الأربعاء ١٥ كانون الثاني (يناير) ٢٠٢٥
بقلم حسن عبادي

سباحة مُغايرة

التقيت بصديقي الناشر الحيفاوي صالح عباسي وناولني نسخة من المجموعة القصصية "ولع السباحة في عين الأسد" للكاتب المغربي حسن ابراهيمي ناصحاً بقراءتها (113 صفحة؛ تصميم: شربل إلياس، إصدار: مكتبة كلّ شيء الحيفاويّة، صدر له "جراح وطن"، "كسرة خبز"، "القضية الفلسطينية في نماذج أدبية مختارة لأدباء فلسطين-مسار الألم والأمل"، وغيرها)، وقرأتها ثانية ضمن نشاط ندوة اليوم السابع المقدسيّة.

تتكوّن المجموعة القصصيّة من ست عشرة قصّة، وثلاث مقدّمات!

جاء عنوان المجموعة صادماً وجريئاً، مغرياً ومحفّزاً وتصميم غلافه جميل ولافت للسمع والنظر والقراءة؛
وحين تعمّقت به بقراءتي الثانية إثر وحدة ساحات المقاومة أخذني إلى عالم آخر، وجدته عنواناً محفّزاً لتعلّم السباحة على أصولها، والتولّع بها وعِشقها، كي نتمكّن من السباحة في عين الأسد، وتساءلت إذا قصد الكاتب قاعدة عين الأسد العراقيّة؟ (قاعدة القادسية سابقاً، أكبر القواعد الجويّة العراقية، تقع في ناحية البغدادي، بمحافظة الأنبار قرب نهر الفرات، وباتت ثكنة عسكريّة أمريكيّة بها ملاجئ محصنة للطائرات ومسابح أولمبية مفتوحة ومغلقة، مدارس وملاهي ودور السينما، ضاحية أمريكية معاصرة في قلب العالم العربي، وذاع صيتها حين زارها مفاجأةً دونالد ترامب يوم 26 كانون الأول/ ديسمبر 2018 للاحتفال مع الجنود الأمريكان بعيد الميلاد) ونجد قواعد أجنبيّة غربيّة دخيلة في شتّى البلدان العربيّة لخدمة مصالح المستعمر الأبيض، فوجدت العنوان نداءً لكلّ أحرار العرب لتعلم السباحة والنهوض ضدّ "الأسد" في عقر دارنا.
وجاء في الإهداء: "إلى وشم أينع في سيوف تخلت عنها المعركة… صدى أرواح غربان صعقتها حبات زلزال... ماء ارتوى بسواد الليل، ولما تطهّر الموت بدأ يظهر ويختفي في تجاعيد إبط عيده فقد البوصلة."؛ إهداء جميل توعويّ ونهضويّ وتحفيزيّ وثوريّ على كلّ مألوف تعوّدنا عليه.

وفجأة تُصدَم حين ترتطم بالمقدّمات.

كان لي نقاش في حينه مع الشاعر المرحوم حنا أبو حنّا، وهو صديق أكنّ له الاحترام، وتتلمذت على يده، وكتب في حينه مقدّمة، أو تصدير كما كان يحلو له تجنيسها، وقلت له ذات ندوة أنّه لا يجوز أن يستحوذ تصديره أكثر من نصف مساحة الكتاب، ولم يترك للكاتب والقارئ شيئاً، فغضب منّي لفترة وتصالحنا قُبيل وفاته، رحمه الله، وكذلك الأمر مع كاتب، أطال الله في عمره، كتب مقدّمة لكتاب أشرفت عليه، لأسير، تشمل عشرات الصفحات فاعترضت وغضب منّي وآمل أن نتصالح بمعرض الكتاب القادم في عمان، وحين تصفحتّ المجموعة القصصية وجدت الكاتب قد قرّر الاعتماد على التقديم الغَيري كعتبة نصيّة فاستعان بكلٍّ من د. علي الجريري، الشاعر والكاتب العراقي مازن جميل المناف، والناقدة آمنة برضاوي لكتابة مقدّمات توجيهيّة للقارئ المتلقّي، فيها من الإطناب، مشيرةً إلى مقوّمات الكتاب ومقتبسة منه الكثير الكثير ومعتديَةُ على النص، أخذت مساحة أكثر من 20% من حجم المجموعة وهو بغنى عن ذلك، فتساءلتُ: هل هي وسيلة ترويجيّة للكاتب وكتابِه؟ وهو طبعاً، بغنى عن ذلك، وقراءتها ترشي القارئ العاديّ وتوجّهه إلى ما يريدون له أن يراه. حبّذا لو جاءت في نهاية الكتاب و/أو في قراءة أو مقالة نقديّة له.

نعم؛ قطعت على نفسي عهداً ألّا أقرأ مقدّمة غيريّة لكتاب قبل الانتهاء من قراءته.

تناولت المجموعة القصصيّة مواضيع ساخنة باتت، وللأسف، علامة جامعة لكلّ البلدان العربيّة؛ الاغتراب داخل الوطن وحلم الهجرة والغربة عبر البحار، الهيمنة الغربيّة والاستعمار والاحتلال على أنواعه من قبل الغرباء حيث بتنا نراهم بجوارنا ينعمون بخيراتنا ويزيدونا كبتاً وفقراً، صاروا سادة بلادنا وحوّلونا لعبيد لهم ولمصالحهم، محاولة "حماة الأرض" مواجهتهم رغم التجويع والإفقار والكبت، دور المنافقين والمرائين والمنتفعين والعملاء الذين بيننا، ويبقى الأمل في دور المرأة العربيّة التي تقف بالمرصاد.

تصدّرت المجوعة قصّة بعنوان "حماة الأرض" (ص 25)؛ تحمل رسالة واضحة المعالم "ينبغي الدفاع عن هذه الأرض كما تدافع الحيوانات عن صغارها فى الغابة أمام الأُسْد المفترسة"، حقاً، ما بحرس الأرض إلّا عجولها. ينتقد بشدّة موقف رجال الدين، موقف المتفرّج، "متحت المعركة من الشباب عزائمهم، استشهد البعض منهم، فيما يزال الفقيه يتلو آيات من الذكر الحكيم"، بينما يدافع المسحوقون عن الوطن ويقاومون المحتل الغريب بكلّ ما أوتوا من قوّة وعزيمة، "خرج يتفقد مصدر الجلبة، فأخبر بكون أجنبي جاء من قاعدة عسكرية بالمدينة المجاورة للقرية، بسط نفوذه على أرض لهم يستعملونها لرعي غريق اصطفت الحماقة بجبينه"، أمّا المتعاونون مع المحتل، فينعتهم بغير المستفيقين، "فيبدو أنهم شكلوا حلقة رماد أخذه الأجنبي حلياً، وأساور يصدرهما إلى جزيرة في إطار تجارة تذر عليه أرباحا طائلة"، وبئس المصير.

وجدت في قصّة "امرأة تنسج العزة" (ص 31) إشادة بدور المرأة التي تغنّي للوطن و"تعودت أن تلقي بأحزانها فوق المغزل، وتخرج لتأخذ نفسا بعد منتصف كل ليلة، أو بعدها بقليل... تزيل الإزار المثخن بسنين عجاف عن العنف المندلع بثغر البندقيّة".

أدهشني وصفه بكاميرا خفيّة مراسيم الدفن والعزاء في قصّة "تجرّع لحظة الموت" (ص 37) والفقدان "لفّت أمّي في الكفن، وبعد دفنها ودّعتها، وعدت أتلقّى التعازي المصاحبة لحرقة لحظات الموت".

وفي قصة "ضرّ أصاب الفائقين"(ص 41)، يصوّر الكاتب مطاردة الأحرار، وكأنّي به يتحدّث عن أحد مطاردي فلسطين، والتعذيب الذي يلحق به والنساء يزغردن في كلّ مكان، وعلى سطح المعركة يرقصن.

التفاؤل والأمل بالحريّة سيّد الموقف ويواكب الكثير من قصص المجموعة، كما نشاهد في قصة "علق بجوف القطار"(ص 47) (سقطت سهواً من فهرست المجموعة):

"أحلامنا علبت في أوان من زجاج
بيوتنا تحترق عربونا لقدوم الفجر
خبزنا يختنق في كل لحظة ترسم وشماً بخبر الزوال
شمسنا، حين تصعد سيزول الظلام".

يتناول بمشرطه آفة النفاق المستشرية في شرقنا، وفي قصّته "عسس بذاكرتي" (ص 55) ويقول: "أفضل أحياناً أن أصنف في خانة الحيوانات، لأمزق الأفق، الذي يفترسني في غابة وجدت صعوبة في الخروج منها... أتدرون رغيفي يحترق، تتداوله الإشاعة كل يوم، تنسج حوله ألف حكاية، تلقيها بكل الطرقات، لتنعم الإبادة بعشق تقاسيم نعش، يتمايل بأسراري لحظة، وأغفو على لحظة صدق في زمان النفاق". والله صعبة!

وجدت الكاتب نصيراً للمرأة في الكثير من قصص المجموعة، وموقفه بنيوياً وبعيداً عن الشعاراتيّة النسويّة الممجوجة، وفي قصة "جرح طفرة" (ص 73) قاومت هزيمتها وطهتها بحنكة، وعندما أثنى ابنها مطر على العشاء أجابته بعفويّة مطلقة: "سبب ذلك راجع إلى هجرتي من زاوية بالغرفة إلى معمعان للغليان بغرفة أخرى"، وتبقى ماسكة على الجمر رغم الصعاب، فالمقاومة واصلت الفرار والانتقال من ركن إلى ركن، والأطفال ما زالوا يلعبون، "والأمّهات فضلن غزل العزف على أوتار السجود، والآباء فرّوا إلى غابة، وبقوا للمطر ساجدين، وكذلك الأمر في قصة "مراؤون في البحر" (ص 79)؛ "حين تستيقظ شهوة الملائكة، تدق أبواب العتّالين، تختبر أجراس البحر، وحين تقترب المرأة من منامها يفرّ البحر، يلتهم الظلام آخره، تتنفّس البندقية، تسلك طريقاً لتحرّر البحر من سلطة بلهاء، وحكايات علقها السناء بجبهة امرأة أخذت شكل العنكبوت".

تناول الكاتب، كغيره من عشرات الكتّاب العرب، الحلم العربي، ألا وهو حلم هجران البلد والرحيل إلى الغرب، حلم بات يراود كلّ شاب عربي أينما كان، فتناوله بسخرية في قصّة "أفق رهيب" (ص. 87) فيقول بحسرة: "لقد تعود الطفل العمل في السوق الأسبوعي للخضر، وفي يوم من الأيام قرّر الهجرة رفقة صديقه إلى أوربا بعد جمع مبلغ محترم من المال، مكّنه من السفر بعد البحث عن ترتيباته"... ليتزوج أجنبية، ليكمل دينه/ غربته/ هجرته.

تناول الكاتب الفقر المدقع وضياع الأفق وبنات الهوى ونساء المراقص "والأساور لنساء يقضين الليالي في الرقص، ليقدمن المتعة لشخصيات، فرخت قراراتها المراقص، والحانات في قصّة "قماش على متن الضياء" (ص 97)، فأخذني مجدّدا إلى محمد شكري و"الخبز الحافي"، وإلى شكري المبخوت و"الطلياني".

لجأ الكاتب للرمزيّة والتورية والغموض والتلميح والغرائبية، وباتت أحياناً طلاسم يستصعب فكّ شيفرتها – فتساءلت: هل هو خوف من بُعبُع الرقيب وسياط الحاكم؟

راق لي أسلوب الكاتب حين لجأ للتكثيف والجمل القصيرة بعيداُ عن الاسترسال والإطناب، وبدت لي كبرقيّات، ووصلت ذروتها في قصّة "انتفاضة أعشاب البحر" (ص 93)؛ "صوتها على المقعد يعارك النسيان، فرح أمواج البحر، قملٌ يقود عيوب الزمان، عسر طفق يتساقط من الأغلال، موت بدأ يجّرد حارسها من خطابته، وشم رسمته الأمطار على خيط دخان.

دمية بأسمال جديدة عادت لتوقد ذاكرتها، عسر لحظة، شلل أغلال، إرهاب امرأة تبوح لدميتها برتق بعمامة للزنج.

التهاب ساقي مزلاج رفض الانتصار لفتح أبواب للرعاة، وردة تفوح منها رائحة وردية، أسلاك كهربائية تجهم عويلها، سجين يئن تحت السوط، لحظة عبور البحر أيقظت ربان السفينة، انفجار لم تتوقعه تقاسيم المرآة، ضغط طيلسان يعرّي جبن حبّات رمل".

وأخيراً؛

نعم، دماء الشهداء في كل فجر تبتسم من عليائها،

وباتت "أسمال العبيد تبيض سطراً تناسل المكيدة". يا لها من نهاية تفاؤليّة!

] مشاركتي في ندوة اليوم السابع المقدسية، الخميس 09.01.2025


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء او المديرات.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى