الاثنين ٧ آب (أغسطس) ٢٠٢٣
بقلم مصلح كناعنة

«ذكريات في تقاطُع الألوان» لناهد الزعبي

أنا لستُ بناقدٍ أدبي متخصص، وإنما أنا قارئ مُدمن على القراءة يُرهق النص بمتطلباته. وأنا في العادة أطلب من النص الذي أقرأه أن يتحلى بأربع مواصفات: (1) أن أفهمه، (2) أن يُسهم في زيادة معرفتي، (3) أن يُحرِّض ذهني على التأمل والتفكير، و(4) أن يُمتِّعني أثناء القراءة. فإذا حال حائل في النص دون تحقُّق واحدة من هذه المواصفات، أصبح ذاك الحائل في مركز اهتمامي فتعقبتُه وأشبعتُه بحثاً وتمحيصاً. وكذلك إذا ساعد شيءٌ في النص على تحقُّق إحدى هذه الخصائص بشكل استثنائي، فإن ذاك الأمر يصبح في مركز اهتمامي فألاحقه بالبحث والتمحيص.

وأنا لم أدرس نظريات الأدب والنقد الأدبي في الجامعة، فهذا ليس تخصصي الأكاديمي، بل تعرفتُ على هذه النظريات بقواي الذاتية مدفوعاً بحب الاستطلاع ورغبتي في الفهم والمعرفة.

إحدى هذه النظريات التي لا ينفكُّ النقاد العرب يذكرونها في كل مناسبة ويَلجئون إليها لدراسة وتحليل الكتب والنصوص، هي تلك النظرية التي تتمحور حول ما يُسمَّى "عتبات النص" والتي وضع خطوطها العريضة والرفيعة الناقد الفرنسي جيرار جنيت (1930-2018) في كتابه المحرَّر "Seuils" الذي نُشر بالفرنسية عام 1987. ولكي نجعل الأمور المعقدة بسيطة، نكتفي بأن نذكر أن عتبات النص تشمل أموراً مثل لون غلاف الكتاب، ولوحة الغلاف وتصميمه، وعنوان الكتاب، والإهداء، وكلمة الشكر والتقدير، والاقتباس الذي يفتتح كثير من المؤلفين كتبهم به، وأمور أخرى مشابهة مما يسمّيه جيرار جنيت "Para texte"، والتي يقسِّمها إلى "عتبات تأليفية" و"عتبات نشرية".

وأنا إذ أوافق على هذه العتبات وأهميَّتها، فإنني أفصل عنوان الكتاب عن البقية فأستثنيه منها وأرفعه فوقها لأعيد إليه أهميته المتميِّزة التي أولاها له جَنيت وأهملها النقاد العرب أو قللوا من شأنها. فعنوان الكتاب ليس مجرَّد عتبة نتخطاها في طريقنا إلى النص أو نخطو فوقها كي ندخل إلى المبنى السيميائي للنص، وإنما هو المدخل الذي من خلاله ندلف إلى عمارة النص، أو هو البهو الذي نلج من خلاله إلى ما في داخل النص من محتوى. فعنوان الكتاب هو المدخل الذي يقرر إن كنتَ ستدخل إلى مبنى النص بقامة محنية أم منتصبة، بتشوُّق وترقُّب أم بتخوُّف ووجل، وما الذي تتوقع أن تجده في الداخل؛ هل ستجد النص في الداخل غارقاً في الظلام أم غارقاً في النور؟ هل سترى أطيافاً لأشياء أم الأشياء بذاتها؟ وهل ستكون محتويات الداخل مرتَّبة بتناسُق أم مبعثرة بفوضى؟ وهل سيسود في داخل النص الصمت والجمود كمتحف للذكريات أم الحركة والحيوية كمرتع للحياة؟ فعنوان الكتاب بهذا المعنى يعلن عن طبيعة النص، ومن ثم يخبرك بنوع القراءة التي يتطلبها منك ومدى الجهد الذي يحتاجه منك أثناء القراءة. وفي نفس الوقت فإن عنوان الكتاب هو السؤال الإشكالي الذي يتكفل النص بالإجابة عنه. فبعناوين الكتب أنت تختار ما تقرأه، وبعناوين الكتب أنت تخمِّن كيف ستقرأ النص وما الذي ستجنيه من قراءته.

ومن ثم فإنني أعترف بأنه حين وقع نظري على عنوان كتاب السيدة ناهد الزعبي لأول مرة، أصبتُ بالذهول وكأنني أمام أحجية، وكأنَّ الكتاب يحتاج إلى فَكِّ شيفرة سحرية معقدة لفتح بابه والدخول إليه.

أول ما يستنتجه المرء من عنوان هذا الكتاب، هو أن الكتاب ليس رواية ولا مجموعة قصصية وإنما عدداً من مقطوعات سردية توحِّدها وتربطها معاً علاقة من نوع ما. ومن ثم يستنتج المرء أن هذه ليست سيرة ذاتية تروي المؤلفة من خلالها قصة حياتها كنوع من إعادة بناء الذات، وإنما هي عبارة عن نُتَفٍ من الذكريات لربما كانت لا تلتزم بالتراتُب الزمني. ثم إن الحديث هنا ليس عن كلمات أو عبارات أو جُمَل أو صياغات، وإنما عن ألوان، وكأنَّ الحديث عن خطوط في لوحات. بيد أننا نعرف أن ما بين أيدينا هو كتاب يحتوي على نصوص كلامية من الغلاف إلى الغلاف. فالحديث إذاً هو عن كلمات مرسومة بالألوان، أو ألوان موصوفة بالكلمات، وكأنَّ المؤلفة رسَّامة استبدلت الريشة بالقلم، فتضطرك إلى أن تقرأ اللوحة بدلاً من أن تنظر إليها.

ثم ينتبه المرء إلى أن الحديث في عنوان الكتاب ليس عن الألوان وإنما عن "تقاطًع الألوان". وليس المقصود هنا "مزجَ" أو "تمازُج" الألوان، فكلنا نعرف أنك حين تمزج لونين معاً فإنك تحصل على لون جديد. والمؤلفة هنا لا تريد أن تخلق ألواناً جديدة، وإنما تريد أن تُقاطع الألوان بحيث يبقى كل لون على ما هو عليه. وحين نستجير بفهرس الكتاب لعلنا نحصل منه على مزيد من الوضوح، نجد أن تقاطُع الألوان هذا يُعبَّر عنه في كل الحالات من خلال كلمة "مائل"، فكل لون يميل إلى لون آخر دون أن يمتزج به أو يختلط فيه؛ "برتقالي مائل إلى الأصفر" (15)، "رملي مائل إلى البُنّي المائل إلى الأحمر" (23)، "أبيض مائل إلى الأزرق" (35)، "أحمر مائل إلى النَّبيذيّ" (63)، وحتى حين تريد المؤلفة أن تصف قوس قُزح فإنها لا تصف ألواناً مستقلة متموضعة بجانب بعضها البعض، وإنما تصف ألواناً كلٌّ منها يميل إلى الآخر، وهكذا يصبح قوس قُزح هو "أبيض مائل إلى الأحمر والأصفر والبُرتقالي والأخضر والأزرق والبنفسجيّ والنيليّ" (67)... وهكذا فإن الأبيض ليس مزيجاً من كل الوان الطيف أو حضوراً لكل الألوان في نفس المكان واللحظة، وإنما هو كل الألوان "يميل" كلٌّ منها إلى لون آخر، في حين أن الأسود هو ألوان يميل كل منها إلى الآخر فيُبطله ويلغيه، فتلتغي كل الألوان وتكون النتيجة السَّواد. إذاً، "تقاطُع الألوان" هو بمثابة ألوان يميل كل منها إلى الآخر دون أن يفقد أي منها خصوصيته واستقلاليته.

تقاطُع الألوان هذا، مقرون في عنوان الكتاب بالذكريات. فهي إذاً ذكريات تُرسَم بألوانٍ تتقاطع، والألوان التي تتقاطع تُرسَم بالكلمات لا بالخطوط، وبالقلم لا بالريشة، ثم يقترن تقاطُع الألوان هذا بالذكريات فيصبح عنوان الكتاب: "ذكريات في تقاطُع الألوان".

وننتبه هنا إلى أن الذكريات هي "في" تقاطُع الألوان. لو كانت الذكريات "على" تقاطُع الألوان، لكانت القضية قضية "مَوضَعة"؛ شيء على شيء، ذكريات على تقاطُع. بيد أن الذكريات هنا هي "في التقاطع"، فالحديث هنا هو عن قضية احتواء؛ حُلول؛ حضور شيء في شيء آخر، كالروح في الجسد والمعنى في الكلمة والجوهر في المظهر.

لماذا هذا الانشغال بالذكريات؟ ما الذي تريده المؤلفة من خلال سرد الذكريات الكامنة في تقاطُع الألوان، أو بالأحرى، من خلال رسم الذكريات بالقلم والكلمة وليس بالريشة والألوان؟

في "الإهداء" تقول المؤلفة: "إلى ذاكرتكم... ومن وميض ذاكرتي... ليكتمل المشهد." إلى ذاكرتكم أنتم... من وميض ذاكرتي أنا... ليكتمل المشهد! أيُّ مشهد؟! هل هو المشهد الشخصي الخاص لناهد الزعبي، أم المشهد الاجتماعي العام لمحيطها المجتمعي الذي تنتمي إليه؟ ونحن من خلال معرفتنا بالسيدة ناهد الزعبي وتاريخها الشخصي وخصائصها وانتماءاتها، نستطيع أن نحدد الكيان العام المقابل لكيانها الشخصي الخاص. فهل المشهد الذي تريد أن ترسمه من خلال الذكريات هوة هذا أم ذاك؟

هنا نستجير بمقدمة الكتاب، فنجد أن المؤلفة تقول:

"وكل هذه الحكايات الصغيرة لا تلبث أن تنتقل لحكايات كبيرة عامة، ليست حِكراً على أحد، فهي حكايات لكَ ولها... هي قصتنا جميعاً، إنها قصة وطن." (14)

إذاً هي ترسم "الميكرو" (العالم الصغير) ليكتمل مشهد "الماكرو" (العالم الكبير)؛ ترسم بالقلم والكلمة ذكريات ناهد الزعبي، وتريد من خلال ذلك أن تستكمل رسم المشهد الاجتماعي الوطني التاريخي العام للقضية الفلسطينية والشعب الفلسطيني، وهي في ذلك تريد أن تقول لنا أنَّ أفضل طريقة لتوثيق وإعادة بناء التاريخ الفلسطيني هي إعادة رسم أو سرد التجارب الحياتية الفردية للإنسان الفلسطيني، التي تحوَّلت في كيانه إلى ذكريات.

ولكنْ، لماذا نركز بالذات على الذكريات التي تكمن في تقاطع الألوان؟ ما هي تلك الذكريات التي من المفضَّل أن نرسمها بالريشة المُستعاض عنها بالقلم وبالألوان المُستعاض عنها بالكلمات، لا أن نسردها في نص كلاميٍّ يعتمد على "التعابير المجازية وفن البلاغة وأدوات اللغة تعجيزية الفهم" (14)؟

إنها ذكريات الطفولة، فنحن نعرف أن الأطفال (والبالغين الذين ينتكسون إلى الطفولة في حالات الهلع) هم الذين يتذكرون تجارب الحياة من حلال اقترانها بالمُعطيات الأولية المباشرة للحواس الخمس، كالألوان والأصوات والروائح واللمسات والمذاقات. ونحن نعرف من خلال أبحاث علم النفس أن الأطفال لا يتذكرون تجارب الحياة من خلال معطيات الحس العادية الطبيعية بقدر ما يتذكرونها من خلال معطيات الحس الغامضة الصادمة التي تخترق الواقع وتشوِّه الحالة الطبيعية للأشياء؛ يتذكرون هزيم الرعد ولمعان البرق الخاطف؛ يتذكرون أزيز الرصاص وهدير الطائرات وأصوات الانفجارات؛ يتذكرون الزعيق والصراخ، وروائح العفن والجثث المحترقة. وبالنسبة لمعطيات حاسة البصر، فهم لا يتذكرون الألوان الصافية المستقلة بقدر ما يتذكرون التقاطعات والألوان التي يميل بعضها إلى بعض؛ هم لا يتذكرون السماء الزرقاء الصافية بقدر ما يتذكرون السماء العابقة بالدخان، ولا يتذكرون الحقل الأخضر متراميَ الأطراف بقدر ما يتذكرون الأرنب الأبيض الذي يظهر بغتةً من بين السنابل هنا وهناك، ولا يتذكرون بقعة الدم الحمراء بقدر ما يتذكرون اختلاط الدم بالوحل البُنّيّ أو الماء الرماديّ، ولا يتذكرون البناية المزخرفة بالنقوش والألوان بقدر ما يتذكرون هذه الزخارف وهي تنهار تحت القصف. ولذا فإننا حين نبحث عن ذكريات المآسي الفلسطينية في أذهان الأطفال الفلسطينيين، فعلينا أن نبحث عنها في تقاطع الألوان، وفي ميل الألوان إلى بعضها البعض.

المشروع إذاً هو رصد وتوثيق الذكريات من خلال الرجوع إلى الطفولة وإلى الطفل الذي كًنّاهُ في الماضي، وهذا لا يمكن أن يتم إلا بواحدة من طريقتين: الطريقة الأولى هي النكوص إلى الطفولة والحلول في الطفل وتقمُّصه كلياً بحيث نفكر مثله ونشعر مثله ونتخيَّل مثله، ونتكلم بلغته ونرى العالم من خلال عينيه. والطريقة الثانية هي أن يتمترس الكاتب في عالمه المعقد في لحظة الرجوع والكتابة، فيرى الطفل والطفولة من هذا المُنطلق، ويستثمر ما يجده في الطفل والطفولة في الماضي لتفسير وتبرير عالم البالغين في الحاضر.

إن الرجوع إلى الطفولة وإلى الطفل الذي كُنّاه من خلال الطريقة الثانية، هو ما نجده بكثرة في السِّيَر الذاتية لمشاهير الكُتاب والمفكرين، وما نجده بكثرة في الروايات والقصص التي تتناول الطفولة والأطفال بشكل من الأشكال.

أما الروائع العالمية العظمى عن الطفولة والأطفال فكلها تنتمي إلى الأدب الذي يسلك الطريقة الأولى، طريقة النكوص إلى الماضي والحلول في الطفل وتقمُّصه كلياً، والتفكير بعقله، والحديث بلغته، ورؤية العالم بعينيه. وأشهر قصة من هذا النوع على الإطلاق هي قصة "الأمير الصغير" (1943) للكاتب الفرنسي أنطون دي سينت إكزوبري (Antoine de Saint Exupery) (1900-1944)، وهي واحد من أكثر الكتب مبيعاً في التاريخ، وأكثر كتاب مُترجَم في القرن العشرين، حيث ترجمت هذه القصة إلى 240 لغة بالإضافة إلى 265 لهجة عامية محلية في مختلف أقطار العالم. ولكن على الرغم من أن قصة "الأمير الصغير" طفولية بامتياز، فإن الكاتب يستغلها لتضمين بعض أفكاره النقدية عن الحياة والطبيعة البشرية، وعن عالم البالغين بشكل عام. هذا يذكرنا بالرائعة العالمية الثانية من هذا النوع، وهي قصة "السِّرِّ الحارق" (1911) للكاتب النمساوي ستيفان زفايغ (1881-1942)، والتي تسحبنا إلى أعماق الطفولة فتُرينا عالم الكبار الغريب من منظور طفل في الثانية عشرة من عمره. ثم تأتي الرائعة العالمية "أوسكار والسيدة الوردية" (2002) للكاتب الفرنسي البلجيكي إيريك إيمانويل شميت (1960-)، والتي يتقمص فيها الكاتب شخصية طفل في الثانية عشرة من العمر مصاب بسرطان الدم وموشك على الموت، فيحدثنا عن نظرة هذا الطفل إلى الحياة والموت، وإلى الله والكون.

أودُّ أن أنتهز الفرصة في هذا المقام لأعرِّف القارئ العربي على الكاتبة التي أعتقد أنها أفضل من كتب عن الأطفال وللأطفال على مستوى العالم، والتي كانت تتحوَّل ذهنياً ونفسياً، وبكل معنى الكلمة، إلى طفلة وهي تؤلف القصص عن الأطفال. إنها الكاتبة السويدية أستريد لينغرِن (Astrid Lindgren) (1907-2002) التي كانت ولا تزال قصصها ومسلسلاتها التلفزيونية تُعتبَر ضرورة حتمية لكل طفل إسكندنافي، فنشأت وتربَّت على قصصها أجيال وأجيال من الاسكندنافيين، الأمر الذي يجعلني أعتقد أنه ليس هناك رجل واحد أو امرأة واحدة في كل اسكندنافيا لا يعرف من هي أستريد لينغرِن ولم يقرأ أو يشاهد أكثر من واحدة من قصصها عن الطفولة والأطفال؛ عالمهم وخيالهم وأفكارهم ومشاعرهم ومقالبهم ونهفاتهم ونظرتهم إلى الكبار وعالمهم، علماً بأن قصص أستريد لينغرِن تجذب الكبار بقدر ما تجذب الصغار، فتقرأها أو تشاهدها الأسرة بأكملها بكثير من الشغف والمتعة والمرح. ومن مسلسلاتها المشهورة التي ليس من الممكن لأي إنسان اسكندنافي ألا يعرفها: "بيبي ذات الجوارب الطويلة" (Pippi Longstocking)، و"إميل في مزرعة لونَّبيرغ" (Emil in Lønneberga)، و"كارلسون على السطح" (Karlsson on the Roof). وعلى الرغم من أن قصص أستريد لينغرِن مترجمة إلى أكثر من مئة لغة وبيع منها حوالي مئة مليون نسخة حتى الآن، فإنها غير معروفة للطفل العربي، وللقارئ العربي بشكل عام.

على ضوء هذا الاستطراد، أعود إلى السيدة ناهد الزعبي وكتابها "ذكريات في تقاطع الألوان".

في الغالبية العظمى من المقطوعات السردية المرسومة بالقلم والكلمات في هذا الكتاب، تعود المؤلفة إلى طفولتها من خلال الطريقة الثانية، فهي امرأة بالغة حقَّقت ما حقَّقته في هذه الدنيا، متمترسة بحاضرها، منغمسة في عالمها بما فيه من هموم وانتماءات ومواقف واستراتيجيات، تنظر من هناك إلى تجارب طفولتها كذكريات تُستعاد، فتستثمر هذه الذكريات لتفسير الحاضر وما فيه، ولكي تعرِّفنا على نفسها الآن؛ كيف بدأت، ومن أين أتت، وكيف أصبحت ما قد أصبحت عليه، وهي بالتالي تعيدنا إلى الجذور التاريخية للقضية الفلسطينية وتفسر لنا الظروف والملابسات التي أسهمت في تشكُّل الذات الفلسطينية وما يتصف به الإنسان الفلسطيني سلباً وإيجاباً، قوةً وضعفاً، ثباتاً وارتجاجات.

بيد أنَّ المؤلفة تنتهج في المقطوعات الأربع الأولى من الكتاب الطريقة الأولى إلى الطفولة، طريقة التقمُّص والحلول، والنكوص إلى الطفلة ناهد والنظر إلى العالم بعينيها. وأجمل ما في السَّرد في هذه المقطوعات الأربع الأولى، اعتماد المؤلفة على المزج بين الفصحى والعامية كي تتمكن من التحدث بلغة الطفلة ناهد، فهي بهذه الطريقة تأخذ بيدنا وترافقنا إلى الطفلة ناهد كي نراها ونسمعها وننظر إلى العالم بعينيها. وبخلاف كل من كتَبَ عن هذا الكتاب أو تحدث عنه، فإن هذه المقطوعات الأربع الأولى التي تقذفنا فيها المؤلفة في عالم الطفولة والأطفال في بيوت الناصرة وشوارعها في ستينيات القرن الماضي، وتجعلنا نعايش الطفلة ناهد وننظر إلى العالم بعيون طفلة نصراوية هُجِّرَ أهلها من يافا... هذه المقطوعات هي التي بهرتني وسحرتني وأوقدت شغفي وحظيت باهتمامي الأكبر. ففي المقطوعة الأولى نرى الطفلة ناهد وهي تزيِّن شجرة الميلاد مع أهلها، وبعد إضاءة الشجرة تقول:

"بدت الشجرة كملكة، كعروس في قمة زينتها وبكامل أناقتها. أردتُ أن أصرخ، أن أنادي الجيران والأصدقاء والمارَّة في الشوارع القريبة من بيتنا. كم كنتُ فخورةً وسعيدة، فنحن والجيران متشابهون." (20)

وكانت قبل ذلك قد قالت: "وقتها كانت الفاتحة و"أبانا" صلاة واحدة لنفس الشخص بالنسبة لإدراكي الصغير الكبير." (16)
والمقطوعة الثانية تبدأ بالطفلة ناهد وهي تقول:

"وقفتُ مُمسكةً يد والدي بأسفل درج طويل ضيِّق، ننتظر دورنا وأمامنا طابور من أصدقائنا ومعارف أبي، وغيرهم. جميع أبناء الناصرة أصدقاء أبي، لا تكفُّ يده عن السلام، وأنا فخورة بأبي لأنه صديق الجميع. يتقدم الطابور خطوة خطوة، بمبنًى ضخم كأنه قصر أذهلني كلما مررنا جانبه، وجزء منه مُطل على مدرستي الابتدائية. كنتُ أنعم النظر طويلاً في نوافذه وأتخيَّل أن داخله عالماً آخر." (23)

والمبنى الذي تتحدث عنه الطفلة ناهد هنا هو مبنى المسكوبية في الناصرة، الذي كان مركزاً للشرطة ومقراً للحاكم العسكري الإسرائيلي في ذلك الوقت.

أما المقطوعة الثالثة فتتحدث عن أجواء حرب الأيام الستة (حزيران 1967) في الناصرة، فتقول الطفلة ناهد:

"أمي تغلق النوافذ وأبي يضع الأغطية السوداء عليها. لم أفهم أي شيء حتى الآن إلا أننا في حالة حرب. مع مًن وليش لازم نُترُك البيت وليش لازم ما نضوي الضوّ، وليش جارنا دهن أضواء السيارة باللون الأزرق الغامق... هل هي حربٌ مع الهنود الحُمر؟! إذا مش مع الهنود الحُمر مِش راح أخاف، لأنّ أكثر شيء كان يخيفني في طفولتي هم الهنود الحُمُر!" (27-28)

وفي اعتقادي أن أروع ما يمكن أن يقرأه المرء في هذا الكتاب هو هذا الكلام على لسان الطفلة ناهد في المقطوعة الرابعة المُعنوَنة "أبيض مائل إلى الأسود"، تعليقاً على ردود فعل الناس في الناصرة على نبأ وفاة الزعيم المصري جمال عبد الناصر، حيث تقول:

"بحثتُ عن أختي لأعرف "مين أبو خالد؟"... بعد الإنصات للمذياع والجيران والشارع والعالم أجمع، فهمتُ أن الحادث جلل، وأن أبا خالد هو جمال عبد الناصر الذي رأيتُ صورته في أكثر من منزل للأقارب والأصدقاء... رأيتُ صورته عند سليم، صاحب الدكان الذي نشتري منه، وعند خالي، وعند أصدقاء أبي... وفي فترة من عمري ظننتُ أنه أحد أقاربنا، أو الرجل الذي يَقرَب لكل أصدقائنا، ويِمكِن هو من الناصرة أصلاً وبقرَبلنا كلّنا! لأنَّ أبي كان يقول "الناصرة عيلة وحدة". أظنه ذهب إلى مصر وصار زعيم كل العالم!" (31-32)

ثم تردد ما كانت تسمعه من الكبار: "الحذر الحذر؛ ما تحكوا، وَطّوا صوتكم، الحيطان إلها دنين. هذا الخوف وتكميم الأفواه لم أفهمه وقتها. ومن مين خايفين؟" (32)

غير أنَّ المؤلفة ناهد الزعبي لا تنجح تماماً في صيرورة النكوص والحلول والتقمُّص هذه، حتى في هذه المقطوعات الأربع الأولى، فهي لا تنفكُّ تتصارع مع الطفلة ناهد، ولا تنفكُّ تراها من منظورها هي، فتفرض عليها مفاهيمها وهمومها واهتماماتها، وتنظر إلى تجارب حياتها كذكريات مُسترجَعة من الماضي من أجل الحاضر. ففي المقطوعة الأولى، عن تزيين شجرة الميلاد في البيت في الناصرة، تقول الطفلة ناهد عن والدها: "كنتُ متأكدة أنه سيأتي بالحل، فهو أبي ويحلُّ كل مشكلة، ولا يتركنا تائهين. هو أبي وأنا أعرفه." (19) وبعد ذلك مباشرة تأتي المؤلفة ناهد الزعبي فتقول: "وكم أنا محتاجة إليكَ يا أبي هذه الأيام، فالمشاكل والأمور أصبحت أكبر وأكثر تعقيداً" (19). في الجملة الأولى نسمع الطفلة ناهد تتحدث عن والدها، أما في الجملة الثانية فنحن نرى المؤلفة ناهد الزعبي "تتعربش" عليها، أو تخرج منها وتصعد فوقها، فتستلب منها طفولتها وتجيِّرها لمصالحها الذهنية والنفسية في الحاضر، وفي اعتقادي أن النص يكون أكثر تماسكاً ومصداقية لو حُذفت هذه الجملة الأخيرة منه.

وليس هذا مُستغرباً، ولا الذنب هو ذنب المؤلفة لهذا الكتاب، فنحن والسيدة ناهد الزعبي ننتمي إلى ثقافة تتعامل مع الطفل ككائن قاصر بلا عقل، ضائعٌ بين الأرجل والأقدام، موجود ولكنه غير مأخوذ بعين الاعتبار، ونحن مستغرقون في تعقيدات عالم البالغين إلى حد أننا نتنكَّر لطفولتنا ونُعاديها، وكأنها كانت إعاقة نجونا منها أو تخلُّفاً تغلّبنا عليه، فنغترب عن طفولتنا وأطفالنا، ويصعُب علينا حتى أن نعثر على الطفل الذي في داخلنا. ونحن، بالإضافة إلى ذلك، ننتمي إلى عالم البالغين من البشرية جمعاء، التي تعتبر الطفولة بداية لمشروع لا يكتمل بناؤه ويحظى بأهميته ويأخذ مكانه في العالم إلا حين ينضج ويخرج من مرحلة الطفولة إلى مرحلة البلوغ.

لربما اتهمني البعض بأنني أبالغ في اهتمامي بالطفل وانبهاري إلى هذا الحد بعالم الأطفال والطفولة، ولكني في الواقع أعتقد أن هذا بالذات هو ما نحتاج إليه الآن أكثر من أي شيء آخر؛ نحتاج إلى وضع حدٍّ لاغترابنا عن طفولتنا وأطفالنا، وللتعرُّف على الطفل الذي في داخلنا والاعتراف به والتصالُح معه، بحيث لا يظل ذاك الطفل مكبوتاً في لاوعينا قابعاً هناك بمرارة وألم، يُطلُّ برأسه بين الفينة والأخرى من خلال سلوكنا الصبياني الطفولي. ونحن الفلسطينيين بالذات نحتاج أكثر من غيرنا إلى المزج العضوي الكامل بين ماضينا وحاضرنا؛ بين ما كُنّاهُ وما نحن عليه الآن، وأن نأخذ أطفالنا وطفولتنا بمنتهى الجدية وبمزيد من الاحترام والتقدير، ونرى عالمنا ونكباتنا ونكساتنا ومآسينا بعيون الطفل الذي فينا، فلا ندع أطفالنا يضيعون منا ونحن منشغلين عنهم بمآسي الكبار وألعابهم ومقالبهم التي تهدم العالم فوق رؤوسهم...
هذا الطفل الذي يمسك بطرف فستان أمه وهي تحمل على رأسها ما تبقَّى لها من العالم، يقبض بيده الأخرى على قطعة خبز ناشفة وهو يسير حافي القدمين نحو عالم الشتات المجهول... هذا الطفل، أريد أن أرى العالم بعينيه؛ أريد أن أسمع نهنهات البكاء وآهات الألم في صوته، وأن أدخل في رأسه وأعرف كيف يفكر، وكيف يفهم الأحداث والأمور من حوله، وكيف يربط حاضره بمستقبله... أريد أن أدخل إلى قلبه وأعرف كيف يشعر نحو أمه وأبيه والناس من حوله، ونحو الكبار الذين يلعبون لعبة الحياة والموت التي يراها ويعايشها ولكنه لا يفهمها. حينها، وحينها فقط، أفهم كيف تسقط الشعوب والأمم ضحية لألعاب الكبار الذين يتنكرون لطفولتهم.

وأنا لا أعرف في الأدب العربي كله، قديمُه وحديثُه، أي عمل أدبي يقدم الطفل إلينا على حقيقته، ويقدم إلينا العالم من منظور الطفل وبعقله وخياله ومشاعره ولغته وأسلوب تعبيره. حتى كتب الأطفال العربية المعاصرة التي تغرق السوق، هي دائماً كتب للبالغين عن الأطفال، تنظر إلى عالم الأطفال من منظور الكبار، وتنظر إلى الأطفال كما يجب أن يكونوا وليس كما هم في الواقع، فهي بالتالي كتب تتعامل مع الأطفال كمشاريع، ولذا فهي كتب تربوية وعظية تحتوي دائماً على نصيحة أو درس أو حكمة أو موعظة، وتعلم الطفل ما يجب أن يفعل أو لا يفعل وما يجب أن يقول أو لا يقول بناءً على حكم الكبار ونظرياتهم وتصوُّراتهم عما يجب أن تكون عليه الأمور.

وعلى ضوء اطلاعي على المقطوعات الأربع الأولى من هذا الكتاب، فإنني أرى أن السيدة ناهد الزعبي هي على الطريق الصحيح نحو خلق مثل هذا العالم، ولديها كل ما يحتاجه الأمر لتعرِّفنا على ناهد الطفلة وأترابها، وعلى عالمهم، وعلى عالم الكبار كما يرونه بأعينهم. ولو سُمِح لي أن أتقدم بنصيحة إلى مؤلفة هذا الكتاب، فإنني سأنصحها بأن يكون هذا مشروعها القادم؛ أن تتقمص الطفولة وتكتب عن الأطفال ولهم، وأنا واثق كل الثقة من أنها أهلاَ لذلك أكثر من أي شخص أعرفه.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء او المديرات.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى