ما بين السرد الروائي والوثيقة التاريخية.
هذه الدراسة مهداة إلى روح الأمة الأندلسية وذاكرتها التاريخية
السرد الروائي.
بإمكاننا أن نعد الرواية التاريخية، كجنس عربي حديث، على المكتبة العربية. هنالك مثلا، محاولات لهذا الجنس الأدبي الروائي، نجدها عند الكاتب الروائي نجيب محفوظ في منتصف القرن العشرين، كما نجدها بشكل متطور عند الكاتب جورجي زيدان. لكن هذا الموضوع ليس من اهتمامنا الآن. أما ما نقصد به في هذه الدراسة، هو الرواية التاريخية التي تتخذ لها مسرح الجغرافية العربية الإسلامية، أو موروثها الحضاري، كنقطة انطلاق للسرد الروائي. ونخص بالتحديد تلك التي تفد علينا وما تزال، من خلال مصادر لغوية أجنبية، سواء كانت مكتوبة باللغة الفرنسية، الإنجليزية أو الإسبانية أو غيرها. وهنا أيضا نجد أنفسنا أمام فئتين من الكتاب: كتابا أصولهم عربية أو إسلامية، يمارسون كتابة الرواية التاريخية انطلاقا من اللغات الأجنبية، وآخرون أصولهم أجنبية، يمارسون هذا الجنس نفسه من الرواية التاريخية. وبإمكاننا أن نسوق بعض الأمثلة بهذا الخصوص: (طبيب طليطلة) ل(مات كوهن)، (سارة القرطبية) ل(رولاند كوس)، (أسد طليطلة) ل(كلود أندريه بيرت)، (سلطانة ألمرية) ل(رجين كوليو)، (صلاح الدين فارس الإسلام) ل(جيرالد ميسادي)، (صلاح الدين) ل(لاري.ت.كريست). كما نجد في المقابل، (ليون الأفريقي) ل (نجيب معلوف)، ثلاثية غرناطة (لرضوى عاشور) ، (صلاح الدين) ل(فرح أنطون)، (زفرة المغربي) ل(سلمان رشدي) و (في ظلال الرمانة) ل(طارق علي). ومن كل هذا العرض المختصر، ننتقي رواية واحدة كنموذج لدراستنا، ألا وهي رواية" في ظلال الرمانة" لكاتبها طارق علي. والكاتب هو روائي وصحفي باكستاني الأصل، بريطاني الجنسية. ولد في (لاهور)سنة 1943م، وانخرط في الحزب الشيوعي التروتسكي سنة 1968م، وظل عضوا فيه لغاية الثمانينات، حين انفسخ الحزب، فاعتزل هذا الجانب النضالي، واكتفى بمساندته لحزب(طوني بين)، ذا الاتجاه اليساري المتطرف. وللرجل مواقفه السياسية، ومواقفه الأدبية وتراثه النضالي، بل و حتى الصحفي. ونحن في هذه المقاربة لا يعنينا من كل هذا، لا الحكم على عقيدته الماركسية، ولا على مواقفه السياسية، وإنما الذي يهمنا منه في هذه الأثناء، هو الكاتب الروائي، وبالخصوص، روايته الأولى التي صدرت له باللغة الإنجليزية ونقلت إلى الفرنسية تحت عنوان(في ظلال الرمانة). ولقد قام بنقلها إلى اللغة العربية (د.إبراهيم السعافين). وتعد هذه الرواية لدى الكاتب، هي الأولى من سلسلة خماسية، نشرت منها لحد الآن: (كتاب صلاح الدين)، (امرأة حجرية) و(سلطان باليرمو). وصدر له مؤخرا، كتاب تحت عنوان (اصطدام الأصوليات).
إذن فبخصوص الرواية التي نحن بصدد دراستها (في ظلال الرمانة)، بإمكاننا أن ندرجها بدون أي تردد، في خانة الرواية التاريخية. وملخص هذه الرواية باختصار، ذاك القدر التعيس الذي تسلط على أسرة (بنو هذيل). وهذه الأسرة تنحدر تاريخيا من أصول أموية. وتواجده بشرق غرناطة الأندلسية يعود إلى عدة قرون. والرواية تصور حالة هذه الأسرة قبل تشتيتها وطردها من الأندلس، التي عادت إلى حوزة النصارى سنة 1492م. والرواية ترسم الخطوط العريضة لهذه الأسرة لغاية انتفاضتها بعد 1499م وذلك بسبب الضغوط التي كان يمارسها عليها رئيس الأساقفة آنذاك الكاردينال (خيمينِس دي سيسنيرس). وأحداث الرواية تتلخص في سلالة فريد الهديل، مؤسس القرية التي تحمل اسمه. وهذه الأسرة التي اخترع الكاتب تشكيلتها، ترمز فيما ترمز إليه، إلى الأعراق والديانات التي كانت متعايشة في الأندلس. فابن فريد، جد عمر، كان قد تزوج من خادمة مسيحية أنجبت له ولدا، اعتنق المسيحية فيما بعد. وكان قد عاشر أيضا يهودية أنجبت له ولدين:أحدهما ابن حسد الذي كان يعمل بستانيا لدى أسرة عمر. والثاني، كان قد التحق بالجيوش المسيحية المنتصرة، وأصبح قسا في صفوف ألأساقفة. وابن زيدون المعلم، هو الآخر ينتمي إلى هذه الأسرة. وكانت أمه تعمل كخادمة لدى آل الهذيل. وأسرة عمر بن فريد، التي تشغل من الرواية المحور الأساسي، كانت تتألف من الأب، الذي كان يسعى إلى اللجوء إلى الحوار مع المنتصرين، وابنه زهير، الذي كان قد صمم على الجهاد، لاعتقاده بأن عودة العبقرية الإسلامية ممكن. بينما رحلت ابنته هند صحبة زوجها إلى تونس، بحثا عن تراث الأجداد. وباختصار، إذا كانت شجرة الرمان، ترمز إلى التعددية التي كانت تعيشها الأندلس، فاقتلاع جذورها، يصبح ضربا من التعصب وعدم قدرة الديانات، كما الثقافات على التعايش. فالكاتب وضع في هذا السياق، خطابا مبدئيا بنى عليه قاعدة روايته التاريخية. ولا يخفى على القارئ، أن الكاتب يحاول قراءة صراعات الحاضر على ضوء تجارب الماضي، منبها إلى هذا الصراع الآني، الدائر بين الغرب المسيحي والشرق الإسلامي. إلا أننا من خلال استقرائنا للنص الروائي الفرنسي، الذي اعتمدنا عليه كمرجع، تبين لنا بأن المحاولة الروائية، هي بالدرجة الأولى محاولة استفتان. أي أن المسألة التاريخية قد تحولت إلى حالة استعطاف رومانسي. فالقارئ، الذي ليس له أي إلمام بالمسألة الأندلسية، خصوصا القارئ الأوربي، الذي لا تعنيه هذه المسائل في شيء. تصله هذه الرواية و يقرؤها في إطار القراءات العجائبية، المثيرة لرومانس الشرق المنقرض. ولسنا نبالغ والحالة هذه، من القول، بأن القراءة تتم في أجواء استشراقية، مفعمة بالسحر والبطولة والغراميات. فهل الرواية تظل في هذا المضمار تاريخية، أم أنها تخرج عن سياقها التاريخي، لتنزلق إلى حدائق التشويق الرومانسي. (انظر بهذا الصدد،كتاب الإستشراق، لإدوارد سعيد). فلنتوقف قليلا قبل المتابعة، ولنقدم تعريفا أكاديميا لما نسميه وننعته، بالرواية التاريخية. تعرف الكاتبة والأديبة (رولاند كوس) الرواية التاريخية في دفاترها البيداغوجية، طارحة السؤال التالي قائلة: "ما هي الرواية التاريخية؟" وتجيب قائلة: "إن مفهوم "رواية" يعني وهم وتخيل واختراع وإبداع من قبل الكاتب، أما "التاريخ" فيعني أحداث ماضية، أي واقعا ماضيا. والآن إذا ما نحن زوجنا المصطلحين، تصبح المعادلة لدينا، تخيل، يضاف إلى حدث ماض، أي لا معنى ! فالرواية التاريخية إذن، هي وهم وتخيل يتخذان من الماضي إطاره المرجعي، مع رغبة طموحة في المحايدة وإعادة البناء والتوضيح." وعلى هذا الضوء، تصبح رواية طارق علي، التي سنبين تشكيلاتها الدفينة، مطابقة لهذا التحديد الذي ذكرناه أعلاه. فالرواية تتخذ من الإطار الماضوي الذي تؤرخ له بسنة 1499 م مرجعها، إلا أنها تفرغ فيه مادة روائية وهمية، لا تعكس حقيقة الوثيقة التاريخية، ولا تستنطقها،بل تحملها كلاما شاعريا رقيقا وتلبسها بأزياء غرامية وإباحية.فالرواية المشتملة على( 288 ص) لا تعتمد الوثيقة الرسمية كمرجع أساسي، حتى ولئن كانت مؤشراتها الحَدَثِيّة صحيحة نوعا ما. والقراءة الخطابية الخفية التي يعرضها الكاتب عبر أبطاله، هي الأخرى، لا تعكس الواقع الحقيقي للحدث التاريخي. فالسيد طارق علي يكرس معظم فصول الرواية [باستثناء الثلاثة فصول الأخيرة، التي لا تتجاوز ثلاثين صفحة] إلى تصوير قرطبة في قالب مصغر لأسرة الهذيل. أسرة أرستقراطية ميسورة، يعد رجالها من وجهاء أشراف قرطبة. أسرة يتعاطى أفرادها للملذات والتفرغ للنزهات، لعب الشطرنج و الغراميات السرية بل حتى للعلاقات الجنسية المحرمة شرعا، كجماع الابن لوالدته. ليس هذا فقط،فالمتتبع للرواية بأسلوبها المتداخل، والمتلاعب بالحواس والأحاسيس الرقيقة، لا يمكنه قط أن يتصور تلك الكارثة التاريخية الكبرى، التي حلت فعلا بهذه المملكة الغربية، كآخر معقل من معاقل المسلمين. فمسألة (الجلاء)، ليست سوى غطاءا تمويهيا لأكبر الجرائم في حق شعب، بل أمة بكاملها. فالرواية تنزلق شيئا فشيئا، إلى عالم الفتن والغراميات والمؤامرات النسائية. وهي من ناحية أخرى، تسلط الضوء على شخصية تتمثل في شخص (الزنديق) الذي يلعب دور الملحد المتمرد على عادات الإسلام و المسلمين. بل لا يتوقف به الأمر بهذا الاستهتار والاستهزاء، بل يتجاوزه إلى عرض سورة (الكافرون) القرآنية قائلا بأن الله قد كان ساهيا حين أوحاها، لأنه لا معنى لها. وهو بهذا الخصوص أخرج السورة من سياقها التاريخي المؤكد على خصوصية التوحيد للرسالة الإسلامية، حيث أنزلت ردا على مشركي مكة الذين كانوا يطلبون من الرسول محمد (ص) بأن يشرك إلهه مع آلهتهم. وقصد الكاتب بهذا، تمرير فكرته ضمنا، بأن الإسلام يرفض الحوار مع الديانات الأخرى، بينما العكس هو الصحيح. وفي هذا المناخ البغيض، ينهال الكاتب عبر أبطاله، باللوم على المسلمين محقرا شأنهم، ولم ينل في المقابل من شأن الكاثوليكية المتطرفة، التي ستكون من وراء أكبر جريمة للتطهير العرقي في التاريخ. ثم إن أبطاله المسلمين، يصورهم في صورة منافقين باستثناء ابن زهير، هذا الذي سيختم آخر فصول الرواية كبطل فضل التمرد على الاستسلام.
فالرواية من مبتداها إلى منتهاها، باستثناء حالة الخوف من المجهول، ومحرقة الكتب التي ارتكبتها الكنيسة في شخص (الكاردينال)، (خيمينس دسنسيروس)، كان كل همها منصبا على مصير هذا الأسرة الهذيلة و مصلحتها في اعتناق المسيحية، إذا هي رغبت في الحفاظ على مصالحها الخاصة أو الرحيل إلى ديار المسلمين. ما يمكن أن نؤاخذ عليه الكاتب من جهتنا، هو تقليص المأساة الأندلسية، إلى مجرد مسألة أسرة أو قبيلة قلقة عن مصيرها، وهي مع ذلك غارقة في تعاطي الملذات والمحرمات. فرواية كهذه، بإعادتها للعرض المأسوي، لأمة الأندلس في حلة روائية رومانسية، تقوم بإفراغ الحدث الأصلي من التساؤل التاريخي الذي ما زال متعلقا به، والذي ما زال متسائلا عن كيف كان بالإمكان ارتكاب جريمة كهذه. نستنتج إذن، بأن الإنشاء وإعادة التأليف أو الكتابة الروائية على الكتابة التاريخية، هو نوع من أنواع محو آثار هذه الأخيرة. استبدالها و تقديمها في شكل حكاية، قد تكون محزنة، إلا أنها مشفية لجراحات الماضي، بالإنسانية السطحية المتسامحة ولكن على حساب من؟ هذا ما سنحاول الإجابة عنه في القسم الثاني من هذه الدراسة، الذي سيتناول عرض الوثائق التاريخية خارج الإطار الروائي.
لقد تم في هذه الرواية،مساواة الجلاد بالضحية، وتحميل الضحية مسؤولية مصيرها نوعا ما، في حين ظل الجاني بلا أدنى محاكمة تاريخية. ومن هنا نفهم الجائزة التي نالتها هذه الرواية، من قبل رئيس الأساقفة ل (سان كليمنت). ونحن نعلم بأن إيزابيلا الملكة الكاثوليكية، كانت موضع ترشيح، في سنة 1992م، تخليدا لذكرى انتصارها على غرناطة، بأن تمنح درجة القديسة إيزابيلا. ولم يتم تمرير هذا المشروع لضغوطات سياسية. والآن سنترك هذا السرد الروائي، لأنه بالفعل، يحق للكاتب وهو حر في توهماته وخياله، أن يخلق أشخاصه حسب المقاييس التي يرتئيها لها، طالما أن المسألة، مسألة خيال وسرد عاطفي، وليست مسألة توثيق. قلنا بأننا سنغادر هذا الفضاء، لننتقل إلى ميدان الوثيقة التاريخية، حتى يتهيأ لنا بعد هذا العرض، أن نجري المقارنة بين النصين، تاركين للقارئ أن يستنتج بنفسه،الفوارق التي تفصل بينهما، وأوجه الشبه التي تجمع بينهما. وفي هذا السياق التاريخي الحقيقي، ليس ثمة للرواية أية سلطة روائية، لأنه في هذا الحالة الثانية،وحده السرد الوثائقي الذي يدلي بوثائقه، يؤسس هذه المشروعية السردية.
لقد بدأت المحنة الأندلسية فعلا، بعد سقوط غرناطة في 21 محرم، سنة 897 هجرية، الموافقة لسنة 1492م. فعلى سبيل التذكير، كانت مملكة الأندلس الإسلامية، بكل الأعراق البشرية والدينية الأخرى التي تتألف منها، تواجه من جهة الغرب المسيحي، حملة صليبية بقيادة البابا، كانت تشارك فيها جيوش كل الممالك الغربية بلا استثناء. ونحن نميز بهذا الصدد بين حملتين صليبيتين متميزتين:
-1- الحملة الصليبية الخارجية: وهي التي وجهت إلى بيت المقدس في القرن 11 عشر،و التي منيت بالفشل والهزيمة في القرن 13 عشر، ولئن كانت من ناحية أخرى، قد عادت على الغرب الذي كان يعيش عصور الانحطاط، بفوائد حضارية كبرى، بعد احتكاكه بالحضارة العربية الإسلامية، التي كانت في أوجها تسود العالم آنذاك.
-2- الحملة الصليبية الداخلية: وهي التي كانت تدور رحاها، داخل الممالك المسيحية، والتي لم تكن معلنة رسميا، أي تدور في الخفاء نوعا ما. ولقد انطلقت من كنيسة روما برآسة البابا،مع بداية القرن 11 عشر ميلادي إلى غاية مستهل القرن 19 عشر، أي سنة 1808م. وكانت تستهدف في أول الأمر، كل الأقليات الدينية المنشقة عن الكنيسة، للتحول مع مرور السنين، إلى حرب علنية على كل من الأقلية اليهودية والمسلمين. وفي هذا المناخ الصليبي،استطاعت ملكة (قشتالة) إيزابيلا (1451-1504م) بعد زواجها من ولي عهد (أراغون) (فرديناند الثاني)، توحيد مملكتيهما، وتوجيه الضربة القاضية للمملكة الأندلسية بالجنوب. ففي سنة 1479م، توحدت المملكتين وراحتا في حصار متواصل لمملكة غرناطة، انطلاقا من سنة 1481م، لغاية سقوطها. ولقد استطاعت أثناء هذا الزحف الصليبي، الذي كان يضم بين صفوفه، جيوشا من مختلف الممالك المسيحية، احتلال كل من المدن التالية: مدينة (مالقة)سنة 1487م،مدينة (ألْمَرِيّة) سنة 1489م، ثم أخيرا (غرناطة) سنة 1492م. وبعد تسليم المدينة من قبل الملك أبو عبد الله علي بن حسن النصري، ضمت مباشرة إلى ملكية (قشتالة). وفي سنة 1496م، منح البابا (إسكندر السادس) لكل من فرديناند و إيزابيلا لقب، (الملكان الكاثوليكيان). ومن بعد وفاة إيزابيلا، ورثت ابنتها (جان أو خوانا) (1504-1555م) التي كانت تلقب بالمجنونة، مملكة قشتالة، في حين ورث (شارل الخامس) (1519-1555م) عرش (أراغون) الذي ضم إليه عرش قشتالة فيما بعد، بسبب قصور الملكة (خوانا) لأسباب صحية. وهذه الأخيرة كانت من جهتها، قد أصدرت مرسوما في حق (الموريسكيين) بوضع هلال أزرق، بحجم نصف برتقالة، على قبعاتهم كيما يتميزوا عن باقي المواطنين. وحين تمت معاهدة تسليم المملكة من قبل الملك أبو عبد الله،خرج هذا الأخير متوجها إلى المنفى تاركا وراءه مصير المسلمين، في معاهدة بينه و الملكين الكاثوليكيين، تشتمل على 67 بندا. وهذه البنود هي مجموعة شروط معاهدة التسليم، التي كانت تنص في أساسها، على تأمين المسلمين على دينهم، أموالهم، ملكياتهم، أبنائهم و حرياتهم. وليس من المستغرب أن شروط هذه المعادة قد اغتصبت واخترقت بنودها، ولم يمر على نص عهودها وتوقيعها، سوى سبعة سنين. وهذا لا يدهشنا بتاتا، فالتاريخ الصليبي حافل بمثل هذه الممارسات من قبل ملوكه و ساسته. وإذا كان بعض المؤرخين المسيحيين المتعصبين، يفرون من المسؤولية التاريخية، بإلقاء اللوم على المسلمين باعتبارهم كانوا السبب بانتفاضاتهم على المملكة، فإنهم يسكتون في هذه الأثناء، عن العوامل التي كانت من وراء هذه الانتفاضات، الشيء الذي سنبينه و نفصله بالتوضيح. فهذا التبرير(لهذا الوعي الشقي) حسب تعبير الكاتب عبد الكبير الخطيبي، ليس سوى تبريرا مجانيا، لتمرير أكبر جريمة تطهير عرقي في تاريخ البشرية المتأخر. فالمسلمون الذين كانوا سادة البلاد، لما يعادل ثمانية قرون، لم يخترعوا آليات التعذيب والترهيب ويتفننوا في موديلاتها، لممارسة التطهير العرقي على الأقليات العرقية الأخرى. ولو كانوا قد قاموا بمثل هذه الممارسات الدنيئة، أيام كانت لهم العزة والسيادة العسكرية، لما بقي بشبه جزيرة إيبريا ولو مسيحيي واحد. فشرف الإسلام أكبر من أن يتورط في مذابح جماعية، كتلك التي حصلت مؤخرا في كل من البوسنة والشيشان وكارثة غزة.
فالأساس الذي كانت قد بنيت عليه دولة الأندلس الإسلامية، كان مؤسسا، على وحدة التعايش العرقي والحرية الدينية. وهذا الموروث الإنساني، لم يكن ليليق بأرباب الكنيسة الكاثوليكية، الذين كانت وجهة نظرهم تنحصر في المؤسسة الكاثوليكية لا غير. وهكذا حبكت سرا خيوط مؤامرة ثلاثية، بين الملكة إيزابيلا، مرشدها الديني الجديد، الخاص بها و الحافظ لأسرارها، الكاردينال (خيمينس دي سيسنيروس) وبابا روما. والكاردينال(خيمينيس) كان قد تقلد في هذه الأثناء منصب رئاسة محكمة التفتيش الدينية بغرناطة، محل رئيس القساوسة طالافيرا، الذي كان يعاب عليه أنه كان يفرض على المسلمين اعتناق المسيحية بطرق سلمية، وأنه لم يستخدم ما فيه من القوة والرعب من أجل عملية تبشيرية كهذه. وهذه المحكمة الدينية، سنشير إليها من الآن فصاعدا، في هذه الدراسة، باسم محكمة التطهير العرقي، لأنها كانت كذلك. لأن وظيفة هذه المحاكم التي أنشأت في المملكة كانت وظيفتها متابعة، ملاحقة ومحاكمة كل من الأقلية اليهودية والمسلمين ثم (المورسكيين) فيما بعد. وباختصار كل من لا يدين بالمسيحية وكل من اعتنقها حديثا، للشك في صحة وصدق إيمانه. ونحن حين نقول التطهير العرقي، نقصد في الوقت نفسه، التصفية الجسدية، الثقافية والخلقية للآخر، الذي لا يخضع لمؤسسة الكنيسة. ومحاكم التفتيش العرقية هذه، كانت موجودة في قشتالة وطليطلة، وذلك قبل سقوط غرناطة. وترجع الزعامة الإرهابية في هذا الميدان لأكابر القساوسة (طوماس طركيمادا) (1420-1498م) الذي عينه (البابا سيكسْت الرابع)خصيصا لهذا المنصب، في كل من (قشتالة) و (أراغون) و (كطالونيا) ابتداءًا من سنة 1482م. ولقد خلف هذا الأخير من ورائه، من الجرائم في حق الأبرياء، ما يخجل حتى التاريخ نفسه من ذكرها.
خيمينس دي سيسنيروس
فهذا الأخير أي (خيمينس) الذي كان قد تولى زعامة محكمة التطهير العرقي، أشار على الملكة بإرغام المسلين على اعتناق المسيحية بالقوة وحد السيف. ومن أول أعماله الهمجية، أنه دشن أكبر( محرقة = أوتو دا في،أي شهادة إيمان)، بعد تلك التي قام بها المغول ببغداد، ملقيا إلى النار لأكثر من مليون مسودة، كتاب و مخطوطة محررة باللغة العربية، بالإضافة إلى مخطوطات قرآنية لا مثيل لها. وهذا التقدير يعود إلى اعتراف المؤرخين الأوربيين أنفسهم. وإذا كانت عملية (أوتو دا في) تخص محو الموروث الديني و العلمي و الثقافي بالدرجة الأولى، فإنها ستتحول مع (خيمينيس)إلى عملية شمولية تتجاوز المكتوب، إلى المخلوق المسلم، أي كل مواطني المملكة المسيحية بشكل عام، ومملكة غرناطة بشكل خاص.
وبهذه "المحرقة" فتحت أبواب جهنم لمحاكم التفتيش العرقي بمطاردة المسلمين، تعذيبهم وتحريقهم في محاكمها. وهكذا نلاحظ، بأن بنود المعاهدة قد خرقت، فلم يبق للمسلمين المغلوبين على أمرهم، سوى الانتفاضة كآخر ما تبقى. وهذا ما سيخول للملكة "إيزابيلا"فرصة الإخلال بالمعاهدة، وضرب بنودها بعرض الحائط، تمهيدا لتطبيق المؤامرة التي كانت قد دبرتها مع أرباب الكنيسة سلفا. وحدثت أول انتفاضة سنة 1502م منطلقة من حي (البيازين) لمسلمي غرناطة. وكانت قد انطلقت مع شاب لا يتجاوز الثانية و العشرين من عمره (هرناندو دي فالور)، ينحدر من أسرة أموية، والذي كان قد أرغم على اعتناق المسيحية بالقوة. فما كان منه إلا أن انخلع من استعباده عائدا إلى اسمه العربي ابن أمية. وتبعتها انتفاضة أخرى منطلقة هذه المرة من ضاحية (البُشارى) المنطقة الجبلية، الواقعة شرق غرناطة. وكانت من عواقبها أن قمعت بوحشية دموية لا مثيل لها. فدمرت بهذا الصدد قرى بكاملها، وقتلت النساء والشيوخ والأطفال، وشرد الباقون في نواحي البلاد، في انتظار الحلقة التالية من مسلسل التطهير. وكان ابن (شارل الخامس) (دون جوان دوتريش، النمساوي) هو المسئول عن قمعها. وهكذا راحت المراسيم، عقب هذه المجزرة الأولى، تنهال من هنا وهناك، من أجل التعجيل بالحل النهائي للأمة الأندلسية. فأصدر مرسوم بطرد كل المسلمين الغرناطيين، الذين تتراوح أعمارهم،ما بين أربعة عشر سنة فما فوق. تم طردهم من غرناطة أولا، ثم من باقي مملكة قشتالة. وأصدر مرسوم جديد يتعلق هذه المرة بالمسلمين القدامى، الذين كانوا يقيمون بالأماكن الواقعة تحت السيطرة المسيحية، منذ قرون بحق الجوار. وهم الذين يطلقون عليهم اسم (الموديجار). هذه التسمية التي يعتقد المستشرقون بأنها مشتقة من اللفظ العربي، لكلمة مُدَجّن، فهم إذن (المدجّنون). ونرى من ناحيتنا خطأ في هذا النعت، والصواب من ناحيتنا، أن الكلمة منحدرة من صيغة (الجار و الجوار)، و هي عادة استورثها المسيحيون من الممالك الإسلامية التي سقطت في أيديهم و ظل بها بعض سكانها من المسلمين. فعادة (حق الجوار) التي كان يطبقها المسلمين في حق الأقليات، صارت تقليدا كرد فعل، وتقليدا بالمثل لدى الآخرين. وكان هؤلاء يتكلمون اللغة القشتالية، أو ما يمكن أن نسميها بالرومانية، وهي منحدرة من العامية اللاتينية. وكانوا يمارسون كتابتها بأحرف عربية تسمى (ألخميّة) و هي لفظة مشتقة من الكلمة العربية (العَجَمِيّة)
و في هذا المناخ المتأزم، أجبر هؤلاء المسلمين بمغادرة ديارهم. ولقد تم الاتفاق بهذا الشأن، بين الملك(شارل الخامس)و(البابا). وفي هذه الأثناء بالذات، أخرج من جيب (البابا) مرسوما جديدا، يقول ب(طهارة الدم و نقاوته). والغرض منه،سد الطرق، أمام كل من اعتنق المسيحية مجبرا،على تسلم أية وظيفة في أروقة الدولة.هيهات ! والدم العربي يجري في رعاياهم،بل حتى في عروق ملوكهم وملكاتهم. وفي ظل هذا الملك –الإمبراطور( شارل الخامس)خرج إلى الوجود، مصطلح جديد، ألا وهو لفظة (موريسْكوس). وهذه التسمية، هي لفظة يراد بها تحقير المسلمين، الذين أرغموا على اعتناق المسيحية. وهنا سنتوقف قليلا، لنبين لكم خيوط المؤامرة الخفية.
(موريسكوس !) إنه في الحقيقة، اختراع رائع وجهنمي في الوقت نفسه، لتمرير أكبر جريمة في حق الإنسانية. فهذه التسمية كانت أول ما ظهرت خلال سنة 1502م عقب الانتفاضة وبقيت مهملة نوعا ما، لغاية ما اضطرت الضرورة السياسية إلى بعثها من جديد. فلفظ (موريسكوس) هذا، أو هذه التسمية،غير الحديثة ستتحول إلى تسمية عامة و شاملة، تخص كل مواطنين الأندلس. بل ستخص حتى المماليك المسيحية الواقعة على شبه جزيرة إيبريا شمالا، التي لم تكن قد اتخذت لها تسمية إسبانيا. فأنت كنت تجد أقلية مسلمي الجوار بالممالك المسيحية، وتجد في الوقت نفسه بالأندلس الإسلامية، المسلمين وكانوا يشكلون الغالبية الساحقة. وتجد النصارى القدامى، الذين فضلوا الإقامة تحت السلطات الإسلامية،مع احتفاظهم بدينهم و لغتهم و تقاليدهم.بالإضافة إلى المستعربين من النصارى، الذين كانوا على غرار مسلمي الجوار، يمارسون ديانتهم المسيحية،و في الوقت نفسه يتكلمون و يكتبون باللغة العربية. وتجد أيضا المولدون من السكان القدامى للجزيرة (القوط الأريانيين) الذين اعتنقوا الإسلام بدون إكراه، مع بداية الفتح الإسلامي، ومنهم أيضا، أبناء الزواج المختلط، بين رجال مسلمين وأمهات مسيحيات، ومنهم الأقلية اليهودية، التي كانت متواجدة قبل الفتح و بعده. وكنت تجد أيضا، طوائف متنقلة من الغجر، كانت متفرقة هنا وهناك. فكل هذا الخزان البشري، وكل هذه السلطات الثقافية، كانت متعايشة تحت سيادة واحدة، ولو أن التاريخ يخبرنا بأنه كانت ثمة في بعض الأحيان، احتكاكات كانت تجر أحيانا إلى الفوضى وأخرى إلى القتل، إلا أن السلطات لم تكن لتسمح لنفسها قط باقتلاع جذور هذه أو تلك الطائفة. فهذه المحصلة إذن، كانت ثروة الأمة الأندلسية، ونموذجا إنسانيا نادرا في التعايش والتسامح، بين أعراق وديانات مختلفة. فبمجرد ما أصبحت المملكة الكاثوليكية المنتصرة، قادرة على تثبيت أقدامها على تراب المملكة الأندلسية، حتى صارت بسياستها العرقية منحية كل الطوائف، طائفة من هنا وأخرى من هناك. وحين استعسر عليها الأمر، لأن العديد من المواطنين المسلمين، كانوا قد اعتنقوا المسيحية قهرا، للخلاص بالمظهر من الموت أو الجلاء و البقاء في الباطن مسلمين، لأنه لا خيار لهم، والوطن الذي يعذبون ويذبحون فيه، وطنهم الأم. حين لم تجد من حيلة، خاصة وأن الكل المواطنين الجدد، قد أصبحوا مسيحيين، إلا من هاجر منهم طوعا، لجأت إلى الحل النهائي وهو القضاء على (الموريسكوس). لأنه لم يعد باق على تراب الوطن من مجموعة عرقية، إلا هذه. ولأن كل المجموعات العرقية الأخرى أفترض فيها، بأنه لم يعد لها من وجود، على تراب الوطن الكاثوليكي الجديد. وبهذه العملية الاختزالية، وبهذه المؤامرة الجهنمية، أصبح في متناول الكنيسة والملوك الكاثوليك المتآمرين معها، اقتلاع جذور أمة بكاملها، والتخلص منها، رميا بها إلى البحر.
و هذا ما انتبه إليه، السفير الأمريكي (واشنطن إرفنغ)، حين زار غرناطة في أواخر القرن التاسع عشر قائلا: "لم يحدث في التاريخ قط، لأمة أن تباد على بكرة أبيها، إلا هذه التي كانت بالأندلس". وهكذا، فبتجريد الأمة الأندلسية من هويتها التاريخية، وبتجريدها من كل مقوماتها التراثية والثقافية، بل وسلبها حتى من حقها في الوجود، وردها إلى مجرد كلمة مبهمة (موريسكوس)، كلمة دنيئة تعني فيما تعنيه، المعتنق للدين المسيحي بلا قناعة، أصبح ممكنا أخيرا،للسهل-الممتنع أن يصبح حقيقة واقعية، أصبح ممكنا، ارتكاب أكبر جريمة في حق الإنسانية.
فنحن إذن في المرحلة الثانية، مرحلة تنفيذ مخطط التطهير العرقي الجماعي، لمن أصبحوا ينعتونهم ب(الموريسكيين) وذلك باختراع خدعة جديدة سموها (عملية الجلاء). كيما لا يتبين للرأي العام آنذاك الجريمة الكبرى الذين كانوا بصدد ارتكابها. ونتابع خيوط اللعبة، لنكتشف بأنه ابتداءاً من سنة 1582م وضع دوق (ليرما)، (فرناندو دي ساندوفال) بالاتفاق مع الملك (فيليب الثاني) (1556-1598م) على عاتقه تهيئة الأجواء لتمرير مخطط الحل النهائي. وصيغ هذا المخطط الجهنمي سرا، في الديوان الملكي بشكل مبكر. إلا أن إمكانية تنفيذه لم تكن متهيئة، بسب المناخ السياسي الخارجي. لقد كان الملك مطلعا و موافقا على المخطط، إلا أنه لم يكن بقادر على تنفيذه. وهو من ناحية، كان متخوفا من الأسطول الإسلامي الذي كان يقوده خير الدين بربروسا، والذي كان متحالفا مع الدولة العثمانية، والذي كان حاميا لكل الثغور الإسلامية بشمال إفريقيا. وكان ثمة حدث آخر، كان من الأسباب المباشرة لتأجيل المخطط، وهو معركة وادي المخازن. فوقوف المسلمين المغاربة، في وجه الحملة الصليبية التي دارت رحاها على التراب المغربي، بوادي المخازن، قرب مدينة القصر الكبير سنة 1578م،كان هو الآخر من عوامل الردع. ولقد كان فيليب الثاني قد شارك فيها بعشرين ألف محارب. وكانت هذه الحملة الصليبية، التي كان عددها 125 ألف جندي صليبي حسب التقديرات، مكونة من جنسيات مختلفة: الإسبان، الإيطاليين، الجرمانيين والبرتغاليين الذين كانوا يقودونها بقيادة ملكهم (سِبستيان الثاني). وكانت أهداف هذه الحملة احتلال مجموع الثغور الإسلامية لشمال إفريقيا. ولقد أنزل بهم الجيش المغربي، بهذه المعركة، التي يؤرخ لها بمعركة الملوك الثلاثة، شر هزيمة. وبذاك يعود الفضل للدولة السعدية، في إيقاف الزحف الصليبي والحد من شوكته لأربعة قرون أخرى، أي لغاية دخول الاستعمار الكولونيالي الجديد. فالملاحظ أن مخطط (الحل النهائي)، كان جاهزا لولا هذه العوامل التي ذكرنا. وبمجرد وفاة الملك فيليب الثاني و صعود الملك(فيليب الثالث) على العرش (1598-1621م) حتى سارع دوق (ليرما)، بوضع الخطوط الأولى لتنفيذ المشروع. وهكذا بادر المجلس الملكي سنة 1605م باتخاذ إجراءات المطابقة على العملية، وضرب موعدا لتنفيذها في ربيع 1609م. وفي هذه الأثناء بدأت عملية إحصاء بيوت( الموريسكيين). وجهز بهذه المناسبة، أسطول يتألف من 62 سفينة شراعية حربية من نوع (غالير)، و 14 سفينة تجارية حربية من فصيلة (غاليون)، بالإضافة إلى 7000 بحار و مجند إجباري. وفي 4 غشت 1609م وقع الملك رسميا على المرسوم، الصادر في حق جلاء الموريسكيين من وطنهم الأم. وسلمت هذه الأوامر لرئيس (عملية التطهير العرقي) (أوغستان مكسيا) لينقلها بدوره سرا إلى المشرف على العمليات العسكرية (ميراندا). وتم هذا من ناحية أخرى، بالاتفاق بالتنسيق مع كل رؤساء و أكابر محاكم التطهير العرقي، في كل أرجاء البلاد بنشر المرسوم الملكي. وصبيحة 20 غشت،خرج البرّاحون في (بلنسية) و (طليطلة) ونواحيها، مبلغين الأهالي بإجلاء (الموريسكيين). وتبعه مباشرة مرسوم ثاني في ال 09 من ديسمبر في نواحي (مورسيا)، (غرناطة)، (جيان)، (قرطبة)، (إشبيلية) ،(ليون)، (إكسترامادورا) وضاحية (هرماشوس) التي كانت لوحدها، تشكل جمهورية مستقلة (للموريسكيين). خرج البرّاحون من جديد بإذاعة وبتبليغ البيان نفسه. ولما يزل بعض من نجا من هؤلاء بمدينة سلا المغربية. وفي هذا السياق التاريخي، نسوق شاهد عيان في شخص المفتش العرقي (فرانز جيم بليدا) الذي كان يعمل بمحكمة التطهير العرقي، شهادته قائلا: "إنه من المؤكد لدينا، أنه لم ينج من بين الآلاف الموريسكيين المجليين عن بلدنا هذا إلا الربع. فمنهم من لقي حتفه في طريقه إلى المنفى، ومنهم من سلبهم بحّارونا و رموا بهم إلى البحر، من بعدما استولوا على أمتعتهم و أموالهم.
آه ! لو أنهم أبيدوا على آخرهم". وتعتبر التقديرات التي تحاول البلاد المعنية بها اليوم، بإخفائها، بنحو 1.000.000 مواطن أندلسي أصيب بهذه المحنة. ونحن من جهتنا نتساءل عن قرطبة وضاحيتها فقط، التي حسب التقديرات الإحصائية، كان يقطن بها أكثرمن4 ملايين نسمة قبل سقوطها. حيث كان قد لجأ إليها كل المسلمين الفارين من الشمال، أين راح كل هؤلاء؟ و لا نخفي بأن قسما منهم ألقي به إلى شواطئ إفريقيا الشمالية وتركيا. ولكن ما زلنا نتساءل عن عدد شهداء هذه المحنة. وبهذا الصدد يقول الكاردينال الفرنسي بخصوص (الموريسكيين) ساخرا:" إن مفتشي التهجير و الإبعاد، كانوا يُغَرِّمون المُهَجّرين ثمن مياه السواقي وظلال الأشجار." وختاما لهذه الوثيقة التاريخية، نذكر بأن دوق (ليرما) الذي كان قد أصبح وزيرا أولا للملك، راح يوزع أراضي المسلمين و ضياعهم على وجهاء و (لوردات) (بلنسية)، تعويضا لهم عن الخسائر التي لحقت بسفنهم. خلاصة القول، أن إسبانيا التي شيدت على أنقاض المسلمين، بخسرانها لأمة وعبقرية المؤاخاة التي كانت مثالا لدولة الإسلام، فقدت بذاك نفسها. فهي الدولة الأوربية الوحيدة، التي شهدت سقوطا مباشرا، خلال حكم الملك فيليب نفسه. وبالرغم من اتساع ممتلكاتها الجغرافية الواقعة خلف البحار، فإنها قد شهدت تخلفا منقطع النظير، من بين كل الدول الأوربية الحديثة. وخلفت دمارا لا مثيل له، حتى في مستعمراتها بأمريكا الجديدة و نسوق كخاتمة هذه الشهادة التي وردت في العدد 54 من الموسوعة التاريخية:" إن اسبانيا فيليب الثاني، تجسد في الحقيقة، انتصار الكنيسة الكاثوليكية ومؤسسة محاكم تفتيشها الدينية. ومع خلفه فيليب الثالث، الذي دمر البلد، بمصادقته على مرسوم طرد المسلمين (الموريسكيين)، أفنى ما كان متبقيا من الصناعة و الفلاحة لدى الخبراء المسلمين، فجر بذاك البلد إلى الانحطاط و التخلف".
ما بين السرد الروائي والوثيقة التاريخية
وهذه المقاربة، التي ننوي استخلاصها بمقابلة النصين، نقدمها عبر بقية السؤال الذي طرحناه في البداية، عن الرواية التاريخية ولم نتممه.وهو حسب الكاتبة الروائية (رجين كوليو) لمن تتوجه هذه الرواية، ومن أجل ماذا؟ ويأتي الجواب بالفعل، بشكل شبه عفوي و لكن مقنع. بأن هذا الجنس من الرواية، يتوجه إلى القارئ، كيما يمنحه بضعة معارف عن الحدث الماضي، ثم يشركه في مسائلتها والتساؤل عنها. هذا ما قمنا به فعلا، بشأن هذه الدراسة التي نقدمها لكم. فبعدما قرأنا عدة روايات من هذا الجنس الروائي التاريخي،توجهت أنظارنا،و قد استجبنا للسرد الروائي منذ البداية،إلى مساءلة الماضي و التساؤل عنه.و كانت مفاجأتنا متوقعة،حين اكتشفنا بأن ما يمكن أن تعرضه بعض الروايات التاريخية،هو في غالب الأحيان،ليس سوى تزويقا وهميا لحدث تاريخي،كيما يتم عرضه للبيع في ثوب إنساني،ديمقراطي أجمل.لأن السوق السياسية التجارية،بحاجة لمثل هذه الخرافات.و هذا ما لاحظناه في السنين الأخيرة،فيما يتعلق بالأندلس.إذ تكاد كل الدراسات الأوربية الحديثة،إلا ما ندر منها،توجه اهتماماتها إلى المسألة الأندلسية و كأنها مسألة يهودية.مسألة طرد اليهود من إسبانيا و التغطية على مذبحة المسلمين الذين يشكلون الضحية الكبرى.
و نحن بمقابلتنا للنصين،استخلصنا نتيجة واحدة،و هي أن الموجهات الأيديولوجية،تلعب دورا حاسما في توجيه السرد الروائي و إنشائه،و إخراجه إلى الجمهور جاهزا للاستهلاك. خصوصا و أن بعض الأحداث التاريخية الحساسة،قد يتجنب قصدًا،عرضها أو إثارتها.و في هذا السياق، تأتي الرواية التاريخية كساحرة عجيبة،لتحول بعصاها السحرية ثيابها الرثة،إلى ثياب أميرة، كانت و -نقصد الأندلس- تنعم بالثراء و المغامرات و الحب المثالي.فالخطاب الروائي حين يتخذ التاريخ كمسرح لشخصياته المتوهمة،يصبح قادرا أن يعيد عرضه من جديد،في إطار روائي،له قيمة تاريخية.و يصبح الخطاب المتوهم،خطاب حقيقة تاريخية بالنسبة للقارئ،ما لم يسائِل الوثيقة التاريخية. و هنا نتفهم الدور الرئيسي في هذه المقارنة، الذي تتبناه الوثيقة التاريخية. فالرواية قد تسلينا، قد تضحكنا وتبكينا، أو لا تعجبنا بالمرة. لكن حين تكون الرواية، متبنية لإعادة بناء حقيقة تاريخية مسكوتا عنها في حلة جديدة، وهي،لها ما لها من ثقل، على ضمائر أبناء الأمة المقصودة بها، فالأمر يختلف. يختلف لأن ما يمكن أن تتبناه الرواية، قد يكون مسيئا ومزورا لحقيقة تاريخية، والتي هي في المقابل، من الضروري أن تطلع عليها أجيالنا كيما تتخذ العبر منها، وتمنحها حقها من التاريخ. وهنا نعتبر الدور الذي تؤديه الترجمة. إذ أننا نحسب دور الترجمة أساسيا، وهنا نقحم معنا جيش المترجمين، لتحمل مسؤوليتهم التاريخية. وننبه من مغبة الانزلاق في أسواق الترجمة التجارية. فالترجمة النقية والشريفة، تستلزم الإلمام بالنص وصاحب النص، واستقراء نواياه الإيديولوجية،كي لا تقدم للجمهور حقيقة تاريخية مزورة. بل وحتى إذا رغب المترجم أن يعرضها كما هي فلا مانع، إذا هو نبه إلى الفروقات، بإضافة تعليق منه على الهامش.
وهنالك أيضا، الجانبين: التقني والثقافي للترجمة.ويتمثل الأول، في مدى قدرة المترجم و كفاءته في استيعاب مناخ النص الفكري، والثاني في إعادة صياغته في قالب لغوي يفي بتركيب المعنى، عوضا من تركيب لغوي، لألفاظ لا دلالة لها.
خلاصة القول، إننا قد تجنبنا في هذه المقابلة بين النصين، ونقصد كل من الروائي، عند مؤلفه طارق علي، والوثائقي الذي عرضناه،أن نتخذ أي حكم، تاركين للقارئ أن يستنتج بنفسه، تلك المسافات الشاسعة، بين الوهم والواقع. ويرد بنفسه عن لغز السؤال الثلاثي الذي طرحناه: ما هي الرواية التاريخية؟ تتوجه لمن؟ ومن أجل ماذا؟
- انتهت-
مساجد أندلسية صارت كنائس
دخلها الإسلام بدخول طارق رحمه الله إلى الأندلس سنة 91ه (711م) و كانت أول حاضرة .... انتشرت في كتب من أرّخ لقرطبة و جامعها الأعظم رواية من الإسرائيليات تتحدث عن ... دخل طارق بن زياد مولى موسى بن نصير قرطبة؛ فأمر ببناء المسجد الجامع المذكور ... قد سدست من فوقها رمانة من ذهب صغيرة على رأس البرج
جامع قرطبة الأعظم: حيث المحاريب تبكي وهي جامدة. [الأرشيف ...
عدد الردود: 8 - 3كاتب (كتَّاب) - تاريخ آخر مشاركة: 1 تشرين الأول (أكتوبر) 2008
انتشرت في كتب من أرّخ لقرطبة و جامعها الأعظم رواية من ... دخل طارق بن زياد مولى موسى بن نصير قرطبة؛ فأمر ببناء المسجد الجامع ... و صنع في أعلى منار الصومعة الكبرى ثلاث رمانات, دور كل رمانة منها .... و كان عبد الرحمان الأول مؤسس هذه الدولة جعل مدينة قرطبة على مثال مدينة دمشق التي قضى فيها أوائل عمره. ...
– مدخل تاريخي إلى ( عالم ابن رشد ) ـــ د. محمد محفل
كما أن الإذلال المزعوم في اللقاء يتنافى مع ما حصل بعده؛ إذ بقي طارق على رأس جيشه ليتابع ... القديمة وفي غيرها من كتب الأدب (رواية البنفسج ). .... وفي اسمها رنّةٌ لاتينية الرمّانة.. القصر : على ضفاف النهر ... ولم يقتصر الأمر على قرطبة، كعاصمة للتعليم والعلم ومصدرٍ للثروات، بل
– طارق علي: لولا النفط لما اعترف هنتنغتون بالحضارة الإسلامية ...
وعن روايته «ظلال شجرة الرمان» التي حازت على جائزة أفضل رواية نشرت في إسبانيا بلغة أجنبية، عام 1994. قال طارق علي: «إنها الجزء الأول من «خماسية الإسلام»، ...
– من شعراء وعلماء الفالوجة - الدكتور إبراهيم السعافين / للدكتور سمير ...
رواية في ظلال الرمان (ترجمة), <المؤلف: طارق علي>. - نظرية الأدب. - كما أنه أنجز تحقيقآ جديدآ لكتاب الأغاني في 25 جزءآ, بمشاركة شيخ النقاد والمحققين إحسان ...
– الرواية التاريخية من منظور تقابلي قراءة نصيّة في - منتديات ستار تايمز
أما طارق علي الذي اختار أسلوباً آخر في سرده للحوادث، فقد غلب عليه البحث بين ... أما الراوي في رواية.