الاثنين ١٠ شباط (فبراير) ٢٠٢٥
بقلم حسن عبادي

زيارة عن زيارة بتفرِق «١١»

قمت في السنوات الأخيرة بمئات الزيارات لأسرى وأسيرات في سجون الاحتلال، وكان لكلّ زيارة مذاق آخر.

لكن اليوم قمت بزيارة غير شكل.

حكايتي مع هيثم جمال علي جابر شرحها يطول؛ التقيته ما قبل، وما بعد، وما بعد بعد.

التقيته في سجون الاحتلال قبل السابع من أكتوبر عدّة مرات، وكانت الابتسامة تلازمه كلّ الوقت، وكنّا نمضي ساعات نتناول قراءاته الأخيرة وكتاباته حولها، وتناولنا قضيّة التطبيع، وخاصّة الثقافي منه، فالتطبيع جريمة، وتحدّثنا عن عقليّة ما قبل الانتفاضة الثانية ونقاوتها، أيام الزمن الجميل، وآخر مستجدّات كتاباته وإصداراته، وعاتبني مثنى وثلاث ورباع عن انقطاع التواصل مع فراس وطلب إيصال تهانيه وتبريكاته بزواج ابنته ميسم.

والتقيته بعد السابع من أكتوبر في سجن النقب الصحراوي؛ وصدمت حين وجدته هيكلاً عظمياً متحرّكاً؛ صاحبته لحية طويلة شعثاء، نازل عشرات الكيلوات، ليخبرني أنّه صار يرتعب من صوت المفاتيح، وأخبرني بحسرة: "أخذوا كل شي، اغتالوا ديوان الشعر الأخير"، وحين افترقنا قال لي فجأة "شايف أستاذ، صرت هيكل عظمي متحرّك".

وحين دوّنت على صفحتي انطباعاتي حول اللقاء، قامت قيامتي، واتهمت بأنّني أحبط أهالي الأسرى، ولكن سرعان ما بدأت حملة تصوير الأسير ما قبل وما بعد.

التقيته ثانية بعد السابع من أكتوبر؛ لم أتعرّف عليه بدايةً، أشعث الشعر وطويله جداً، مع جدّولة وشبَرَة، هيكل عظمي، وصُدمت حين أزال الكمّامة وتعرّفت عليه، ذُهلت، وبعد أن تمالكت أعصابي قلت له بعفويّة، مع غصّة بالحلق، "والله لو بعرف هيك وضعك ما جيت زُرتَك". اعتدته في زياراتي السابقة مهندماً، متكَليِن ومزبِّط شبابه، وحين استفسرت عن حالته أجابني: "آخر مرة حلقت يوم 11 أكتوبر، نزلت عشرات الكيلوات، بس تشافيت من المرض بعد العمليّة، كلّنا كنّا مصابين بالإسكابيوس، والله الوضع هدّ حيلي"، وحين افترقنا قال لي فجأة "إطمّن، قرّبت الحلاقة... برّا".

وها هو يتحرّر بصفقة الطوفان.

رافقني الأصدقاء فراس حج محمد ونبهان غانم لزيارته بين أهله في بيتهم في قرية حارس؛ دون إذن من سجان ودون رقيب، تعانقنا، وتباوسنا، مطوّلاً، والمرة دون زجاج مقيت وحواجز، وعاتبني أنّي جئت دون رِفقة زوجتي سميرة.

أخبرت هيثم في إحدى زياراتي له عبر القضبان أنّ الصديق صلاح أبو لاوي قد سلّمني هديّة له، قلم باركر، من وحي ما كتبه هيثم حين شارك في كتاب "الكتابة على ضوء شمعة" فانفعل جداً، وها أنا أوصله الأمانة، فدمعت عيناه، بل كان أكثر انفعالاً وامتناناً، وخطّ إهداءً لصلاح بذاك القلم على ديوانه الأخير "زفرات في الحب والحرب 3".

للمرّة الأولى منذ سنوات ألتقي والدته مبتسمة بأريحيّة، جبل عن صدرها وانزاح، ووالده على فراش المرض وكم كان فرحاً بلقاء هيثمه، وكذلك الأمر مع إخوته وأولادهم، وأخته التي قدمت خصيصاً من عمان.

كم كان سعيداً حين التقى بفراس وأهداه بضعاً من إصداراته، وكذلك نبهان ونسخة من الطبعة الثانية لكتابه "الثقافة الاستعمارية والألم البشري"، وزوّدته بعشرات الكتب تعويضاً عن تلك التي صادرها وأتلفها السجّان لتعود البسمة إلى محياه بعد طول غياب.

حدّثنا هثيم عن أوضاع الحركة الأسيرة ما بعد الطوفان، التضييقات والتنكيل، وخبر الترويحة، وقصّ الشعر وحرقته على زملاء الزنزانة والأسر الذين تركهم خلفه وبقوا هناك.

أسمعنا بعضاً من قصيدته لنوعام، ومصادرتها من قبل السجّان الذي هدّده بمصادرة تفكيره وخياله، وعزله بسببها، وعيناه تبرقان أملاً رغم الألم والمعاناة.

عبّر لي عن سعادته بالتواصل مع كتّاب من شتّى أرجاء العالم العربي، ودفء احتضانهم له، وكلّ رسالة تنعشه وتحييه.

كلّه عناد وإصرار ليكمل مشروعه الأدبي.

لم أعتد زيارة عائلات الأسرى والأسيرات، ولم أعتد المشاركة بمهرجانات "التحرّر" والتقاط الصور برفقة من تحرّر، ولكن هذا اللقاء مدّني بالأمل، رغم الغصّة والألم، وحثّني على إصراري لمتابعة مشروعي التواصلي مع الأسرى حتّى تصفير كافّة السجون.

آمل بحريّة قريبة لجميع أسرى الحريّة.

اعذرني غسّان؛ والله زيارة عن زيارة بتفرق.

السبت 08.02.2025 (قرية حارس/ حيفا)


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء او المديرات.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى