الأربعاء ١٧ نيسان (أبريل) ٢٠١٩
القصة الفائزة بالمركز الخامس في مسابقة دع الثامنة
بقلم أحمد صلاح محمد هاشم

دهشة!

منسجمةً مع الضوضاءِ يَربطُها إيشاربُها ويلبَسُها صدارٌ مهترئ.. أتتبَّع تموجاتِ تنورتها التي كانَتْ بيضاءَ يومًا، وهروَلتها بين السيارات المتهوِّرة، أمسح بعيني المنطقة الرمادية بين المقود وجسدها المقبل تجاهي، ستعرض عليَّ «صحبةَ وردٍ».

 أنا يا جميلةُ لا أُصاحِبُ أحدًا.

انقطع الهواء عني ليفاجئها من ناحية الكورنيش.. يائسًا يحاول رفعَ التنورةِ، فتؤدِّبُهُ يداها.
«شط اسكندرية يا شطّ الهوى» قالتها فيروز ثم أنصتَتْ لهدير الموج.

 حلوة الضحكة.

قلتُها ولم أتكَلَّمْ.

 الوجه حصان «طروادة».

رَدَّتْ ولم تفتَحْ فَمَها!

ابتسمَتْ إشارةُ المرورِ بعد وجهٍ غاضبٍ، صفَّرت السياراتُ فصفَّرَت سيارتِي من العدوى.
لم أرفَعْ زجاجَ النافذةِ لأطالِعَ وجهها.

الذاكرة مراوِغة؛ لم يبقَ من قاعة المحاضرة سوى هيبتِها، ومن جُدرانها غير الرطوبة، ومن الدرس إلا أطياف باهتة.

«لنْ يُصبِحَ أحدُكُمْ مُبدِعًا يومًا» أرسلها أستاذُ الأدب ذو الندبة بينَ تثاؤباته في مقابلتي ضامًّا يَدَيْهِ إلى ما وراءِ مكتبه المزركش بأعينِنا المصافحةِ النومَ على حَذَر، فأكمل: «أغلبكم لم يأتِ هنا إلا بسبب المجموع». تكاثَفَتْ سحابةٌ من قَلَقٍ.. غُصَّة تشبه تفَّاحةً في مضيقِ حلقي.. «أنتُمْ عاديونَ والكِتابَةُ فِعْلٌ استثنائي». أوشكتُ أخلع نظارتي مفسحًا الطريق لدمعتين تأخَّرتا مع عبارته الأخيرة: «لا خيرَ في كاتبٍ لا يصنع الدهشة».

لَمْ يعبأْ بطالبٍ يجلِسُ أمامَهُ مرتديًا قبعَتي ونظَّارَتِي لا يَصْنَعُ الدهشةَ على الإطلاقِ!

أتكئ على المصادفة، فتحتمل ثِقَلَ رُوحِي..

أتمهَّل بسيارتي على الكورنيش قبل الإشارة، باحثًا عنها، فانبعثَتْ من قلب الأرض، كأنها مع إسفلت الطريق رُسِمَت.. ما زالت الريح تشاغِب تنّورتها.. صوت فيروز يتناقض مع أبواق السيارات المزمجرة، مثل عينين زرقاوين تشوِّهان وجهها المتسخ، تتلوى بين الزحام زهرةَ لوتس في وجه منجل حصاد، أو عروسًا في ثوبها الكتانيِّ سيلتهمها النيل عما قريب.
انتظرتُ مقدمها، أخرجتُ جنيهاتٍ عِدَّة أسكنتُها كفَّها، ورفضتُ الورود.. لوَّحتُ لها مبتسمًا، ورفعتُ زجاج السيارة أهمّ بالمغادرة، وقبل أن يصل إلى تمامه محتضنًا الإطار المنبعِج، ألقت النقود في وجهي:

 ليس كل الطير يؤكل لحمه يا (روح أمّك)!

ضحك شابّان يجالسان عمود الإنارة على الرصيف المجاور، والتفَتَ بائع «ترمس» متحينًا نشوبَ مشاجرة.

ما زالَتْ واقفةً.. كدتُ أستَفْهِم عن ثورتها، فقالت:

 امشي وخلِّي نهارك يعدِّي.

مشيتُ.. لأترك للنهار فرصة!

في غرفتي بالفندق الآيلِ لتقبيل الأرض، اتسع صدري مكافئًا هواء الإسكندر، طاردًا غبار القاهرة العالق، مدخِّنًا سيجارة لأُعوِّضَ بها غياب التراب!!

تعانق نورسانِ على وسادة السماء، وارتفَعَ بوق سفينة ضاحكة.. الحمّالون على جانب الميناء يشتُمُون براميل فارغة، وبائع صُحُفٍ يعرض عليّ أوراقه.. هززت رأسي شاكرًا، فبصق على الأرض وأعطاني قفاه.. الشمس تظهر بين غيمتين وتختفي، يضربني شعاعها متقطعًا، تشبه طفلًا مشاغبًا في بناية مجاورة يشاغب عيني بالضوء من مرآة أبيه.

تذكرتُها بغتةً، فحمَلْتُها إلى أوراقي قبل أن تذوب؛ منحتُها اسمًا، رسمتُ لها وجهًا، أنبتُّ لها حبيبًا يحفل بنهديها، ولا يحفل باتصالاتها، أنشبتُ أظافري في رمال الإسكندرية فكانت مسكنها، أخرجتُها من المدرسة لتطعم إخوةً نام أبوهم ذات مغيب وتركها تفكر في نهارهم.
وقبل أن يحسم رماد السيجارة قراره بالسقوط..

أطرقتُ أفكر بالنهاية!

كنت أكبس حَجَر الشيشة مساعدًا الدخان في شقِّ طريقه بين الجمرات، حين وقعَتْ عيناي على حذائها الرياضي، سرقتُ نظرة إليها، فعرفتُها، رغم سقوط «الإيشارب»!

محَتْ ابتسامَتَها ورسَمَتْ أخرى صناعية مثل منتجات بلاستيكية رخيصة تمسكها بيديها. إلى أرضية المقهى سدَّدْتُ عيني.. «لعلها نسيتني»، قلتُ في نفسي، منتظرًا تأكيدًا منها، وبقيتُ شبهَ نائمٍ حتى تمرّ!

استدارَتْ أمامي، تحوطها ذئاب المقهى، وطقطقات النرد، فحبستُ دخان الشيشة في مغارةِ صدري، سرعان ما انتَصَر فخرج برفقةِ «سُعلتَيْن».

عرضَتْ عليَّ مجموعة «مفكّات»:

 إحنا شركة الاتحاد.

نظرتُ وراءها فلم أجد سوى فتاةٍ أخرى هزيلة، تنتظِرُها في الخارج.

 بنقدِّم لحضرتك النهاردة أفخر منتجاتنا.. طَقْم مفكات صليبة وعادة، تنفعك وقت الزنقة، بص سعادتك حاجة عظيمة والله، الإيد بلاستيك فاخر، والمعدن صلب.

«مدد يا حنّان»!!

قالها مجذوب يهوى القهوة وتهواه، ثم رحل.

فلم أنطق.

 طب معايا شرابات بتتباع النهاردة على أي فَرْشَة بتلاتين وأربعين جنيه، بنقدمها لك بعشرة بس.

توسلتُ إلى «بلاط» القهوة الرمادي، إلى الكراسي الملقاة بإهمال، إلى مروحة السقف التي أسمعها تئزّ فأدعو الله أن تبقى معلقة في خيطها الرفيع.

وحين خفضتُ عيني إلى أقصى ما يتحمَّل انحناء ظهري، وقفَتْ أمامي قليلًا ثم عبَرَتني إلى غيري، ومثل سندريللا خلَّفَتْ وراءها مصمصات الشفاه، ولم تأخذ أي شيء.

طوَّحَتْ بيديها لزميلتها في الخارج، ومضت كل منهما يبتلعها فم الشارع.

عنوان لامع على غلاف أخضر، وابتسامة سيطبعها مصوِّر محترف على زجاج عدسته.
تحت لافتة دار كبرى في معرض الكتاب، كانت جِلستي.

زاحَمَ أستاذ الأدب ذو الندبة جُمُوع الواقفين أمامي ينتظرون توقيعي، أشرتُ إليه ليتقدَّم الصفوف، وأرسلتُ اعتذاري للسابقين عليه.

 عشرين عامًا وها أنا ذا أصنع الدهشة.

برنّة شامتةٍ ألقيتُها في وجهه طالبًا منه أن يتخير صفحة بيضاء في مقدمة الكتاب تصلح لاسمي!

عدَّل النظارة متحسسًا ندبته، رافضًا التخلِّي عن ثباته.. وقفة أجبرتني على الاعتدال في جلستي. نَفَثَ في وجهي دُخان سيجارَتِه الأخيرة: «لستَ صانعَ الرواية، أنتَ كاتبُها فقط.. هي صانعة الدهشةَ لا أنت»!

دون أن يطلب توقيعي، أعاد الرواية إلى موضعها على الرفّ، ورَحَل!

كانت الدهشة من نصيبي.

قبل أن أطوي صفحة الجريدة هذا الصباح، لمحتُ صورةً في صفحة داخلية لامرأة تستعدّ للقفز أمام «الترام».

وخزة مفاجئة في صدري ثم شيء من دوار.

أتكون هي؟! هل امرأة تشبهها؟!

ضباب في عيني، والسيارة تتراقص على «مَطَبّ» مفتَعَل!

بيدٍ على المقود، وأخرى على الصحيفة، التهمتُ الأسطر في عجل: «بائعة متجولة».. «اعتداء إخوتها».. «مشكلات مادية».. «ترام سيدي جابر».. «ذهول السائق».

أصرخ: هل هي؟!

فلا تجيبني فيروز.

كل ما أعرفه أنها امرأة حاسرة الرأس يخلو وجهها من أي ابتسامة!

بسرعة مضاعفة طويتُ الكورنيش عائدًا إلى ضجيج القاهرة مخلِّفًا بائعةَ ورودٍ كانت تشقُّ طريقَها نحوي.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء او المديرات.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى