الخميس ٨ تشرين الأول (أكتوبر) ٢٠٢٠
بقلم وفاء إبريوش

رواية «حكايا ديار» لنداء الطّوري

"شخوص الرواية لا تتعدّى أعمارهم الثانية عشرة". يطالعك هذا التنويه بداية الرواية، رغم ذلك تجاوزت الأحداث طبقات الوطن الواحد، همومه و أفراحه القليلة، ثمّ عرّج بك على الجراحات دون قطب أو معقّمات منبعثة من فضاءات الأجساد و الأرواح.

"حكايا ديار" العنوان خارطة من النّرجس إلى ربيع الـتأويل، فالحكاية: ما يُحكى و يُقصّ، وقعَ أو تُخيّل، و هي نكرة عُرّفت بالتخصيص إلى ديار و مفردها دار: المحلّ يجمع البناء و السّاحة"، تبدو هنا مجموعة متداخلة من القصص لمكان حميميّ ينطلق من مركز الأرض و الأكوان "الديار"، و تُفاجئ بلطف حين تقرأ و ترى أنّ ديار شخصية رحّالة في ذاتها و باطن أبطالها و قضايا الوطن التي لا تنسلخ عن مواطنيه.

تتراقص الأحداث كمذكّرات خاصة بالراوية ديار، بخطوات رشيقة تنتقل بين ماضيين و حاضر، تتناول فيها المسافة الزمنية الأولى ممثلة بذكريات والدها و الخذلان الذي لمسه بالاشتراك مع الجيش البريطاني و عدم الجدوى فيه لتحرير فلسطين، إضافة إلى صدمته بعد هروبه باسشهاد صديقه من خلال تفجير قاربهم، يتبعه الاسترسال بوصف اضطراب ما بعد الصدمة الذي اجتاحه بفزعه من كلّ صوت عالٍ، إضافة إلى زمن طفولة ديار و تلك الحاجة العنيفة لأمها المقعدة و الراحلة فيما بعد في مرحلة مبكرة من عمرها، إلى حاضرها المتفاوت بين قصص متعددة، فنراها تارة تدرس كينونة الألم و السعادة و التضحية في الطبيعة و الشخصيات، من شجرة الكينيا التي ماتت و هي تحمل الأرجوحة، إلى بيع ذهب والدتها، أخرى تتناول قضايا تربوية في السلك التعليمي و السياق الاجتماعي لنموّ شخصياتها و لنموّها الذّاتي دون مواربة أو تجميل، فهي ترى في الأطفال مخلوقات عشوائية و مزعجة و قد تنظر لبعض مواقفهم بازدراء و قرف، و هي تتحوّل كثيرا إلى طفلة حين تسأل صديقتها رجاء: "لماذا تحبينني يا رجاء؟" ص15 و حين بادرها طفل اسمه أنصار: "أنت جميلة" لتسأله: "ما الجميل فيّ يا أنصار؟" ص47،" يا نجاح كيف تعرفين أن أمّك تحبّك؟"ص88. إنّ هذه الاستفسارات على بساطتها تعود مهمّة إجابتها إلى الأُمهات! و حين تُفتقد الإجابات من المصدر الحقيقي تتجّه فلسفة الأسئلة إلى الوجود، عندها تُولد أفكار لم يسبق للكون أن شهدها، فالفلسفة أسئلة طفولة تأخّرت الأمهات عن إجابتها كثيرا، لتتوالد بعدها قراءة المتناقضات في غير محلّ، و الترنّح بين يُسر الحياة و صعوبتها و غناها و فقرها، كان التناقض نوع من الانسجام القليل الخفي و الاختلاف الكبير انسجام لشيء جديد، فانكسار الذرّات انفجار وانقسام الخليّة جنين.. و هو ما عبرت عنه بقولها " المختلفون جميلون و أنا يرهقني التناغم" ص24.

هموم ديار بين اليتم الفعلي و اليتم الموشّح بعلامة الاستفهام لغياب الوالد نحو المجهول، وتسديد ضرائب الطفولة المدينة بالأمان إلى مطاردة الفقر و لقمة العيش، همّ الوطن السياسي و انقلاب الأدوار المسرحية بين الوطني و الخائن،و رأس المال و المصلحة الوطنية، بين شباب الثورة و شيخوختها بين القبض باليورو أو الشاقل! بين العبودية و التدجين و الانعتاق المقيّد، صراع المخيّم و المدينة، و القتال في قاعات الفنادق أو على جبهة الثورة أو استثمار الإنسان مقابل ثقافة القطيع! مواجهة بين الاستشهاد و الانتحار و الحياة المنشقّة للأسرى و ذويهم، بين تخبّط الالتزامات و ضيق ذات اليد و الروح، بين الاضطّرابات النفسيّة التي يخلّفها الاحتلال كأثر الغازات السامة، بين اختفاء شكلها و رائحتها و ظهور أعراضها بلون فاقع على الشخصية الفلسطينية.
همّ ديار الأكبر كان الطفولة من خلال معايشتها لحياة طلّابها، و معالجة المواقف المختلفة ثمّ الإجابة على أسئلة ترى في المعلّم مقدسًا يردّ على سؤلاتنا الوجودية و الماورائيّة، السؤال الذي كان يطرح نفسه بإلحاح لماذا تواصل التلاميذ بقصاصات الورق مع ديار؟ هل هي تربية قامت على تجريم المشاعر و الخوف و الخجل منها، هل الكتمان متلازمة تأتي مع الاحتلال أو المجتمعات العربية بشكل عام! لماذا كان الأطفال بحاجة إلى وسيلة اتصال غير مباشرة؟

بذات الوقت حوارهم كان صادما! بسؤال أحدهم: "وين بحطو أولادهم لما يجو يقتلونا؟" ص79 أو تفكير طفل من خلال أحلامه بالحور العين و تربية شكّلته على مقاس أهداف رفاه الغير! أو السؤال الصّاعق لطفلة: "هل يغفر الله لي؟" في حين على الأطفال أن يسألوا كم يحبنا الله و كم نحن آمنون في ظلّه.. إضافة لصدمة الطفولة بانتهاك حياة حيوان أمامهم عوضا عن انتهاك حياتهم بعمالة مبكرة، التعنيف الجسدي و ما يترتب عليه من تأثير على شخصية الطفل.. تعلمت الطفلة و المعلمة ديار من خلال تلامذتها دروسا كثيرة و أحيانا لم تُوفّق حين نادت سليم و نعتته بالطالب الضخم ص79، كنوع من الغرابة عن جيله، و قولها لتلامذتها كُلّنا شهداء ص80 فعليا نحن أحرار و شجعان لمواجهة القدر بدلا من بثّ روح القنوط و تعزيز فكرة الموت على حساب الحياة دون قصد.

لا أعلم كيف استطاعت نداء الطوري جمع كل هذه المفارقات ب 225! أعتب قليلا على نحو الرواية الذي آلم مفاصلها بشدّة، و بعض التفاصيل الزائدة دون داع جوهريّ، إضافة إلى ذكرها شجرة الأرز التي رسم والدها بغصنها الميّت على التراب و هي فعليا ليست من أشجار فلسطين.

استمتعت هنا و لمست الدفء و بكيت.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى