مسيرة حقوق الأقليات الدينية في تركيا
تمهيد:
أخذ البحث في قضايا حقوق الأقليات، بما فيها الأقليات الدينية بالطبع، يكتسب اهتماماً دولياً متنامياً، وبخاصة منذ تصاعد وتيرة خطاب الديموقراطية وحقوق الإنسان على المستوى العالمي في أعقاب انهيار المعسكر السوفييتي والدول الاشتراكية التي كانت تدور في فلكه، ذلك الانهيار الذي أتاح للعالم الاطلاع على الأوضاع المجحفة التي كانت تعاني منها الأقليات الدينية تحت إطار ذلك المعسكر، وبخاصة الأقليات التي كانت تصر على المحافظة على هويتها الدينية والتمسك بما يرتبط بتلك الهوية من رموز وطقوس وشعائر.
وفي تركيا، وفي ضوء الإجراءات الحكومية التي اتخذتها السلطة منذ إنشاء الجمهورية التركية على يد كمال أتاتورك عام 1923 لعلمنة الدولة والمجتمع، وتهميش الدور الذي تلعبه الأديان، بوجه عام وعلى اختلافها، في الحياة العامة والخاصة؛ خضعت الجماعات الدينية المختلفة، إلى الكثير من الضغوط والتدابير المتشددة، التي شكلت في بعض الحالات مساساً واضحاً بما نصت عليه الإعلانات العالمية لحقوق الإنسان من القول بضرورة احترام حقوق تلك الجماعات في ممارسة شعائرها الدينية بحرية وأمن، والتعبير عن معتقداتها الإيمانية دون شعور بالخوف والتهديد.
وتأتي هذه الورقة، ذات التوجه النقدي، بهدف إلقاء الضوء على أبرز معالم أوضاع حقوق الأقليات الدينية في تركيا، وبخاصة في الفترة الراهنة، التي تشهد ومنذ سنوات تقلد عناصر محسوبة على الحركة الإسلامية أو مقربة منها مقاليد الحكم في البلاد. وسيستدعي ذلك التوقف عند أبرز التشريعات القانونية المرتبطة بحقوق الأقليات الدينية وما طرأ عليها من تطورات في ظل المعطيات والظروف الداخلية والخارجية، والتعرض لدرجة انسجام تلك التشريعات مع المواثيق والمعاهدات الدولية المتعلقة بحقوق الأقليات الدينية، وتتبع درجة التزام السلطة بالتصديق على تلك المواثيق والمعاهدات والتقيد بتنفيذ بنودها ومقتضياتها. وصولاً إلى اقتراح بعض التوصيات التي يمكن أن تكفل للأقليات الدينية التمتع بحقوقها المشروعة في الحفاظ على معتقداتها وممارستها في مناخ صحي وآمن.
وحتى نتمكن من فهم الموقف المتشدد الذي اتخذته الجمهورية التركية منذ قيامها بزعامة (كمال أتاتورك) تجاه الأقليات الدينية، لا بد من أن ننظر لذلك الموقف في ضوء الظروف التي سبقت وواكبت قيام الجمهورية، على أنقاض الإمبراطورية العثمانية المنهارة. وربما كان بالإمكان الحديث هنا عن نهجين متعارضين لم يكن من الممكن التأليف أو التوفيق بينهما: نهج علماني يقصي الدين تماماً من أي تدخل في شؤون الحكم، وهو ذاك الذي تبناه (أتاتورك) وكانت له الغلبة، ونهج يحكم باسم الدين، وتعبر عنه دولة الخلافة العثمانية التي كانت سائرة وقتها بخطى حثيثة نحو الأفول(1). إننا هنا بصدد مشروعين مختلفين تماماً، يرتبط أحدهما بالتجربة الغربية ويحاول النسج على غرارها واحتذاء خطواتها، مؤمناً بأن التقدم الذي أحرزه الغرب لم يكن ليحدث دون إحداث قطيعة حاسمة لا رجوع عنها مع الدين ومؤسساته ورموزه ومقولاته، فيما يتمترس المشروع الآخر خلف الدين، أو الفهم البشري للدين بالأحرى، ويضعه معياراً يتم الاحتكام إلى أحكامه في تسيير سائر شؤون الحياة.
لقد ظل وضع الأقليات الدينية منذ قيام الجهورية محط قلق الجهات المعنية بحقوق الإنسان، ويبدو أن ذلك القلق كان مبرراً في ضوء ما كانت تتناقله الأخبار عن حالات انتهاك مستمرة لحقوق تلك الأقليات، وبخاصة قبل أن تبدأ تركيا بمسيرة السعي للانضمام إلى المجموعة الأوروبية، وما تركه هذا السعي من آثار جذرية مهمــة على أوضاع حقوق الأقليات في البلاد(2).
تركيا والمعايير الدولية لحقوق الأقليات(3):
تحمل تركيا عضوية الأمم المتحدة، وعضوية منظمة الأمن والتعاون في أوروبا، ومن ثم فإن عليها أن تلتزم بمعاييرهما المتعلقة بحقوق الأقليات، وبخاصة أن المادة (90) من الدستور التركي تنص الآن على أن لمواد القانون الدولي أولوية التطبيق على مواد القانون الوطني في حال تعارضها. كما أنها تحمل عضوية المجلس الأوروبي، غير أنها ما تزال ترفض التقيد بإطار الإعلان الصادر عن ذلك المجلس لحماية حقوق الأقليات، على الرغم من مطالبته المتكررة لها بذلك(4). وفي الإطار ذاته، فإن تعاطي تركيا مع المادة (27) من الإعلان العالمي للحقوق المدنية والسياسية، يظهر شكلاً من أشكال الانتهاك لجوهر تلك المادة، وذلك عن طريق حصر الأقليات التي يمكن أن تفيد من تلك المادة ضمن الحدود التي يعترف بها الدستور التركي أو معاهدة (لوزان) للسلام فقط. ومن الواضح أن مثل ذلك التعاطي يشكل انتهاكاً للمبدأ القائل بضرورة التحديد الموضوعي للأقليات، وعدم إمكان حصرها بما ترتئيه الحكومات الوطنية وتشريعاتها(5).
ويبدو أن استمرار الإحجام التركي عن القبول التام بواجباتها لحماية حقوق الأقليات فيها عائد في جانب كبير منه إلى المفهوم الضيق الذي ما تزال تتبناه لمفهوم الأقلية. وهذا المفهوم الشديد الحصر الذي تتبناه الدولة يفضي إلى إنكار حقوق العديد من الأقليات، باستثناء الأقليات الأرمنية واليونانية واليهودية.
وتستمد تركيا مفهومها الضيق للأقليات من معاهدة (لوزان) للسلام، التي وقعت في الرابع والعشرين من شهر تموز لعام 1923، جاعلة من تلك المعاهدة المصدر الوحيد لتعريف الأقليات وحمايتها(6). ضاربة الصفح عن أن تلك المعاهدة كانت مجرد نظام من أنظمة عصبة الأمم لحماية أقليات معينة، لم يكن بتطور الأنظمة الراهنة المتعلقة بالحماية الكلية لسائر الأقليات. إذن فمن الطبيعي أن لا تتواءم تلك المعاهدة مع المعايير الحالية، وبخاصة أنها تتناول الأقليات غير المسلمة وحسب. علاوة على ذلك، عمدت الدولة التركية إلى تضييق مفهوم الأقليات أكثر مما تسمح به المعاهدة نفسها، لينحصر اهتمامها في محيط الأقليات الأرمنية واليونانية واليهودية دون غيرها من الأقليات الدينية في تركيا.
من جانب آخر، لا يفرد الدستور التركي والقوانين المنبثقة عنه عناية خاصة للأقليات، فتغيب منه الإشارة إليها، وربما كانت المادة (10) من الدستور هي المادة الوحيدة التي تعنى بحقوق الأقليات، وإن كان ذلك بصورة غير مباشرة، إذ تنص تلك المادة على ضمان المساواة لجميع الأشخاص أمام القانون، دون أي تمييز، بصرف النظر عن اللغة أو العرق أو اللون أو الجنس أو الرأي السياسي أو المعتقد الفلسفي أو الدين أو الطائفة، أو أية معطيات أخرى. وخلافاً لتلك المادة اليتيمة، لا توجد قوانين لحماية الأقليات، أو أية ضمانات للحؤول دون تعرض أبنائها للتمييز.
معاهدات ثنائية بخصوص الأقليات:
ثمة معاهدة ثنائية واحدة تتعلق بالأقليات، تم إبرامها بين تركيا وبلغاريا عام 1925، وتنص المعاهدة على أن تسري مواد معاهدة (لوزان) للسلام على أعضاء الإثنية البلغارية في تركيا، والعكس بالعكس.
الأقليات الدينية في تركيا(7):
تقدر أعداد أهم الأقليات الدينية في تركيا بما يلي:
– المسيحيون الأورثوذكس الأرمن(8): 60000 نسمة.
– اليهود(9): 20000 نسمة.
– المسيحيون الأورثذوكس السريان(10): 15000 ـ 2000 نسمة.
– اليزيديون(11): 5000 ـ 7000.
– العلويون(12): 12000000 ـ 15000000 نسمة.
أوضاع الأقليات الدينية في تركيا
أولاًـ الحق في التعليم:
1ـ اللغة:
إلى جانب المادة الثالثة من الدستور التركي، التي تشير إلى أن لغة تركيا هي التركية، تنص المادة (42) منه على ما يلي: "ليس هناك لغة باستثناء اللغة التركية ينبغي تعليمها باعتبارها اللغة الأم للمواطنين الأتراك في أي من مؤسسات التعليم أو التدريب ... وتعليم اللغة الأجنبية يحدد من جانب القانون". وقد تم استغلال تينك المادتين من أجل منع تعليم لغة أية أقلية، بشكل خاص أو عام، باستثناء تلك الأقليات التي تم تحديدها في معاهدة (لوزان).
وكانت المادة (40) من معاهدة (لوزان) قد أشارت إلى وجوب تمتع الأقليات غير المسلمة بالحق في أن تؤسس وتدير، على نفقتها الخاصة، أية مدارس أو مؤسسات أخرى للتربية والتعليم، مع حقها في استخدام لغاتها الخاصة في تلك المدارس والمؤسسات. وقد أعطت هذه المادة للأقليات الأرمنية واليونانية الحق في إنشاء مدارس إعدادية وثانوية وعليا يتم التعليم فيها بلغاتها الخاصة. غير أن الممارسة العملية قد شككت في مستوى نجاح تلك المادة في أن تجد تطبيقاً فعالاً لها على أرض الواقع، إذ تم وضع القيود أمام تحققها الفعلي، وظلت الأقليتان الأرمنية واليونانية تشكوان من تقاعس الحكومة عن تزويدهما بمعلمين مؤهلين، وبخاصة للغة اليونانية، ومن طول وتعقيد الإجراءات المطلوبة للتصديق الحكومي على المناهج الدراسية.
على الرغم من ذلك، ينبغي عدم تجاهل حدوث بعض التقدم، ولو البسيط، وبخاصة بعد التعديل الذي طرأ على قانون التعليم وتعليم اللغة الأجنبية في التاسع من أيلول عام 2002. فقد أتاح القانون المعدل، نظرياً على الأقل، "تعلم اللغات المختلفة واللهجات المستخدمة تقليدياً من جانب المواطنين الأتراك في حياتهم اليومية". غير أن ذلك لا يحول دون القول إن القانون ما يزال قاصراً عن حماية الحقوق اللغوية للأقليات بصورة واضحة، فضلاً عن أنه سيّج بالعديد من القيود حول كيفية ممارسة ذلك التعليم والحصول عليه. كما أنه يتضمن فقرة إشكالية فضفاضة قابلة للتأويل والتوظيف على أوجه مختلفة، تنص على الآتي:"هذه الدروس لا يمكن أن تكون ضد المبادئ الأساسية الواردة في دستور الجمهورية التركية، والسلامة التي لا تتجزأ للدولة، بما يتضمن السكان والأمة". ومن المثير للاستغراب، عدم انسحاب تلك القيود على تعليم اللغات الأجنبية كالإنجليزية والفرنسية، ومن المعروف أن هناك العديد من المدارس والجامعات المعروفة التي تقدم التعليم بتلك اللغات.
2ـ إنشاء المدارس والمؤسسات التربوية:
تمنح المادة (40) من معاهدة (لوزان) للأقليات الدينية الحق في تأسيس وإدارة مدارسها ومؤسساتها الأخرى المعنية بالتربية والتعليم، على نفقتها الخاصة، مع حقها في استخدام لغاتها الخاصة وتطبيق شعائرها الدينية في تلك الممدارس والمؤسسات. غير أن هذه المادة لم يتم تفعيلها على المستوى العملي في عديد من الحالات، فعلى سبيل المثال، تم إغلاق قسم اللاهوت في المدرسة الكهنوتية في جزيرة (هيبيليادا) القريبة من (إسطنبول) في شهر تموز من عام 1971، بالاستناد إلى المادة (24) من الدستور، والمادة (3) من قانون التعليم العالي، اللتان تشيران إلى أن التعليم الديني يقدم من جانب الدولة فحسب، وفي هذا تعارض مع المادة (40) من معاهدة (لوزان).
لقد ظل تطبيق تلك المادة أمراً عصياً على التحقق الفعلي في عديد من الحالات، وظل من الصعب على كثير من مؤسسات التعليم الديني أن تحظى في واقع الحال بالاعتراف القانوني. وفي ذات السياق، وفي انتهاك لمعاهدة (لوزان)، فإن الأقلية السريانية ما تزال محرومة من حقها في إنشاء المدارس الخاصة بها، على الرغم من مطالبتها المتكررة بذلك(13).
ومع حزمة التعديلات التي تم التصديق عليها في شهر تموز من عام 2004، طرأ تعديل على القانون المتعلق بالبناء بالنسبة للأقليات الدينية، بحيث بات يسمح بإنشاء أماكن للعبادة. وفي نشرة صدرت عن وزارة الداخلية تم توضيح الشروط القبلية لإقامة مثل تلك الأماكن، وتمحورت تلك الشروط حول عدد أفراد الطائفة في المنطقة المزمع البناء فيها ووضعية إقامتهم. غير أن الإجراءات المطلوبة لتحصيل إذن بالبناء ظلت معقدة وتستنزف وقتاً طويلاً. فعلى سبيل المثال، كان الطلب الذي قدم من جانب الكنيسة المشيخية البروتستانية في أنقرة في شهر تشرين الأول من عام 2003 قد رفض استناداً إلى عدم وجود عدد كاف من المسيحيين من رعايا الكنيسة في المنطقة، وبعد توسط من وزارة الداخلية، وعدت السلطات بحل المشكلة المتعلقة بالطلب، غير أن الكنيسة لم تتسلم موافقة رسمية أو تحظى بتصريح قانوني.
لكن ذلك لا يحول دون القول إن قدراً من التقدم قد طرأ على السماح للمسيحيين بإنشاء الكنائس. وكمثال على ذلك، كانت كنيسة ديار بكر البروتستانتية قد أنشئت عام 2002، غير أن القس القائم عليها كان قد اتهم بإقامة الشعائر الدينية بصورة غير قانونية، إلا أن الأمر انتهى بتبرئته. وفي اجتماع مع هيئة حماية الطبيعة والقيم الثقافية، أفاد القس نفسه بأن الكنيسة لا تحظى بالتسجيل الرسمي إذا كانت مساحتها تقل عن (2500 م2). وقد أقرت الهيئة بأن معظم المساجد في المدينة هي أصغر من تلك المساحة، إلا أنه لم تصدر بحقها كتب رسمية بالرفض. وعلى الرغم من أن الكنيسة المذكورة في المثال لا تتعرض لأي نوع من الضغط من جانب السلطات ـ وفقاً للقس نفسه ـ إلا أنها تطمح إلى الحصول على وضعية قانونية سليمة.
ويجدر التنويه بأن تلك المادة (40) لا تسمح بصورة واضحة لأبناء الطائفة العلوية في تركيا بإقامة أماكن العبادة الخاصة بهم، وهي التي تسمى (الجيم)، على الرغم من أن القانون لا يحدد أنواع أماكن العبادة. وتستند السلطات في رفضها طلبات إقامة أماكن العبادة من جانب العلويين بوصفها تمثل مراكز ثقافية أكثر منها أماكن للعبادة.
ويجادل العلويون بأن على تركيا بوصفها دولة علمانية أن تعامل جميع الأديان على قدم المساواة، وأن لا تدعم على نحو خاص أي دين معين، ومن ثم فإنهم يطالبون بإلغاء المديرية التي تم استحداثها في مكتب رئيس الوزراء لدعم أوضاع المسلمين السنة (14).
ويجدر التنويه بأن الأقليات المسيحية البروتستانتية والسريانية تعمل على تقديم التعليم الديني عن طريق كنائسها، غير أن هذا التعليم لا يتمتع بأية غطاء قانوني، كما تواجه تلك الكنائس عدداً من المشكلات، ربما كان من أبرزها صعوبة تعيين قساوسة جدد، لأن من الصعب ضمان جودة التعليم الذي يمكن أن يقدمه هؤلاء، في ظل غياب الإعداد الرسمي المنتظم.
3ـ المناهج الدراسية:
فيما يتعلق بالمناهج الدراسية، فقد أظهرت دراسة أجرتها مؤسسة التاريخ أنها لا تشتمل، بصورة عامة، على معلومات تتعلق بتاريخ الأقليات وثقافاتها وتقاليدها. والأسوأ من ذلك، اشتمال بعض تلك المناهج على تعميمات متعسفة وإشارات تمييزية بحق الأقليات. وقد كشفت الدراسة أن معظم العبارات الازدرائية ضد الأقليات، التي تبين أنها تستهدف أفراد طائفتي الروم والأرمن بشكل خاص، قد اتخذت من كتب التاريخ مكاناً لها، كما أظهرت اشتمال كتب اللغة على إشارات تنتقص من شأن اللغة اليونانية.
وبينما تتوافر الصفوف الإعدادية والثانوية في المدارس الحكومية على دروس إلزامية لتعليم (الثقافة الدينية والمعرفة الأخلاقية)، فإن هناك غياباً في الدروس المتعلقة بالتعليم حول الأقليات، أو الجماعات غير المسلمة في تلك المدارس. وتقدم تلك الدروس التي يعفى من حضورها الطلبة غير المسلمين معلومات عن الإسلام السني وحسب، وقدراً ضئيلاً من المعلومات حول الأديان الأخرى غير الإسلام. ويشتمل ذلك القدر الضئيل من المعلومات على إشارات لا تخلو من التمييز وقد تجانبها الدقة أحياناً. ويمس هذا الأمر بصورة خاصة أبناء الطائقة العلوية الذين يتعين على أطفالهم حضور تلك الدروس انطلاقاً من النظر إليهم كمسلمين من جانب السلطة، وقد تقدم أبناء تلك الطائفة إلى القضاء مطالبين بتغيير ذلك الوضع، لكن السلطات القضائية رفضت الدعوى، ما حدا بهم إلى رفعها إلى المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان ((ECHR(15).
وكانت الأقلية الأرمنية في تركيا قد تعرضت في تموز من عام 2002 إلى صدمة تمــييزية
قاسية، عندما أصدرت وزارة التعليم الوطني نشرة طالبت فيها بإدراج قضية "الادعاءات الكاذبة المزعومة بحصول ما يعرف بالإبادة الجماعية للأرمن" في مناهج المدارس الإعدادية والثانوية. وفي الرابع عشر من شهر نيسان من عام 2003، ألحق بتلك النشرة نشرة أخرى طالبت بدورها بتدريب المعلمين على تفنيد "المزاعم الكاذبة حول الإبادات الجماعية المزعومة للأرمن والسريان واليونان"، كما أعلنت هذه النشرة عن مسابقة تدعو الطلبة إلى التنافس عبر كتابة مقالات تدحض "المزاعم حول حدوث إبادات جماعية للأرمن"(16).
مما لا شك فيه أن هناك بعض التطورات الإيجابية التي طرأت على حقوق الأقليات الدينية المتعلقة بالتعليم، غير أن هناك قدراً من التمييز يطال أبناء الطائفة العلوية على نحو خاص، كما أن الإجراءات الطويلة المعقدة المتصلة بالترخيص للأقليات الدينية لإنشاء مدارسها ومؤسساتها التعليمية ووضع المناهج الدراسية الخاصة بها ما تزال مشكلة قائمة تحتاج إلى معالجة، إضافة إلى استمرارية اتصاف التعامل مع الأديان المختلفة في المدارس بطابع تمييزي.
كما أن توفير تعليم لغات الأقليات ما يزال أمراً غائباً عن التعليم الرسمي. وبالنسبة للمناهج الدراسية، فإن من الصعب الحديث عن دعم التعاون والتفاهم بين المجتمعات وداخلها في الوقت الذي ما تزال فيه تلك المناهج مشتملة على الكثير من العبارات الازدرائية التحقيرية بحق الآخرين، وبخاصة بحق أبناء الأقليات الدينية.
ثانياًـ الحق في المشاركة السياسية:
1ـ النشاط الحزبي والتمثيل في البرلمان:
تحت مظلة النظام الانتخابي التركي، ينبغي على الأحزاب السياسية أن تحظى بما لا يقل عن (10%) من أصوات جميع الناخبين على المستوى الوطني من أجل الوصول إلى البرلمان. وهذه النسبة المرتفعة، تعد شكلاً من أشكال التمييز ضد الأقليات؛ إذ تحرمهم من دخول البرلمان، حتى ولو بلغت نسبة التصويت بين صفوفهم (100%)(17).
وهناك في القانون التركي مادة خطيرة تمنع النشاط السياسي بما لا يأخذ حقوق الأقليات بعين الاعتبار؛ إذ تقود المادة (81) من قانون الأحزاب السياسية، المتعلقة بحظر تكوين الأقليات، إلى منع الأقليات من إنشاء الأحزاب السياسية، وذلك بدعوى وجود تلك الأقليات في تركيا على أساس قومي، أو ديني، أو طائفي، أو لغوي مختلف. وبطبيعة الحال، أفضت هذه المادة إلى إغلاق العديد من الأحزاب السياسية، فيما قد يعد انتهاكاً للمادة (11) من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان.
2ـ استعمال لغات الأقليات في الأنشطة السياسية:
يوصد قانون الأحزاب السياسية الباب تماماً أمام إمكانات استعمال لغات الأقليات في السياسة؛ إذ تحظر المادة (18 ب) من القانون استعمال لغة أخرى خلاف اللغة التركية في كل من الأنشطة التالية: "كتابة أنظمة الحزب وبرامجه، في الاجتماعات، في الجلسات سواء في الهواء الطلق أو القاعات المغلقة، في اللقاءات وفي الدعاية، في الملصقات الإعلانية والصور، في التسجيلات الصوتية، في الأشرطة الصوتية أو البصرية، في النشرات والتصريحات".
وعلى أية حال، تسمح المادة بترجمة أنظمة الحزب وبرامجه إلى لغات أخرى مغايرة لتلك الممنوعة في القانون. وهذا التقييد يميز بين لغات الأقليات واللغات الأجنبية لصالح الأخيرة.
وثمة فقرة تقييدية أخرى في المادة (58) من القانون تتعلق بشكل أساسي بالانتخابات وأصوات الناخبين، وهي التي تمنع استعمال أي لغة غير التركية في: "الدعاية المبثوثة عبر المذياع أو التلفاز أو غيرهما من وسائل الدعاية الانتخابية".
3ـ تمثيل الأقليات في البرلمان عن طريق اللجان:
ليس هناك من لجان برلمانية تتضمن مستشارين عن الأقليات أو ممثلين عنها. أما اللجنة الفرعية للأقليات، التي اشتملت على أعضاء من كل من وزارتي الداخلية والخارجية، ومجلس الأمن القومي، وجهاز المخابرات القومي، ورئاسة الحكومة، والتي كانت قد أنشئت وفق مرسوم سري وقعه رئيس الوزراء عام 1962، فقد ألغيت مؤخراً، ووفق مرسوم سري أيضاً، دون توافر معلومات للعموم عن أنشطة تلك اللجنة والدور الذي اضطلعت بأدائه.
وفيما يخص "هيئة تقييم مشكلات الأقليات"، التي تضمنت مندوبين يمثلون كلاً من وزارتي الداخلية والخارجية، والتعليم الوطني، والإنشاءات، فقد حلت محل اللجنة السابقة المشار إليها، وجاء تشكيلها بهدف جعل الأوضاع المتعلقة بالأقليات منسجمة مع ما هو سائد من معايير في المجموعة الأوروبية. بيد أن عملها انحصر في الاهتمام بعدد ضئيل من الأقليات التي تعترف بها الدولة، كما أنها لم تتضمن ممثلين دائمين عن الأقليات.
4ـ تمثيل الأقليات في هيئات الحكم المحلي:
ليس هناك لجنة تمثل أبناء الأقليات من السكان في الحكومات المحلية في القرى والمقاطعات في تركيا. وبينما تم إنشاء هيئات معنية بقضايا حقوق الإنسان في كل من تلك الحكومات، إلا أنها لم تشتمل على أعضاء يمثلون الأقليات.
على الرغم من اتخاذ خطوات أولية واعدة، ما يزال الوضع في تركيا مخالفاً المعايير الأوروبية المتعلقة بضرورة إشراك الأقليات في الحياة العامة بصورة فاعلة. ويعزى ذلك إلى نقص في حماية التشريعات القانونية لذلك الحق، ومواصلة التشريعات القائمة التقييد على حق الأقليات في استخداما لغاتها الخاصة.
ويتجسد الانتهاك الأشد بروزاً في استمرار القيود على حق الأقليات في استعمال لغاتها الخاصة في العمليات الانتخابية، وبخاصة إذا ما قورن هذا بإمكان استعمال اللغات الأجنبية.
وهذا يشكل انتهاكاً لكل من المادة (5) من الإعلان العالمي للحقوق المدنية والسياسية (ICCPR)(18)، وللمادتــين (2) و (14) من البروتوكول الأول للإعــلان الأوروبي لحقوق الإنسان، كما يمثل خرقاً للمعايير الأساسية لمنظمـة الأمن والتعاون الأوروبية (OSCE)(19).
من جانب آخر، فإن النسبة المرتفعة المطلوب إحرازها من العدد الكلي لأصوات الناخبين (10%) تجعل من المستحيل عملياً وصول الأقليات إلى البرلمان، وهو ما يتعارض مع المعايير الأساسية لمنظمة الأمن والتعاون الأوروبية. وعليه؛ ينبغي أن تأخذ السلطات الحكومية النقاط التالية بعين الاعتبار:
– لا يجوز فرض أي نوع من القيود على استعمال أي من اللغات ذات الصلة بعملية الانتخابات، سواء فيما يتعلق بالتسجيل، أو المشاركة، أو الأحزاب السياسية، أو الحملات الانتخابية.
– العوائق الإدارية أمام المشاركة السياسية ينبغي إزالتها.
– ينبغي توعية الأشخاص المنتمين إلى الأقليات، وبلغتهم الخاصة، بكيفية ممارسة حقهم في المشاركة في الحياة العامة.
– ينبغي اتخاذ إجراءات خاصة بشأن الأشخاص الذين هجروا من ديارهم.
– إن المطالبة بحصول المرشحين للمجلس التشريعي على معدلات مرتفعة من الأصوات من شأنه تحجيم تمثيل الأقليات، ولتجنب ذلك يمكن تقليص معدلات الأصوات المطلوبة لسائر الأحزاب، أو التأكد من أن طلب معدلات مرتفعة لا يسري على الأحزاب التي تضم مرشحين عن الأقليات، كما هي الحال في كل من ألمانيا وبولندا.
ثالثاًـ الحق في الإعلام:
تضمن المادة (39)، المتضمنة في القسم الثالث من معاهدة (لوزان) الحق لجميع المواطنين الأتراك في استعمال أية لغة في الصحافة أو المنشورات من أي نوع. وعلى الرغم من إشارة المادة المذكورة إلى "جميع المواطنين"، فإن ذلك الحق ينحصر في الممارسة العملية ضمن الأقليات الأرمنية واليونانية واليهودية. إن معظم الأنظمة السارية حالياً بخصوص البث الإذاعي والتلفزيوني المتعلقة باستعمال اللغات بدأ تطبيقها في الخامس والعشرين من شهر كانون الثاني لعام 2004، تلك الأنظمة التي سمحت بدورها لمحطات الإذاعة والتلفزة الوطنية ببث إرسالها باستخدام اللغات المختلفة، إضافة إلى محطة التلفزيون التركي الرسمية(20). وتعد هذه الخطوة بالغة الأهمية مقايسة بالحظر التام في السابق، بيد أن الأنظمة تتضمن بنوداً تقييدية تتعلق بالعديد من المسائل. إذ تنحصر البرامج المسموح ببثها باستعمال لغات غير التركية في الأخبار والموسيقى والثقافات التقليدية، بينما ما تزال الأفلام والبرامج الموجهة إلى الأطفال وتلك المتعلقة بتعليم تلك اللغات قيد الحظر. كما أن على المحطات الوطنية الراغبة ببث برامجها باستعمال لغات غير التركية طلب الإذن الحكومي المسبق لذلك. وينبغي لبرامج التلفزة التي تعرض بتلك اللغات أن تكون مصحوبة بالترجمة إلى اللغة التركية، أما البرامج الإذاعية فينبغي أن يتم إعادة بثها مباشرة باللغة التركية.
وتفرض المادة (8 ـ 1) من الأنظمة تعهدات على محطــات البث التلفزيوني والإذاعي تمنعها من بث كل ما هو ضد :"أحكام القانون، والمبادئ العامة للدستور، والحقوق والحريات الأساسية، والأمن القومي، والأخلاق العامة، وسمات الدولة كما هي محددة في الدستور، والوحدة الوطنية والقطرية التي لا يمكن تجزئتها للدولة". علاوة على ذلك، تشير الفقرة الثانية من تلك الأنظمة إلى عدم جواز استخدام الرموز والشعارات والمؤثرات الصوتية غير المتصلة بالاستوديو خلال البث. وتحدد الأنظمة ساعات البث الإذاعي والتلفزيوني الذي يستخدم اللغات الأخرى غير التركية، بحيث لا ينبغي للبث الإذاعي أن يتجاوز (60) دقيقة يومياً، وبما لا يزيد عن خمسة ساعات في الأسبوع. أما البث التلفزيوني، فليس من المسموح له بأن يزيد عن (45) دقيقة في اليوم، وبما لا يتعدى أربع ساعات في الأسبوع.
وتحظر الفقرة (أ) والفقرة (ب) من المادة (4) من قانون البث التلفزيوني والإذاعي في تركيا كل ما هو ضد وحدة الجمهورية واستقلالها، وتحريض المجتمع على العنف أو الإرهاب أو التمييز الإثني، أو الحض على الكراهية على خلفية اختلاف اللغة أو الدين أو الطائفة أو العرق أو الإقليم.
وتفرض المادة (33 ـ ج) عقوبات على انتهاك تلك الأحكام، تتمثل بشكل عام في تحذير المحطة وتعليق البرنامج، مع إمكان تعليق بث المحطة لمدة شهر، وفي حال تكرار المخالفة، يمكن سحب ترخيص المحطة بشكل نهائي.
تشكل إزالة الحظر التام عن استعمال لغات الأقليات في وسائل الإعلام، والبدء ببث تلك اللغات عبر محطات رسمية وخاصة خطوة بالغة الأهمية، لكن التقييدات الباقية تتعارض مع مبادئ منظمة الأمن والتعاون الأوروبية. ومن الواضح أن مبادئ هذه المنظمة لا يمكن أن تنسجم مع التضييقات التي يتم فرضها على محطات البث التي تستعمل لغات الأقليات، وبخاصة فيما يتعلق بمحتوى البرامج ومدتها وفترات بثها.
إن القاعدتين الرئيستين الجديرتين بالاتباع هنا هما:
أولاًـ ينبغي تقليص القيود والتحديدات على محطات البث الخاصة إلى أدنى درجة ممكنة.
ثانياًـ يجب أن يتمتع استعمال لغات الأقليات في البث بقواعد واضحة وغير تمييزية، مع التحرر من القيود غير الضرورية، وربط محتوى البرامج ووقتها وتوقيتها، قدر المستطاع، باحتياجات جماعات الأقليات بوجه خاص، وأفراد المجتمع كله بوجه عام.
رابعاًـ الحق في الملكية:
بموجب المادتين (30) و (40) من معاهدة (لوزان) للسلام، فإن الأتراك غير المسلمين سواء مع سائر مواطنيهم أمام القانون، وينبغي أن يتمتعوا بنفس ما يتمتع به هؤلاء من المعاملة والحماية. على الرغم من ذلك، ومنذ عام 1974، تم حرمان المؤسسات غير المسيحية من تسجيل أملاكها.
وبموجب حزمة الإصلاحات التي عرفتها تركيا في السنوات الأخيرة، شهد شهر كانون الثاني من عام 2003 إصدار نظام جديد يتعلق بحق الملكية للمؤسسات غير المسلمة. إلا أن القانون المذكور لم يكن كافياً لحماية حق الأقليات الدينية في التملك، فهو يستدعي حصول المؤسسة على ترخيص من المديرية العامة للإنشاءات لتسجيل أملاكها، على الرغم من أن هذا لا يطلب من بقية المؤسسات. وفي هذا ما يشكل انتهاكاً للمادة (39) من معاهدة (لوزان) التي تنص على ما يلي: " المواطنون الأتراك الذين ينتمون إلى أقليات غير مسلمة سوف يتمتعون بنفس الحقوق السياسية أسوة بالمسلمين. وجميع سكان تركيا، دون تمييز مرده الدين، ينبغي أن يكونوا سواء أمام القانون".
أما المادة (4) من المعاهدة، فتنادي بالمعاملة المتساوية وتضمن للأقليات الدينية: "الحق المتساوي في أن ينشئوا، على نفقتهم الخاصة، ويديروا ويسيطروا على أية مؤسسات خيرية أو دينية أو اجتماعية أو مدارس أو غيرها من هيئات التربية والتعليم، مع حقهم في استخدام لغاتهم الخاصة وتطبيق شعائر دينهم بحرية في تلك المؤسسات".
كما أن القانون لا يسري على الأملاك التي أخذت من مؤسسات الأقليات بأحكام قضائية وسجلت لصالح مؤسسات عامة أو أشخاص عاديين في الفترة الممتدة من عام 1974 (وهو العام الذي شهد صدور حكم محكمة الاستئناف القاضي بأن مؤسسات الأقليات لم تكن مخولة بالتملك الخاص منذ عام 1936) إلى عام 2002 ( الذي شهد إصدار الحزمة الرابعة من التعديلات، التي تضمنت النظام المتعلق بحق مؤسسات الأقليات غير المسلمة في التملك). ومن ثم، فقد تم رفض الطلبات التي رفعتها تلك المؤسسات بشأن أملاكها التي أخذت منها في تلك الفترة.
وعلى المستوى العملي، تم قبول الطلبات التي تعلقت بممتلكات لم يتم تسجيلها لصالح أي جهة. وباستثناء طلب واحد فقط، تم رفض سائر الطلبات التي تعلقت بأملاك انتهت إلى مؤسسات الأقليات نزولاً عند وصايا من أصحابها، غير أنها كانت قد سجلت لصالح بعض المؤسسات العامة أو الأفراد.
وعلى الرغم من حزمة التعديلات القانونية، إلا أنه تم رفع عدد من القضايا من جانب الخزينة التركية على بعض مؤسسات الأقليات لإلغاء تسجيل بعض أملاكها، وذلك بالاستناد إلى قرار محكمة الاستئناف الصادر عام 1974، وبدعوى أن تلك المؤسسات لا تملك شخصية قانونية تخولها حق التملك. بالإضافة إلى ذلك، فإن عدم امتلاك المؤسسات الدينية للأقليات شخصية قانونية حسب ادعاءات بعض الجهات الحكومية يجعلها ليست عرضة لسلب أملاكها فحسب، بل يجعلها عاجزة أيضاً في كثير من الحالات عن تملك أصول جديدة، كما حدث للبرطرياركية اليونانية على سبيل المثال، التي رفضت الجهات المعنية قبول مائة وتسعة (109) طلبات قدمتها لتسجيل أملاكها.
وعلى الرغم من عدم وجود مثل هذا النص في القانون، فإن بالإمكان استشارة الوزارة المعنية ودائرة الإنشاءات العامة بخصوص طلبات تسجيل الممتلكات إذا اقتضى الأمر، في ممارسة يمكن عدّها انتهاكاً لمعاهدة (لوزان).
ومن المشكلات الأخرى المتعلقة بالنظام اشتماله على ما لا يزيد عن (160) مؤسسة من مؤسسات الأقليات، بمعنى إعطاء هذه المؤسسات وحسب الحق في تسجيل أملاكها، وحرمان بقية المؤسسات غير المثبتة في النظام من ذلك، كما هي الحال بالنسبة لمؤسسات السريان على سبيل المثال، بحكم عدم استفادتهم من الحماية التي أمنتها معاهدة (لوزان) للأقليات الدينية.
وعلى الصعيد ذاته، لا بد من التنويه بأن الإجراءات المتعلقة بتسجيل الأملاك الجديدة تتسم بشدة التعقيد. وإلى جانب كل تلك المشكلات التي تعاني منها مؤسسات الأقليات لتسجيل أملاكها، تنضاف مشكلة سيطرة المديرية العامة للإنشاءات عليها، هذه المديرية التي لا تتردد في كثير من الأحيان في الاستيلاء على أملاك مؤسسات الأقليات، بزعم ممارسة تلك المؤسسات أنشطة لم توجد في الأصل من أجل ممارستها، أو عدم قانونية تشكيل هيئاتها. ومن الواضح أن كل تلك الممارسات تتعارض بصورة سافرة مع المادة (40) من معاهدة (لوزان)، التي سبقت الإشارة إليها.
خامساًـ الحق في التجمع وتشكيل الجمعيات السلمية:
يضمن الدستور التركي الحق في التجمع وتشكيل الجمعيات السلمية. إلا أن قانون التجمع يتضمن مادة تقييدية فضفاضة الشمول، تمتلك قدرة تقييدية عالية في واقع الممارسة. تشير المادة (5) من القانون إلى عدم جواز تشكيل الجمعيات بهدف القيام بأنشطة ضد الأمن القومي، والنظام العام، والأمن العام، والصالح العام، والأخلاق العامة، وصيانة الصحة العامة، أو تدمير الوحدة الوطنية والإقليمية غير القابلة للتجزئة للدولة. وفي شهر كانون الأول من عام 2003، تم إلغاء المادة التي كانت تحظر إنشاء الجمعيات لحماية أو تطوير أو توسيع انتشار لغات أو ثقافات أخرى خلافاً للغة والثقافة التركية، أو للادعاء بالانتماء إلى الأقليات على أساس من الاختلاف العرقي، أو الديني، أو الطائفي، أو الثقافي، أو اللغوي. وعلى الرغم من إلغاء تلك المادة، إلا أن هناك قييدات كثيرة ما تزال باقية، وبخاصة تلك المتعلقة بتكوين الجمعيات على أساس العرق أو الدين أو الإثنية أو الطائفة، أو أي عامل يميز جماعة الأقلية. وبالاستناد إلى التعديلات التي أجريت على القانون، بات بإمكان الجمعيات استخدام لغات غير التركية في أنشطتها غير الرسمية، وإن ظل هذا الحق على المستوى العملي موضعاً للتدخل من جانب السلطة. غير أن الأمر لا يخلو من بعض التقدم المبشر، فقد شهدت أروقة المحاكم بعض القضايا التي تم فيها إبطال الإجراءات الحكومية القاضية بمنع بعض الجمعيات من استخدام لغات غير التركية في بعض أنشطتها.
إن التقييدات على الحق في تشكيل الجمعيات، التي تدخل ضمن باب التمييز، أو تشوه جوهر ذلك الحق غير مقبولة على الإطلاق حسب المعايير الدولية لحقوق الإنسان. ومن هذا المنظور، وعلى الرغم من بعض التقدم الملموس، إلا أن من غير الممكن تبرير استمرار وجود مثل تلك التقييدات، سواء على مستوى القانون أو الممارسة العملية.
سادساًـ الحق في حرية الحركة:
حسب تقرير صدر عن لجنة البحث في الجمعية الوطنية التركية العظمى حول القرى المخلاة من سكانها ومشكلة الهجرة، تبين أن ما لا يقل عن (3428) مستقراً للسكان (قرية أو أصغر) قد أخليت من سكانها أو دمرت في الجنوب الشرقي وشرقي تركيا. تلك القرى كانت مأهولة، بشكل عام، بالعلويين والأكراد والسريان واليزيديين، ولم يحظ سكانها بأي نوع من التعويضات، كما لم يتم تقديم مساكن بديلة لهم.
وبذريعة "أسباب أمنية"، تم منع معظم القرويين من العودة إلى قراهم من جانب الحكومة المحلية (كان يسمح للبعض بالعودة من أجل بذر البذور أو جني المحصول). وعلى أية حال، ومنذ إنهاء العمل بقانون الطوارئ، لم يعد للحكام الإداريين القوة القانونية لمنع مثل تلك العودة، لكن ذلك لم يقد إلى توقفهم عن إصدار الأوامر المتعلقة بذلك الشأن.
وفي ظل عدم وجود مراكز للشرطة، فقد كان منع العودة يتم عادة على يد (حراس القرية)، وعلى الرغم من حصول بعض سكان تلك القرى على تصاريح رسمية من جانب وزارة الخارجية للعودة إلى قراهم، إلا أنهم لم يتمكنوا من العودة بسبب وجود (حراس القرية) الذين استخدموا العنف للحؤول دون عودة السكان إلى بعض القرى، وهو ما أسفر عن مقتل ما لا يقل عن (7) أشخاص من الذين حاولوا العودة إلى قراهم.
وتشكل حقول الألغام مشكلة ما تزال تعوق رجوع سكان بعض القرى إليها، فقد أشار التقرير الذي قدمته جمعية حقوق الإنسان، فرع ديار بكر، في شهر أيار من عام 2004، إلى مقتل شخصين وجرح سبعة بسبب حقول الألغام في المنطقة. وإذا عرفنا أن تلك الأرقام تتعلق بشهر واحد فقط، أدركنا خطورة تلك المشكلة.
تبدو القيود المفروضة على تملك الأقليات الدينية مفرطة في التمييز والتضييق على أبناء تلك الأقليات، كما تفتقر إلى أي سند قانوني. إن الحق في رجوع المرء إلى بيته وتملكه هو حق أساسي ينبغي أن يشتمل عليه القانون، ولا يمكن أن يخضع إلى التقييد إلا وفق سلطة قانونية واضحة وبهدف قانوني مشروع، وينبغي أن يكون ذلك التقييد متكافئاً مع الهدف منه. ونظراً لما في ذلك التقييد من انتهاك رئيس لحقوق الأفراد فإن سبب فرضه ينبغي أن يكون قوياً جداً، وأن يكون التقييد لفترة محدودة. إن عدم اشتمال القوانين التركية على أي قانون يخول أي جهة رسمية الحق في تقييد حركة الأفراد يجعل من أمر الأفراد بعدم الرجوع إلى ديارهم، لأسباب أمنية أو غيرها، أمراً غير ساري المفعول. علاوة على ذلك، فإن على السلطات واجب ضمان عودة المواطنين إلى ديارهم، عن طريق إزالة (حراس القرى) أو السيطرة عليهم على سبيل المثال. وكما سبقت الإشارة، تم تدمير حوالي (3500) قرية ومنطقة سكنية أو تفريغها من سكانها، من غير الاستناد إلى أية أرضية قانونية. وما يقارب ثلاثة ملايين شخص هجروا من قراهم أو أجبر بعضهم على هجرها لرفضهم الانضمام إلى (حراس القرى). إن رجوع معظم أولئك المشردين الذين يعايش كثير منهم ظروفاً بائسة إلى ديارهم ما يزال ممنوعاً، ولم توفر الدولة التركية سياسة مستقرة أو تسهيلات اجتماعية واقتصادية لرجوعهم.
سابعاًـ الحق في الحماية من التمييز:
تضمن المادة (10) من الدستور المساواة أمام القانون لجميع المواطنين، دون أي شكل من أشكال التمييز، بصرف النظر عن اللغة، والعرق، واللون، والجنس، والرأي السياسي، والمعتقد الفلسفي، والدين، والطائفة، أو أية اعتبارات أخرى.
في المقابل، ليس هناك أي قانون يحظر أو يعاقب على اقتراف أي شكل من أشكال التمييز. غير أن مسودة القانون الجزائي التي أقرت من جانب لجنة العدالة في البرلمان قد اشتملت على مادة بشأن حظر التمييز ومعاقبة مرتكبيه على أساس اللغة، والعرق، واللون، والجنس، والرأي السياسي، والمعتقد الفلسفي، والدين، والطائفة. إلا أن هذه المادة لا تعاقب إلا لاقتراف التمييز المتصل وحسب ببعض الجوانب، كبيع البضائع، وتقديم الخدمات أو الانتفاع منها، والتوظيف، والحرمان من الطعام، ورفض تحقيق مصلحة عامة، أو تنفيذ نشاط اقتصادي.
وكل من يتورط في ممارسة إحدى صور التمييز المذكورة يكون عرضة للحكم بالسجن لفترة تتراوح من ستة أشهر إلى سنة، أو دفع غرامة مالية. وحتى الآن، ليس هناك هيئة عامة تتعامل مع التمييز، كما أنه لا يحق لجماعات الأقليات بالتورط في دعاوى قضائية تتصل بها كجماعات.
وفيما يتعلق بقضية التمييز، يمكن الإشارة إلى حرمان أبناء الأقليات، إلى حد ما، من الانضمام إلى مؤسسات الجيش والعمل في العديد من دوائر الدولة، كما يجدر التذكير بالعبارات والإشارات التحقيرية التمييزية التي ما تزال موجودة في العديد من المناهج المدرسية ضد أبناء الأقليات. على الرغم منذلك، إلا أن شيئاً من التحسن قد طرأ فيما يتعلق بمكافحة التمييز ضد الأقليات، فقد شهدت البلاد في شهر تموز من عام 2004 تفعيلاً للمادة (312) من مسودة القانون الجزائي التي تتعلق بمعاقبة التعبير عن الكراهية على أساس إثني، كما شهد عام 2003 شطب العبارات التمييزية ضد الأقليات من بعض الكتب التي تم تأليفها تحت مظلة مؤسسات حكومية.
يمثل الافتقار إلى قوانين شاملة وواضحة ومحددة لمكافحة التمييز ضد الأقليات وتعويض الذين يتعرضون له عقبة جدية في وجه تحقيق الحماية القانوية ضد التمييز. وفي ضوء تواصل مسلسل التمييز العام والخاص بحق أبناء الأقليات، فإن من الأهمية بمكان إيجاد هيئة عامة تتولى تسجيل حالات التمييز تلك ومتابعتها ومكافحتها. ومع استمرار اشتمال بعض المناهج المدرسية على نصوص وعبارات تمييزية بحق الأقليات، ربما يمكن القول إن الدولة ما تزال تفتقر إلى سياسة واضحة لمكافحة التمييز وتعزيز التسامح في المجتمع.
خاتمة وتوصيات:
بأخذ سائر أنواع الحقوق التي ينبغي تمتع الأقليات الدينية بها، يمكن القول إن تركيا قد خطت خطوات مهمة على طريق الالتزام بتلك الحقوق وتأمينها، بما يتلاءم مع المعايير الدولية المعتمدة، وبخاصة الأوروبية منها، التي يغدو التزام تركيا بها أمراً بالغ الأهمية، في ضوء سعيها الدؤوب للانضمام إلى المجموعة الأوروبية. لقد نجحت الدولة في تجاوز العديد من المخاوف التي كانت تحكم سبل تعاملها مع الأقليات، بما يتضمن الأقليات الدينية بالطبع، التي كان ينظر إلى بعضها كتهديد لوحدة الدولة واستقرارها. وفي هذا المقام، لعل من المفيد التذكير بالتعديلات القانونية التي طرأت على حق تلك الأقليات في التملك، وحقها في استخدام الإعلام بلغاتها الخاصة.
وبالرغم من كل تلك الخطوات الإيجابية المحمودة، إلا أن الأمر يحتاج إلى المزيد من الجدية والفاعلية والالتزام(21)، وهناك الكثير مما يمكن فعله لإحراز المزيد من التقدم على طريق تأمين الحقوق الكاملة للأقليات الدينية. وإذا كان لهذه الدراسة المتواضعة أن توصي في نهايتها ببعض التوصيات، إضافة إلى تلك التي تم اقتراحها هنا وهناك فيما تقدم، فإنها ترجو أن يكون في التوصيات التالية بعض الأهمية وإمكانية التطبيق، خدمة للأقليات من جانب، وخدمة للمجتمع التركي وأمنه واستقراره في المحصلة النهائية من جانب آخر، على اعتبار أن أبناء الأقليات هم من المواطنين الأتراك، الذين يستحقون أن يعاملوا كسائر مواطنيهم، بحرية وكرامة وأمن وتقدير:
1ـ إلغاء الأنظمة المتعارضة التي تطبق على المؤسسات التابعة للأقليات، ووضع تلك المؤسسات تحت مظلة القانون المدني المطبق على غيرها من المؤسسات.
2ـ الفصل في القضايا المعلقة المتصلة بالمؤسسات التابعة للأقليات من جانب القضاء، سواء تلك التي رفعت قبل التعديلات القانونية أو بعدها.
3ـ تعديل القانون المتعلق بحق التملك للأقليات، بما يضمن لتلك الأقليات استعادة أملاكها التي أخذت منها منذ عام 1974.
4ـ الاعتراف بالشخصية القانونية للمؤسسات التابعة للأقليات.
5ـ السماح للأقليات الحرومة من تطبيق التعليم الديني في مدارسها ومؤسساتها بتطبيقه، وإعادة فتح المدارس االدينية لتي تم إغلاقها لبعض الأقليات.
6ـ إزالة القيود المفروضة على الحق في إنشاء أماكن العبادة.
7ـ جعل دروس (الثقافة الدينية والمعرفة الأخلاقية) دروساً اختيارية، وتضمينها معلومات صحيحة وذات توجهات متسامحة عن الأديان الأخرى.