رَحَلَ جمـال طـربيـه وترجّـَلَ فارسٌ آخـَر
نشرت جريدة " الاتحـــاد " الحيفاوية في 20.02.1976 ما يلي:
" قالَ الشـِّعرُ بشقـّيهِ: الشعبي والفصيح كلمتـَه ُ في "مؤتمر الدفاع عن الأرض" الذي انعقد في سخنين يوم السبت الماضي 14.02.1976، وقد ألقى الشاعران عوني سبيت وشفيق حبيب قصيدتين ألهبتا حماسة الألوف المحتشدة "..
ويسرّنا أن ننشر القصيدتين على صفحات " الاتحـــاد ".....
* عندما انهيتُ إلقاءَ قصيدتي، استقبلني شابٌ بهيّ الطلعة يفيض حيوية ً طالبا نسخة عن القصيدة، يومها لم أتشرف سابقا بمعرفة من أصبح صديقا حميما راوية ً هاويا للشعر والأدب، ناهيك عن السياسة التي شغلتنا على مدى أربع وعشرين ساعة يوميا..
* أبو الأدهم – جمال طربيه رحل عنا في الخامس من تموز 2012 دون سابق إنذار حيث كان يتمتع بصحة تامـّة ولم أسمعهُ يشكو من أية وعكة صحية.. فنزلتْ علينا مفاجأة رحيله كالصاعقة... وهنا بدأ تسلسلُ الذكريات..
* كان أبو الأدهم كلما جاء الناصرة يفاجئني بزيارته التي كنتُ أرغب بها – في مكاتب عملي - حيث كان راحلنا مُلمـّا بكل صغيرة وكبيرة في وسطنا العربي فيسرد لي بأسلوبه الشيِّق العذب كثيرا من الحوادث والأحاديث.. حتى جاء يومٌ قمتُ بتعريفه على مديرنا الراحل الكريم توفيق أحمد عفيفي ( أبو أحمد ) وهو شخصية اجتماعية قلّ مثيلها في مجتمعنا العربي، لسداد رأيه ونظرته الثاقبة حيث كان يقيِّمُ الناس بمنظار حادّ جادّ..
* وكثيرا ما حدث أن زارنا أبو الأدهم بالناصرة، خاصة عندما كان رئيسا ً لمجلس سخنين المحلي وناشطا ً في لجان الدفاع عن الأرض، فكان يفاجئ مديرَنا وصاحبَ عملنا أبا أحمد في المكتب برفقة أحبّ شخصية إلى نفسه وقلبه ألا وهو العـَلـَم: توفيق زيـّـــاد.
* كانت كلما ادلهمّت الأمور في مدينة الناصرة كان أبو الأمين يستشير أبا أحمد خاصة الأمورَ الاجتماعية وما أكثرها وأعقدها وأمرّهـا في مدينة الناصرة..
* ورغم مرور السنين الطوال، ما زالت ضحكات وأصوات التوأم الروحيّ أبي أحمد- توفيق عفيفي - وأبي الأمين – توفيق زيـّاد - ترنُّ في أذنيّ إذ لم يفصل بيني وبينهما في المكتب سوى حاجز زجاجي داخلي.
* وللحقيقة والتاريخ، لقد أعجب أبو أحمد بأسلوب حديث راحلنا جمال طربيه فقال لي ذات يوم بعد أن تركـَنا جمال:
" هذا الرجل أي - جمال - خـُلِقَ ليكون دبلوماسيا، فعنده كل مقومات السياسيّ البارع".
* وتوالت السنون، وعندما فـُرضت عليّ الإقامة الجبرية عام 1990 عقب إصدار ديواني " العودة ُ إلى الآتي " ومصادرة وحرق جميع مؤلفاتي من المكتبات والمطبعة، جاءني جمال مع وفد ٍ فاضل من أهالي سخنين ليشدّ على يديَّ، كما أمّت بيتي عشراتُ الوفود من شمال البلاد إلى جنوبها مؤازرين.
* كانت ذكرى " يوم الأرض " ذكرى دامية حيث سقط شهداءُ ستة في سخنين وعرابه وعين شمس، دفاعا عن الأرض والكرامة.. وكنتُ ألقي قصيدة في كل مناسبة بهذه الذكرى الخالدة، ذات يوم وفي إحدى مناسبات يوم الأرض ألقى راحلنا الكريم جمال طربيه قصيدتي التي نشرتها " الاتحــاد " قبل انتفاضة يوم الآرض الأولى في الثلاثين من آذار 1976 كما أسلفنا وكان يحفظها عن ظهر قلب، ففاجأتني هذه الذاكرة الفذه وهذا الذكاء المـُتـَّقِد وهذا الإلقاء الحماسي الحارّ.. حيث أن القصيدة كانت طويلة جدا.. فشددتُ على يديه مازحا ً بعد نزوله عن المنصّة قائلا: " أنت راويتي من الآن يا أخي ! وإلقاؤك جميل جدا مع هذه الحماسة المعهودة ُ فيك.... آمل أن تكرِّرَهــا في كل مناسبة من مناسبات يوم الآرض"
* لراحلنا الكريم ابنٌ ذو صوتٍ جميلٍ قويّ جدا، كان أحد اللامعين في نيو - ستار.. هو المطرب سعيد طربيه حيث قام - محليا ً وفي الخارج - بغناء مقاطع من نفس القصيدة التي نشرتها " الاتحـــاد" ، وقد استمعتُ إليها على يوتيوب.... فأثار إعجابي هذا الفنان كإعجابي بوالده سابقــــا ً.. فالثمرة لم تقع بعيدا ً عن الأصل.
* قبل أشهر معدودات، التقيتُ راحلنا في كرميئيل فصاح: " أين أنت يا رجل ؟؟ " حيث لم نلتق ِ منذ مدة، حيث طلب إليّ نظمَ قصيدة في العاهل المغربي، فقلتُ له: ولو يا أبا أدهم ! أنت أدرى الناس بموقفي من الملوك والزعماء العرب، لكني نسيتُ أن أسألهُ: أقصيدة ُ مدح ٍ أم هجــاء ؟؟؟ " ابتسم بدبلوماسيته المعهودة.. وتداولنا بأمور كثيرة ووعدني بلقاء مع ابنه المطرب سعيد طربيه... ولم يتمّ اللقاء.... قاتل الله الموت وهو حق..
*لجمال طربيه، الذي سبقنا إلى جنان الخلد، أياد ٍ بيضاء ونشاطات اجتماعية خيِّرة وذكرياتٌ طيباتٌ في قلوبنا وقلوب الشرفاء من شعبنا، وسيبقى خالدا خلود تراب هذا الوطن المعمـَّد بدم شهدائـــه الأبرار..
أرثيكَ، أبكيك َ ملءَ القلب ِ والوطن ِ.... يا شعلة َ الخير ِ في الأحـزان ِ والفِتـَن ِ
نمْ في ثرى وطن ٍ أحببْتـَهُ، فغدَتْ .... أرجــاؤهُ تكتسي ليـــلا ً مِــنَ الشـَّجَـن ِ
إنـّـــا عرفناكَ نجمـا ً في مجامِعِنـــا.... مـا غـابَ نورُكَ رغـمَ المـوت ِ والكفـَـن ِ
هذا جمالٌ، سيبقى خالدا ً شِـيَــمـــا ً.... نِعـْمَ المنـازل ُأضحـَـتْ ذروة َ القِـنـَـــن ِ