ذكريات
فى الأربعينيات من القرن العشرين كان محمود البدوى على صلة بالمحقق العلامة محمود محمد شاكر وكان يزوره فى بيته فى أقصى أطراف ضاحية مصر الجديدة من الناحية الغربية.. وكان بيته نهاية البيوت فى تلك المنطقة.. وأمامه فضاء واسع.. ورمال بيضاء شهباء لاتغفل عنها عين الشمس.
وكان يسكن فى الدور الرابع إذا أغفلنا الأرضى، وكان يصطحب معه فى الزيارة التى كانت تحدث غالبا مع غروب شمس يوم الجمعة وفى أيام غير متقاربة.. المرحوم الدكتور أحمد عبد المنعم البهى الأستاذ السابق بكلية الشريعة جامعة الأزهر والذى كان سكرتيرا لتحرير جريدة المصرى حتى وهو طالب وكان من أشد الناس اعجابا بالأستاذ شاكر فيما ينشره بالمقتطف والرسالة، وكانا يجدا عنده "الشاعر محمود حسن إسماعيل.. وكان قليل الحديث سارحا فى تأملاته.."
وفى يناير من عام 1973 رافقه فى بعثة ثقافية إلى روسيا وكان معهما الشاعر صلاح عبد الصبور والأديب حلمى مراد..
ويقول البدوى "وسافرنا فى شهر ديسمبر وانحصر تفكيرنا.. ونحن نسافر إلى روسيا فى زمهرير البرد والثلج، وفى درجة حرارة 30 و 40 تحت الصفر.. انحصر تفكيرنا فى شىء واحد.. القهوة.. فكلنا أصحاب أسفار ورحالة، وسبق أن ذقنا الأمرين من القهوة السوداء فى ربوع أوروبا.. وهى القهوة التى لا طعم لها ولا مذاق فى حلوقنا، وإذا اجتمع مع سوء المذاق.. رداءة نوع البن كانت الطامة الكبرى.. وأصبحنا كأننا نشرب العلقم!
وكان المرحوم محمود حسن اسماعيل.. مدمن قهوة مثلى وكذلك صلاح.. ولكنه أخف منا وطأة.. أما حلمى مراد، فهو شريب شـاى، ولذلك خرج بمزاجه عن الصحبة.
واتفقنا على أن أحمل معى البن من "الكحكيين" والكنكة والسكر.. ويحمل محمود.. وصـلاح.. الجهاز الكهربى الصغير الذى سنصنع عليه القهوة.
وحملنا هذه الأشياء فعلا وحرصنا على وجودها قبل المعطف الثقيل، والكوفية الصوف، وغطاء الرأس المضفر..
وهبطت بنا الطائرة فى موسكو.. والشمس طالعة، ولكن البرد بكل ثقله كان يجز الرؤوس بضربة حادة وسريعة من العنق العارى كما يجز منجل الصاد.. وإذا كنت ريفيا مثلى ستعرف معنى هذا التعبير !
وأنزلونا فى فندق أوكرانيا.. أجمل وأعرق الفنادق فى المدينة.. وبعد الغداء.. وجلوسنا فى البهو الخارجى للطابق الذى نزلنا فيه.. فكرنا فى القهوة.. وأخرجت من حقيبتى الصغيرة.. الكنكة والبن والسكر.. أخرج محمود حسن اسماعيل الجهاز وكان كل واحد منا ينـزل فى غرفة بحمامها.. ولأن محمود حسن اسماعيل.. كان أكبرنا سنا.. فقد اخترنا أن نشرب القهوة فى غرفته..
وعمرنا الكنكة.. وأمسكنا بالجهاز وحاولنا وضع الفيشة فى البريزة التى يوضع فيها جهاز الراديو فلم توافق حجمها كانت الفيشة أصغر.
فذهبنا إلى الحمام فكان الأمر كذلك.. فرحنا إلى غرفة صلاح ثم غرفتى.. فإذا بالحال كما هو فالعدد الكهربائية كلها فى حجم واحد فى كل الغرف والحمامات.
واستأنا كثيرا وبلغ بنا الضيق منتهاه.. وفكرنا فى تغيير "الفيشة" ونشترى واحدة أصغر من أى متجر يبيع هذه الأدوات..
وكان المرافق بعربته لايزال موجودا فى الفندق فخرج معنا إلى الطريق.. ولكنا لم نصل إلى حل ورجعنا آسفين..
ولكنا لم نيأس.. وبغير القهوة سيشل تفكيرنا تماما.. ويصيبنا الصداع المزمن.
وسرح محمود حسن اسماعيل رحمه الله.. وراح فى الغيبوبة التى تنتابه عندما يأتيه هاجس الشعر.. ثم برقت عيناه واحمرت.. وسألنا:
– معكم كولونيا.. زجاجة كبيرة..
– معنا..
– وقطن..؟
– من الأجزخانة.. هى داخل الفندق..
وحملنا الكولونيا والقطن إلى الحمام وجهزت الكنكة.. وأنا أستغرب مما سيحدث ولا أفهم شيئا..
ووقفنا أمام الحوض الصينى الكبير وغمر محمود حسن اسماعيل القطن بالكولونيا.. وأشعل النار فى القطن الموضوع فى الحوض.. ووضع عليه الكنكة..
وشربنا ثلاثتنا الذ قهوة وأحلاها مذاقا..
ونظرنا مبهورين..
قهوة تركية بوش ودسم.. تطيب للشاربين على النار المعطرة..
وظل الحال كذلك طوال الأيام السبعة فى موسكو.. وقد أشعلنا كثيرا من القطن وأفرغنا الكثير من زجاجات الكولونيا ولكن مزاجنا كان صافيا..
ومن الغريب أن الحوض الصينى لم يتأثر مطلقا بالنار.. على لمعانه الشديد وبياضه الناصع.
وعندما ذهبنـا إلى ليننغراد كانت جعبتنا من البن والسكر قد فرغت..
ولكن جارة فنلندية أشفقت على حالنا.. وسقتنا من يدها القهوة التركية الممزوجة بالشهد."
ويقول البدوى فى موضع آخر من ذكرياته حينما ذهب الوفد إلى تفليس "كنا نرى فى وجوه المسلمين فى تفليس السرور الذى شاهدوه فى أعيننا وقلوبنا.. ولما دخلنا المسجد فوق الربوة التى غطتها الثـلوج.. انزوى محمود حسن اسماعيل فى ركن وتوهجت عيناه.. وعندئذ أدركت أن هاجسه الشعرى قد هبط وتملكه".
= = =
من واقع مذكرات محمود البدوى التى نشرها فى مجلة الثقافة المصرية بالعدد 78 الصادر فى مارس 1980 وبمجلة عالم القصة فى عددها التاسع الصادر فى يوليو – اغسطس 1982 ومن مقدمة كتاب قصص من روسيا لمحمود البدوى من تقديم على عبد اللطيف وليلى محمود البدوى الصادر عن مكتبة مصر 2003 ".
مشاركة منتدى
16 أيلول (سبتمبر) 2008, 18:19, بقلم يعقوب يوسف محمد شيحا
اكتب لك بعضا من ذكرياتي الحافلة مع شاعرنا المغفور له محمود حسن اسماعيل
وقد سجلت ذلك في كتاب بعنوان شاعر النهر اغلخالد
وللاسف حتى الان لم استطع نشره وما زلت ابحث عن ناشر
صداقتى له تعود الى خمسة عشرة سنة طفت معه والى جانبه اماكن كثيرة وكان يحلو له ان يسهر في مركب العم علي وان يجلس في مقهى سان سو سي وةكازينو النهر الخالد واخيرا كان جارى في الكويت عندما تم تعيينه في قسم المناهج ولي معه ومع صديقه القريب من نفسه اطال الله عمره الاستاذ فاروق شوشه ولي مع اولاده وبناته وعائلته صداقات كبيرة وهم الدكتور اسماعيل والمهندس محم والاخت سلوان ولبنى ولمياء وسحر وقصصنا كثيرة ومنها حضور فرح بلقيس حفيدة الشاعر اليمنى الكبير الحضرمي ولا انسى ذات يوم وانا اودعه في مطار الكويت رايته يزدرد لعابه وينظر الي ويقول احس بالجوع رددت عليه قائلا كل ما شئت فانت تحمل زوادتك قال كيف قلت مسافر زاده الخيال فتخيل ما شئت من الطعام وكله وحدك وخمسة عشرة سنة مليئة بالقصص والحكايات لا مجال لذكره هنا معذرة فانا الشاعر والصحفي والرحالة يعقوب يوسف محمد شيحا واسكن الان في امريكا بولاية فيرجينيا وحكايتى مع مصر حكاية عل الرغم من عشقي لها والبركة في بهدلة امن الدولةوعنواني ان اردتم هنا حاليا فهو
bowman ct reston. va 20190ررقم 1858 الولايات المتحده الامريكية
والكتاب جاهز للطبع وموجود في القاهرة