ذاكرة.. لزمن مستعار
( قبل أن أبدأ : كنت دائما أسأل.. هل حقيقة أن للأرصفة ذاكرة وللدفاتر مشاعر؟؟
بعد فترة ليست بالطويلة في رحلة مع الكتابة أيقنت أن للأرصفة كذلك معاني لا يفهمها البشر وأن للدفاتر ذاكرة قادرة أن تجمع كل الأحاسيس التي تفوق الحس العادي اليومي والروتيني كالوظيفة الحكومية)
تسألني الغربة يا وطني.. لما أبدلتك بالمنفى
هل تسأل جلادي يا وطني.. هل كان ليسمح لي بأن أبقى!!!
وهل سمح لي بأن أداعب أوراق الكرمة في السهل الأخضر.. أو أداعب طفلة اسمها بيسان..
أسميتها من زمان.. اسماً للحنين للأرض واسماً للزمان المفقود بالسنين..
من يسمح لي بالغربة أن أداعب طفل.. أو أسافر في ضحكته المنسية بحنين..
على أبواب حاراتك الثكلى.. رقصنا أطفالا وغنينا الميجنا.. ووزعنا كعك العيد على الجيران.. وتقاسمنا في الحقل بقايا حبات من مشمش نسيها على شجراته الجد العنيد..
كبرنا يا وطناً يهجرنا حين نكبر.. أو حين نحاول أن نسير فيه ونبحر
كبرنا يا وطني.. والمنفى فينا يكبر
فتصور يا وطنا كيف تكون بلا شعب.. وتصور أن هذا الكون بلا شعبك تصور
كيف يتحول الحزن الطويل حين نعيش فيه ونكبر..
مسيرة ثلاثة أعوام بين تفاصيل الوجوه على الأرصفة.. باحثا عن الذكرى.. اطرق باباً من فولاذ.. تفتحه امرأة عشرينية.. أتردد في الكلام.. وتبدأ هي بالحوار.. أدخل وأنتقي ما شئت من كلام..
أتردد خجلاً في عينيها المتقلبتين بين فرحة وحزن..
تجيب وبصوت مبحوح.. أنا الذاكرة فأدخل وخذ ما شئت من ماضيك.. وأفصح ما شئت منه للناس.. فأنت الآن داخل حدود الذاكرة.. ذاكرة لا تقبل النسيان.. بين لعب الأطفال.. وهرب من سيارات.. ونعيق وأضواء.. صراخ وشقاء.. شقاوة طفل يكبر.. حتى يصبح أنا
ملئ حدود الذاكرة عدت للخلف اقلبها بين شيطنة الطفل الذي لا يعرف اليأس.. يناله تأنيب الجميع على فعل يصر أنه ارتكبه بقناعته الفردية.. مقتنعاً بأن الحجر والإطار المحترق كفيل بأن يحرر وطن.. يكبر الطفل ويكبر الوطن معه..
يصل حدود الوعي المطلق.. يتأدلج في الثورة.. يصبح مؤمنا بأن الثورة طريق الخلاص.. ينمو كشجرة تفاح.. يتحزب.. يصبح للحزب لديه قيماً عليا.. يتعلم فن النحو والإعراب.. ودوما يخطئ بها.. يبرر الخطأ بأن الثورة ليست بحاجة لأديب بقدر ما هي بحاجة لمقاتل.. يتصلب في موقفه حد الصخر.. ويبحث في كل مكان عن مخالف بالفكر لينازل.. يُهزم مرات.. ويَهزمهم مرات أيضا.. يقطع خيط الكلام.. يتقلد بندقية.. يبدأ فهم القضية.. يعي الأخطار الداخلية والخارجية.. يتبلور في الوعي.. يرفض الحلول السلمية.. يثور مع الثوار.. يتمرد حتى على الأقدار.. يتصدى لكن من يطعن بالثورة.. يتغرب في المنفى بعيداً عن الوطن.. يبدأ بكامل وعيه يتصلب من جديد نحو فهم الموقف الدولي.. ويبدأ بشحن طاقته نحو التردد في قبول الحلول الوسطية.. دوماً يرفض الوسطية.. ويرفض حتى الحلول النصفية وإن كانت حزبية.. يجد نفسه خارجاً عن موقف الحزب والطاعة.. يرفض أن يكون بوقاً أو إذاعة.. ويكتب
يا وطني فَنِيَّ العمر ولم يفنى الجلاد.. وحتى الأعياد في الغربة غدت أيام حداد.. وتوشح المغني عندما غنى وحيدا بالسواد..
مسيرة ثلاثة أعوام بين تفاصيل الأيام.. ابحث عن ذات كاملة في بلد لا تألف حتى الوجوه الباسمة فيه رغم تكرارها في المشهد اليومي..
سير اللحظات يتعطل حين يمر وجه يشبه بتفاصيله وجه ألفته في البلاد البعيدة..
تمتصني الأرض في لونها الأحمر الداكن كلما حاولت استلطاف زهرة ليست من نرجس بري عشقتها قبل سنين على سفح جبل يشمخ أمام منزلي البعيد.. أحس بغيرة زهرات نرجس نقلتهن من الجبل وقَبِلنَ بالحياة في حوض منزل بعد أن قطعت وعوداً شتى لهن بعدم الخيانة الزهرية أو النرجسية.. رغم أن هذا النرجس نرجسي الطباع ويعشق ذاته مختلفاً عن كل الأشياء.. إلا أن زهراتي كنَ عاشقات.. عاشقات للأرض التي أحزنهن فراقها..
تجدد دائم للذاكرة المستعارة في المنفى..
ليست ذاكرة حقيقية.. ولا وجوه دقيقة.. ولا أصوات رقيقة..
كل وجه يأخذ مداه الحقيقي في البعد عن الواقع.. وكل وجه يبتعد مداه عن خطى الوطن البعيد..
كل شيء يتقمص الاستعارة المكانية والزمانية في هذه الغربة..
غرفتي بأغراضها المبعثرة في كل الأنحاء القصيرة المدى لا تشبه شيئا من واقع..
وَهمٌ بتفاصيله الدخانية كدخان سجائر لا تخرج من الزفير المتعب إلا وهماً.. وتهرب سريعا باتجاه الشباك الغربي وتعبر بين الأصابع والستائر..
صوت العصافير عند الفجر كصوت فيروز من المذياع.. لا حقيقة أن فيروز تسكن المذياع.. ولا هذا المذياع قد استشار فيروز بنشر صوتها الأثيري عبر كل الأجواء.. وهذه العصافير أيضا استعارة من عصافير تنشد في فجر الوطن.. وحتى الشمس استعارة شمسه لحظة الشروق الصارخ بكل الصباحات الصيفية.. أيضا استعارة
كل شيء خارج نطاق الوطن البعيد.. يبقى قيد الاستعارة بكل معانيها وأشكالها من استعارة مكانية وزمانية وعاطفية وفكرية.. تبقى هي ذاتها استعارة.