارة في تلقي المادة نفسها أو الإحاطة بمعارف فكرية أخرى تهم الطالب في أداء مهمته الرسالية، لوفر على نفسه كثيرا من الجهد وفتح أمامه أبوابا جدية. والحق أن صعوبة الكتب الدراسية المقررة في الحوزات العلمية هي مما يعاني وما زال يعاني منه طلبة العلوم الدينية حتى اليوم. لأنها كتبت بلغة قديمة ومعقدة يعسر فهمها" (مجلة النور. عدد 79. ديسمبر 1997م ص58-79. بحث للدكتور إبراهيم العاتي).
وتزداد المبررات الداعية إلى استبدال المؤلفات القديمة أو إصلاحها وتجديدها، خصوصا في المراحل التمهيدية في مادة الأصول لأن الكتب المقررة في تدريس هذه المادة تعبر عن مراحل قديمة، كما هو الحال بالنسبة لكتابي (الرسائل) و(الكفاية). وان هذه الكتب إنما الفت بهدف التعبير عن آراء مؤلفيها وأفكارهم في مادة الأصول، ووجهت من قبل مؤلفيها إلى أمثالهم لا للمبتدئين، لكنها ظلت متقدمة برغم اتساع علم الأصول وبروز عناوين جديدة أهم من جملة العناوين الموروثة المسطرة في هذه الكتب."وقد حصل علم الأصول بعد الرسائل والكفاية على خبرة مائة سنة تقريبا من البحث والتحقيق على يد أجيال متعاقبة من العلماء المجددين، وخبرة ما يقارب مائة سنة من البحث العلمي الأصولي جديرة بأن تأتي بأفكار جديدة كثيرة وتطور طريقة البحث في جملة من المسائل وتستحدث مصطلحات لم تكن تبعا لما تكون من مسالك ومبان" (دروس في الأصول. ص 215).
روح البحث والتجديد
إن الجمود على المؤلفات المعتمدة في المؤسسة التعليمية الدينية ليس نابعا من مضامينها ومحتوياتها العلمية المكتنزة، بل ان الإشكال الوارد هنا أن المتعاطين مع هذه المؤلفات في الوسط المؤسسي التعليمي أخذوا هذه المؤلفات كعطاء قممي مقدس ممتنع عن التحقيق والبحث والتقييم والتقويم، ولوجود اعتقاد راسخ بأن هذا اللون من البحوث لا يأخذ بتقييمه إلا من قبل من ارتضته المؤسسة التعليمية أو أجمعت على تميز علمه وفضله، وهذا مما لم يتوفر في تاريخ هذه المؤسسة مطلقا. فهذه الحال قيدت ذهنية الطالب والمدرس معا وأخضعتهما بين جدر الجمود على القديم، فأخمدت روح البحث والتقصي والمناقشة والنقد والتنقيب والتحقيق للوصول إلى الجديد المتقدم. فَسَرت هذه الحال في جل الوسط العلمي خلال زمن طويل من عمر المؤسسة التعليمية. يضاف إلى ذلك أن الوسيلة التعليمية بقيت على حال واحدة دون إبداع تبعا لوحدة الموقف من محتوى تلك المؤلفات. "فلقد كان العلم إلى ما قبل النهضة مباشرة عبارة عن أقوال يسلمها الشيخ لكتابه ويسلمها التلميذ لشيخه، فإذا استقامت تراكيب الكتاب وأفادت معنا صحيحا لم يكن في ذهن الشيخ قوة على التماس الدليل ولم يكن من حق التلميذ أن يطالبه بالدليل إذا تاقت نفسه إلى الكمال بمعرفة الشيء بدليله أو انقدح في نفسه خاطر من شك في صحة تلك القضية فأراد أن يطرده بالدليل كما يطرد خاطر اشر بالاستعادة بالله.
لقد كان التسليم أصلا من أصول الأدب في جميع ما يعمر مجالسنا العلمية من الأحاديث وأن هذا لهو المنفذ الذي دخلت علينا منه الخرافات والأحاديث الموضوعة والمبالغات السخيفة والآراء المضطربة وكبائر الغلو وموبقاته حتى أصبحت كلها علما وأصبحنا مكرهين على تحمله وأدائه " (آثار البشير محمد الإبراهيمي. ص74).
ووصلت تلك المؤلفات بعظمتها إلى ولادة تراكم علمي وخبرة أغنت العلوم في جوانبها الفقهية والأصولية وحتى اللغوية ولكنها من جهة أخرى أعادت أحاديث التجديد والإصلاح بعد غلبة التعقيد وغلو التضخم في مباحث الألفاظ عبر القول بوجوب تجريد علم الفقه والأصول والكلام مثلا من آثار العلوم العقلية الزائدة كالفلسفة. "فقد لعب علم الكلام دورا مهما في تموين الفكر الأصولي وأمده.. لأن الدراسات الكلامية كانت منتشرة وذات نفوذ كبير على الذهنية العامة لعلماء المسلمين حين بدأ علم الأصول يشق طريقه إلى الظهور، فكان من الطبيعي أن يعتمد عليه ويستلهم منه" (دروس في علم الأصول. ص92-94).
وإما تطور علم الكلام ذاته فكان للسيد جمال الدين الأفغاني دور كبير في تحديثه قبل أكثر من قرن تقريبا من خلال تأليفه كتاب "الرد على الدهريين" ردا على الطبيعيين ودعاة الحشو والالتقاط والتكلف باسم التجديد في علم الكلام، كالشيخ شبلي النعمان المتوفى في سنة (1332هـ) صاحب كتاب (علم الكلام الجديد). وسار على خطى الأفغاني تلميذه الشيخ محمد عبده في كتابه (رسالة التوحيد) "الذي تجاوز فيه مفاهيم أساسية في التراث الكلامي الأشعري، ونقضها وأوضح تهافتها، وتبنى مفاهيم بديلة، فيما يتصل بمسائل القضاء والقدر والجبر والاختيار والعدل الإلهي انتقاها من تراث المعتزلة والإمامية في أصول الدين، مضافا إلى محاولته استكشاف ما يختزنه التوحيد من فعاليات نفسية واجتماعية وحضارية وأخلاقية " (مجلة النور. عدد 99/8/1999م. عبد الجبار الرفاعي). فهذه كانت محاولات إصلاح وتجديد منسجمة مع متطلبات الواقع ومتفاعلة مع حوادثه ومتداخلة مع الموقف العام المناهض للفكر الوافد ومشروعه التعليمي.
وكانت المؤسسة التعليمية الدينية في النجف الأشرف وقم المقدسة مثلا، بذلت محاولات إصلاح وتجديد في مواد علوم الفقه والأصول و الكلام، كان من بينها محاولات المحقق محمد حسن الغروي الأصفهاني مدرس البحث الخارج في كتاب (المتاجر)، والأخوند في كتابه (الكفاية) الذي شمل مباحث في الجبر والوجود، والسيد هبة الدين الشهرستاني الذي كتب في الوجود والنظريات العلمية الحديثة في الكون والخلق، والسيد الصدر في حلقات (الدروس)، والسيد الطباطبائي في (بداية ونهاية الحكمة)، والشيخ المظفر في (الأصول الفقهية). وأخفقت محاولات حديثة أخرى، كتأليف كتاب (أصول الاستنباط) للسيد علي نقي الحيدري الذي قرر كتابا للتدريس في كلية الإلهيات والمعارف الإسلامية ثم عدل عنه، ومؤلف الشيخ المشكيني في تجديد كتاب (المعالم) لتسهيل ألفاظه فلم يؤخذ به ولم يكتب له النجاح. وقد بنيت أغلب هذه المحاولات على أسس وقواعد فلسفية على غير عادة المنهج القديم الذي رفض الفلسفة واستخدم آلاتها ومناهجها في علم الكلام القديم فحسب لنقض المباحث الفلسفية المناهضة للأصول الدينية، ما جعل من هذه المؤلفات والبحوث عرضة لنقد مناهضي علم الفلسفة وحشو مباحثها ومناهجها في علوم الفقه أو الأصول الفقهية أو علم الكلام وغيره.
وإما مادة الفلسفة ذاتها وآثارها في علم الأصول "فهي لم تصبح مصدرا لإلهام الفكر الأصولي في نطاق واسع إلا في العصر الثالث تقريبا (أواخر القرن الثالث عشر)، نتيجة لرواج البحث الفلسفي على الصعيد الشيعي بدلا عن علم الكلام وانتشار فلسفات كبيرة ومجددة كفلسفة صدر الدين الشيرازي المتوفى سنة (1050هـ)، فإن ذلك أدى إلى إقبال الفكر الأصولي في العصر الثالث (أواخر القرن الثاني عشر) على الاستمداد من الفلسفة واستلهامها أكثر من استلهام علم الكلام، وبخاصة التيار الفلسفي الذي أوجده صدر الدين الشيرازي. ومن أمثلة ذلك ما لعبته مسألة أصالة الوجود وأصالة الماهية في مسائل أصولية متعددة، كمسألة اجتماع الأمر والنهي ومسألة تعلق الأمور بالطبائع والأفراد، الأمر الذي لا يمكننا فعلا توضيحه " ( دروس في علم الأصول. ص97).
إن التأثير الكبير الذي تركته الفلسفة دون سائر العلوم العقلية على العلوم الدينية المقررة في الدراسات الدينية غالبة على منهج التفكير والتقسيم،وغار هذا التأثير في عمق مواد بعض العلوم الدينية، إلا أن الكثير من مدارس المؤسسة التعليمية الدينية تمسكت بتحفظها وحذرها من غول الفلسفة على وجه التحديد، ولم تتعاط معها بشكل توافقي كامل. بينما ذهبت مدارس أخرى إلى القبول بالفلسفة وبمنهج الحشو والتضخيم والتفريع والتكرار والتقسيم للمباحث التي لا حاجة لها في مرحلتي المقدمات والسطوح.
ولم تكن العلوم العقلية لتحظى بالعناية والرعاية لولا الجمود الذي أصاب بقية علوم المناهج التعليمية واقتصار بعض المدارس على تنمية منهج النقد الشفاهي السطحي عوضا عن المعالجة والنقد والتحقيق في المنهج والمادة والكشف عن أصول العلوم العقلية وحقائقها. يضاف إلى كل ذلك أن علم الفلسفة انشأ شبهات علمية كثيرة تناولها بعض العلماء وأثاروا بها زوبعة وجدل كبيرين حرض المؤسسة التعليمية ضد مريدي العلوم العقلية التي استندت في بعضها إلى مصطلحات ومفاهيم أجنبية على الدراسات الدينية ولا علاقة لها بالعلوم الدينية، خاصة علمي الكلام والأصول الفقهية اللذان كانا من ضحايا مدرسة المحدثين القدامى، ومن ضحايا رواد الفلسفة والتصوف الذين ساقوا مناهج هذين العلمين كدليل على أصولها الفلسفية.
من هنا ضعف الأخذ بالفلسفة وتم إقصاؤها أو عزلها في الكثير من مدارس المؤسسة التعليمية الدينية. وحتى تلك المدارس التي تبنت الفلسفة ثم تطورت إلى الأخذ بالتصوف الفلسفي (العرفان) كمادة مستقلة ؛ انصرفت إلى التعاطي معها كما كانت تتعاطى مع بقية العلوم الفقهية والأصولية من حيث الاقتصار على شرح العبارة وفك ألفاظها وطلاسمها ومصطلحاتها دون إعمال منهج بحث أو نقد مستقل أو تطوير أو تجديد في النظريات والافتراضات وأساليب العرض والدراسة. ولكن جل مدارس المؤسسة التعليمية الدينية أبقت على المؤلفات القديمة في العلوم العقلية الفلسفية والكلامية والمنطقية التي كانت مقررة في التدريس، ككتاب (شرح المنظومة) للملا هادي السبزواري في المنطق والفلسفة، وكتاب (الحكمة المتعالية) المعروف بالأسفار لصدر الدين الشيرازي. و(حاشية ملا عبد الله على التهذيب ) و(شرح الشمسية) للقزويني في المنطق. و(شرح الباب الحادي عشر) للمقداد السيوري و(كشف المراد في شرح تجريد الاعتقاد) للعلامة الحلي في علم الكلام الذي تخطى قدمه السبعمائة سنة تقريبا.
يضاف إلى كل ذلك، أن المؤسسة التعليمية الدينية عند اتجاه التشيع لم تستبدل المؤلفات القديمة المستعارة عن اتجاه الخلافة في منهج الدراسات الدينية، ولازال الكثير منها رائجا في المدارس الدينية الشيعية برغم صدور الكثير من المؤلفات الشيعية الحديثة المناسبة، فقد اعتمد من بين المقررات القديمة في مواد التفسير واللغة والأدب والتاريخ إلى جانب بعض المؤلفات في الفلسفة والعرفان. ومن بين كتب التفسير: (مفاتيح الغيب) للفخر الرازي، و(شواهد التنزيل) للحاكم الحسكاني، (الكشاف) لجار الله الزمخشري، و(تفسير الطبري) لمحمد بن جرير الطبري، ومنها: (المطول) للتفتزاني، (مختصر المعاني) للتفتزاني والسكاكي، و(مغني اللبيب) و(السيرة النبوية) لابن هشام، و(الفصوص) لابن عربي، ومؤلفات أخرى للسيوطي وابن الناظم وابن عقيل والجامي وغيرهم. وفي حال مناقشة مثل هذه المؤلفات ودراستها يجد المدرس صعوبة بالغة في عقد مقارنات مذهبية فكرية أو لغوية أو عقائدية أو تاريخية لكون هذه الكتب تعاني الكثير من التعقيد اللفظي والكثير من الأخطاء والشبهات التي لا يأخذ بها اتجاه التشيع
.