سلطة المقروئية
ليس من السهل على الإطلاق ابقاء النص في فضاء المعلومة الفكرية أو الأدبية ، وليس من السهل أيضا تحويل النص الى عملية تشريحية لمقاضاة الكاتب عن أفكاره .
ان الفضاء الكتابي عبارة عن تراكمات وحدوية متقاطعة ضمنيا وماديا ، تصب في ذات الكاتب الذي ليس من المشروط أن نتفق مع سير خطه الايديولوجي أو نختلف
ذلك لأن عملية الكتابة تتحكم فيها معايير مختلفة من التراكمات الثقافية والحضارية والانسانية والشخصية على حد سواء ، لكن هذا لا ينطبق على كل كاتب بدليل وجود ميكانيزمات نظرية تعمل على اظهار جماليات القول من غير قصد التنبيه للمعنى
و للقارىء هنا أدوار متشابكة التقاطع فهو الناقد بدرجات متفاوتة والمتلقي والمرآة وسلطته لا تكمن في بعث النص الى غير أصله فقط وانّما تخبطه في التأولات الخاصة بشخص الكاتب وكأن المؤلف هنا حالة شاذة علينا تسليط الأحكام العشوائية عليه لفك رموز ما حرّك فينا من غموض أوغرائز ناتجة عن أمراض نفسية سابقة أو عن عدم الادراك .
لقد آمنت منذ زمن أن خلو النص الأدبي من أي لذة لا يعدو أن يكون استعارات لغوية عقيمة تسكت في الحكي وتعبر بالقارىء الى أجواء الرتابة والنفور من تأطير البنية السردية في الفهم على حساب المتعة .
اذن كيف أصل الى حرية ختم سلطتي في النص لأشد القارىء الواعي الى ثوابتي السردية من دون شرط ؟ أعتقد أن قوة الكاتب في صدقه وتحرره من سلطة القارىء واذا كتب كي يرضي أخلاق قارىء معين لن يقرأ له قارىء وسيتحوّل الى نشاز بعد حين
واللغة في الأساس هي المشرط الحاد الذي تبنى عليه قواعد النص لأنها المرجع الأولي لاستهلاكها وانبعاثها في ميكانيزم المقروئية ، بل هي الحقيقة الوحيدة التي لا تقبل النقاش
اللغة اذن هي سلطة النص وهي مفتاح نجاح الكاتب وهي الفعالية التي تجلب القارىء الى استراتيجية تمكنها من توليد الدلالات التعبيرية المميزة
لذلك من الصعب أن نفهم لماذا ينجح كاتب عن آخر في جلب القراء الى مساحته وبتفاوت جد واضح .
واذا سلمنا بفكرة أن لكل قارىء صوت ناقد فهذا دليل على نجاح النص في بث مسألته الفكرية المقصودة بغية الوصول الى الهدف وكيفية استغلال مرجعيته ومن ثمة تأكيدها أو تركها
اذن ليس مشروطا على الكاتب اقحام ذاته في الجواب على تأويلات القارىء التي كثيرا ما تكون مصبوغة بانفعالات شخصية جد سلبية
ان للكاتب عوالم ميتافيزيقية غير محدودة تتضاعف حدتها في كتب التاريخ والروايات الطويلة ، بل ومن الكتّاب من يحكم ويجزم ويقطع أن الذي يقوله سيحدث ذات يوم اذن ليس هينا على المؤلف أن يحكم من خلال أقواله وكتاباته وهو يحتكم الى التغيير والتواصل الانساني والمحبة بدليل أن الكثير من الكتاب دخلوا عالم الجنون من أوسع أبوابه ولم يخرجوا منه أبدا ، ثم كيف لقارىء محدود الرؤية والثقافة أن يتسلح بأخلاق خاصة لاسقاط النص في أسئلة عقيمة غير عملية ؟
أجد هنا أن على الكاتب ألا يسمح بسلطته أن تخضع للعقول الملحة على الأخلاق
التي تخدم سرائرهم وتعنتهم وقبحهم وربما دينهم
لا تعبير اذن من غير أصل والأصل هو المبدأ الخطابي في الكاتب وهو أيضا الوسيط بين العقل والذات كعملية فلسفية متداخلة فيما بينها وبين مهمة الكلمة في تسيير التقنية اللغوية ، وأؤكد أن الناقد الجيد هو القارىء الجيد الذي يستطيع التخلص من سياق خطابه الذاتي الذي ليس بالضرورة أن يكون موازيا للآخرين والنص كهيكل له روح متحركة في فضاء اللغة يبدأ من فكرة ما عالقة في ذاكرة المتخيل ثم يتطور الى سياق تحليلي تتحكم فيه واقعية البديل من كل جانب و هي المفارقة التي يؤمن بها الكاتب الحر الذي لا يخرج عن طرح الأسئلة البديلة ليس لتوحيد النص فقط بل لخلق نظرية تقوم بتحديث ما وراء الكتابة . وبما أن اللغة سلاح الفكرة لبلورة الواقع يجب معرفة الواقع بلغته كي يتوافق الخيال والبديل مع ماهو متوفر ، غير ذلك لا نستطيع أن نحصر الكتابات الأخرى الا في خانة الفلسفة والروحانيات .