الثلاثاء ١٧ تشرين الأول (أكتوبر) ٢٠٠٦
بقلم خالد سليمان

سجل أنا عربي!

يقال أن معظم أصدقاء العلامة الكبير الراحل "إحسان عباس" وطلابه لم يكونوا يعرفون مسقط رأس الرجل. ومع ذلك، لم يكن لأحدهم أن يتجرأ، أو يفكر ابتداءً، ويبادر إلى سؤاله عن أصله وفصله، خشية ما قد يوحيه مثل ذلك السؤال من نزوعات قطرية أتى عليها حين من الدهر كانت مرفوضة ومستهجنة تماماً لدى الكثيرين من أبناء وطننا العربي. أما اليوم، فلم يعد أحد يتحرج من طرح مثل ذلك السؤال المؤسف لتتبع جذور المرء ومنبته، الأمر الذي يبرز بكل أسف النجاح الكبير الذي أحرزته الدولة القطرية المسخ التي أوجدها الاستعمار وأذنابه في فرض مفاهيمها المقيتة، حتى بين أوساط المثقفين، الذي يفترض فيهم أن يكونوا أكثر خلق الله وعياً بمخاطر التوجهات القطرية وحذراًَ وتحذيراً منها.

درج العبد الفقير إلى الله كاتب هذا المقال على أن يعرّف نفسه في الملتقيات العلمية والثقافية بوصفه "باحثاً عربياً" والسلام، مفترضاً أن مثل هذا التعريف لا يمكن أن يشكل مدعاة لاستفزاز أحد أو غضبه، وبخاصة في أوساط المثقفين العرب! لكنه فوجئ أكثر من مرة بالبعض يتساءلون: فهمنا أنك باحث عربي يا أخي، ولكن من أين أنت؟!

ليس هذا وحسب، بل تمادى البعض من أصحاب التوجهات القطرية الذميمة وبلغت بهم الصفاقة حد التساؤل بغيظ واضح لا يخلو من محاولة رخيصة للتوريط والإحراج: ألست تحمل جنسية ذلك القطر، فلماذا لا تجاهر بانتمائك إليه؟! أم أنك لا تعتز بذلك الانتماء وتخجل منه؟!

يبدو أن أمثال هؤلاء من أرباب الانغلاق القطري الأحمق ينظرون إلى العروبة باعتبارها هوية معادية تتناقض مع هوياتهم القطرية الضحلة، فلا يتصورون أن يكون الإنسان لبناني الولادة مثلاً، وعربياً في الوقت نفسه. بل يصرون على منح الأولوية والتفضيل وربما أحادية الاختيار للهوية القطرية، التي باتت ترتبط بطبيعة الحال بتأمين مصالحهم الأنانية الخاصة والآنية والضيقة، ولتذهب العروبة وأهلها إلى الجحيم!

فيما أزعم، العربي الحقيقي هو الذي لا يجد مسوغاً على الإطلاق للمفاضلة بين هويته القطرية التي يدرك قبل غيره تهافتها، وبين هويته القومية الجامعة، بل إنه هو الذي يعطي الأولوية لهذه الأخيرة، في ضوء وعيه بأن نظيرتها القطرية ـ وشتان بين الهويتين ـ قد فرضت عليه بحكم ترتيبات السياسة ومصالحها الانتهازية، وربما بحكم مؤامراتها!

العربي الحقيقي ـ فيما أزعم أيضاً ـ هو الذي لا يفرق بين تراب عربي وآخر، فمحبة تونس عنده هي نفسها معزة دمشق، واستعداده للتضحية من أجل تحرير القدس هو نفس استعداده للقتال من أجل الجزائر. إنه لا يؤمن حتماً بشعارات بائسة من قبيل: مصر أولاً، أو المغرب أولاً، أو الأردن أولاً... الخ. فهو من الذين يؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة، وهو الذي يحب لأخيه العربي ما يحبه لنفسه، فيمزق من دفاتر معتقداته المثل الذميم القائل: "أنا وبعدي الطوفان"، ولا ترضى له كرامته وشرفه أن ينفق على موائد التفاخر الفارغ آلاف الدنانير بينما يفتك شبح الجوع بأخيه العربي تحت سمعه وبصره!

والعربي الحقيقي ـ فيما أصر على زعمه أيضاً ـ هو من يؤمن بأن الطوفان سيجتاح قطره الهش الضعيف عاجلاً أم آجلاً، بما يتضمن مصالحه الشخصية طبعاً، مهما اجتهد ذلك القطر في الخنوع لقوى الطغيان الأجنبي، إن لم يعاجل ويبذل كل جهوده الممكنة والمخلصة من أجل تغليب الهوية القومية وتسويدها. فهو ـ أي العربي الحقيقي ـ يمتلك من الوعي القومي والبصيرة العروبية ما يجعله قادراً على تدبّر المثال الحكيم القائل: "أكلت يوم أكل الثور الأبيض"، والاعتبار بالتجارب العربية المريرة في فلسطين وبغداد. فهل كانت ستضيع فلسطين بتلك الطريقة المخجلة الموجعة لو كانت هناك دولة عربية موحدة تحميها؟! وهل كانت حرمة بغداد وأهلها ستنتهك بذلك الشكل المرعب لو كان ثمة دولة عربية موحدة تذود عنها!

والعربي الحقيقي ـ في مواصلة لمسلسل مزاعمي ـ هو الذي لا يحفظ من القصائد إلا قصيدة "سجل أنا عربي"، ولا يتغنى كل صباح إلا بأنشودة "بلاد العرب أوطاني"، التي أقدمت أصابع القطرية الأثيمة على شطبها من مناهج معظم مدارسنا على امتداد رقعة الوطن العربي! وهو الذي يجاهر بفلسطينيته ما دامت فلسطين تحت نير اغتصاب الصهاينة المجرمين، ويعلن انتماءه للعراق ما زالت بغداد أسيرة الاحتلال الأمريكي القذر، ويرفع راية دمشق طالما ظل ترابها الطهور مهدداً بأن يلوثه رجس الغزاة!

هذا هو العربي الحقيقي ـ فيما أزعم ـ أيها العرب الشرفاء، فهل ما زال بإمكاننا الحديث عن "عربي حقيقي" في هذا الزمان القطري الردئ؟!


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى