شاهد على "حصاد الجماجم"
كما أنّ الشعر الجاهليّ ديوان العرب في عصرهم وسجلّ أيامهم، فإن الشعر الفلسطينيّ كان في معظمه سجلاً للمعاناة التي عاناها العربيّ الذي بقي في وطنه وأصبح يحمل الهوية الإسرائيلية؛ وفي هذا الشعر تأريخ وتوثيق لهموم هذا الشعب الذي ظلّ يذود عن وجوده ويتثبّت بأرضه وتراثه؛ فما من حدث إلا كان له صدى، بل أصداء في الشعر المحلّيّ.
أقف هنا على موضوع مجزرة كفر قاسم [1]، أدلل بذلك على أنّ القصائد الكثيرة التي عبّرت عن المجزرة كانت تحمل رسالة وطنيّه صريحة – هي رسالة الرفض للتصرفّ العدوانيّ، ورسالة التحدّي والتصدّي للدفاع عن النفس. وسيبلي هنا أن أصف هذه القصيدة بطبيعتها، مضمونها وأدائه.
ويجدر أن أذكّر بدءًا بالأمور التالية:
1. لا تبغي هذه الدراسة أن تتناول المستوى الفنيّ للقصائد، أو تفاضل بينها، فالاستشهاد بالشعر يكون وفق الطرح الذي يمليه الموضوع.
2. ثمّـة قصائد أخرى لم تتطرّق إليها الدراسة، وهذا لا يعني انتقاصًا لها أو حكمًا عليها. كما أشير إلى أنني لم أتناول قصيدتي "يستهان المسرح" لأسباب موضوعيّة.
إن قصائد كفر قاسم التي لم تنقطع بعد وقوع الكارثة يوم 29/10/1956 هي من أكثر "الموتيفات" المترددّة في الشعر الفلسطينيّ. ولعل ّالسبب الأوّل في ترديد الموضوع يُعْزى إلى إحساس الشعراء بأنّ هذا القتل الجماعي الذي حدث في كفر قاسم له دلالة تختلف عن دلالة القتل الفردي الذي قد يحدث هنا وهناك:
أولاً: لأنّه يذكر الشاعر بمصير أبناء شعبه الذين تشرّدوا بجماعاتهم أو قُتلوا بمئاتـهم.
ثانيًا: لأن الشاعر يحسّ من وراء هذا الحدث أنه يواجه كراهية وحقدًا، ينصباّن عليه وعلى أبناء شعبه. فالشاعر أخذ يرى أنّ عليه واجبًا ومسؤوليّة، إذ عليه أنُ يحذّر الأهل خوفًا من مصير آخر مشابه، وعليه أن ينازع العدوان.. ولا يستسلم.
ثمّ إنّ الشاعر وجد في هذا السلوك الدمويّ نفيًا للمواطنة التي يحاول العربيّ في إسرائيل أن يعمد إليها حفاظًا على لقمه عيشه، وأملاً ببناء مستقبل له ولأبنائه؛ فهذه الجريمة التي وقعت يوم ابتداء الهجوم على بور سعيد جعلت الشاعر يرى بصورة أو بأخرى أّنه "رهينة" وليس مواطنًا حقًّا.
من هنا انطلق الصوت الشعريّ يجلجل مدويًا – تارة باسم مستعار وطورًا باسم صريح. وكان للمهرجانات السياسيّة أثر واضح للتحفيز على تناول الموضوع. وللحقّ، فإن الصحافة الشيوعيّة أفسحت صدرها للأصوات المناهضة للغطرسة العسكريّة وللحكم العسكريّ - الذي كان يجثم على صدور العرب خلال سنين طوال، ومنذ قيام الدولة.
كانت القصيدة الأولى "من وحي كفر قاسم " للشاعر أ.ش. [2]، وقد تركّزت على البعد الإنسانيّ؛ وقد جاء فيها:
سمع الطفل دويًّا قربــه *** صاح "بابا" هاتفًا لا من مجيب
راح نحو الباب يعدو مسرعًا *** ليُلاقي الموت والموت ُ غضوب
أبصر الوالد يقضي نحــبه *** يلعن الحرب وأهوال الحروب
(1) ثمّ نشرت الاّتحاد بعد ثلاثة أيام من هذه القصيدة 31-12-1956 [3] قصيدة دافيد صيمح بعنوان "إلى منكوبي كفر قاسم" وهي تروي حوارًا بين أمّ وابنتها، يدور حول غيبة الأب الذي "قتلوه هنالك عند الحدود"، وتنتهي بالعزم والإصرار على أنّ الظلم سيزول، وعلى أنّ السلام والحبّ سيعمّان أبناء الشعبين.
(2) إذا عدنا إلى مجلّة الجديد، فقد نشرت في عدد يناير 1957 قصيدتين، تتناولان الموضوع. الأولى قصيدة عموديّة بعنوان "بور سعيد وكفر قاسم: الدم العاطر والحصاد الأحمر" بتوقيع الشاعر ابن زيدون – الناصرة [4]، وهي قصيدة رافضة متحدّيه.
(3) أما القصيدة الثانية، فهي لتوفيق زيّاد بعنوان "حصاد الجماجم" [5] وهي من الشعر الحرّ، وقد زخرت القصيدة منذ البدء بمثل هذه الجرأة المتحدّية التي عهدناها فيما بعد في قصائد زياّد الأخرى:
ألا هل أتاك حديث الملاحم
وذبح الأناسيّ ذبح البهائم
وقصّة شعب تسمّى
"حصاد الجماجم"
ومسرحها قرية
اسمها
كفر قاسم
ثمّ يظهر الشاعر توجّسه وقلقه خوفًا من الترحيل الذي أشرت إليه:
يقول الدعيّون الغاصبون
بأنا أقلية سوف تُجلى
وأنّا سنفنى اضطهادًا وذلاً
ولكن.. . أقلّيّه نحن؟
كلاّ ومليون كلاّ !
لقد سجلّ زيّاد في هذه القصيدة موقفًا متميزًا بصلابته، وبيّن مخاوفه التي كانت سببًا في صرخته ونضاله العنيد.
(4) ولا تبتعد رؤية حنّا أبو حنّا في قصيدته "نداء الجراح" [6] عن هذا الارتباط الوثيق بين تفاصيل القضّية الفلسطينيّة عامّة وبين هذا الحدث خاصّة:
كيف العزاء وكيف يسلو الويلَ شعب ثاكل
عصفت بدوحته الخطوب وصارعته نوازل
مازال يحمل جرحـه في صدره ويطاول
.. .. .. .. .. .. .. .. .. .. .. .. .
كيف العزاء ولم تزل ملءَ الدروب حبائل ؟
إذن فثمّة حبائل ومكايد يستشعرها الشاعر، وهي تستهدف مصيره، ولم ينقطع هذا القلق حتّى بعد أكثر من أربعة عقود؛ فالشاعر "الجديد" يتسلّم الرسالة أو الموقف:
باقون مهما تفعلون
فليشعلوا بدمائنا حقد السنين
وليمسحوا أسماءنا من غير لين
باقون مهما تفعلون
.. .. .. .. .. .. .. .. .. .. ..
(5) فجذورنا في الأرض أعمق من حكايات الزمان [7]
إنّ الشاعر وهو يتناول الحدث كان واعيًا العنصر المأساويّ في حياة الإنسان الفلسطينيّ. إنّه يرى على رؤوس الأشهاد حلقة من سلسلة، مشهدًا من مسلسل، فقد مّرت ثماني سنين على هذه الهزّة التي أصابت كيانه ووجوده. وقد تعلّم أن لا أمان ولا اطمئنان على مستقبله، خاصّة بعد هذه الفعلة الجدية التي لا يستطيع أحد تبريرها، وها هو سالم جبران يحذّر:
يا أمّة تنّبهي
فلا تزال الحيّة الرقطاء
عطشى إلى الدماء [8]
والشاعر الجديد، الذي قرأ عن كفر قاسم، أخذ يتقمّص الحدث ويحس أثره حادًّا كأنه قد جرى بالأمس؛ فها هو سامر خير يتساءل بانفعال معّبر، كأنّه ابن القرية نفسها:
عند مدخل قريتي انتظروني
لم أكن حجلا كي أخاف الرصاص
ولا ظبية في الفلاه
لماذا إذًا قتلوني ؟
لم أكن داخلاً غير بيتي الحزين
كما يدخلون منازلهم
عائدين من الشغل
هل شغلهم كان أن يقتلوني ؟ [9]
إنّ قصيدة "كفر قاسم"، سواء كانت مواكبة للحدث أم تالية له، كانت ترتكز على أكثر من محور أو عصب كالقوميّ أو الوطني أو الماركسيّ أو الإنسانيّ أو المتماثل مع الطبيعة. وسأحاول فيما يلي توضيح ذلك.
ارتكازات محورية في قصائد كفر قاسم:
إنّ المحور القوميّ هو الغالب على القصائد، والسبب الرئيسي هو تنامي الشعور القوميّ والوحدويّ، وذلك بسبب الدعوة الناصريةّ، وبسبب ما كانت تغذّيه وسائل الإعلام العربية التي ظلّ المواطن العربيّ في إسرائيل يستمع إليها، ويتابعها سرًا وجهرًا.
ثمّ إنّ "الهجوم الثلاثيّ" على بور سعيد قد بدأ في 29/10/1956 وهو نفس اليوم الذي وقعت فيه المجزرة. من هنا جاء هذا الربط، فالشاعر ينتمي إلى شعبه الذي يصدّ العدوان، وهو يحسّ في قرارة نفسه أنّ النصر لا بدّ آت. وعليه، فلو طالعنا قصيدة "ابن زيدون" التي أشرتُ إليها أعلاه "بور سعيد وكفر قاسم – الدم العاطر والحصاد الأحمر"، لوجدنا هذا الربط بين الموقعين أو العدوانين؛ فالشاعر، بعد أن يقف وهو يشدّ أزر أبناء بور سعيد وثباتهم، يعود إلى كفر قاسم وهو يخاطب المعتدي نفسه..
حصدتم فيا للحصاد الرهيب *** ويا للدم المهرق الطاهر
.. .. .. .. .. .. .. .. .. .. .. .. .. .. .. .. .
رويدًا فلم تحصدوا كلّ ما *** زرعتم من العمل الكافر [10]
وقد ربط سميح القاسم كذلك مثل هذا الربط في قصيدته "ليد ظلت تقاوم" [11]:
ومن المذياع أنباء عن العام الجديد
مصر بركان وكلّ الشعب يحمي بور سعيد
أنا لا أنشد للموت
ولكن ليد ظلّت تقاوم
فسميح ينتظر الخلاص والتحرّر الذي يتمثّل له في الوحدة العربيةّ وبلغة الشعر في
"بعث النهر" وفي "شدو الحمائم":
وإلى أن يبعث النهر
وتشدو في أغانيَّ الحمائم
أوقظ الدنيا هتافًا لا يساوم
كفر قاسم !
أمّا المحور الوطنيّ فقد تناولته القصائد من غير إشارة واضحة إلى أنّ هذا الوطن هو فلسطين، وأنّ العربيّ فيه هو فلسطينيّ [12]، لكن هذا لا يحول دون انتمائه لوطنه ومعاناته. يقول زيّاد:
لنا وطن أثخنته الجراح
وروّع طيره ذات صباح
وصار كسيرًا مهيض الجناح
لنا وطن راسف في القيود
وشعب تشرّد عبر الحدود
ولكن سنمضي بعزم شديد
لنرجع حقًّا أبى أن يبيد [13]
بمثل هذا الواقع وهذا العزم ظلّ صوت توفيق زيادّ نموذجًا للشاعر المتشّبث بحقّه والمنافح عن أرضه. إنّه ووطنه صنوان متلازمان ومتلاحمان.. وثمّة عشرات القصائد الأخرى [14] يتبيّن فيها مثل هذه الروح الوطنيّة، خاصّة بعد أن أخذ اسم "فلسطين" يتردّد في قصائدهم اسمًا ومعنًى.
ثمّة محور ماركسيّ أو واقعيّ اشتراكيّ، فيه ثقة وتفاؤل أو رؤية الضوء في نهاية النفق المظلم. إنه شعر لا يعتمد على البكاء والندب بقدر ما يؤمن بحتميّة الخلاص أو النصر. والشاعر الشيوعيّ كان يدرك أنه بالاتّحاد وتضافر القوى المضطهدة يمكن أن يزول الظلم والظلام. يقول زيّاد:
أخي
إنّ في الأفق صوتًا يمور
هتاف الضحايا يشقّ القبور
هتاف يهزّ الفضاء الكبير
هو الشعب يذبحه المجرمون
ألا اّتحدوا أيّها الكادحون
ألا اتّحدوا أّيها المخلصون
وضمّوا الصفوف وشّدوا العزائم
لمَحْو نظام على الظلم قائـم
نظام الخنا والدماء (؟) والجرائم [15]
فاتّحاد الضعفاء المظلومين هو الذي يحدّ من غطرسة الحاكم ومن نظامه المؤسَّس على البطش وحتّى سفك الدماء.
وينسج حنّا أبو حنّا على نفس المنوال داعيًا إلى التكاتف وإلى التعاون لصدّ المؤامرات التي تُحاكُ على أبناء شعبه:
إنّ السبيل إلى العزاء تكاتف وتكافل
ونداء أرواح الضحايا
فليهبَّ الغافلُ [16]
أمّا المحور الإنسانيّ، فقد تمثل أولاً في هذا البعد عن العنصريّة أو الشوفينيّة؛ فلم نر أيّ خطاب موجَّه لليهوديّ دينًا وعنصرًا [17]. ولعلّ السبب الرئيس في ذلك أنّ هناك أصواتًا يهوديّة يساريّة كانت¬ – ومنذ اللحظة الأولى – ضدّ هذه السياسة ومنُتَهِجِيها [18]؛ فمن الطبيعيّ إذن أن نعدم مثل هذا التوجّه الدينيّ المباشر. ونحن لا نجد في عشرات القصائد التي كُتبت في هذا الموضوع أو نُشِرَت خطابًا دينيّا هو محور النصّ. أقول ذلك وأنا لا أنفي قصائد، تحاور أو تقارب النغَمة الدينيّة، نحو:
يا ويح قومي إنّ دين محمّد
ديني وكلّ المؤمنين قبيل
يا كفر قاسم إنّ جرحك هدّني
هدًّا وجرح المؤمنات دليل [19]
ومع ذلك فـ "المؤمنين" تضمّ في معانيها أيضًا، حسب الديانة الإسلاميّة، أبناء الديانات الأخرى الذين يؤمنون باللّه.
كثيرًا ما ترتكز قصيدة كفر قاسم على وصف الطبيعة. يقول رجاء النقّاش وهو يتناول شعر محمود درويش:
"لقد تعاطفت هذه الطبيعة مع الإنسان، واشتركت في حزنه وأساه وغضبه؛ فالطبيعة لم تعد وديعة، كما كانت، لم تعد سعيدة راضية، بل قد تسرّب إليها ما أصاب الإنسان من ألم وصَبَغَتْها جراحُ الشهداء بلون الدم:
غابة الزيتون كانت دائمًا خضراء
كانت يا حبيبي
إنّ خمسين ضحيّــه
جعلتها في الغروب
بركة حمراء خمسين ضحيّه [20]
فالقرية في قصيدة درويش "تحلم بالقمح" و "أزهار البنفسج"، وقلب الشاعر كان مرّة "عصفورة زرقاء"، ثمّ "وجدوا في صدره قنديل ورد وقمرًا"، تعابير مستقاة من عالم الطبيعة، يحرّكها ويتحرّك بها. وقراءة للمقطوعة الثانية في قصيدة درويش تكشف لنا الطبيعة وقد سخّرها الشاعر للتعبير عن شجنه وأساه [21].
وحتّى يتبيّن لنا هذا الخيط المستمرّ في الشعر المستجدّ المستمد من الطبيعة، سنقرأ من شعر هشام أبو صلاح:
القرية والشمس على ميعاد
وندى الطيون ترقرق في الأغصان
والحجل البريّ تكحل بالسمرة والحمرة والألوان
وغيوم من تشرين تشكل لوحات رائعة في الأفق الفتان
في ذاك اليوم
أجمل ما في الدنيا كان
ذات صباح مبتلّ بصبايا الحنطه
بغناء الفلاحات السمراوات ازدان
لكن الطوفان
اجتاح مواويل الشجر المثقل بالعطر
غربت شمس القرية وانتشرت أسراب الغربان
وأوامر دهّان [22]
.. .. .. .. .. .. .. .. .. .. .. .. .. .
تصوير الحدث:
عمد الشعراء على اختلاف أجيالهم – على مرّ الفترات التي قالوا فيها قصائدهم – أن يذكروا تفاصيل الحدث ويربطوها بحركة الواقع المعيش؛ فحنّا أبو حنّا يصورّ ذلك المساء الكئيب ويصوّر المأساة، حيث تتبدّى كتل الأشلاء فاغرة الدماء، هي جثث ملقاة على طريق وكأنّها الطيور الذبيحة.. يجسدّها الشاعر كأّنها ماثلة أمامه، إنّها تنزف بألم الشاعر وجرحه العميق:
ما زال يرتعد المساء لهول تلك المجزره
صور المآسي بالرصاص بمقلتيّ مصوّره
كتل من الأشلاء فاغرة الدماء معفّره
متوثّبات كالطيور ذبيحة متعثره
تـنـزو وتهوي في ارتعاش الحشرجات مزمجره
وتخور واهنة على صدر الطريق مبعثره [23]
غير أنّ سالم جبران يرى في هذا الواقع ديمومة صارخة، ديمومة تبحث عن التساؤل بقدر ما تبثّ من ارتياع:
الدم لم يجفّ والصرخة
لا تزال
تمزّق الضمير
والقبور مفتوحه
.. .. .. .. .. .. .. .
في فمها أكثر من سؤال
ولم يزل مدخل كفر قاسم
مروّعًا من هول تلك الليلة السوداء [24]
وهذا الوصف الحكائيّ مكثّف بشاعريّة الموقف.
ومن جهة أخرى ثمة صور متحركّة أو لقطات مباشرة، يقدّمها الشاعر؛ فهذا محمود مرعي يتمثّل حكاية ما كان:
قف! وصاح الغراب نعقًا على شا *** حنة بالغفاة ملأى تنود
بلغ الجهد مبلغًا فاق وصفا *** فإذا هم على الحديد رقود
احصدوهم ! خرّوا بطرفة عين *** جثثًا فوق بعضها والبليد
يطلق الضحك والرصاص ويعلو *** وجهه الأربد الغليظ الجليد
وأتّم الرصاص قولاً وفعلاً *** وتردّى فوق الشهيد الشهيد
.. .. .. .. .. .. .. .. .. .. .. .. .. .. .. .. .. .. ..
وعلا صوت طفلة في حوار *** هاتفًا يا أبي ! أبي !.. لا ردود [25]
من جهة أخرى تقدّم غادة الشافعي صورًا شعريّة مستمدّة في خيال مشحون بعاطفة، فكانت تلتقط كلمات من الطبيعة ومن المصطلحات الصوفيّة، وكذلك من الدلالات اليوميّة لتصهرها كلّها في جوّ أسيان وبطيء الإيقاع:
هم الذين خرجوا في صباح ككلّ الصباحات
يدفعون في الهواء دراّجاتهم
معهم قليل من الزاد
وفيض من الابتسامات سيكفيهم إلى آخر يومهم
وحين عادوا لم يعودوا إلى أهلهم
ولا إلى أُسَرهم في ليل أحلامهم
ولم تشهد الشرفات من بعدها مرورهم
ولا الأبواب عرفت طرقات أيديهم
فأين هم
ثمّ أين هم ؟
أو تسأل عنهم الأشجار التي في كلّ ناحية تذرف بقايا صمتهم
أم لعلّك تسأل الأحجار التي كلّما ارتطمت بليل ظلالهم
بكيت وانبجس الماء منها
حتّى يفيض الكأس في القلب اليتيم من بعدهم [26]
وتستمرّ هذه القصيدة الطويلة على هذا النسق الغنائيّ الحزين مستمدّة أدوات الحدث بعفويّة، وتتحرّك في الواقع المأساويّ بشفافية معينّة.
موقف الشاعر إزاء الحدث:
إزاء هذا الإحساس العارم بالفاجعة وما خلّقته من ندوب عميقة في الوجدان الجماعيّ كان على الشاعر ألا يكتفي بالوصف المجرّد، أو أن يعتمد على الصور الشعريّة فقط؛ وإنما عليه أن يعبّر عن موقف، ويتمثل ذلك في مقاومته للعدوان بصورة صريحة وحادّة. يقول محمود درويش في قصيدته "أزهار الدم":
دمك المهدور ما زال وما زلنا نقاوم
علّمتني ضربة الجلاد أن أمشي على جرحي
وأمشي
ثمّ أمشي
وأقاوم [27]
إنّ الشاعر يكررّ العبارات دليلاً على إصراره وثباته، يردّد "أمشي"، "أقاوم" في إيقاع شعريّ متتابع ومعبّر.
وهذا الشموخ أو التحدّي الذي عبّر عنه درويش هو استمرار أو وجه آخر لصوت زياّد الحادّ المباشر، وذلك عندما كررّ في قصيدته التي أشرتُ إليها:
سنمضي بعزم شديد
لنرجع حقّا أبى أن يبيد
سنرجعه
سنرجعه رغم أنف اللظى والحديد [28]
لكن درويش أكسب معانيه شاعريّة معتمدة كثيرًا على المجازات اللغويةّ والكنايات البلاغيّة:
سأدفع مُهر العواصف
وأبقى على التلة واقف
لأفضح سر الزوابع للقافله [29]
ويقول درويش كذلك معبّرًا عن موقفه المثابر:
يا كفر قاسم لن ننام وفيك مقبرة وليل
ووصية الدم لا تساوم [30]
وعلى غرار هذا النفس المقاوم يقول عبد الناصر صالح في قصيدته التي كتبها حديثًا:
أنا الفارس فوق حصان الوطن الجامح
لم أسقط
قد أنزف.. . لكن لن أسقط
قد يكبو في الليل جوادي
لكن لن يسقط
لن نسقط يا حاضنة الشهداء
عمّدتك روحي ودمي [31]
إنّ هذا الموقف الجادّ والحادّ لدى الشاعر جعله يتوجهّ وهو يخاطب الخصم إلى اللهجة الساخرة، خاصّة إذا كان في قصيدته يفضح سلوكيّات يفضح المعتدي الدمويّة ويكشف عنصريّته. يقول سميح القاسم:
ما غاب شدمي والزمان شهيدنا
في كلّ يوم سافل يتشدّم [32]
وكان الوصف الواقعيّ التسجيليّ مبرّرًا لذكر التفاصيل كاسم المكان (المزلقان، الغلماية) أو أسماء مرتكبي المجزرة، فشدمي قائد الكتيبة الذي أصدر الأمر بالقتل كان محور اهتمام القصائد؛ أولاً بسبب قيامه بالعمل الإجراميّ، وثانيًا بسبب محاكمته التي غُرّم على إثرها بقرش واحد؛ ومثل: شدمي مالنكي ودهّان وتسور.. المتورّطين بالحادثة.
لنحاول أن نلقي الأضواء هنا على ما كتبه الشعراء المستجدّون، فهم قد وقفوا على التفاصيل كأّنها وثيقة تاريخيّة، يخافون أن تطمس. يقول محمود مرعي:
ويل شدمي وويل مَنْ أمّره *** ويل مالنيكي كيف لم يستعيدوا
كيف قالوا "اللّه يرحمهم" *** ولم يذكروا صحابًا أبيدوا [33]
والسؤال الأخير يعيدنا إلى ما ارتكبه النازي في الشَعب اليهوديّ. وكان قد سأل عصام العبّاسي هذا السؤال سابقًا:
أيجوز قتل الأبرياء وأنت من *** شعب تمرّغ بالدم المنساب [34]
ويذكر أحمد أبو مرشود وصفًا لـ "وليمة الدم العربيّة":
يشرب "شدمي" نخب الانتصار الآتي
ويتهيَّأ لوليمة الدم العربيّة
يشد "تسور" حبلاً على عنق المرحلة
ويسنّ أسنانه لنهش جسد الضحيّة
يشعل "ملنكي" جذوة الحلم البائد
يشيد "دهّان" حلمًا من ركام الأكاذيب [35]
كما يسخر علا عيسى من "الصلحة" التي أُرغم عليها أهالي البلد المنكوب، ومن قول المذيع في دار الإذاعة الإسرائيليّة: "وجرت الصلحة وفقًا للعادات العربيّة، ولم يكن هناك نقص في المأكولات والمشروبات"؛ ولا ينسى في غمرة هذا "المضحك المبكي" أن يعرّ فنا بمصير القتلة وكيف حصلوا على الترقيات. ومن المؤسي أنّهم عُينوا ليكونوا أوصياء على العرب. يقول علا عيسى:
كم ترقيات نال جانـيهم وكم * ديمونة لعنت (؟) حاميها الأمين
والرملة العربيّة
فتحت لشدمي بابها [36]
وإذا كان معظم الشعراء قد أشاروا إلى القتلة من قبيل تجسيد الصورة و إبراز الفعل وتحميلهم المسؤوليّة، فإن حنّا أبو حنّا يعتبر أنّ هؤلاء القتلة مجرّد أصابع أو أدوات؛ فالسياسة الرسميّة هي المسؤولة الأولى عن الجريمة. ومن المفارقة أنّها تقيم لجنة تحقيق وتطالب بالعدالة: [37]
وتخطّر السفاح في برد العدالة والصلاح
قد حاكموا الحُصّاد أمّا سيّد الحقل المباح
ما زال يستوفي الحصاد ودأبه شحذ السلاح
الأداء ومبنى القصائد:
غلب النفس القصصيّ على قصائد "كفر قاسم"، ورّبما يكون ذلك بسبب طبيعة الحدث التي تستلزم بالضرورة حكاية _ حكاية تنبض فيها رؤيا وتشعّ بموقف؛ ففي قصيدة محمود درويش "أزهار الدم" التي جاءت في ستّ لوحات شعريّة، وجدنا الطابع الحكائيّ، خاصةّ في اللوحتين الرابعة والخامسة ( القتيل رقم 18، القتيل رقم 48 والعنوانان أصلاً يوحيان بأنّ ثمةّ ما سيقوله أو يرويه الشاعر عنهما ). لنقرأ من اللوحة الخامسة – "القتيل رقم 48" [38]
وجدوا في صدره قنديل ورد وقمر
وهو ملقىً ميتًا فوق حجر
وجدوا في جيبه بعض قروش
وجدوا علبة كبريت وتصريح سفر
على ساعده الغضّ نقوش [39]
.. .. .. .. .. .. .. .. .. .. .. ..
.. .. .. .. .. .. .. .. .. .. .. ..
قّبلته أمّه
وبكت عامًا عليه
بعد عام نبت العوسج في عينيه
واشتدّ الظلام
عندما شب ّ أخوه
ومضى يبحث عن شغل بأسواق المدينه
حبسوه
لم يكن يحمل تصريح سفر
إنّه يحمل في الشارع صندوق عفونه
وصناديق أخر
آه أطفال بلادي
هكذا مات القمر !
فقوله "هكذا" يوحي أصلاً بحكاية ما جرى، وأنّ فيها سردًا قصصيّا متتابعًا..
ويمضي سميح القاسم في وصف حيّ وغنائيّ للبرج الذي بناه القتلى الذين جَنْدلَهم العدوان، وكيف كان الفارس الأسمر على صهوة الجواد، ثمّ غدا عندليبًا حقيقيًّا وصاعقة حقّة [40].
وثمّة قصائد أخرى كثيرة تناولت الموضوع وهي تعمد إلى السرد والتفاصيل متكئة على الحقائق والوقائع آنًا، وعلى الأجواء والرموز آنًا آخر.
وغالبًا ما تكون القصائد خطابية، ذلك لأن الشاعر يوجِّه خطابه للمتلقي السامع، ٍفهو يعرف بدءًا أنّها موجّهه له، وهو يعرف أنّه قد يقرأها في أكثر من محفل، ويعرف أن صِيَغ الخطاب يجب أن تكون في لغة فصيحة، لأّنها هي الأرقى في تصوّر الشعب [41]، وهم ينصتون إليها بهيبة أكثر؛ فالشاعر يخاطب مشاعرهم إزاء اللغة أكثر مما يخاطبهم بلغتهم اليومية . يحفل الشاعر بالإيقاع وبالإلقاء؛ يقول سميح القاسم:
لا سحر إن نطق الرماد الأبكم
تحت الرماد حرائق تتضرمّ
يا كفر قاسم عزّ جرح ناغر
في صدرك العاري وعزّ البلسم [42]
هذا الخطاب موجَّه للوجدان العامّ الذي يشاركه في تحفّزه واستعداده للمقاومة.
إنّ الشاعر يخاطب الحواسّ، يخاطب مشاعره التي ستستقبل الصور الحاشدة بالعاطفة، كلّ ذلك بصورة مباشرة. ويوضح مطاع صفدي مثل الظاهرة:
"ولأن هذا الشعر المقاوم لا يحتاج إلى رموز شموليّة، فإنّ فرسانه محتاجون إلى المباشرة. إنّهم مضطرون غالبًا إلى تسمية الأشياء بأسمائها.وإذا عمدوا إلى الرموز، فليس لضرورة فنّيّة دائمًا" [43].
والخطابة والإيقاع يستلزمان التكرار [44]، وذلك بسبب ضرورة التأكيد وترسيخ المعنى نفسّيًا ومعنويًّا. وقد أشرتُ سابقًا إلى نماذج من هذا التكرار لدى درويش والقاسم تعبيرًا عن الرفض والمقاومة. وجملة "أحصدوهم" تتكررّ في كثير من القصائد [45]، وهي الجملة التي نطق بها قائد الفرقة موجِّهًا أمره لقتل الأبرياء. كما نجد تكرار جملة
"قتلوني".
وفي نماذج الشعر المستجدّ ظلّ الشاعر يكررّ بعض التعابير ويوقّع حزنه وشجنه [46].
إنّ التكرار هو من أدوات المباشرة، وهو موظّف للمقاومة، وسبيل الشاعر أن يصل إلى المتلقّي ، ويجعل اللفظة المتكرّرة تتصادى في نفسه..يقول إيليا حاوي.
ومع أنّ الشاعر اعتمد الأسلوب المباشر في الفكرة دون الصورة، فإنّه بثّ فيها من المعاناة ما يعوّض عن ذلك كلّه، ويدع القارئ في حالة من الاستجابة والتقبّل، لأنّ تيّار الصمود الروحيّ يجعل كلّ ما دونه يتضاءل، لترتفع به هامة الإنسان الكبير من تحت ركام نفسه وأشلاء الحقيقة في العالم [47].
لذا، فلا غرابة إذا رأينا الإيضاح والتقرير والأساليب النثريّة في القصيدة ضمن تكراريّة الألفاظ. يقول توفيق زيّاد:
ألا اتحدوا أّيها الكادحون
ألا اتّحدوا أّيها المخلصون
.. .. .. .. .. .. .. .
.. .. .. .. .. .. .. .
دمي هو ذاك الذي قد سُفك
دمي هو ذاك وذاك دمك [48]
وقد لجأ بعض الشعراء إلى استخدام القاموس المستعمل في لهجات الشعب، لكن بتفصيح العبارة.
يقول سميح القاسم:
يا جبهة السفّاح لا تتشامخي *** نعل الشهيد أعزّ منك وأكرم [49]
ولا يبتعد درويش في سخريته عن هذه المباشرة التي يكرّر فيها:
مرحى لفاتح قرية !
مرحى لسفّاح الطفولــه! [50]
ومن المباشرة ما جاء في صورة التسجيل أو التوثيق؛ فمحمود مرعى يقدّم في قصيدته تفاصيل المجزرة الرهيبة بكلّ جزئيّاتها، حتّى أنّه أرّخها في حساب الجُمّل في نهاية القصيدة: "ضلّ شرّ، زال، انتهى، أم يعود ؟! [51].
وبالإضافة إلى النفس القصصيّ الذي أشرتُ إليه أعلاه، فهناك قصائد، منها المؤلَّفة من لوحات؛ فقصيدة "أزهار الدم [52]" لمحمود درويش مؤلَّفة من ستّ لوحات، وفيها التنويع في الأداء والتلوين في الصور، فتارة هي رثائيّة وطورًا هي حُبّيّة، ثمّ تختتم بحماسيّة.
وفي الشعر المستجدّ وجدنا هذه اللوحات لدى سامر خير الذي قدّم قصيدته في ثلاث لوحات، هي: "كنت أقتلهم بعيوني"، "كان يمكنني أن أعيش مزيدًا من الموت"، "كم سرقوا من يد" [53]؛ وهي ذات بعد واقنسيّ ( واقعيّ - رومانسيّ). وتكفي قراءة اللوحة الأولى، لتدلّ على هذا النسيج المترابط بين الحلم والذاكرة. وهذه التكراريّة التي تشي بالألم وتوقّعه صارخًا آنًا.. وهامسًا أخرى.
أمّا اللوحات المفعمة بالصور الإيحائية، فكانت في قصيدة غادة الشافعي؛ فاللوحة الأولى" طعنته أو زهرته الطالعة في براري دمه" [54]والثانية "مرثية العاشق"، والثالثة "مرثية الفتى"، والرابعة "امرأة القمح"، والخامسة "وجه"، والسادسة "جثّة". وفي جميعها تتلاحق الصور بدءًا من العناوين، كأنّها (مونتاج) أو تركيبة، فيها مختلف الأوضاع والمواقف والمونولوجات الداخليّة والحوارات الذاتيّة والثنائيّة (مونولوج وديالوج). ولنقرأ نموذجًا منها:
لكن الأخت في ركن البيت
كانت تهيّئ الوقت
كي تأخذ بين يديها الناعمتين رأسك الجميل
وتحضن رأسك القتيل
وتوسّد ثوبها الداكن
وتبلله بدموع تسيل من الليل إلى الليل [55]
.. ..
يا امرأة خبّأت في صيحة الفجر كلّ ناياتها
كيف تمضين ولا ترث العصافير بعدك حزن الصلاة
(حين ناداها الغريب تدلّى رأسها
مذبوحة من عنقها
حتّى أصابع قدمها).. .. .. ..
* * * * * * *
إجمال:
أدرك الشاعر الفلسطينيّ أنّ التعبير عن قضايا مجتمعه هو هدف سام ومنشود؛ فكان لا بدّ من استعمال طاقته وإبداعه وفنّه، حتّى تُوَظَّف في الذود عن شعبه وأرضه وفي مقارعة الظلم والعدوان.
من هنا كان موضوع "مجزرة كفر قاسم" أحد المواضيع الرئيسة التي تناولها الشعراء، كلّ بأسلوبه؛ فقد وثّقوا الحدث وسجّلوه. وأنا هنا لا أمايز بين مستوى الموهبة لدى الشعراء وقدراتهم الفنّيّة بقدر ما يعنيني ما سخّر به الشاعر / الناظم قلمه في طرح الموضوع وانفعاله هو به.
وكان لموضوع "كفر قاسم" هذا الاهتمام البالغ الذي استقطب الكتابة والخطابة –بسبب ما رآه الشاعر في الحدث باعتباره نذيرًا يهددّ كيانه وينزع مصيره؛ فالقتل الجماعي هو استمرار لنكبة وقعت قبل بضع سنين، وسفك الدم هو انتزاع لمواطنته في إسرائيل وتهديد لمستقبله وكأنّه رهينة.
ثمّ إنّ العوامل السياسية قد حفّزت على الكتابة في هذا الموضوع؛ فالناصريّة والوحدة العربيّة تغذّيان الشاعر بالبعد القوميّ – وكم بالحريّ أنّ العدوان على بور سعيد وقع في نفس اليوم الذي حدثت به الكارثة.
لقد اتّجه الشعر اتجاهًا قوميًّا إلى حدّ بعيد وأحيانًا وطنّيًا محضًا من غير الإشارة المباشرة لفلسطين اسمًا، وذلك حتّى نهاية الستّينيات، ثمّ ما لبث هذا الاسم أن ترددّ وهو يكتسب زخمًا وطنّيًا ملموسًا. وقد أظهر بعض الشعر – والأهمّ فيه على المستوى الفنّيّ – بُعدًا ماركسيًّا من حيث الدعوة إلى التكاتف لدرء الاضطهاد، بل لقد كان لبعض الشعراء اليهود الشيوعيين واليسار الإسرائيليّ تأثير بالغ في الكشف عن الظلم ومقارعته؛ فلا بدعَ إذًا أن نرى خلوّ هذا الشعر من العنصريّة أو الشوفينيّة بسبب هذا التعاون الإنسانيّ.
وصف الشعراء الحدث آنًا بصورة رمزيّة، وأخرى بصورة واقعيّة. وكان في أذهانهم أنّهم يخاطبون الجمهور في المحافل، وأنّهم قياديّون في أدوارهم. وإذا كانت هنالك أسماء مستعارة في بداية الأمر بسبب الإرهاب، فقد تغيّر الأمر وأصبحت الجرأة والتحدّي لسان حال ومقال.
أمّا الأداء، فقد صاغ الشاعر مضامينه بأساليب مختلفة، وبأوزان وأشكال شعريةً متباينة. وكان النفس القصصيّ لدى الكثيرين مشحونًا بعاطفيّة السرد وتلوين الحكاية. كان الشاعر يعمد إلى التكرار بسبب الأسلوب المباشر والخطابيّ، وذلك حتّى يرسّخ عبارته، كأنّها إثارة مستمرّة، فيعمد الشاعر تارة إلى المباشرة، حتّى يصل سريعًا، فيؤسّس الوجدان المقاوم. إنّه يفيد من حركة الواقع ومن التاريخ والفولكلور العائليّ والعبارات الشائعة، فيصهرها جميعًا، لتكون قوّة ثوريّة وطاقة ملتزمة.
غير أنّ اللوحات الشعريّة لدى بعض الشعراء كانت سببًا آخر في التنويع وتوزيع الصور المختلفة والتراوح بين الغموض والوضوح، ممّا يضفي أبعادًا جماليّة على النصّ – هذا النص الذي تتضافر فقراته، لتؤلَّف كلاً واحدًا، يعبّر بصدق عن هذه الكارثة.