محمود البدوى وأحمد حسن الزيات
قرأ محمود البدوى آلام فرتر للزيات وبعدها روفائيل خير أعمال لامرتين الأدبية ، فأحب الرجل ، وأعجب به ، لأنه لم يتعمل فى الترجمة ولم يتصنع ، فجاءت ترجمته آية الآيات الفنية ، ولم يبدأ حياته الأدبية بالهجوم ـ مستوقفا الأنظار ـ كما فعل غيره من الأدباء ، ولم يهرج لكتبه بالطريقة الأمريكية المعروفة لكثيرين ، ولم ينشر عن نفسه ثناء ولا حمدا ، ولم ينزل بفنه إلى مستوى العامة ، ولم يكتب ليرضى الجمهور ويتملق الناس ، وإنما عمل فى صمت وسكون واخلاص [1]
وأنشأ الزيات مجلة الرسالة بعد رجوعه من العراق ، وأعد لها العدة عن فهم وبصيرة بما يجرى حوله ، فقد كان العالم العربى من مشرقه ومغربه فى حاجة ماسة إلى مثل هذه المجلة الأدبية ، فلما صدرت استقبلته استقبالا عديم النظير .
كانت توزع سبعة آلاف نسخة فى العراق وحدها ، وكان البدوى وقتها فى مدينة السويس ويقدر الرجل ويجله كأستاذ لجيل ، تحولوا إليه يتغنوا بأسلوبه وبلاغته .
ولما وقع فى يد البدوى العدد الأول من المجلة فرح بها وكتب له يهنىء ويمجد عمله ولم يذكر فى الرسالة اسمه .
ويقول البدوى :
" ... وظل الرجل كريم الصفات لايعرف صاحب هذه الرسالة إلى آخر أيامه ، ولكنها أبهجته حقا ، وشرحت قلبه ، لأنها صادرة من مجهول أكثر من أى شىء آخر . فعلق عليها فى العدد الثالث من المجلة [2] بالعبارة التالية .... وقلما تجد أنبل عاطفة من رجل يعنى بعملك لذاته ، ثم يحمل نفسه ووقته جهد الكتابة اليك صفحات فى تأييد وقدرة ، ثم لايريد بعد ذلك أن يبوح لك باسمه [3] " .
وكان البدوى ـ وقت صدور المجلة ـ يقرأ الأدب باللغة الإنجليزية والأدب الروسى خاصة مترجما إلى الإنجليزية بقلم الكاتبة الإنجليزية كونستانس جارنيت .. لأنه كما يقول " الجو الروسى التشيكوفى على وجه التحديد يصور حياة الفلاح الروسى تماما كالفلاح المصرى [4] فبدأ يترجم أعمالا للأدباء الذين كتبوا عن بشر يشابهوننا " ، وترجم قصة " الجورب الوردى " لتشيكوف ، ودفعه حبه لأستاذه الزيات أن يرسلها إليه بمقر المجلة بشارع حسن الأكبر فى حى عابدين ، ونشرت الترجمة بالعدد العشرين فى 1|12|1933 وشجعه ذلك على أن يترجم غيرها وغيرها من القصص القصيرة لتشيكوف ومكسيم جوركى وموبسان .
وفى عـــام 1936 أخــذ البــدوى أول مجموعـة قصصـية له " رجل " وذهب إلى مجلة الرسالة لينشر عنها إعلانا صغيرا بالمجلة .. ويقول :
" وتناول أستاذى الزيات الكتاب الصغير فى يده .. وقلبه .. فلما وقع نظره على قصة " الأعمى " سألنى عنها .. ووجد فيها شيئا جديدا .. وطلب منى أن ينشرها فى الرسالة .. ونشرها فعلا على عددين [5] وقد لمست صفات هذا الرجل الكريم ونبله .. لما حدثنى بعد ذلك عن كل المكالمات التليفونية التى تلقاها إعجابا بهذه القصة ، وشجعنى بهذا وفتح قلبى على مواصلة الطريق .. فأخذت أتابع النشر فى الرسالة [6] ولولاه ما واصلت الكتابة .. ولا كتبت حرفا .. ولأصابنى العجز والضيق فى أول الطريق .. وكانت رسالته رحمه الله رسالة الرسالات ، وقد عجزت الدولة من بعده بكل إمكانياتها أن تخرج مثلها ، فالعمل الأدبى إخلاص وتضحية ولا يزيد ولا ينقص بعدد الأشخاص الذين يتولونه [7] وكان هذا الرجل عظيما جدا ، وقد تعلمت منه أشياء كثيرة .. لعل أهمها الصبر والجلد فى العمل [8] .
" فأديب الأمس ولظروف الحياة المادية نفسها فى ذلك الوقت .. كان روحيا مخلصا للأدب .. وروحه متشربة لحبة إلى درجة التضحية [9]ولقد عاصرت الأدب الزاهر الذى كانت تسوده روح التضحية خصوصا عند مصطفى صادق الرافعى ، المازنى ، العقاد ، أحمد أمين ، الزيات [10] . أنا شخصيا وجدت الزيات كان يعطى كبار كتابنا فى ذلك الوقت " العقاد " و" طه حسين " خمس جنيهات ثمنا للمقالة .. وروح التضحية برزت واضحة فى لجنة التأليف والترجمة والنشر .. كانوا فى حارة " الهدارة " فى عابدين .. فى بناء متهالك .. يخرجون ويطبعون مجلة الثقافة متكاملة طباعة وفنا أدبيا ، ويأتيهم نظير هذا العمل أى ربح مادى يوزع عليهم .. بل كانت التضحية متضامنة .. وروح حب الأدب للأدب كان متغلغلا فى كل نفس تكتب فى هذه المجلة " .
ويقول البدوى "وكانت بداية اتصالى به ومعرفتى به عن قرب وعلى الأخص بعد أن انتقل من شارع حسن الأكبر إلى ميدان العتبة فوق محل الفرنوانى ، وأخذ فى اصدار مجلة الرواية بجانب الرسالة [11] . فكان يصدر المجلتين معا ويتولى وحده تصحيحها ومراجعة البروفات وكل عمل الادارة والمطبعة والاعلانات .
وزرته ذات مساء فوجدته يراجع البروفات على الفصل الأول من يوميات نائب فى الأرياف لأستاذنا توفيق الحكيم .. وكان فخورا بهذه الرواية إلى أقصى مدى ، وأشفقت على تعبه وهو يقرأ النص ويراجع حروف المطبعة معا ، فاستأذنته أن أعينه .. وجلست أمامه .. وأخذت أقرأ النص بصوت عال ـ وأخاف الخطأ ـ وهو يراجع على البروفة المطبوعة ويصحح بدقة متناهية وصبر عجيب .
ومر الوقت بنا حتى ولى نصف الليل ، وما شاهدته فى أثناء هذه الجلسة الطويلة دخن سيجارة ولا شرب فنجانا من القهوة .
وكان من اصدقائه الذين أراهم فى المجلة على فترات متقاربة الدكتور توفيق يونس والشيخ زناتى والأستاذ محمود الخفيف .
وكان هناك ثالوث منا نحن الشباب يكتب فى المجلة ويعتز بها ويتردد عليها يوميا فى فترة ما ، الدكتور حسن حبشى والأستاذ فتحى مرسى وأنا نكتب المقال والقصة والشعر وانضم إلينا رابع الأستاذ .. ابراهيم طلعت الشاعر الثائر .. وكان قد أخذ ينشر قصائده .. وشاهدت بعد ذلك فى المجلة من جاء ليعاون أستاذنا الزيات فى عمله الذى اتسع ، وكان منهم الصديق الكريم الأستاذ عباس خضر [12] .
ويقول البدوى :
" أوصى أبناء هذا الجيل بالرجوع إليه " [13]