الثلاثاء ٢٦ أيار (مايو) ٢٠٠٩
بقلم عبد الرحيم العطري

جيل الخيبات

الحروف تفر مني، العبارات لا تأتيني مطواعة منقادة، لا أستطيع إلى الانكتاب سبيلا، ربما هوعقم ألم بي، أتراني مضطر لعيادة طبيب مختص؟ أم أنني سأجد دوائي لدى باعة الأعشاب ومحرري التمائم؟ عاجز اللحظة عن هزم بياض الصفحة.. أحسني راغبا في البوح، في التقيؤ، في الانكتاب،...لكن العجز يستعمرني، ربما هي لعنة الانتماء إلى أزمنة العجز والانكسار، ربما هي ضريبة الوعي الشقي.. صدري يكاد يتصدع من فرط ما يعتمل فيه، لساني لا يسعفني، وحتى إن أسعف فمن يستمع؟

يفترض أن أهزم البياض، يفترض أيضا أن أحكي، أن "أنظم" نصا، قصا، وربما ألما، لي كامل الاختيار لتقرير حال ومآل هذا القول، ولنا الاختيار فقط فيما يتعلق بالألم والضياع، فإلى البدء أوإلى المنتهى، لهذا أختار نصا عابرا لقارات السرد، عابرا لأجناس القول، ولا عجب في ذلك، إنه زمن الصواريخ العابرة للقارات والهزائم العابرة للأنفاس، والمسدسات الكاتمة للأصوات، فكيف لا تكون حكايانا متنطعة وعصية على التجنيس؟

نحن جيل الدمار، جيل الخيبات والتشظيات، لهذا نولد في كل انكتاب، كما الموت، كما الفجيعة تنغرز في الخافق، نولد ونموت عشرات المرات، ونكتشف في كل حين أننا ندحرج صخرة العذاب باتجاه الوراء، نعيش بلا بوصلة، نبحر في اتجاه العدم، خبزنا مر وقهوتنا فادحة لم تحك عنها مساءات العرب، نفرح قليلا ونبكي كثيرا، نرقص لماما ونلبس ثوب الحداد كل عشية.

+++++

فهذا سعيد بن مسعود، من جيل الهزيمة يحكي، ويفترض فينا أن نستمع له، أليس كذلك؟

" الإسم سعيد بن مسعود، لا علاقة تربطني بهذا الإسم، هومجرد إسم لا غير، أحمله رغما عني، لم أختره، ولم يختره حتى والداي، اختاره لهما موظف الحالة المدنية، وما كان عليهما إلا أن يذعنان لرغبته، خبرت المنافي والسجون، تعلمت كيف أدبر أزمنة العطب، لم أجرب النضال مع اليسار، كما قد تتوهمون، فلي يساري الخاص، ومطرقتي ومنجلي الخاصين، كنت وما زلت أنانيا، فقد علمتي تفاهات الوقت أنه "أنا وبعدي الطوفان"، لا تسألوا عن مهنتي، حتى لا أصاب بالإحراج، فقط اعلموا أن الجدران و"رؤوس الدروب" باتت تعافني من كثرة اتكائي عليها.. لا أستفيق إلا في حدود الحادية عشرة صباحا، أشعل سيجارة في البدء، أرتشف قهوة ممزوجة ب "المعيار" و"ضريب المعنى"، أغادر البيت في صمت، ألتحق برأس الدرب، أدخن لفافة حشيش، وأغادر إلى مقهى الحي، أطالع جرائد اليوم "بيليكي"، وأجرب حظي مع السودوكووالكلمات المسهمة، أدخن السيجارة تلوالأخرى، أتلقف أخبار البارصا، أساعد أبناء جيلي المعطوب في اختيار أحصنة الحظ، ولا أتردد في المراهنة على بعض "الطواكر" عندما يكون الجيب دافئا...هنا في المفهى بيتي وملاذي أنسى أنني كنت طالب علم بالأمس القريب، أنسى أنني كنت عاشق حرف وسؤال، فقط أذكر الانتماء إلى جيل الخيبة والانكسار"...

+++++

وهذه سعيدة بنت مسعودة، من جيل الهزيمة تحكي، ويفترض فينا أن نستمع لها، أليس كذلك؟
" لم تهدني الأيام إلا علقما، لم يمنحني أحد وردة محبة، فقط هوالموت والضياع في زحمة الوطن، لم أستشعر يوما دفء الانتماء إلى ما يسمى وطنا، ينادونني عبر الجريدة والتلفاز: "أختي المواطنة"، عشية كل كرنفال انتخابي، وما دون ذلك لا يطلبونني إلا باسم "البايرة" و"الفاعلة" و"التاركة".. أنا المقدودة من خرائط الهزيمة، والمجبولة على مصاحبة الفجيعة، أنا الأنثى التي ماتت فيها الأنثى، أقتل الوقت بن الكلب على حافة المدينة، أستفيق في حدود الحادية عشرة صباحا أومساء، لا يهم الفرق، أغادر السرير بعد لأي، أوأساسا بعد سماع ما لا يسمع من "معيار"، أدخن سيجارة مهربة في "دار الوضوء"، أمطر المكان بزخات المعطر، حتى لا تكشفني الوالدة، وإن كانت تعرف أنني أدخن.. أبدأ صباحي بقهوة سوداء، أستلقي فوق اللحاف قبالة التلفاز لأسافر عبر الفظاعيات العربية، من قناة لأخرى، أستمع للأجساد الطرية وهي تتمايل عناء أوسكرا.. إلى أن يحضر أخي الذي عفا عن لحيته، لأنتقل إلى الفضائيات الدينية موهمة إياه بأنني ملتحقة بركبه قريبا.

أوهمه وأوهم والدتي بأنني ما زلت سعيدة التي خبرتها بداية الألفية الثالثة لما تحصلت على دبلوم عال في الأدب الفرنسي، أوهمهم وأوهم نفسي بأنني ما زلت كما الفائت، عاشقة حرف وكتابة، تنطلي عليهم وعلي حيل الالتواء والتوهيم وأستمر في بناء اللحظة من غير تحوير أوتزوير، تماما كما الأمس، كما اليوم، كما غدا من غير شك"

+++++

وهذا مسعود بن سعيد، من جيل الهزيمة يحكي، ويفترض فينا أن نستمع له، أليس كذلك؟
" الساعة تشير إلى الحادية عشرة صباحا، لم يعد ممكنا الاستمرار في النوم، بتثاقل أتوجه نحوالمغسل، أتأملني جيدا، من خلال مرآة مكسورة، تصنع من وجهي وجوها متناثرة، أعرف أنني كذلك، المتعدد في واحد، كما تدعي إعلانات الدعاية، وهي تكشف عن ميزات ذلك الشامبوان الذي لم يستطع هزم قشرة الشعر، خلاقا لما تقسم به ذات الإعلانات، أستل كتابا ما من رفوف تسمى اعتباطا خزانة، أدخل إلى "بيت الما"، متأبطا كتابا عن ميكانيك السيارات، إنها عادة لم أستطع التحرر منها، أن أدخل برفقة كتاب إلى المرحاض، عادة أصابتني عدواها مذ علمت أن الإنسان في مجموع حياته، يقضي في متوسط الأحوال أزيد من سنتين داخل المراحيض، منذئذ قررت أن يكون ما تبقى من هاتين السنتين قراءة لمتون مختلفة ومن غير تخطيط مسبق.
لكن فيم تفيد هذه القراءات؟ فها الذين يخاصمون خير جليس هم الذين يتعملقون في المغارب المخملية، فيما نحن جيل الخيبة والانكسار، نموت من فرط الألم، نغرق في الفجيعة ولا نستطيع إلى بارقة أمل وكسرة خبز سبيلا. أترك الكتاب جانبا، ألتحق برأس الدرب لتدخين لفافة محشوة بالحشيش، يسلمني إياها، بزناس الحومة تضامنا وتواطؤا مع الخائبين

++++++++

وهذه مسعودة بنت سعيدة

صباحا أوظهيرة، لا يهم الفرق، المهم أنني أغادر الفراش بتثاقل شديد، كل يوم، كما الأمس، كما السنة الفائتة، كما كل السنوات التي تذكرني بمراهقتي التي,...كالغد من غير شك، أترك سريرا من الحلفاء، أرفض التفريط فيه ضدا في "ثقافة الإسفنج".

أدير زر الراديو، تأتيني الإذاعة الوطنية دوما، فما أنا براغبة في الانفلات من إسار هذه المحطة، بالرغم من ظهور إذاعات خاصة وأحواض استماع وتراخيص "هاكا"، على الأقل هنا في إذاعة الرباط، ما زال الاحترام قيمة غير قابلة للتفاوض، وشخصيا يمكن أن أفرط في كل شيء إلا "الاحترام"...

أنا سيدة محترمة، وحق الرب محترمة، أحترم ولا أحترم إلا قليلا، وبسبب انهجاسي القوي بمبدأ الاحترام، فإنني أحترم رغبة جسدي في النوم كثيرا، لا أمنعه من الاسترخاء إلى منتصف النهار أوعصره، لا يهم الفرق، نحن جيل الخيبات الذي ما عاد يعطي للزمن معنى ما، وكيف نهبه المعنى وهويفحمنا باللامعنى؟

بعد احترامي ووفائي للإذاعة الوطنية لا أتردد في القول لمنتقدي سلوكاتي " وا ميتة الحركة، لا خدمة ولا هم يحزنون"، ولا عجب في ذلك فأنا المحترمة التي ترفض واقعا وتمارسه، أبكي وأضحك، أرفض الجنوح وأمارسه، أرفض زمن العرافة وأتحسس حرزا أسفل الثدي، فما أنا إلا نتاج خالص لخيبات وانكسارات لا تنتهي، ولا طاقة لي لخيانة نصي الأصلي، النص الماكر دوما، نص الانتماء إلى اللا انتماء.

+++++

يفترض أن نفرح بهزم البياض، يفترض أيضا أن نبحث عن ذروة الحكي، أن ننتهي من "نظم" نص، قص، وربما ألم، لي كامل الاختيار لتقرير حال ومآل هذا القول، ولنا الاختيار فقط فيما يتعلق بالألم والضياع، فإلى المنتهى أوالبدء، لهذا أختار نصا عابرا لقارات السرد، عابرا لأجناس القول، ولا عجب في ذلك، إنه زمن الصواريخ العابرة للقارات والهزائم العابرة للأنفاس، والمسدسات الكاتمة للأصوات، فكيف لا تكون حكايانا متنطعة وعصية على التجنيس؟

نحن جيل الدمار، جيل الخيبات والتشظيات، لهذا نولد في كل انكتاب، كما الموت، كما الفجيعة تنغرز في الخافق، نولد ونموت عشرات المرات، ونكتشف في كل حين أننا ندحرج صخرة العذاب باتجاه الوراء، نعيش بلا بوصلة، نبحر في اتجاه العدم، خبزنا مر وقهوتنا فادحة لم تحك عنها مساءات العرب، نفرح قليلا ونبكي كثيرا، نرقص لماما ونلبس ثوب الحداد كل عشية.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى