الخميس ١٤ أيار (مايو) ٢٠٠٩
بورتريه
بقلم عبد الرحيم العطري

شاعر الدهشة والانتماء الملتهب

المبدع المغربي سعيد عاهد

من أحضان دكالة جاءنا الشاعر، من دروب (مازاغان) جاءنا الصحافي، ومن تربة المغرب العميق، جاءنا المتعدد في واحد:سعيد عاهد، راغبا في اشتهاء الحقيقة، في اكتناز المعنى ومحوالدهشة، أتانا مفتتنا بالقراءة والانكتاب، يهدينا قصص حب تكتمل أولا تكتمل، قصص حب معفرة بتراب الأمكنة وزهوالأزمنة، بلغة الضاد، وبلغة موليير أيضا.

لما كان يجرب البحث عن معنى الانتماء، في أحضان مدينة الجديدة تحديدا، بدا له أن يمتشق مسالك المعنى، وأن يتفهم عسر الانتقال من القرية إلى المدينة، مفكرا في أعطاب "ترييف المدن وتمدين القرى"، فكان أن كتب، في مساحات الواجب المدرسي نصا متقدما اختار له من الأسماء: "مشروع دوار حضري" سخطا وألما على التنمية المعطوبة والتحول المعاق. ذات النص ستفرح به كثيرا أستاذة اللغة الفرنسية، وستهديه بالمناسبة "الذاكرة الموشومة" للراحل البهي عبد الكبير الخطيبي.

سترافقه ذاكرة الخطيبي، وستترك وشما بارزا في تقديره للأمور، بل وحتى في قراراته الشعرية اللاحقة، سيعرف أن دكالة/ الهامش/ المنسي، ليست مشروطة بذلك التخمين الماكر المفتوح على استحالة القرع إلى جبن " كون كانت الكرعة فرماج كون دكالة هي أمستردام" ، لكنها مشروطة برهان السؤال النقدي والألق الإبداعي الذي أنجب مفكرين ومبدعين كبار من أمثال الخطيبي والعروي وهذا ال "عاهد" أيضا.

لن تصير الجديدة في اعتقاد شاعرنا مجرد "دوار حضري كبير"، بل ستنغرس عميقة في الوعي والخافق، كمساحة باذخة للإبداع والسؤال، هنا بالضبط ستغدو"الكتابة مدينته". وسيتأسس القرار الشعري، بما يشبه "القسم" في مدارات المقدس، فقد قرر سعيد عاهد حينها، أن يكون انشقاقه الشعري البكر باللغة الفرنسية، لهذا لم يكن مستغربا أن يكون أول الخطوديوانا بغير لغته الأم.

من أجل الوفاء بعهده، وجد الفتى نفسه ذات مغرب ملتهب، يعانق الكبار من قارات وسجلات ثقافية وفكرية متعددة ومتناقضة، مع انتصار، أعلى قليلا، للشعر "مدرسه قلقه" الأثيرة، سيقرأ كثيرا فاليري، أراغون، مالارميه، دولتو، بودلير، غورتس، ألان، ماركس، لينين، روزا لوكسمبورغ، غرامشي، ألتوسير، جيل دولوز كاتب ياسين، نزار قباني، مهدي عامل، حسين مروة... سيغترف أيضا من المتن الشعبي الذي يتيحه الانتماء إلى مازاغان من انفتاحات مولاي بوشعيب الرداد ومولاي عبد الله أمغار وسيدي عبد الرحمان المجذوب وللا عيشة البحرية...

في مازاغان سيقرأ نصوص المكان المفتوحة، في البحر المطل على اللانهائي، في الأرض التي تحكي أعطاب المغرب القروي، في تاريخ الديانات الثلاث، وسيتعلم بعد حين، كيف يكون الانتماء بلون أحمر، في أزمنة جمر ورصاص لا ينتهي، هنا والآن سيخلص ل "لاءاته"، وسيرفض الانبطاح أمام قيم الاستهلاك والاسترخاص، فلا انوجاد له إلا في بهاء والتزام المثقف العضوي.

بعدها قرر ألا يكون صحفيا عابرا، بل ملتزما بالقضية ومنتصرا للسؤال، ولوفي أزمنة الإجابات الجاهزة، قرر مرة أخرى أن يبحر باتجاه "مهنة المتاعب"، وأن يصير صحفيا ب "ليبراسيون"، لكنه في لحظة ما، سيطلق الصحافة الفرنسية، والمغادرة نحوشقيقتها العربية "الاتحاد الاشتراكي". وإن كان مفهوما جدا كيف تحقق السفر نحولغة موليير شعرا، فإنه لحد الآن، لم يتعرف إلا القلة من أصدقائه، على سر بناء هذا القرار المهني، ثمة علبة سوداء عصية التشفير يكتنزها صاحب المحكيات الدكالية.

يوزع اليوم سعيد عاهد "يوميه" بين المدينة الوحش/ البيضاء، وربيبتها التي تسمى خطأ بمدينة الزهور/ المحمدية، لكنه لا يمنع نفسه من اختلاق الأسباب ليقرئ السلام لمسقط الرأس المتعددة الانتماءات والخيالات/ الجديدة، وحتى في اللحظة التي يكون فيها بالمحمدية أوالبيضاء فإن له في الأولى الصديق العزيز أمان عبد الكريم الذي يذكره بجذوة الانتماء وفي الثانية هناك أيضا الرائع سعيد منتسب الذي يمنحه بعضا من هوية مشتركة، فمازاغان حاضرة بثقلها الرمزي والتاريخي في كل انغلاق/ انفتاح ممكن.

يقترح علينا سعيد عاهد دوما السفر في ملكوت الحرف والسؤال، عبر نصوص عابرة لقارات القول، وتيمات عصية على التجنيس، ومفارقات فادحة ماكرة، يأخذنا عنوة إلى أشعار ومحكيات وترجمات ومتابعات ومقالات صحفية، تحكي عن "موتنا" وضياعنا، تفرح بحبنا وانتمائنا، تتواطؤ مع انتظاراتنا وانكساراتنا، وفوق ذلك كله تسرق منا الارتياح البليد، فهذا ال "عاهد" لم يكن يوما من تجار اللغة ولا من عرابيها، كان ولا يزال شاعرا وقاصا ومترجما وصحافيا ألمعيا، يكتب بسؤال وهم وجوديين، أملا في بلوغ المعنى أواللا معنى.

في "قصة حب دكالية" نكتشف الطفل الذي يسكنه، والذي لا يستطيع "قتله"، بالرغم من نثر أسراره في محكياته، فسعيد كالطفل في براءته، في حبه، في غضبه، وفي انسيابه، ينتقل عبر دروب "مازاغان"، مرتكنا إلى عفوالخاطر وإسعاف الذاكرة، يلتقط تفاصيل الأمس، يعيد تركيبها، من غير تزوير أوتحوير، في أحد عشر انعطاف نحوأسئلة الذات والمدينة والوطن، نحومدارات الهوية والانتماء، نحوجمر الاغتراب وعذابات الانشراخ.

هنا نكتشف الشاعر الذي يتخفى وراء السارد، والمثقف الذي يوجه خيوط الحكاية، نتعرف إلى كاتب رصين يعرف جيدا من أين تؤتى لذة الحكي، وكيف تتأسس جمالية الأضداد، وكيف تصير المحكيات متونا مسافرة في تخوم اللغة والآداب والعلوم والفلسفة، وكيف يصير النص المحتمل، نصوصا أخرى وعلامات مضيئة، ولا عجب في ذلك فهوالمتعدد في واحد، ومن الطبيعي أوغير الطبيعي أن تكون محكياته وأشعاره ومقالاته نصوصا متعددة في نص مختلف ومثير للإعجاب.

هذا هوسعيد عاهد، شاعر الدهشة والانتماء الملتهب، الإبن الشرعي للمغرب الشقي، لهذا كانت نصوصه، وما تزال، عنوانا لمرحلة من تاريخ مغرب لم يكتب بعد، فهوقبلا وبعدا كاتب استثنائي، غير معني بالظهور السريع، يتردد كثيرا في النشر، تختمر الفكرة عنده لسنوات عدة، يتردد في إطلاق سراحها، يعيد صياغتها من جديد، وحين تكتمل القصيدة، تأسر، تزعج، وتنتقل بقارئها إلى شهود لحظوي مائز.

في أنفاسه الفرنسية، نقرأ شعرا معتقا، لا يكل من تفجير الأسئلة، من مقاومة البداهة، من محاكمة "موت الإنسان" واغتيال المعنى، وكأنه يستعيد نيتشه وهويقول "لست مسؤولا عن كل هذا الدمار والساعة ساعة شك"، لكن عاهد يستشعر المسؤولية بهشاشة الشاعر فيه، بيقظة الصحافي فيه، وبألق المثقف العضوي الذي لا يغادره بالمرة. فموجة التفاهة التي أنتجتها ثقافة "نسخ/لصق"، تجعله يصيح عاليا" هل تنقرض مهنة الكاتب فعلا؟وهل الأنترنيت هورصاصة الرحمة التي يطلقها أطفالنا على الكتاب؟"

المبدع المغربي سعيد عاهد

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى