رثاء، لم أكن أتوقع أن أكتبه!
عندما تفقد توأماً لروحك تشعر أن عملية سلخ تعمل في قلبك ومشاعرك .. وتشعر أن رصيدك في حسابات السعادة قد تم تجميده، أشعر أن ساعة الزمن تتوقف أحياناً .. كما هي الآن منذ سماعي لخبر وفاة صديق روحي د.محمد صلاح الشرقاوي، الحروف أمامي مشوشة لكنها تتجمع أحياناً لترسم ملامحه، ثم تعود مشوشة مرة أخرى فأسرح بخيالي أتذكر روحه الشفافة ونفسه الرقيقة ... وأسرح معه عوداً إلى ما قبل خمسة عشر عاماً يوم قابلته لأول مرة أتذكر بسماته ... ضحكاته ... بديهته الحاضرة ... نفسه المشرقة النقية ... ثم أفيق فجأة على صوت المتنبي وهو يقول:
وَرُبّمَا احتَسَبَ الإنْسانُ غايَتَهَا وَفاجَأتْهُ بأمْرٍ غَيرِ مُحْتَسَبِ
وَمَا قَضَى أحَدٌ مِنْهَا لُبَانَتَهُ وَلا انْتَهَى أرَبٌ إلاّ إلى أرَبِ
يستغرق المشهد في دراما تلقائية ليست من صنع البشر عندما أتذكر زوجته التي لم تتجاوز عقدها الثالث وابنته رفيدة التي لم يحتفل معها بعيد ميلادها الأول بعد، وأمه التي عاش بها ولها، ووالد زوجته الذي عده ابنا جاءه على كبر .... وأي ابن ...
سأظل أتسائل .. هل كان سيفرح برابطة العنق التي اشتريتها له من أبوظبي لأهديها له بعد عودتي، لقد كان سيحب لونها الأحمر المتوهج ... هكذا كانت طاقته وحماسه، وهكذا كانت عاطفته حمراء متوهجة ... الآن نفس اللون وذات التوهج يشتعل ناراً في نفسي ... يلفح قلبي ... تهتف نفسي قائلة ...
لم يمت ولم ينم ... لكنه استيقظ من حلم الحياة
( صائماً يا صلاح) ... هذه عادتك في كل أسبوع تصوم ما تيسر لك أن تصوم، وهكذا أخذك الموت ... لعلك أفطرت عند من هو خير مني ومن الناس أجمعين ... لعلك أفطرت في الخلد ... لعلك تناولت كأساً من الخمر الآن ... ألم يكن هذا دعاؤك .. أن تشرب من خمر لا يُسكر!. ولعلك الآن حيث لا لغو ولا تأثيم .. بل قيلاً سلاماً سلاماً .. لعلك وجدت السلام الذي دوماً بحثت عنه ، ولعلك الآن توزع ابتسامتك على الخالدين في دار الخلد ... كما كنت توزعها - بلا مقابل- على كل من كان يلقاك في صباح أو مساء
أحبك .. وأشتاق إليك ... وسأحتفظ برابطة العنق التي جلبتها لك ... لعلي ألقاك في حلمي فأعطيها لك، سيشتاق إليك مرضاك، وسيشتاق إليك البسطاء الذين كنت تعالجهم من دون مقابل ... وسيشتاق لك ممشاك في ظلمات الليل إلى صلاة الفجر .. أعرف أنك كنت لا تبدأ يومك إلا به، وسأشتاق لأن أسمع منك كلمة اعتراضك الفكاهية وأنت ترفع يدك كالأطفال وتقول ((أوبحة)) معترضاً على شيئ ما ... مئات المرات سأشتاق إليها ... بل سأشتاق إليها أبد الدهر ... رحمك الله ... أهديك مع هذه الكلمات دموعي التي أبت إلا أنت تشارك حروفي في كتابة رثاءك.. وأي رثاء ... وأي عزاء ... وأنا المعزي والمعزى والعزاء ...
فإن لم نلتقي في الأرض يوماً ... وفرق بيننا كأسُ المنونِ
فموعدنا غداً في دار خلدٍ ... بها يحيا الحنونُ مع الحنوِنِ
مع أن جثمانك الطاهر شيع في منتصف الليل إلا أن ثلاثة آلاف حضروا جنازتك، يرثونك بدموع صادقة سيفتقد أصحابها ابتسامتك كل صباح.
إلى اللقاء ياصديقي الغائب الحاضر ... وأتمنى أن تذكرني عند ربك ... وأتمنى أن تزورني في المنام
" نم في سلام"
أما نحن فسننتظر يوماً نستيقظ فيه من حلم الحياة............،
قُبلاتي .. (السقا) ... كما كنت تناديني.
توفي صديقي الشاعر الدكتور محمد صلاح 32 سنة في حادث أليم أمس، أشعاره لم يطلع عليها إلا بعض القربين منه، ربما سأتمكن من نشر بعض أعماله إذا سمحت أسرته بذلك.