الخميس ١ كانون الأول (ديسمبر) ٢٠٠٥
بقلم محمد نجيب عبد الله

زوجة الـفـنـّّــان

تأملت أركان غرفتها القديمة ... أبواها احتفظا بها تماماً كما تركتها ... لم يزد عليها غير بضع صور تضمها مع زوجها صفت في أطرها الأنيقة هنا و هناك ... اكتنفها هدوء و شجن ... هل تغفر له ؟! ... ذلك يبدو أبعد من المستحيل ... جلست إلى مكتبها ... حملقت في صورتهما الموضوعة هناك ... و ترنحت دموع على مقلتيها تشي بالألم العميق ... نظرت إليه بعتاب و همست:
  لماذا ؟

لا تدري من أين انبعث صوته الخافت يشاركها حواراً وهمياً ... أمن بين ضلوع الإطار الخشبي ... أم بين ضلوعها هي ... كان يجيبها بتوسل:
  لست أدري ... حتى الآن لا أعلم كيف أو حتى لماذا ارتكبت في حق معبودتي هذه المعصية ...

تنهدت ... صوته المتوسل يضعفها كالعادة ... لكن كبرياءها الجريح أعطاها قسوة لم تعتدها نحوه ... تمتمت بصرامة:
  لم يعد ذلك يهم الآن !!

ارتفع صوته كالمطعون:
  هل تتركيني ؟ ... أعترف بأني ارتكبت خطيئة ً غير أني أضن بك أن تعاقبيني عليها بالقتل ...

لاحت على شفتيها شبه ابتسامة ساخرة و هي تقول بتهكم مرير:
  كان يطيب لي فيما مضى الاعتقاد بأنك دوني تموت ... أما الآن فإني أعرف تماماً أنك ستستمر بعدي ...

خيل إليها أن غصّة حادة اعترضت حلقه قبل أن يجيب بصوت متحشرج:
  لا تغمطي نفسك حقها ... و لا تقللي من شأن عشقي لكِ ...

بقدر ما مزقها صوته المُعذب ... بقدر ما أشبع جزءاً شريراً في أعماقها يستطيب آلامه في هذه اللحظة ... أمعنت في إيذائه قائلة:
  نعم ... نعم ... نفس العشق الذي دفعك لخيانتي ...

أفلتت من فمه آهة ألم اخترقتها ... و قال:
  ألم يكفيك أني استغفـرت عند قدميك ... و قدمت على أعتابـك آلاف الصلوات ...

صمتت ... تلك الصلوات التي كادت في لحظة تنسيها كل شيء ... تلك الصلوات التي فرّت منها و منه إلى غرفتها القديمة كيلا تضعف نحوه ... أغلقت الأبواب خلفها دونه ... لكنه يأتيها الآن من حيث لا تدري ... أدارت عينيها عن صورته ... لكنها اصطدمت بصورة أخرى ... و تسلل صوته من جديد يذيب جدار قسوتها:
  لست أدري ما الذي كنت أحاول اثباته ... ربما لأنني أدرك جيداً أنك خلف كل معزوفة أخترعها ... خلف كل حرف موسيقي أبتدعه ... خلف كل نغمة أدقها على أصابع البيانو ... لأنني أدرك أني أحتاج إليك تماماً كي أستمر ... ليس كفنان فحسب ... إنما كإنسان أيضاً ... أورثني هذا للحظةٍ رغبة في التمرّد ... ربما أردت أن أثبت لنفسي أنك أنثى ككل النساء ... فلم أجد غير حماقتي ... و تلك المرأة لم تكن غير تأكيد لك ...

صرخت به مقاطعة و قد أحست بالوهن يعتريها:
  كفى ... بالله لا تضع مبرّرات ملائكية لما فعلت ...

ترنح صوته برنّات الألم و هو يكمل متجاهلاً اعتراضها:
  تعلمين كم أحتاج إليك ... كيف لا أستطيع أن أقدّم شيئاً على المسرح إلا حينما يطل وجهك من بين الكواليس ... و أرى عينيك تؤازرني ... كيف لا أستطيع إبداعاً إلا حينما أستقيهمن ملامحك ... كيف أقتبس أحاديث قلبك السرية لأصنع منها معزوفة ... وحدي أعرف كيف تؤلفين أنت الموسيقى و أعزفها أنا مدّعياً اختراعها ... و حين ينتابني اليأس ... تصبحين أنت كل ما يربطني بالحياة ... و الخيط الوحيد الذي أتشبث به قبل أن يبتلعني الجنون ... أحتاجك ... و لست أخجل الآن من ذلك ... و لست أفكر بالثورة من جديد ... لأن السهم الذي سدّدته لقدسيتك ... اخترقني أنا ... و ما تسمينه أنت خيانة فحسب ... أحسه في أعماقي أكبر الكبائر ...

أدارت وجهها عنه تهرب من عينيه الدامعتين ... و غمغمت:
  لا أستطيع أن أغفر لك ...

تمتم بيأس:
  لست أسألك المغفرة ...

بحيرة سألته:
  ماذا تريد إذن ؟!

ركع عند قدميها ... و احتضن يديها في راحتيه مجيباً:
  لست أطلب غير أن تمنحيني الحب الذي لا يزال ينبض به قلبك نحوي ...

حاولت أن تسحب يديها ... أن تهرب منه و من ضعفها ... و من مشاعرها التي تتآمر معه عليها و قالت:
  لا أستطيع ... لن أحتمل طعنة أخرى كتلك ...

تشبّث بها في إصرار محبطاً محاولات فرارها ... و سالت عبرات ساخنة على وجنتيه ... و غمغم:
  أقسم بكل لحظة عشق عشناها معاً ... بكل دمعة طاهرة في عينيك ... ألا أسمح لنفسي ثانية بالدنو من حدود قدسيتك ... أعرف كم أنا أناني معك منذ البداية ... و سأبقى كذلك حتى الموت ... لأن الرضيع لا يحب أمه إلا بكل أنانية ... لست أسألك إلا أن ترحميني من عقوبة الإعدام الصارمة ... ماذا أساوي بعدك ؟! ... ألم تسألي نفسك هذا السؤال ؟! ...

أغرق وجهه في راحتيها ...
و ترك أنفاسه المتهالكة تركع مستغفرة من جديد ...
أدركت لحظتها ... أنها لا تملك حياله إلا أن تحبه – برغم كل شيء – حتى النهاية ... و أن ذلك الفنان الطفل في أعماقه مسؤليتها منذ عشقته ...
هي وحدها تستطيع الحفاظ على طفولته ...
لأنها تعرف أن لحظة نضوجه ... هي لحظة موته ...

تلمست ملامحه بأناملها برفق ...
كفكفت عَبَراته الغالية ...
و حين ابتسمت ...
أشرقت عيناه ... ببريق الحياة ....


مشاركة منتدى

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى