الأربعاء ٢٠ شباط (فبراير) ٢٠٠٨
شهادات رموز الثقافة العربية بالراحل سهيل إدريس

سهيـل إدريـس صانـع المشاريـع...

نشرت السفير اللبنانية مقالا يحوي شهادات بعض رموز الثقافة العربية من شعراء وأدباء وكتاب بحق الراحل سهيل إدريس، يعددون فيها مأثره، وديوان العرب تعيد نشره لأنها تشعر كما يشعرون بمدى الخسارة التي منينا بها بوفاته.

حنا مينا

إلى سدرة المنتهى رحيلك يا معلم

الذي علّم الإعجاز تحطمت به سفينة العمر على صخرة الموت فحقّ للأجيال أن تبكيه، وأن ترثيه، وأن تفتقده راحلاً على جناح غمامة بيضاء إلى سدرة المنتهى.

لقد مات المعلم، مات الدكتور سهيل إدريس صاحب رواية «الحي اللاتيني» وما تلاها من روايات، ومن عطاءات أدبية نهل منها وتتلمذ عليها جيلنا، نحن الأدباء الذين يعتصر الأسى قلوبهم على فقد هذا الرائد الكبير الكبير، مؤسس مجلة «الآداب»، وباني أعرق دار للأدب في الوطن العربي كله، ليس لأنها دار «الآداب» وحسب، بل لأنها مدرسة تخرجت منها أجيال وأجيال من الأدباء العرب، ومن هؤلاء حنا مينه، الذي تحول المسافات والأمراض بينه وبين وداع هذا المعلم شخصياً، فيكتفي، وهو على هذا البعد، أن يرشق قارورة عطر على جانح نعشه المكفّن بالجلال.
إن الرحيل في عربة الموت، على طريق الأبدية، هو قدرنا جميعاً، فلكل أجل كتاب، ولكل نجمة أفول «وكل أخ مفارقه أخوه، وكل مشعشع فإلى غروب». إلا أن المرض الذي أقعد هذا المعلم طوال أعوام، واحتمله صابراً محتسباً طوال أعوام، قد أوهن جسده، واستلب غاشماً بصره، وبرى لســانه الذي طالما برته الكلمات التي خطّها لنا، وفيها عصارة دماغــه وخلاصــة تجاربه، وفيها دعوته التي تركها لنا وصية لنا، في أن يكون للأدباء اعتــصـام بالعروة الوثقى، ووثوق بقدسية الحرف وإيمان بقدرة الكلمة لتكون لهم وحدة تدفع الغائلة عنهم، وقدرة على فرض حرية التعبير، التي دونها يعتري القلم الشريف شلل قاتل ليس في مصلحة أحد، من حكام ومحكومين، في هذا الوطن العربي الكبير. كما كانت للمعلم الراحل رغبة قلبية في أن يسود السلام والوئام والمحبة ما بين الشقيقين سوريا ولبنان. فيا أيها المعلم الراحل والزميل في أمنيتك المجتلاة من أجل وحدة العرب في كل أقطارهم، لك نقول:

لا نملك إلا ما قاله الجواهــري في رثاء الوطــني العراقي الكبــير جعــفر أو التـمّن: «طالت ولو قصــرت يدُ الأقدار/ لرمت ســواك عـظمتَ من مختار».
نعم طالت يد القدر، ولا رادّ للقدر. طالت فشالت بك إلى عليين وقصرت بنا لأننا تخلفنا في الرّكب عنك، وكنا كما قال حافظ ابراهيم لأحمد شوقي:
«قد كنت أوثر أن تقول رثائي/ يا منصف الموتى من الأحياء».

وحاشى يا معلم، أيها المنصف ونعم المجير، حاشى أن تكون قصّرتَ في إنصاف أحد، وفي أخذنا في طريق الإبداع الذي هو الأغلى والأسمى في دنيانا الفانية هذه. لك رحمة ربك ومرضاته وغفرانه. ولأسرتك المفجوعة بك جمـيل الصبر وصادق العزاء.

أحمد عبد المعطي حجازي:

تكامل ثقافي

سهيل إدريس يمثل قيمة أدبية وفكرية وسيــاسية سوف تظل حية إلى أمد طويل، هذه القيمة تتمثل في ثقافتنا أولاً المتــكاملة المتــوازنة التي حصلها في لبنان في كلية المقاصد الإسلامية وحصلها أيضا في جامعة السوربون في باريس، فهو من هذه الناحية نموذج للتكامــل الثقــافي المطلوب في هذا العصر، وهذا التكامل الثقافي لعب المصريون دورا ثقافيا فيه بداية من الطهطاوي إلى طه حسين، يعني المثقف العربي الذي بدأ بتعليم تقليدي متين يتمكن به من لغته وآدابها وعلومها ثم يكمل هذا التعليم في فرنسا بالذات.. المثقف اللبناني الذي يذكرنا بالنموذج المصري هو سهيل إدريس.
ثم إنه لم يكن مجرد مثقف إنما كان صاحب رسالة لأنه لم يكتف بأن يكون روائيا وهو الروائي الممتاز كما نرى في روايته (الحي اللاتيــني)، هذه الرواية التي كانت حلقة جديدة في تجسـيد القيــمة التي ذكرتها وهي مسألة التكامل الثقافي والتوازن الثقافي، وهذا الزواج بين الثقــافة العربية التقليدية والثقافة الغربية الأوروبية الحديثة، هي حلقة من الحلقات التي تصور وتجسد هذا التكامل، يعني يمكن أن نعتبر أن «تلخــيص الإبريز» هو الحلقة الأولى و«عصــفور من الشــرق» و«زهرة العــمر» و«قنديل أم هاشم» و«الأيام» حلقات آخرى، والحي اللاتيني حلقة أساسية في هذه السلسلة.
فالعمل الروائي الذي قدم سهيل إدريس هو تجسيد لمسيرته كمثقف ولكنه لم يكتف بأن يكون روائيا ممتازا وإنما كان صاحب رسالة، وهذه الرسالة تجسدت في مجلة الآداب التي كانت حلقة تالية ومكملة لرسالة الزيات ومن المعروف أن رسالة الزيات قد احتجبت عن الصدور في عام ,1953 والآداب ظهرت مباشرة في ذلك العام لتلعب أو تواصل الدور الذي بدأ في مصر، يعني سهيل إدريس كان في كل خطوة من خطواته يعتبر نفسه عضوا في هذه الجماعة المصرية لا باعتبارها جماعة محلية تنتمي إلى مصر وحدها لكن باعتبارها ممثلة للثقافة العربية كلها.

ثم إن سهيل إدريس من الوجهة السياسية والفكرية، هو لم يشتغل بالسياسة العملية وإنما تبــنى فكرة العــروبة وأخــلص لها وغذاها وخدمها بعمله الثقـافي سـواء في مجلة الآداب أو في دار النــشر التي أنشأها لتخدم فكرة العروبة بمضمونها العــصري المســتنير بانفتاحها على القيم الإنسانية التي جسد بها الثقــافة الأوروبية الحــديثة والمعاصرة.

وسهيل بعد ذلك صديق، لم يكن مجرد رئيس تحرير أو كاتب روائي أو صاحب دار نشر، إنما كان عضوا عاملا في المجتمع الثــقافي العربي، يقف إلي جانب حرية التفكير والتعبير وتربطه علاقات شخــصية مع كل الذين تعاون معهم في المجلة أو دار النشر الخاصة به، ومن المؤكـد أن سهيل إدريس يمثل للبنان قيــمة خاصة عظــيمة، يوازن التــيارات الآخرى التي انحازت لأفكار أخرى وارتبـاطات أخرى، يوازنها لأنه أضاف هذا البعد العربي للنشاط الثقافي في لبنان ولم يكــتف بأن يمثله في كتاباته وإنما مثله في عمله ونشاطه فكان له وجود فاعل وبــهذا استــطاع لبنان أن يلعب دورا ثقــافيا طليــعيا خلال النــصف الثـاني من القـرن العــشرين.

رحيل سـهيل إدريس خسارة عظــيمة لكنه أدى رســالته وستــظل القيم التي آمن بها وعمل من أجلها حية به وبأمثــاله وســوف يظل حيا بها.

شوقي بغدادي:
إيذان بموت بلد بأكمله

ما أكثر الذكريات التي تحتشد في مثل هذه اللحـظة كي تجد لها مكاناً في ما أكتبه الآن، حتى ليخيّل لي أن مــوت سهيــل إدريس هو مــراجعة لعصر كامل، وإلا فكيف أجمــع بين طالب «كلــية الآداب» الذي كنتُه في مطــلع الخمســينيات والطــامح للشهرة عن طريق مجــلة «الآداب»، ومعلم العربيــة الذي صرتُه في ما بعد، واليـساري الماركــسي الذي سكنني وظل موزعاً بين «الآداب»، مجلته الأولى، ومجــلته الجـديدة «الثقافة الوطنية»، والاثنتان عزيزتان عليه، بالرغم من الفوارق الفكرية بينهما.

وكيف أتناسى رسائل سهيل إدريس لي وهو يعــلق على إنتاجي ويوجهني وأصغي له وأتابع في الوقت نفسه حواراته اللطيفة الذكية مع القاص المبدع، والسوري القومي النزعة سعــيد تقي الدين. وسهيل كما أعرف ذو النزعة القومية العربية المطعّمة بالوجودية.
يا إلهي.. لكم أنا حزين أن كل هذه الذكريات الغالية قد بهتت الآن، ولم تعد تعني الأجيال الصاعدة.
حتى لكـأن لبــنان الذي أعرفه يمــوت في بعض أطــرافه مع موت سهيل إدريس الذي استطاع أن يأخذني إليه منذ روايته الأولى «الحي اللاتيني»، إلى مذكراته الأخيرة الجريئة الصريحة والطــافحة بحب الحقيقة.

في وسعي الآن، إذا ما استسلمت لنهر ذكرياتي المتــدفق، ألا أتوقف عن الجريان حتى أجدني أمام كتاب كامل عن الموهبة والوطنــية والمحبة والجرأة والذكاء والوفاء.

وأن أقول في ختام هذا الكتاب إن كل هذه الصفات تموت أو لعلها ماتت وعليّ الآن أن أرثي لبنان بأكمله وهو يواجه معــاناته الراهـنة المعقدة، وكأن موت سهيل إدريس ليــس تعبيراً عن مــوت كاتب معــين، بل هو إيذان بموت بلد بأكمله، ولكن كما يقولون «من خلّف ما مات» ما دام ابنه سماح حاضـراً حاملاً شــمائله. فحــافظْ على «الآداب» يا ســماح، كما أراد أبوك، وأنت قادر على ذلك، وهــكذا تحافظ على حــياة أبيك فينا جميعاً.
رحمك الله يا دكتور سهيل، يا أبا سماح، يا صديقي العزيز.

جابر عصفور:
من نجوم الفكر القومي

سهيل إدريس واحد من نجــوم ورموز الـفكر القومي العربي، فقد ظل يدافع عنــه طوال حياته، بل إنه أسس مجلة الآداب لكي تكون منبرا حرا للفكر القومي وكتابه وشعرائه، وهو الذي لم يترك موهبة عربية إلا وفتح لها صفحات مجلته، وبفضله عرف العرب شعراء مثل بدر شاكر السياب ونازك الملائكة ومجمل الشعراء العرب الرواد من مختلف الأقطار العربية.

لقد ظل يدافع عن الاتجاه الــقومي العــربي وهذا ما أدى به للاحتفاء بالتجربة الناصــرية التي كانت في أوج ازدهارها في الخمسيــنيات والســتينيات، وقد جاء إلى مصر والتقى بالرئيس جمال عــبد النــاصر الذي كـان بدوره يحـتفي بالكــتاب العرب.

تعد روايات سهيل إدريس من الأعمال الروائية العربية الأساسية التي تتناول العلاقة بين الشرق والغرب. هو الكاتب والمبدع والمترجــم القدير الذي عرف العرب بفضله مجمل التيارات والاتجاهات الفكرية والإبداعية الغربية، وأهمـها وجودية جان بول سـارتر التي تبنــتها مجلة الآداب لفــترة طويلة.

محمد علي شمس الدين:

الرمز

رحل سهيل ادريس لكن اسمه في ما هو رمز أدبي إبداعي وقومي سيبقى طويلا. حفر سهيل ادريس في الذاكرة الأدبية خطوطا يصعب ان تمحى بسهولة. كان من أوائل من مزج الفكر العربي بالثــقافة الغربية، من خلال اهتمامه بالأدب الوجودي والفلسـفة الوجودية، بالترجمات التي فتح دار الآداب لها فقام بهذه الترجمات اما زوجته عايدة مطرجي إدريس او هو مباشرة او من انتدبهم لذلك.

لا ننسى سهيل ادريس الروائي من خلال روايته المبكرة «الحي اللاتيني» و«الخندق الغميق» و«أصابعنا التي تحترق» أما سهــيل ادريــس صاحب دار الآداب ومجلة الآداب فإنه كان مركز جذب للشعر العربي الحديث والمعاصر وللرواية العربية الحديثة والمعاصـرة، إذ يندر ان تجد شــاعرا او روائيا ذا قيمة ابداعية لم يمر بهــذه الدار وهذه المجلة.

رحم الله سهيل ادريس. لقد كان بالنسبة إليّ صديقا حميما ودودا في الأســفار والاقامة. ان تسعة من دواويــني الشــعرية صدرت عن دار الآداب، أي ما يوازي ثلاثة أرباع ما كتبته من شــعر، وقصائدي المبكرة ظهرت في هذه المجلة، فكيف أنسى وكيف لا أحزن، ولكن كما ان الحياة استمرار والثقــافة استمرار، فإن لسهيل ادريس من يجدد حضوره، بل يطور هذا الحضور، ان لمسات سماح ادريس في المجلة ورنا ادريس في الدار تشكل استمرارا لمعنى الحياة الأدبية والثقافية المتطورة التي تعتــبر الآداب أسـاسا لها.

محمد إبراهيم أبو سنة:
من كبار أفضل الروائيين

ابتداء أشعر بالصدمة والأسي لرحيل واحد من كبار المثقفين العرب، ومن أفضل كتابها الروائيين في القرن العشرين، تغمده الله برحمته، وبالغ العزاء لأسرته التي تواصل أداء رسالته في مجال النشر وإصدار مجلته الرائعة مجلة الآداب.

سهيل وجه مشرق ونادر، استطاع أن يقدم للحركة الشعرية العربية والمصرية في بدايتها في الخمسينيات والستينيات نافذة واسعة ومنبرا للإطلال علي المنجز الشعري في البلدان العربية وكذلك الإطلال على الساحة الثقافية والإبداعية العالمية، وجيلي على وجه التحديد وجيل شعراء الستينيات والخمسينيات المدينين له فقد مد يد العون لهذين الجيلين لنشر أعمالهما على صفحات مجلته التي كانت تعد منبرا قوميا وحملت هذه المجلة رسالة الشعر الحديث وأصلت للتيارات الإبداعية الحديثة سواء في القصة أو المسرح أو النقد الأدبي، وأنا شخصيا نشرت ديواني الثاني حدقة الشتاء في دار الآداب.

هذه الدار التي كان النشر بمثابة جائزة أدبية لأنها كانت تحمل أسماءنا إلى أركان الوطن العربي كله، ولا أنسى أن سهيل بشفافيته ونبله وكرمه كان وراء توجيه الدعوة لي للمشاركة في الملتقي الشعري العربي الثاني الذي عقد ببيروت 1974 واستقبلني وزميلي وفاء وجدي بكثير من المحبة والترحاب.

إن الوفاء بدين سهيل إدريس الأدبي أكبر من طاقتنا فقد استطاع بجهوده في مجال النشر أن يوصل أصواتنا وإبداعنا إلى القراء العرب في كل مكان، كما أن دور مجلة الآداب أيضا كان دورا طليعيا في إطلاعنا على التيارات الأدبية والفكرية العالمية، أنا أشعر بخسارة فادحة لكني على ثقة من أن الضمير الأدبي العربي سيظل محتفظا بمحبة صادقة لهذا الأديب والناشر العظيم والمدافع عن حركة الحداثة والذي رفــع لواء المنابر القومية في النشر.

سهيل إدريس هو الذي عرّف أدباء العربية ببعضهم البعض، ولولا مجلة الآداب التي أسسها ورأس تحريرها لخابت كثير من الآمال في سطوع رواد حركة الشعر الحديث ورموزه.

سهــيل إدريس ناشــر وروائي ومترجــم وناقــد يمــثل صــورة مشرقة ونادرة لمرحلة من مراحل النهضة الأدبية العربية في القرن العشرين.

جمال الغيطاني:
علامة مضيئة

كان صرحا ثقافيا عظيما وسيظل علامــة مضيئة في الثقافة العربية مذكرا لنا بالثقافة القومية المستنيرة، ومما يجعلني أحس بالعزاء أننا خصصنا له عددا من جريدة أخبار الأدب عام 2003 ، ليس هناك مثقف عربي ليس مدينا لسهيل إدريس، فقد أسس وترأس مجـلة الآداب التي تبنت الاتجاه القومي وقدمت أهم الأسماء الشعرية والنــقدية وغيرها، كما قامت دار الآداب بتقديم التيارات العالمية في الأدب، هذه الدار التي يفخر أي كاتب أن ينشر فيها، ولا ننسى أنه من نشر رواية نجيب محـفوظ أولاد حارتنا.

وليد إخلاصي:
الغائب الحاضر

رحيل سهيل ادريس يحيي في الذاكرة مجلة (الآداب) الشهرية التي كان رئيس تحريرها منذ العدد الأول في العام .1953 وكان قد كتب في مقدمة العدد الأول من السنة الثانية:

«ان هذه المجــلة تلح على اتجــاهين: أولهمــا وأهمــهما دون ريب محاربة الاستــعمار الذي ترزح تحته الأمة العــربية، أيــا كــان شـكل هذا الاستعمار، وأيــا كانت الدولة الأجنــبية التي يصدر عنــها. وأما الاتجاه الثاني، فاستيحاء المجتمع العربي الأدب الذي يحتاج اليه هذا المجتمع».
منذ البداية أعلن سهيل ادريس عن ربط المشروع الثقافي المتمثل في مجلة الآداب بوجهي عملة القضية العربية: النضالي والابداعي. وهكذا استمر سهيل ادريس متقدما في دربه، فكان ان استقطب مشروعه أهم الكتاب والشعراء وأوسع رقعة من المثقفين العرب. وإذا ما ظهرت دار الآداب للنشر كان سهيل ادريس يستكمل مشروع عمره تسانده أسرته من طرف والتعاطف الجماهيري من طرف آخر.

نصف قرن من الابداع والايمان بدور الثقافة في الحياة، أمضاه سهيل ادريس بحيوية وإخلاص جعلت منه واحدا من الرموز الثقافية العربية، فما عاد غيابه من المسرح بمؤثر على الدور الذي ارتضاه بعد ان بات حضوره الغائب الآن وجودا مستمرا في الزمن القادم.
كان سهيل ادريس مزارعا جادا أتقن دفن البذرة في تربة خصبة وروى الأرض بالمثابرة والاخلاص للمجتمع الممتد على ساحة الجغرافيا العربية. لنحيّ الراحل بالدعاء لمن يعمل على متابعة مشروعه بالحرارة التي كانت لسهيل ادريس.

شوقي بزيع:
لا يشبه الموت

كنت أؤثر في المسافة الفاصلة بين تلقي رحيله وبين الطلب إليّ أن أقول شيئا ما في المناسبة بأن أترك للصمت وحده أن يعبد هذا الزمان الشاغر بوفاة أحد أكثر الأصدقاء الذين أحببتهم والذين جمعتني بهم مودة لم تنقطع منذ أكثر من ثلاثين عاما.

لست الآن في معرض الحديث عن الروائي المؤسس في «الحيّ اللاتيني» ولا عن حاضنة الحداثة العربية التي اتسعت صفحات مجلة «الآداب» التي أصدرها في خمسينيات القرن الماضي لمئات الشعراء والروائيين والكتاب العرب ولا عن المدافع الشرس عن الديموقراطية والحريات في عالم عربي أثخنه طغاته بالجراح بل الأهم من ذلك وقبل كل ذلك أريد أن أرثي ذلك القلب الكبير المفعم بالحب والدفء وذلك الذي كان لي أبا وأخا والذي نقلني منذ منتصف السبعينيات من طور التأتأة على طرقات الشعر إلى طور الكلام الفصيح. أنا الذي نشرت أولى قصائدي في الآداب والذي نشر كل مجموعاته الشعرية الثلاث عشرة في الدار التابعة لها. ثمة شيء من اليتم أشعر به بوفاته وهو الذي بالمناسبة ولد في السنة نفسها التي ولد فيها أبي البيولوجي.

أعرف أن بداية انكساراته كانت مع تراجع حلمه القومي وبانكسار عبد الناصر ولكنه على المستوى النفسي والجسدي بدأ يترنح تحت ضربات المرض والإحباط في اللحظة التي رحل فيها صديق عمره نزار قباني وقد صارحني يومها بأن وفاة نزار هي خطوته الشخصية الأولى نحو القبر. ورغم ذلك فقد كانت تتصارع داخله قوى الحياة والموت بكل ضراوتها وكان دائما ينزع نحو الأولى حيث حبه الجارف للغة وللأمة وللمرأة ولشهوة العيش ولأنه لا يشبه الموت في شيء ولأن كبرياءه كانت أقوى من المرض ولأنه لم يرد لأصدقاءه أن يعاينوه في لحظة ضعف فقد آثر بعد أن بدأ عمليات غسل الكلى أن ينزوي داخل غرفة نومه رافضا أن يراه أحد في صورة لم يكن يحبها لنفسه. وهو إذ يغيب الآن أشعر أنني أدفن معه جزءا غير يسير من أحلام الحياة الوردية ومن فرح الوجود الأرضي ومن الافتتان اللانهائي بالكلمات.

رفيف رضا صيداوي:
ذاكرة كاملة

هل هي صدفة أن يرحل سهيل ادريس القومي العربي في زمن الأفول العربي؟ هل هي صدفة أن يقضي الرجل الذي ناضل من أجل قيم الحريّة والوحدة والديموقراطيّة في لحظات مصيريّة عنوانها المزيد من البؤس والفقر والتشرذم والطغيان؟

في وداع أديبنا ومفكرنا الكبير سهيل ادريس كأننا نودّع ذاكرة كاملة، لطالما حملت لنا الوعود والآمال. وكوني لست في وارد تعداد إنجازات الأديب والمفكر الراحل، ألفيت نفسي وأنا أسطّر هذه الكلمات أودّع أباً متنوّراً وتاريخاً مشرفاً ناضل سهيل ادريس وأمثاله من المثقفين العرب في الدفاع عنه.
صاحب «الخندق الغميق»، و«الحيّ اللاتيني»، و«أصابعنا التي تحترق»، صاحب هذه الثلاثية الروائية الخالدة في النتاج الروائي اللبناني والعربي، آمن بأن الأدب صنو الحياة: عاملٌ من عوامل التطور والتغيير. فناضل في حياته كما ناضل أبطال ثلاثيّته: نضال من أجل الانعتاق من السلطة الأبوية في «الخندق الغميق»؛ نضال من أجل اكتشاف الذات والتصالح معها في «الحيّ الللاتيني»؛ نضال من أجل أن يبقى المثقف على مسافة من كلّ القذارة التي تحيط به، ومن أجل أن ينشر قيمه ويحافظ عليها في «أصابعنا التي تحترق».

لقد رسم ادريس من خلال فكره كما من خلال أدبه معالم الحرّية المرجوّة. تلك الحرية المسؤولة في الدفاع عن القيم الحقّة والمثل العليا.
في وداع سهيل ادريس، وفي هذه اللحظات التي فرغت فيها الكلمات من معانيها وتاهت في مسارات التضليل والتمويه والكذب وتشويه معاني الحق والخير، تراني أودع مثقفاً كرّس حياته لمواجهة قوى التضليل والشرّ والطغيان والرجعية والإقطاعية...

فهل ذهبت جهودك سهيل ادريس سدىً؟ كلا لأن عطاءك كان كسباً للفكر العربي نستطيع أن نعتزّ به وأن نسهم من خلاله في خلق القدر العربي الجديد.

عبد المنعم رمضان:
زمن سهيل الذهبي

وصلتني رسالة عبر «الموبايل» من روائية صديقة ذات حساسية فائقة كتبت فيها (أليس وبلا كلالة ضربا من القتل؟ مات سهيل إدريس) لم أستطع الرد علي الرسالة لأنني فعلا أخاف من الموت، وعندما يصل الموت إلى أشخاص أحببتهم أشعر أنه يحوم حولي، ليس مصادفة أن يموت رجاء النقاش ويليه سهيل إدريس اللذان كانت بينهما صداقة فكرية، بموتهما كأن عصرا ينهار، ما يعزيني في سهيل إدريس أنه امتلك زمنا ذهبيا، أغلب الكائنات يكون لها في أثناء حياتها زمن ذهبي تعيشه ثم تقضي بقية حياتها خارجه، زمن سهيل الذهبي كان طويلا بعض الشيء امتد ثلاثة عقود بالتقريب، وكان مؤثرا في ما حدث بعده، ما يعزيني أيضا أن تعثر السيدة رنا إدريس على زمنها الذهبي حتى تعيد لدار الآداب فتوة أوجدها سهيل ذات يوم.

آخر أفعال سهيل إدريس الحميدة هو شروعه في كتابة سيرته الذاتية التي صدر الجزء الأول منها وكان يحاول في هذه السيرة أن يضع قدميه في زمن آخر، مرة ثانية (أليس وبلا كلالة ضربا من القتل؟ مات سهيل إدريس).


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء او المديرات.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى