الاثنين ١٩ حزيران (يونيو) ٢٠٠٦
قراءة في كتاب
بقلم ريحان رمضان

سقط سهوا ً مجموعة قصصية للروائية السورية حسيبة عبد الرحمن

لأول مرّة أقرأ كتابا ً يبتدأ من النهاية .. بل مابعد النهاية على الغلاف ..
سقط سهوا ً كتاب الروائية السورية (حسيبة عبد الرحمن) قدمته كاتبته في المؤخرة كما يلي :

" اسمك فقط قبل الرحيل
تبعثر أوله .. حين حظروا علي التجاعيد في وجه أمي
وآخره . . حين حظروا علي التجول في ذاكرتي .
لم أدخل الزمن الصعب
لكني تلوثت بمزاريبه
أريد أن أسند على كتفي
كتفي على كفي ..
كفي على أرض صلبة
وأنام ..
أنام بهدوء العاصفة

سقط سهوا ً مجموعة قصصية أخرجتها فنيا ً الآنسة خولة دنيا ، والغلاف رسمه الفنان أرز الأسمر ..

تباشر الأستاذة حسيبة عبد الرحمن بنسمات الحرية الأولى كعنوان لأول قصة في الكتاب وهي محاكاة ذاتية لما مرّ معها عندما أفرج عنها بعد إعتقال تعسفي في أحد أقبية الإستخبارات دام ست سنوات ، أعتقلت كاتبتنا فقط لأنها جهرت بما يدور في عقلها وقلبها بقناعة لم تغيرها سنوات السجن الـُُمنهكة للعقل والجسد ..
كاتبتنا تسأل نفسها وهي تحلم بالإجابة منذ فترة طويلة : ألم تشتاقي إلى الشمس والمطر والشوارع ؟

بلى فقد كانت مشتاقة لدخينة مع صحن فول .. إلى بطحة عرق .. وإلى رجل بملامح ضبابية لم تعرفه بعد ..
مشتاقة لرائحة التراب واللعب كالأطفال .. وإلى النوم بحرية تحت شجرة توت كالشجرة التي تركتها في بيت أهلها هناك قرب شاطئ المتوسط ..
مشتاقة إلى إطلاق صوتها للريح بغناء وصراخ وتغريد .. تريد تقبيل شوارع عهدتها ووجوه آدمية كادت أن تنساها ..اشتاقت للناس الذين غابوا عن عينيها منذ ماقبل الإعتقال ..

عندما وصلت بيت أهلها لم تجد أبيها الذي مات وهي في السجن .. وجدت أطفال الأمس وقد أصبحوا شبابا ً وصبايا ، وجدت أمها وقد انحنى ظهرها وغزت وجهها تجاعيد لم تألفها من قبل .. وابن عمها وقد زاد جمالا ..
فرحها بعودتها جعلها تعيش حالة مختلطة المشاعر .. حيث أنها لم تتذكر نفسها إلا بعد وصولها البيت ، تذكرت أنها تجاوزت الثلاثين ربيعا ً .. قررت حينها قرارات مستقبلية تعني بشعرها وجسمها وبتصرفاتها ، قالت : سأقص شعري ، لن أتركه أو أنثره بعد اليوم بإتجاه الريح .. " .
شمت رائحة اليانسون المنبعثة من قارورة عرق معتق ، وشربت قهوتها مرّة بدون سكر ، وتمنت أن تشرب كأس " متة " ** طالما حلمت به منذ سنين ..
لم تكن تصدق أنها مطلقة السراح حتى أيقظها الصباح بخيوطه التي تسربت عبر النافذة ..

بعد عام تتابع الروائية عبد الرحمـن الكتابة ، وعندما صادفت ذلك الرجل الذي أحبته ، داهمها الحنين إلى سنوات خلت وتذكرت حالة لم تفصح عنها لأنها ضاعت مع كتب ورسائل وصور ، و سنوات العمر ..
تذكرت خلال شــــرودها كل تفاصيل الشارع الذي ملئ قلبها وعقلها حبا ً وأملاً بحب الناس والأشياء .. في حين أن الناس تغيروا ، نسوها ، وتغيرت الأمكنة والأشياء ..

في عنوان مادة كتابها الثانية تترائ لها صور واحلام لم تعد موجودة ..
فقط الشئ الوحيد الذي مازال على حاله هو بيت اهلها المحاط ببستان الرمان والتين، ومطبات الشارع التي لم تصلها ورشات الإصلاح طيلة فترة غيابها القسري عنه ..

في حين أن " سقط سهوا ً " وهو عنوان مادتها الثالثة أو قصتها الثالثة صورت فيها ذلك القروي البائس " أحمد باشا " الذي جاء المدينة يسعى فيها للعمل في برامج تلفزيونية ثقافية وأدبية ، إلا أن تقاريرا ً بحجم قصاصات صغيرة حجمَت آماله وجعلته مذيعاً إخباري .
وتستدرك الأستاذة عبد الرحمن أن هذا الباشا كان نكرة ، لم يعرف احد – ولا حتى هو – مصدر كنيته ومن أين جاءت ، فوالده يملك قطعة أرض صغيرة بالكاد تكفي العائلة .

مما جعله ذو نفسية قلقة يحمل بين طياتها اكثر من شخصية في المجتمع أهمها " كازانوفا " زير النساء المشهور ، وفي أحسن الأحوال ليس هو إلا قارئ أخبار مأجور ..يقوم بمهمة اقناع المشاهدين بالكذب اليومي وقبض الثمن ..
يفاجئه لسان حال الكاتبه تسأله : كيف تستطيع تحمّل مهنتك المملة والمكررة والكذب على الناس يوميا ً ؟

ذات مرة نقل خبر وقوع انقلاب لم يصدق نفسه انه أذاعه ..
و لم يكن له بداً من أن ينضم للناس ... ويصدق خبر الانقلاب ..

في خريف الحـب قصتها القصيرة الرابعة تقص علينا قصة امرأة أحبت فخانها الحب .. توقفت عن محاكاة الشعر فترة سبع سنوات هي عمر السجن الرهيب الذي عاشته وتوقفت خلالها كل ابداعاتها .. تكورت على نفسها لتستمر في الحياة فيما بعد.
حبيبها ومعه كل الرفاق والأصدقاء تبعثروا مابين سجن وغربة ، بل أن الحبيب لم ينتظرها .. تزوج وأرسل لها يخبرها : " عيشي حياتك فقد تزوجت " .
ولما خفق قلبها لحب من نوع آخر وانتظرته بعد غياب .. فوجئت بأنه أحب غيرها وأتاها يدعوها لحفل خطوبته على غيرها ..

في قصتها الخامسة (الهلاليون) تسرد قصة التغريبة الهلالية حيث أن الحظ ضحك لدياب بن غانم وصدقت نبوءة سعدى بنت الزيناتي فقتل دياب أبيها وأسرها وعاملها معاملة الجواري .

وفي تداعيات تختلط الأشياء .. بطلة القصة تتذكر طفولتها البريئة ، تتذكر الأغنام والغبار الذي تثيره ..
كانت طفلة نشطة تسابق الريح .. حالمة دائما وكالعادة بالأرض ورائحة التراب .. تحلم بالحب الذي لم يكن إلا سرابا ..
تتعلم الحبو من جديد ..

في قصتها قبل الأخيرة ( حب في بلوعة) تجسد الكاتبة قصة سجينة أو معتقلة رأي سابقة عانت ظلم الإعتقال الذي يخيل إليها دائما ، فتراه في نومها وحلمها كوابيسا ً مزعجة .
ُأعتقلت بسبب تافه وبسيط هو علاقتها بفتاة لا تعرف إذا كان لها صلة بالسياسة أم لا.

هددوها وصفعوها وسألوها دون فائدة لأنها لا تعرف عمن يبحثون !!

تسرد قصة حبها لرفيقتها المعتقلة مثلها قائلة : سمعت صوتا ً قرب دورة المياه يناديني باسمي ، اقتربت من مصدر الصوت ، لحقته ، تابعته ، كان يأتي من بلوعة الحمام ، شطفته ووضعت اذني قرب البلوعة ، أصغيت الســـمع ولم أحس بقرف أبدا ً ، أتاني صوت شجي ..

وهكذا تبنى علاقة حب بين السجينة والسجين الذي يراها من بين ثقوب باب السجن عندما تخرج للفسحة التي كانوا يجبروها عليها ، فأصبحت تلبس أجمل البجامات عندما تخرج ، وُتعَقب بأن ساعة الفسحة أصبحت لديها ساعة حرية .. !!
" .. رجاها أن تتكلم بصوت عال في طريقها للفسحة أو خلال عودتها ، ووعدها بأنه سيرد عليها بقلبه وروحه وعيونه وجسده .. وراح يسمعها من خلال البالوعة أجمل كلمات الحب والعشق ، غنى أجمل الأغاني حتى تحولت الأقبية التي لاترى الشمس مكانا ً لأحلامها الوردية " ..

وتبادلا رسائل وهدايا .. وتواعدا بالزواج بعد أن يطلق سراحهما .. وتتابع الكاتبة تقول على لسان بطلة قصتها : " ..عشت مشاعر حب جنونية .. أنتظر الليل ، سعادتي لاتوصف عند سماعي قرقعة قصعات العشاء .. فهذا يعني أن وقت الكلام والمناجاة والبوح قد اقترب موعده ... " .
مرّة واحدة شاهدَته من أكبر ثقب في باب المهجع .. رأته شابا وسيما ً وفتيا ً ولكن صدمت به بعد أن جاءها وقد ابيضّ شعره .

زميلاتها يتسائلن أين هي ؟ فيقال أنها في الحمام تكتب قصة وشعر ..
" بعضهنّ صدقن ، وأخريات ضحكن .. وعلقن ّ على دواوين الشعر التي لم ولن تكتب .. " ..
فتوعدهن بأنها ستكتب البقية في إعتقالها القادم ..!!

أما في قصتها الأخيرة ( العريس) فقد أظهرت مدى ظلم السجان القاسي ونتائج الخوف والارهاب التي عاناها في السجن على حياته الشخصية .
فقد عانت العروس من سرعة قذف مني عريسها رغم كل مظاهر الإغراء التي كانت تبديها له منتظرة أن يبادلها حبا ً حقيقيا لارغبة وشهوة ، غير أن الخوف الذي مازال يلازمه من السجان اللئيم والذي كان يجبر السجناء على لعق بوطه العسكري أو على ابتلاع فأرة أضعف كيانه ، وجعله لايفكر بالنســاء إلا بشهوة يقضيها سـريعا ً .

كان الإعتقال ظلما ً لازمه طيلة حياته ، يتذكره بخوف قائلا : " .. لا تسألي عن شئ .. الموت حاضر في كل لحظة وثانية .. بالصدفة .. بطريق الخطأ .. بقرار محكمة أو سجـّان .. بالمشنقة .. بالمقصلة ... بالرصاص .. بالدكة الحجرية .. في باحة السجن ، وهنا (كان يؤشر إلى داخله .." ... " .. مايفصل الموت عن الحياة شعرة .. عيناك تلوماني ، تلوكان رجولتي ..
أعرف ذلك .. أنا مازلت أعيش في الطابور ، الأصوات تلاحقني ، الصراخ يوقظني ..".

في نهاية الكتاب تورد الكاتبة عبد الرحمن نصوص رسائل أسمتها : رسائل الغرباء كتبت في مقدمة هذا الفصل تلك المقدمة المنشورة على الغلاف الأخير ..
تنشر رسائل مذيلة بتواقيع وأسماء عديدة كمعتقل ما ، وتائهة بين الدروب ، والقادمة من الأوهام ..

يكتب لها معتقل ما : " حببيبتي الهاربة من كل القيود ، والمقيدة حتى نقي العظام بالأحكام ..أتوق ليوم حرية واحد أحمل فلا ً وقرنفلا ً أنثره فوق سريرك ، وأمطرك دمعا ً وقبلا .. أموت لأصل إليك ..
ترد ّ عليه قائلة : " ياغالي َّ ، البعيد البعيد البعيد ..
ألوك أيامي ، ألوك كلماتي ، ألوك قلبي منك وعليك .. أهرب وأختبئ بين ضلوعك وياسمين الزوايا القديمة ..

فيكتب إليها :
" غجريتي ، هي أنت ..
جنون اللحظة ، جنون الهروب ، تحملها ذاكرتي .. ، وعيناي تنظر إلى الكتب المبعثرة فوق الطاولة والسرير الذي كنت تلقين الشعر عليه (بين بربارة جاك بريفير ، وحرية ايلوار ، وأغاني مهيار الدمشقي ..) .. دمعاتك فوق الوسادة على مرض أمك ماتزال هي .. هي ، مكانك .. ثيابك .. جواربك .. أحذيتك الصبيانية .. تركتها لتقولي ماعدت أريد شيئا ً سوى الرحيل .. احتفظ أنت بهذه الأشياء ." .." وجهك رافقني في أدق لحظات التعذيب ، وكلما دخلت الزنزانة ، جسدي منهك ملفوف بالشاش والجص أراك أمامي تضحكين ، تعبثين بشعري ..
فتجاوبه الكاتبة على لسان القادمة من الأوهام : " عقد ، عقود تسألني ، وأصمت ..أخيرا ً أخلع النقاب والقناع مع أشياء أخرى ..أنسى نفسي ، أنسى ورق التوت ، حرير القز .. أنسى وأنسى وتبقى عيناك الرائعتان زاد فرح وصفاء لصباحاتي القادمة .. أحاول إعادة ملامحك ، تجميعها في أحلى تجلياتها العشقية ، ألمس الخد ، وزاوية الفم ، والحاجب ، وأجد دمعة وحشرجة صوت فقط ..
وأبقى رهينة جسدك .. طيفك ضيف .. ضيفك طيف .. أحب الضيوف ..لا تسألني أحبك كيف ..

وتسأل : بأي اتجاه يتماوج شعرك الآن ؟!!
قصصته لكي لايتماوج أبدا ً ، ومازلت أحلم بحريتك ولقائنا كيف سيكون ..!! " .

فيكتب لها اسم آخر هو ( إنسان فقد تاريخ ميلاده) : " غجريتي .. صوتك يؤرق ليالي ّ
  سأربطك – فهمت ِ – سأربطك ِ .. أنما مربوط من رأسي إلى خنصر قدمي.. وأنت تستحقين الربط كي لاتفرّي كالرمال ..

آه ياحبيبتي كم أشتاق لقبلاتك المسروقة ، وهي تسرق قلبي .. جنون وداخلي يعتصرني .. أفتقد جنونك الآن ، وسخريتك اللاذعة أحيانا ً ..
أذكر يوم جمعت ِ باقة الورد والياسمين من البيوت القديمة ، رميتيها فوق رأسي المتعب .. ذلك المساء الحزين كان اعتقال أخي الصغير من امتحاناته ، انتزعت ِ العقدة فوق الحاجب ، وابتسمت رغما ً عني .. عانقتني كطفلة ، نسيت همومي لحظتها ." .

وتنهي الكاتبة ذلك الحوار الشيق برسالة تقول فيها : " .. عيناك َ معلقتان على الشبابيك الضيقة ، ذكرياتك .. خوفك المهرب في الهواء ، الملوث إلي يرهقني ..
أعلم أنك لاتأمن جانبي و " انفلاتاتي " الداخلية كثيرة ، وأعلم أني نقطة ضعفك ولو كنت في المعتقل ..

التغيير يشغلني دائما ً ، وعندما نلتقي قد يكون هناك مايجمعنا ، عند ذلك لن أتردد في الاستمرار .. لكن الزمن ياصديقي فعل فعله ، غير ّ أعماقنا ، بدل قناعاتنا ، مفاهيمنا ، سلوكنا .. ولهذا لاجواب حاسم ونهائي حول مصيير علاقتنا وأعتقد أنه الأفضل لكلينا معا ً ..
وداعا ً

والأستاذة حسيبة عبد الرحمن من مواليد 1959 ، مناضلة وروائية سورية نشر لها (الشرنقة ) والمجموعة القصصية (سقط سهواً ) إضافة إلى رواية( تجليات جدي الشيخ المهاجر) الممنوعة من النشر، تعرضت للاعتقال أربع مرات كانت أطول مدة منها ست سنوات بتهمة الإنتماء لحزب العمل الشيوعي في سوريا ، وساهمت مؤخرا ً بإعادة تشكيل لجان الدفاع عن حقوق الإنسان في سوريا .

المتة : مشروب شعبي في سوريا سيما في جبال القلمون والساحل .


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء او المديرات.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى