شاعرة الأبدية
إيميلي ديكنسون، شاعرة أمريكية من مواليد 1830. نشأت، وتربت، وقضت بقية حياتها، في قرية صغيرة تدعى (أمهرست)، من ولاية (ماساشوسيتس). باستثناء، فترة قصيرة درست فيها اللاهوت، في (ماونت هوليوك) ب(أمهرست). وكانت إيملي، بالرغم من انتمائها إلى وسط ديني متزمت ومحافظ، ذات مزاج، مرح وبشوش، ودعابة سوداء مكتسحة، الشيء الذي جعلها تتمرد على وسطها المنغلق نفسه، وتعكس ثورتها النفسية، في تجربتها الشعرية التي قوبلت بالرفض آنذاك. وكانت، كثيرا ما تقع في حب أساتذتها، بل حتى ولو كان قاضيا، أو مرشدا دينيا. ورويدا، رويدا، بدأت تنسحب كالمتصوفة، نحو عالمها الداخلي، لكي لا تفارقه من بعد قط. لم تتزوج، بل فضلت وقد تجاوزت الأربعينات، في وسطها الأسري، الذي كان يتكون بالإضافة إلى الأبوين، من أخت اسمها (لافينيا)، وأخ اسمه (أوستن). وقضت بقية حياتها الدنيوية، في هذا المناخ المنعزل، عن بقية المجتمع، لغاية ما قدم ملاك الموت واختطفها سنة 1886.
لم تتزوج، بل ظلت عانس في بيت أبويها، وقد تجاوزت الأربعين. وفي هذا العالم الداخلي، المحاصر بالعزلة الداخلية، راحت إميلي بكل إنسانها، متفرغة لكتابة رسائلها، وقصائدها التي تقارب الألفين قصيدة. ومع ذلك، لم تنشر منها، سوى سبعة قصائد، وهي على قيد الحياة. ويرجع الفضل إلى أصدقائها، في إخراج تراثها الشعري الضخم إلى الجمهور، من بعد رحيلها بثلاثة سنوات. ويعتبر الشاعر الأميركي الشهير وصاحب مجموعة (أوراق العشب)، (والت ويتمان)، الشاهد عيان للحرب الأهلية، من الذين أشاروا إلى عبقرية الشاعرة، إيميلي ديكنسون.
وبخصوص تجربة إيميلي الشعرية، فلقد كانت مسكونة بهاجس الموت. وبإمكاننا أن نعتبر ظاهرة الموت، بأنها كانت هي الوحيدة التي تشغل بالها، وتملأ عليها حياتها. الموت لدى الآخرين، أي بما معناه الموت المشاهد من الخارج أصبح، لديها هاجسا، ترى فيه موتها هي، وهنا يكمن سرها. وهي في هذه التجربة الشعرية، التي كان يهيمن على مفرداتها، وتراكيبها المجازية، لغة القضاء، هذه المستوحاة مشتقاتها من قاموس قضائي، انحدر إليها من جهة أبيها، كانت إيميلي تلعب فيها، دور محضر جلسة الموت.
ولقد تنبه مبكرا، الأديب (توماس.و.هيكنسون)،الذي كان يراسل الشاعرة إيملي، ويقوم بتصحيح، وتوجيه بملاحظاته، بعض كتاباتها، إلى هذه الشعلة النارية غير الملموسة، الساكنة فيها. ويسوق هذه الحادثة النادرة، عبر زيارة كان قد قام بها عندها، حين قالت له:"- إذا قرأتُ كتابا، كان بإمكانه أن يصيب جسمي ببرودة، ليس بإمكان أية نار تدفئته، علمت بأنه الشعر. إذا شعرت بأن هامة رأسي، قد فصلت عن جسدي، علمت بأنه الشعر. إنهما الطريقتان الوحيدتان عندي لمعرفة الشعر. و أنت يا سيدي، أما لك من طرق أخرى تطلعني عليها؟".
وكانت، كثيرا ما تُساءل نفسها، عن الأبدية: أهي مكان، حالة أم شيء؟ وفيما يتعلق بالموت، فإنها كانت تفرق، فيما بين الصورة التمثيلية للموت من حولها، ولدى الآخرين، والتي كانت تعتبرها ك(سرقة)، و(فعل) الموت، الذي كانت تعتبره فعلا شخصيا، وليس لأي أحد، القدرة على اختطافه منها. على هذا الضوء، فإن تجربتها الشعرية، جاءت كعملية تشريحية، لهذا الفعل ونقصد به (فعل) الموت الشخصي. ولماذا هذا التشريح؟ لأنها كانت تعتقد في نفسها، بأنها بهذه العملية، سوف تصل أخيرا، إلى معرفة سر ما تبحث عنه. حتى ولو كان الذي تريد تشريحه، شيئا غير قابل بأي وجه من الوجوه، لفعل التشريح.
وختاما، بإمكاننا أن نقول، بأنه إن كان ثمة من الشعراء الروحانيين من أمثال (هوبكينس) و(جون دون)، الذين كانوا يعلمون عما يتحدثون عنه، فإن إيميلي، كانت من ناحيتها، لا تعلم عما تتحدث، أو تتحدث عنه، ومن هنا أصبح شعرها لغزا، ومحاولة فهمه، مغامرة في غابة مسحورة.
مختارات من مجموعتها:
(المكان الذي يعني الأبدية).
المقطع الأولثمّة شيء أكثر سكونا من النَّوم،في هذه الغُرفَة الدّاخِليّة!ثمة شيء في منتهى الحمولة على الصَّدر،ولكنه يرفضُ ذكرَ اسمِه.بعضهم يلمسه وآخرون يُقَبِّلونه،وبعضهم يُدفئ اليدَ الجامدة،وللجسم جاذبية بسيطة،لستُ بقادرة على فهم كنهها.لم أكن لأبكي لو كنتُ مكانَهم،فالعويل لا جدوى منه هنا،حذار! أن تزعجوا السّاحرة الطّيبة،فترجِعُ إلى غابتها خائفة.في حين كان الجيران البُسَطاء،يثرثرون عن (الميِّت الجديد)،- نحن – ميالون إلى التلميح،كنا نشير بإصبعنا إلى العصافير الطائرة.المقطع الثانيإذا كان لا بدَّ لي أن أموت،وكان عليكَ أن تعيش،وعلى الزمن أن يستمر في هديره،وعلى الصّباح أن يلمع،والظُّهر أن يحترق،مثلما هي العادة.وإذا كان على الطيور أن تعشش باكرا،وعلى النحل أن يستمر في طنينه،يصبح بإمكاننا إلغاء المِنَح،لهذه المؤسسة السُّفلية!كم هو مريح معرفة بقاء المخزون،حين نكون مع زهور الربيع،و تكون التجارة مستمرة،والحوائج مورقة.مما يجعل هذا الفراق سهلا،ويُبْقي على الروح في صفائها،في حين يعبر الرجال المرحون،يقودون الموكب الرائع.المقطع الثالثبمجرد ما ضِعتُ، شعرت بإنقاذي!بمجرد ما شعرت بالعالم يمضي!مجرد حزام للإمساك بصدمة الأبدية،حين أصبح النَّفَس أسوداً،ومن الجهة الأخرى،كان المد المُغيظ،يتناهى إلي.ومثل ناجية كان شعوري إذن،قاطعة للمسافة وبي رهبة غريبة،لرواية قصص غريبة!كبحار يحاذي شواطئ مجهولة،كصحفي شاحب عند أبواب رهيبة،قبل الختم بالشمع الأحمر!في المرة القادمة: البقاء!في المرة القادمة رؤية الأشياء،غريبة عن الأذن،منقوشة على العين.أن أبقى متأخرة،ففي المرة القادمة،في حين تنحصر الأعمار ماضية،في حين تعبر دورات الزمن،على الصراط،وتدور الحقب.المقطع الرابعكنت أتناول جوهرة بين أناملي،وأستسلم للنوم.لقد كان اليوم حارا،وكانت الرياح متشدقة،فقلت لنفسي (ستتماسكين!).وعند الاستيقاظ،وبخت أناملي بلا لفّ و لا دوران،الفصّ اختفى.و الآن ذكرى الحجر الكريم،ككل ما تبقى لي.المقطع الخامسأحب نظرا يحتضر،لأني أعرف بأنه حقيقي،ولأن الرجال يصطنعون الخلجات،ولا يحاكون خلجات الموت إيماءاً.للحظة! تتجلد العيون – إنه الموت –من المستحيل أن يكون ثمة تصنع،فحبات العقيق على الجبهة معقودة،من شدة القلق البَيْتيّ.المقطع السادسشعرت بالجنازة في رأسي،جنازة موكب بطوله وعرضه.تمشي … وتمشي … لغاية ما اعتقدت،بأن رأسي ستستسلم تحت وقع أقدامها.وحين استووا جميعا جالسين،أداة، تشبه الطبل في خدمتهم،قرع وقرع بشدة طالما بقيت متفكرة،وقد صار ذهني متجمدا كالصقيع.ثم سمعتهم يرفعون الصندوق،ثم هذا الصرير عبر روحي.ومن جديد الأحذية الرصاصية نفسها،ثم بدأت الفضاءات بالارتجاج.وكأن السماوات كانت ناقوسا،والإنسان أُذُن،وأنا و العصفور طائران غريبان،قد وقعنا لوحدنا هنا.ثم قرقعت خشبة في فكري،وسقطت إلى الأسفل أكثر فأكثر انحدارا،واصطدمت بعالم،عند كل طبقة من طبقاته،فانتهت معرفتي في هذه اللحظة.
[[
كلمة المؤلف:
لقد قمنا بهذه الدراسة، من خلال قراءتنا لمؤلفات للشاعرة الأمريكية. واعتمدنا في ترجمة النصوص الشعرية الواردة في هذا البحث المبسط على المراجع باللغتين: الفرنسية والإنجليزية. كما أدخلنا بعض التعديلات على بعض الأبيات، حتى يستقيم معناها، إبان نقلها للغة العربية. وننبه القارئ الكريم، بأننا لم نتوخّ دراسة مستفيضة ومعمقة، بل مقاربة لمعرفة نبذة عن حياة الشاعرة وتجربتها الشعرية.