سيميائية التناص في شعر فاطمة ناعوت
توخولوسكي يتساءل من أين تأتي الثقوب في الجبن؟ و"ناعوت" تتساءل من أين تأتي الثقوب في الفِكر؟ كيف تأتي الثقوب في كرامتنا؟ ثقوبٌ، ثقوبٌ، ثقوب، أينما اتجهنا في القراءة اصطدمنا بثقوبٍ مفخخة، أو أفخاخٍ مثقبة، أو مغفرةٌ احتوت الخطيئة، أو يعسوب يضللنا ويعدنا ويُمنِّينا:
(الثقوب في ثوبي-سيّما في الأماكنِ المدروسةِ تشريحيًا-فسوف تلهي الراصد)( الثقوبُ في ثوبي/ليستْ لضيقِ ذاتِ اليد/ و لا لتقاعسِ المربيةِ عن الرتْقِ مساءً/أمامَ التليفزيون،/لا حتى/نكوصًا لأيامِ الجامعةِ/وقتَ كنتُ أمزِّقُ بنطلوني الجينز)(الشِّعرُ/ثقوبٌ في الكلام)(شجَّني ولدٌ/ثم فرَّغَ بالمثقَبِ جمجمتي/ليملأ موضعَ الفوضى/لونًا وقشًّا/وكثيرًا من الصمت)(بعدما سقطَ من ثقبِ قميصِه/شيءٌ/أسفلَ الشوايةَ"
والسيميائية هي دراسة العلامات كدوال حية في العقل السائد، متفاعلة ومتداخلة بين المبدع والمتلقي، واللاوعي يتعامل مع الدوال فقط، والوعي هو حائك اللغة التي تعبر عن هذه الدوال وتحولها إلى مدلولات، والتناص هو تداخل نصين أو أكثر، أو تأثر نص بنصوص أخرى، كتكرار دالة معينة من باب تعلق النص بمقتضاه، وليس من باب التكرار كإحصائية مجردة، وغالباً ما يكون بين أجناس أدبية مختلفة، فنجيب محفوظ كتب روايته "الشحاذ" بلغة شعرية، وبيكاسو كتب قصة الحرب وفظائعها من خلال تجسيد القصف الوحشي النازي في لوحة الغرونيكا، قصفٌ دام ثلاث ساعات في 27/4/1937، فتحركت مشاعر بيكاسو، وأطفال العراق قتلُ منهم مليون في الحصار وهو يقصف كلَّ عام مرتين أو مئات المرات ولا من بيكاسو ولا من نخوة المعتصم، والتي أقلقت نسخة جدارية منها في مجلس الأمن، كولن باول وزير خارجية أمريكا، فأمر بتغطيتها وهو يحاول الترويج لحرب احتلال العراق، في شباط 2003، وقد يكون التناص بين الرواية والموسيقى أو الغناء أو بين الأدب والتلفزيون أو السينما، أو بين الشعر والفن التشكيلي وفن العمارة وهو ما حدث عند الشاعرة "ناعوت" فتعلق شعرها بالفن التشكيلي، وبفنِّ العمارة وأنا لا أفهم الفن التشكيلي إلا إنني أحبه، ولن أستطيع أن أتحدث عن التناص بين قصائدها ولوحاتها التشكيلية التي لم أرها وإن رأيتها فلن أفهمها، لذا ستقتصر قراءتي على التناص بين نصوص قصائدها فقط، من خلال مفردة الثقب كدال والبحث عن مدلولاتها المختلفة، فديوانها ملئ بالثقوب السحرية كسينما صندوق الدنيا، وكما قالت أليس (المسألة هي ما إذا كان بوسعك أن تجعل للكلمات نفسها معانيَ مختلفة) وهو ما تحاول "ناعوت" أن تفعله بوعيها، وهو ما يفعله الجميع دون وعيٍ منهم بأنهم يبحثون عن معانٍ مختلفة من خلال كلماتٍ لا يعرفون غيرها، وكانت قد علقت في ذهني جملة كنت أبحث عنها ولا أذكر أين قرأتها، ألا وهي(من العدلِ أن يأتي الفرحُ بين وقتِ وآخر على الأقل)وعند هذه الجملة التي قالها كامو حدث تناص، حيث أدرجتها ناعوت في نصها وردت وعلقت عليها:
من حدَّثكَ عن وجودِ "عدلٍ"
يا كامو ؟
وهذه الجملة كانت في قصيدة زهرةٌ فوق كفِّ امرأة خاتمة ديوان "ناعوت"، مع إنني متأكد أنَّ الجملة عالقة في ذهني قبل أنْ أقرأ الديوان، وعندما قرأتها في هذا الديوان تأكدتُّ أنني كنت أبحث عنها منذ زمنٍ طويل، وبعد تمحيص دقيق وجدتُ أنَّها كانت جملةً مترسبة في لاوعيي ولكن في مفهوم المخالفة حيث إني أردد دوماً (من العدلِ أنْ يدهمَ الموت والمصائب أُناساً بين وقتٍ وآخر)فظالمٌ يهتمُّ بمظهره الخارجي وأناقة ثيابه وهو لا يعلم أنَّ فيهما حتفه، وآخرٌ بكبريائه أو بماله أو..أو..كما سألت ملكة فرنسا المدللة ماري أنطوانيت، عن سبب هياج الناس إبان الثورة الفرنسية، فقيل لها:إنهم يريدون خبزاً، فقالت ولمَ لا تعطونهم، فقالوا لها: ليس لدينا خبز، فقالت ببساطة: أعطوهم كعكاً، وإنْ كنتُ أشكُّ في صحة الرواية تاريخياً، لكنني متأكد بأنَّ هذه الحكاية لا زالت تتكرر ولكن بأشكال مختلفة.
وأي نص هو مجموعة من الكلمات، وهذه الكلمات لا بدَّ أن يكون هناك من سبق في استخدامها، وأي شاعر لا يخلو من تأثير ما قرأه من شعر للآخرين، فلا يعقل تصور شاعر يكتب الشعر وهو لم يقرأ شعراً في حياته، وكذلك القصاَّص، ولكن هل جاء الشاعر بصيغة جديدة وشكل وأسلوب مبتدعين، يجب أن يختلف عن أفكار الآخرين ونصوصهم وأساليبهم في التعبير، فلا وجود لفكرة أصيلة لم تتولد عن فكرة أخرى كتطوير لها أو رد عليها، و(إن أي عمل فني أو أدبي جديد يموّل نفسه من مصاريف عديدة عامرة بأرصدة الثقافة والقومية والإنسانية، وكل نص هو طبقات من النصوص المنضدة والأساطير القديمة، والأحداث الكبرى، ومن هذا كله تتأكد حقيقة مفادها: "أن التناص ظاهرة لانصادفها في نص واحد بعينه، وإنما هي قانون النصوص جميعاً) .
بدايةً شاهدتُ "ناعوت" على قناة النيل الثقافية، تنشدُ قصائدها، فسألتُ أصدقائي عنها فوجدتهم قد سبقوني إلى معرفتها، ثم بحثتُ عنها في الشبكة العنكبوتية وقرأتُ الديوان في موقعها على الشبكة كدواوين كثيرة، وليس لدي فكرة مسبقة بأني سوف أتوقف عنده، توقفت وقررت أنْ أكتبَ عن إحدى قصائده، فاخترتُ الأولى من الديوان، وهي بعنوان(ثقوبٌ تشكيليةٌ لا تُغْضِبُ المرآة)ولكن فجأة قررتُ أن أعيد قراءة الديوان، ثم غادرته لأعود من جديد لأنَّ "ناعوت" استخدمت في بسط أفكارها غير المألوفة، لغة ومفردات ودوال غير مألوفة لذا يجب أن تكون الكتابة عنها بطريقة غير مألوفة أيضاً.
قصائدها مفارقات كلامية تحولت إلى لغة شعرية ونثرت أنواعاً مختلفة من التشويق والإثارة الفكرية كبذرات حية في نصوصها، الشاعرة تخرجت من كلية الهندسة المعمارية جامعة عين شمس للعام 1987، وهي فنانة تشكيلية أيضاً، لذا فقد حدث تناص فني في شعرها تشكل منه هذا الخليط اللغوي الساحر، فهي قد رسمت خريطة بنائها المعماري اعتماداً على ترسانة الثقب في بنية لغتها الشعرية فأطلت على العالم من خلال ديوانٍ معماري، وكلّ ثقب في عين أو أنف أو إبرة أو غير ذلك، فإن العرب تسميه سَمًّا ومن السَّمّ الذي بمعنى الثقب قول الفرزدق:
فَنَفَّسْتُ عَنْ سَمَّيْهِ حتى تَنَفَّسا
وَقُلْتُ لهُ لا تَخْشَ شَيْئا وَرَاءنا
يعني بسَمَّيه: ثقَبي أنفه. وفي قوله تعالى(وَلا يَدْخُلُونَ الجَنَّةَ حتى يَلِجَ الجَمَلُ فِي سَمّ الخِياطِ وكذلكَ نَجْزِي المُجْرِمين)-40-الأعراف وذلك ثقب الإبرة، والجسم ملئٌ بالثقوب كي يتفاعل داخله مع محيطه، فالمنخرين والأذنين والعينين والفم ومسامات الجلد ثقوب تهوية لموازنة حرارة الجسم والتخلص من الماء الفائض عن الحاجة، وكذلك ثقبا إخراج الفضلات من بولٍ وغائط، وإنَّ انسداد أحد الثقوب لا يعوضه ملك الرشيد الذي قال وهو عطشان اشتري نصف قدح الماء بنصف ملكتي، وقيل له فإن مُنِعَ من الخروج، قال اشتريه بالنصف الآخر.
ولأنَّ مفردة الثقب دالة على مرحلة انتقالية بين الموت والحياة، بين المرئي والمسموع، بين الواقع والخيال، وبينَ جميع المتناقضات ثقبٌ صغير أو كبير بحسب نسبة التناقض ونوعه، وهذا الاختلاف النسبي اتخذته "ناعوت" كبؤرة لديوانها الجديد:
الداخل ثقب الخارج
تناقض
الخارج ثقب الداخل
اللامرئي ثقب المرئي }
تناقض
فالطعام والشراب والرؤى والأفكار تستمر في رحلتها بين الداخل والخارج، عبر الثقوب، فلا يمكن التسلل من الداخل إلى الخارج دون الوصول إلى الثقب الصحيح، ولا يمكن الولوج إلى الداخل من الخارج إلا من خلال تمييز الثقب ذو المسار الصحيح، ولا يمكن دراسة الأفعال دون التعرُّف إلى النوايا من خلال الثقب الذي سارت فيه النوايا إلى عالم الأفعال، والعبرة بالنوايا وفيها سرٌّ خطير، ولكلِّ إمرءٍ ما نوى، ويقول تعالى(وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ( وكما يفصل الموت عن الحياة ثقب فإنَّ العلامة أو الإشارة أو الإيماءة أو الدلالة هي التي تفصل العالم عن الجاهل والحي عن الميت، و(كذلك لا يمكن القول أنَّ هناك مفهوماً من المفاهيم لم يجد ما يعبر عنه أي ما لم يتخذ شكلاً مادياً إما داخلياً على شكل فكرة أو خارجياً على شكل لغة أي لا يمكن أن نحصل على مدلول دون دال) ، والعلاقة تكون:
دال ثقب مدلول
ثقب حياة ثقب
(خروج الروح) موت ثقب(القبر)
وخروج الروح لا يكون إلا من ثقب كالفم والأنف أو خرق في جسد القتيل، وتقول العرب مات حتف أنفه، ومادام(الشعر ثقوبٌ في الكلام)عند "ناعوت" فالأصواتُ ثقوبٌ في جدار الصمت الملتف حولنا، وللصوت دلالات متنوعة الاتجاهات:
صوت ثقبا(الأذن) صور متخيلة
ومادام (ثمة أشعةٌ تتسلل من متن القصيدة/تربك اللغةَ على لسان العابرين.):
ثقب ــــ صوت ــــــ ثقب ـــــ لغة ــــ ثقب ـــ قصيدة ــ ثقب أشعة ـــــ ثقب ـــــ عابرين
فنهيق الحمار، وخازباز الذباب وصهيل الجياد وزئير السباع يعرفنا بنوع الحيوان أو الحشرة مصدر الصوت، ولا يعطينا صورة محددة عن شكله وحجمه ولونه، ، لكن صوت إنسانٍ نعرف صوته يعطينا صورة واضحة عنه لكنها متخيلة أيضاً فلا نعرف بأية هيئة هو عليها وقت صدور الصوت ما لم نرها، وستبقى صورته ولون ثيابه ونظرة عينيه، ولون وجهه، وعبوسه وبشاشته متغيرة في الخيال.
ومادامت( الثقوب في ثوبي/-سيّما في الأماكنِ المدروسةِ تشريحيًا –/ فسوف تلهي الراصدَ عن/ قراءةِ ما في رأسي من الأفكارْ./ الطيبة طبعاً).
هنا تهاجم "ناعوت" الرجل الشرقي التقليدي الذي لا ينظر للمرأة إلا من خلال حاجته الجنسية وتهاجم الراصد الذي يهتمُّ بالقشور لا باللبِّ، يرى الظاهر دون الباطن، يُريدُ العرضَ دون الجوهر، ولا يبصر ما وراء الأكمة، وأيُّ جمالٍ عندَ قبيح الخلق وليس له إلا جمال ثيابه ووجهه، بينما يتأتى بديع الجمال من حسنِ الفعال، والأفكار الطيبة تعني النوايا الطيبة والتي ينتج عنها أفعال الخير كافة:
نوايا ثقب أفعال } سبب ونتيجة
والأفكار الطيبة نتيجة حتمية للقلب السليم الخالي من أمراض الحسد والطمع والغضب والتكبُّر،كما في قوله تعالى(يَوْمَ لا يَنفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ-88-إِلا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ)-89-الشعراء، وكما قال عبد الله بن المبارك:
رأيتُ الذنوب تميتُ القلب وقد يورثُ الذلَّ إدمانها
وترك الذنوب حياة القلوب وخير لنفسك عصيانها
وهل أفسد الدين إلا الملوك وأحبار سوء ورهبانها
ونية المؤمن خيرٌ من عمله، لأنَّ النوايا تسبق الأفعال، فالعبد الصالح خرق السفينة وقتل غلاماً لم يبلغ الحلم وفي فعله إفسادٌ ظاهر، وإنعامٌ باطن، والشاعرة منشغلة بالبعد التاريخي للتفكير المتوازي للجنسين، كما حدث تناص لهذا النص مع نصٍ آخر عبَّر عن الصورة السيئة المتبادلة بين الجنسين وما تخفي خلفهما من سوء النوايا، ففي قصيدة زهرة فوق كف امرأة تقول "ناعوت" (جسدُكَ أتلفتْهُ النساءُ/جسدي/أتلفَهُ الصدأ .)
ونص المبدع جزء معنويٌّ من جسده، ربما تقصد نصوصها هي التي أتفلها الصدأ، حيث بقيت دواوينها على الرفوف وتزدان بها المكتبات دون أنْ يتناولها أحد الأكاديميين في بحثٍ أو قراءة، بدلاً من تناول شعراء غربيين قد وصلوا إلى الساحل، وليسوا بحاجة إلى قادح ولا مادح، وهو ما فعله برناردشو حين رفض جائزة نوبل، مبرراً أنَّه لا يحتاجها، وليعطوها لمن يحتاجها، وأنا سمعتُ عن أحد طلاب الماجستير كتب رسالته عن يوسف إدريس وسافر من العراق إلى مصر ليقابل المبدع موضوع رسالته، في ثمانينات هذا العصر ولمّا وصل، وأخبر السكرتير بوصول طالب علم من العراق، رفض يوسف إدريس مقابلته، قائلاً لقد قلتُ كلُّ ما عندي في المقابلات التي أجريتها في الصحف والمجلات وليس لديَّ إضافات، وأراد أحد طلاب الماجستير أن يكتب عن رواية حسين رحيم (القران العاشر)وهو موظف في مكتبة جامعة الموصل، فرفض الأستاذ المشرف على الرسالة لأنَّه علم بأنَّ الكاتب هو كاتب في المكتبة المركزية للجامعة، وأمره بتغيير اختياره، ولا أدري لماذا تصدأ نصوصنا المحلية بينما نكتب عن مؤلفين كتبت عنهم آلاف البحوث والدراسات حتى ما عاد هناك شيء جديد يقال-(وهل غادر النقاد من متردمِّ، أم أني عرفت النص بعد توهمِّ)- ورحم الله ربعي بن عامر الذي علمنا كيف يجب أن نكون أمام زخرفة وترف الآخر، بدلاً من حالتي الانبهار والاستلاب المخيمتين على العوام وعلى أدبائنا، فضلاً عن قادتنا ذوي السيكار الكوبي الغليظ وقبعة رعاة البقر، ثقوبٌ وثغرات، شقوقٌ وتمزقات، أوصلتنا إلى حالٍ لا يسرُّ صديقاً ولا يغيض عدوّاً، وفي المجالات كافة، وكأنَّ من يكتب عن أحد مبدعي عصره من مواطنيه الأحياء يمنعه خوفه من أنْ يوصم بالعار والتخلف والثقافة السطحية، ويخاف أن لا يُدعى إلى اجتماع أو مهرجان أو يحجموا عنه عضوية لجنة مهمة، فلماذا نتلفُ أذهاننا بنصوص استهلكها النقاد بحثاً وتمحيصاً بينما تبقى نصوص أصدقائنا مركونةٌ على الرفوف تنتظر من ينفض عنها غبار الإهمال المتعمد، لماذا تكتب مئات الأبحاث والرسالات عن نصوص غربية؟ هل السبب في الرؤية؟ أم في سوء النوايا؟ أم هي أنانية فحسب وغيرة لا تليق بالأدباء والمبدعين؟ وهل أن سدنة باب الثقافة العالي أي النخبة يرفضون أي دخولٍ إلا بعد أن يختموه بختمهم؟ وهل أن نجاح أصدقائنا لا يعني إلا فشلنا؟ كلا فنجاح أحد المحليين هو نجاح لجميع مواطنيه، والشيء المنظور واحد لكنَّ الرائي يختلف فتختلف الرؤية تبعاً لاختلافه، فإمَّا علمٌ وبصيرة، وإمَّا جهلٌ وضلالة، وهذا ما جعل "ناعوت" تشتكي من الراصد الذي ينشغلُ بالقشور عن نواياها الطيبة،
شيء ـــ ثقبا(العين)ـــــ صورة متميزة= فهمٌ وبصيرة ≠ جهلٌ وضلال.
شيء ــــــــــــــ ثقبا العين ـــــــــــــــــ صورة شكلية مادية ـــــــــــــــ = جهلٌ وضلال.
رائحة ـــ ثقبا(الأنف)ـــــ صورة متخيلة
ويقول الشاعر بن معد يكرب :
ليس الجمال بمئزر فاعلم وإن رديت بردا
إنَّ الجمال معادنٌ ومناقب أورثنَ مجدا
كان غاية اللبوس عند العرب أنْ يأتزروا بمئزر ويلبسوا فوقه بردا حتى ملوكهم ويُسَّمُّونَ ذلك خلعة ولا يسود الرجل عندهم حتى لا يبالي أيَّ ثوبيه لبس، فأسسوا بتقشفهم حضارة عريقة، فلما أترفوا وضاعوا في البحث عن القشور، كما رجالُ الغرب اليوم، بينما في الشرق فينافس شبابنا ورجالنا النساء في الوقوف أوقاتاً أطول أمام المرآة، على نهج الهيبز لا على نهج نيوتن وأينشتاين، راصد لا يرصد الفضاء الخارجي وحركات الكواكب بل يرصد(الثقوب في ثوبي/-سيّما في الأماكنِ المدروسةِ تشريحيًا)، وناعوت تسخر من المرء الذي يهتم بثيابه كثيراً ولا يلبس إلا الجديد، هو في الغرب مستهجن ومشكوكٌ في أمره لأنَّه شاذ السلوك، فليس الجمال ثيابٌ جديدة وأنيقة، بل جمال الإنسان في أفعاله الكريمة والزكية التي تورث المجد والشرف، وكان سقراط أقبحَ صبيٍّ في أثينا يهتف في أعماقه مخاطباً الإله بخشوع(اللهم أجعلني جميلاً في داخلي)ولكن أينَ الجمال،أين الجمال و"ناعوت" تقول:"هناك/حيث الزمن مخاتلٌ/كما لونِ وردةٍ جافة في كتاب/ وحيث الثقوبُ أوسعُ من خطيئة/وأكثر ضيقًا من خواء/ثمة أشعةٌ تتسلل من متن القصيدة/ تربك اللغةَ على لسان العابرين."
وهنا مفارقة ذكية فليست الخطيئة بأوسع من الخواء، فإنْ كانت الخطيئة واسعةٌ مجازاً في سعة انتشارها بسبب تحجيم دورها والاستخفاف بتأثيرها، واسعةٌ هي الخطيئة وعلينا أن ننتبه لهذا، وكما قال المسيح عليه السلام للناس الذين أرادوا رجم المرأة المتهمة بالزنا(من كان منكم بلا خطيئة فليرمها بحجر)فنكسوا رؤوسهم ورموا أحجارهم، فإنَّ الخواء وهو الفراغ واسعٌ أيضاً، وكما قال الشاعر:(هاوٍ تضلّ الريح في خوائه)
وقول شاعرٍ آخر: (هاوٍ تضلّ الطيرُ في خوائِه وجدّ يفري الجلدُ من أنسائهِ) .
وفي قصيدة "ناعوت" "حفنة رمل تخص المرء وحده": "الطفلانِ اللذان أشارا بإصبعٍ واحدةْ/نحو النهايةِ الخاسرةْ/على قرصِ الروليت الدائر،/فاقتسما سويا/الخطيئةَ/والخطأ." وفي قصيدة" زهرة فوق كف امرأة" تقول "ناعوت":"ثمة يعاسيبُ تنبؤنا عن المغفرة الوشيكة/ثمة بقعةٌ في أقصى الأرض بعدُ لم تلوثها الخطيئة" يعاسيب جمع يعسوب، وهنا تتقاطع اللغة مع الوتر دون أنْ تعزف عليه، فلا زالت السلطة تعد جماهيرها الغفيرة التي لا تتعب من التصفيق، بالرفاهية والحريات، وهنا يحدث التقاطع مع السلطة في شعر "ناعوت".
و(اليعسوب من الناس السيد واليعسوب رئيس النحل إذا طار طارت معه، وإذا حطَّ حطت.)
السنجاب يحتمي بثقوبٍ في الأشجار يتخذها بيتاً ولا يهتم لنوع الأشجار، و"ناعوت" تحتمي بثقوب تنثرها بين أسطر ديوانها كعناصر تشويق إلى معرفةٍ أوسع، والجماهير وعوام الناس يلوذون باليعاسيب كما يلوذ الظمآن بالسراب يحسبه ماء.
وتفتحُ "ناعوت" لنا أبوباً للولوج إلى عوالمٍ أخرى، ففي قصيدة (ثقوبٌ تشكيليةٌ لا تُغْضِبُ المرآة)واستهلت بها الديوان تقول:
الثقوبُ في ثوبي/ ليستْ لضيقِ ذاتِ اليد،/ و لا لتقاعسِ المربيةِ عن الرتْقِ مساءً/ أمامَ التليفزيون،/ ولا حتى/ نكوصًا لأيامِ الجامعةِ/ وقتَ كنتُ أمزِّقُ بنطلوني الجينز/ على نهجِ "الهيبيز" .
ليست ثقوب الفقر، لأنَّها غنيةٌ بقناعتها ورضاها عن حكم الله فيها، لكنها ثقوب مناهج الهيبز، ثقوب أحدثتها السلطة في جسد الثقافة، حين أطلقت نيران سلطتها وشنت حربا شعواء على المثقف فاشترتهم كافة وبقيَ واحدٌ فحاربته في رزقه وفي حريته وفي حياته إذا تطلب الأمر، وفي المقابل لجأ المثقفون، من عباقرة فكر الحداثة في فترات السلم طويلة الأمد التي أعقبت الحرب العالمية الثانية، إلى البحث فوجدوا فراغاً وظفوه في حفر ثقوب في الجدران الهشة للحكومات التي تخاف من الحبر والورق، ومن الممكن في مناورة ناجحة تستغل ساعة تغفل فيها السلطة، فتكبر القصيدة وتصير ديواناً، والمقالة تصير كتاباً، والكتاب يتحول إلى مغناطيس ينجذب إليه الفقراء والمهمشين ويشكلون أسلحة دمارٍ شامل بوجه السلطة التي تفتقد الشرعية، ومن هنا تتشكل صورة الواقع في رؤية "ناعوت" مليئة بالثقوب غير المرقعة، والنكوص الإحجام عن الشيء لكنها لا تحجم عن أيام الجامعة ولا تريد أن تنساها، بل تذكرها بلذة وفرح، ويقال نكص على عقبيه أي رجع، وكما جاء في قوله تعالى(وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لاَ غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَّكُمْ فَلَمَّا تَرَاءتِ الْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِّنكُمْ إِنِّي أَرَى مَا لاَ تَرَوْنَ إِنِّيَ أَخَافُ اللّهَ وَاللّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ)الأنفال-48- ولكنها لا تستطيع الرجوع إلى أيام الجامعة أيضاً إلا من خلال مونولوج تيار الوعي، وليس هو المراد أيضاً حسب الأفكار التثاقبية الناعوتية، لأنَّها إذ تستلذُّ بماضيها وتفخر به وتنكص إليه إنما بسبب ضيق الحاضر، وهو ليس هاهنا تقهقرا وتراجعا وانسحابا فحسب بل هو فرار، وقال الشاعر:
ليس النكوص على الأدبار مكرمةً
إن المكارم إقدامٌ على الأسل
وهي إذ تنفي نكوصها لأيام الجامعة فما نفيها هذا إلا تأكيد على رغبةٍ مكبوتة في النكوص والفرار إلى الماضي من حاضرٍ باهت الألوان خالٍ من أية بهجة.
وفي نفس القصيدة ثقوبٌ أخرى، لكنها ليست مرئية كثقوب الثوب بل هي غير مرئية، ثقوبٌ في الكلام، ولكن كيف نثقب الكلام؟ وأيَّ مثقب نستخدم؟ لو فرضنا الكلام جداراً، ألن يكون أجمل بثقوبٍ تتخلله في متتالية كما يحدث في المعمار الحديث، ثقوب كمالية صغيرة، أو ثقوب كبيرة تستخدم كنوافذ، بل لقد بات فن العمارة الحديثة يعتمد بدرجة أساسية على الثقوب، فترى العمارات الشاهقة تنهض بثقوبٍ فحسب، وهذه الثقوب تزدان بالزجاج المظلل أو الملون، "ناعوت" المعمارية التشكيلية تدعي أنَّ(الشعر ثقوبٌ في الكلام)أي:معانٍ جميلة ومنتثرة باستخدام الكلام، والقدماء قالوا (الشعر كلام موزون مقفى يدل على معنى)لكنهم أجمعوا على أهمية المعنى أكثر من الثلاثة أركان
الباقية(كلام-وزن-قافية)والشعراء في كلِّ مكانٍ وزمان معدودون، فليس كلُّ من نظمَّ شعراً يقال له شاعر ما لم يأتِ بصور ومعانٍ جديدة، وهو ما تؤكد عليه "ناعوت" أيضاً:
"الشِّعرُ/ ثقوبٌ في الكلام ./ يفعلُها النشَّالُ عادةً/ يقرصُ الهدفَ في ذراعِه/ فينامَ خيطُ العصَبِ في الجيبْ/ وتبدأُ اللُّعبة."
وفي قصيدة "دائرة الطباشير" تقول:
"مغدورةٌ أنا مثلك/ شجَّني ولدٌ/ ثم فرَّغَ بالمثقَبِ جمجمتي/ ليملأ موضعَ الفوضى/ لونًا وقشًّا/ وكثيرًا من الصمت."
تستخدم الثقب كدالة جديدة من خلال اسم الآلة المرتبط بالفعل ثقبَ، فالذي ثقب جمجمتها من خلال شج وهو إحداث شق في الرأس أو ثقب يتدفق منه الدم، لكن رأس "ناعوت" تدفقت منها الفوضى، واستبدل الثاقب لوناً-للتشكيليين المعماريين-وكثيراً من الصمت بات من لوازم المثقفين والأدباء.
وفي قصيدة "على عهدة الراوي" تقول "ناعوت":
"يفتحونَ الخزائنَ/ يعتمرونَ الآدمَ والساديَّةَ و العجزَ الجنسيّ،/ فيما المشاءونَ في الكواليسِ/ يتحركونَ صوبَ القصرِ الرئاسيّ،/ بينما الغلامُ/ الذي احترفَ الرقصَ فوق الحبال قديمًا/ يبتسمُ بلا سببٍ/ و ينادي على بضاعتِه البائرةِ/ بعدما سقطَ من ثقبِ قميصِه/ شيءٌ/ أسفلَ الشوايةَ."
وسقط من ثقب جيبي شيء آخر، لا أدري كنههُ، وسقطت من رأسي أفكارٌ أخرى، وسقط من عمري وقتٌ آخر، وسقط صديقي في الصف الأول الابتدائي، وسقط السيد رئيس التحرير حين رفض نشر قصيدتي بدعوى أنَّها تمسُّ أمن الدولة وتخدم الشعوبية والرأسمالية والأصوليين والإرهاب، وهي مبتذلة كأنَّها إعلانٌ عن مطعمٍ شعبي، نفر الكباب فيه بفلس واحد، ولحم كبابه لحمُ جحشٍ صغير هربَ من حظيرة الحمير، بعد أن رفض الذلَّ الذي يعيشهُ أهلهُ، وسقطت من جيبي ورقة صغيرة فيها آخر بيتٍ للشاعر أحمد مطر، فاقتنصه المخبر عريف الأمن الخاص، ودسَّ الورقة في ثقب جيبهِ ودسني في غيابةِ الجبِّ، وسقطتُ سهواً في غياهب الغفلة فلبثتُ في السجنِ بضع سنين.