شعرية الشخصية في روايات عز الدين جلاوجي
تعتبر الشخصية عنصرا فنيا مهما في كل عمل إبداعي ويمكن أن نتحدث أكثر عن هذه الأهمية باختراق عوالم جلاوجي الروائية من خلال الروايات الثلاث، التي تجلت فيها بوضوح تلك الأطروحة النقدية القائلة أن«الشخصية الحكاية بمثابة دليل له وجهان أحدهما دال والآخر مدلول.
دال من حيث أنها تتخذ عدة أسماء أو صفات تلخص هويتها -و هذا ما سنتطرق إليه لاحقا- أما الشخصية كمدلول فهي مجموع ما يقال عنها بواسطة جمل متفرقة في النص أو بواسطة تصريحاتها وأقوالها وسلوكها»(1)، تتجلى في وسائل بناء جلاوجي لمجمل شخصياته الرئيسية والثانوية والتي«تتسم في مجملها أنها دينامية فالروائي يتيح لكل شخصية من هذه الشخصيات فرصة وجودها المستقل عنه من جهة، ويدعها تعبر عن نفسها من جهة ثانية، وينوع في طرائق هذا التعبير وموقعه من جهة ثالثة، كما يربط علاقات انسجام معها مؤكدا ما ذهب إليه سمر روحي الفيصل من أن القارئ لا يجد في الرواية جزئية واحدة لا تخدم سير الحدث في حاضره أو مستقبله، مما دل على وعي الروائي بان أهمية النص لا تكمن في محتواه بل في كيفية بنائه لهذا المحتوى»(2 ). من هذا المنطلق ومن منطلق أن الروائي الحقيقي هو الذي يخلق الشخصيات، استمدت النصوص الروائية الجلاوجية جاذبيتها ورونقها فأنتجت بذلك خليطا شخوصاتيا مثيرا فنجد المثقف النخبوي والمجتمعي ونجد الصالح والفاسد، الغني والفقير، من خلال محاورة الكاتب للراهن الاجتماعي المأساوي لمختلف الطبقات الاجتماعية، بذلك تعددت الأصوات السردية وتوحدت الرؤيا، كل ذلك ضمن بنية سردية تنتقل من شخصية لأخرى ومن موقف لآخر، دون إشعار المتلقي أو إبلاغه.
في دراستنا هذه نختار بعض الشخصيات التي نجدها حمالة للإيديولوجية السردانية في كل نص ونجدها موافقة للمحاور التي سندرجها باعتبارها خيوطا تحكم نسيج الروايات الثلاث وسترتكز عليها دراستنا وهي كالتالي:
– الشخصية كمرتكز للحفاظ على الهوية.
– الشخصية وعبث الآخر بهويتها.
– الرؤية البرجوازية، وتأثيراتها على الشخصية.
– شخصية المرأة، زوجة، حبيبة، ....و مومسا.
– شخصية المثقف، صوت بلا صدى.
1- الشخصية كمرتكز للحفاظ على الهوية:
ويتجلى مظهر الحفاظ على الهوية«من خلال ذلك الفعل المقاوم والمستعمر الذي كان همه الأول والأخير هو إسقاط هوية الذات الوطنية، ذلك الهم الذي سخر له كل السبل والمناهج طيلة مكوثه في هذه الربوع، مع الإلماح إلى ذلك العزم على تشويه الهوية رافعة بالضرورة فعلا مضادا تبنته الشخصية في إثبات عناصر هذه الهوية»(3 )، يقول الكاتب:«الأحذية ليست أحذيتنا، لا نعبد ما تعبد ولا تعبد ما نعبد، ولا هي عابدة ما نعبد ولا نحن عابدون ما تعبد لها دينها ولنا ديننا.»(4 ). إن هذا الرفض للآخر بنبئ عن نية الشخصية في الحفاظ على هويتها المتضمنة للدين والعادات والتقاليد، وحق امتلاك الوطن وحبه المتواصل في المنقطع التالي يقول عمي صالح إحدى شخصيات الرواية «لم أعد أحس بالتعب وأنا أمارس طقوس العمل في هذه الأرض، أكره الليل حين يلقي علينا برنسه الأسود شفقة علي»( 5)،«إن إسناد "طقوسية" إلى العمل في الأرض هو ملمح يفضي إلى تلك العلاقة الحميمة والأبدية بين الذات وبين الموطن، فضاء الكينونة. كما أن النفور من الليل في صورته الفلكية، بل الأصح والأصوب هو انزياح الدلالة عن المقاصد إلى سرقة هوية الذات وتربتها»(6 ) لتتكرر نفس مشاعر الحفاظ على الهوية مع شخصية خليفة الفلاح، الذي يصفه الكاتب بقوله:«لم يعرف خليفة مهنة غير الفلاحة، ورثها أبا عن جد، حتى عندما اغتصبت فرنسا منهم أراضيهم فضل أبوه أن يستصلح البور والسفح ليزرع فيه الحياة وحصل بعد الاستقلال على قطعة كبيرة مع بعض زملائه لخدمتها ضمن شعار الأرض لمن يخدمها، ومع ذهاب ريح الاشتراكية تنازلت له الدولة عن هذه القطعة التي مازال يبذر في رحمها ما بقي من سنوات عمره»( 7). فخليفة من خلال هذه البطاقة الفنية التي وضعها له الكاتب، يبدو أنه يربط علاقة حب ذات جذور عميقة وعريقة بالأرض ، مرجعها أن الاستعمار أول ما اغتصب منه أرضه، هادفا من ذلك تجويعه بما أنها كانت المصدر الوحيد لإعالتهو لازالت، فبتجويعه سلب منه هويته واغتصبها كما اغتصب الأرض، هذه الأخيرة التي أبى إلا أن يفارقها مبرهنا رفضه اغتصاب هويته. ويعبر خليفة عن هذه العلاقة التي تربطه بالأرض قائلا:«و لا فرق بين الأرض والإنسان، هو الأرض الصغرى وهي الإنسان الأكبر... وحين يسأله الناس...من علمه هذه الفلسفة؟ يقول ملء فيه الأرض... –يعلق الكاتب-و بمثل ما يسعد وهو عليها يتلذذ عبقها وينتشي كبرياءها... حين يقلبها رضيعا بين يديه... وحين يزرع في رحمها الحياة وحين يعفر جبهته عليها ساجدا لله. بمثل ما يسعد بذلك يحس بالاختناق وهو يغادرها إلى البيت...»( 8). إذن فتعلق الشخصية بأرضها يعكس تعلق الفلاح الجزائري والمواطن الجزائري بها وهي مستعمرة، فهي هويته، وهي كبرياؤه ومثلما سجد لله على خروج المستعمر منها ذات يوم، فهاهو اليوم يعفر جبهته عليها ساجدا لله شاكرا له. فحب الشخصية للأرض نابع من حب هذا الوطن لتلتقي الشخصيات الثلاث في هذا الحب السرمدي خدمة لأرض هذا الوطن الذي وهبها يوما هوية وجب حفاظها عليها.
- شخصية البطل
- شخصية عمي صالح نموذج الشخصية المحافظة على هويتها
-شخصية خليفة
2- الشخصية، والعبث بهويتها:
تعيش الشخصية أزمة حادة وهي تتأرجح بين مد الهوية وجزر الآخر، الذي طالما عمل على تشويه الهوية وطمسها والعبث بها، متجاوزا بذلك كل الأعراف الدينية التي تمجد الإنسان وهو بذلك مُصرّ على«قصد يته العبثية في الهوية»(9 ) تقول الشخصية «هناك أمر يقع الساعة دون أن أدري، لابد أن أعرف لمجرد إشباع الفضول طبعا، فأنا شاهد سلبي على الأحداث لا أقدر على تغييرها ربما لأن القدر قد رسم هذا وجفّ القلم وطويت الصحف وأنا قشة لا يمكن أن أصمد أمام التيار الجارف...ألم يرو أن حكماء هذه المدينة المومس قد قالوا وقولهم الحق:
– إذا رأيت السيل هادرا فابق بعيدا عنه، وانعم برؤيته. وسواء أنعمت أم لم أنعم وسواء أباليت أم لم أبال تماما... المهم أني لا أقدر على تغيير الواقع وشتّان بين ما أحلم به أنا وما يريده هؤلاء»(10 ) المشكل ليس في القدر، المشكل في السلطة التي همشت الشخصية وأطرت حريتها وقتلت هويتها "شاهد سلبي"لأنها مهددة من قبل«إن أردت أن تعيش بيننا سليما معافى في جسمك.
وجسدك...و بدنك...و.. .يأتيك رزقك ما يسد رمقك...و يستر عورتك...فاسكت»( 11).فأن تكتفي بالصمت والمشاهدة، مقابل أن تلبي حاجاتك وليس كلها... فذاك قتل لذاتك وضرب لهويتك من جذورها.
لقد فقدت الشخصية شخصيتها، فتكون لديها إحساس بالجبن والخوف والألم، من كل من يقف طرف النقيض في الأفكار، كل من يستهزئ بالهوية الجزائرية ويعمل على إفسادها وقتلها.... وقد تمثل هذا الطرف، شخصية صلاح الدين قائد الجماعة الإرهابية و"امحمد لملمد" قائد السماسرة والمفسدين بسي سليمان الوزير، فهذه الأطراف الثلاثة تشترك في نقطة واحدة هي "إفساد الهوية" معتمدة طرقا عدة ومتعددة:
1- صلاح الدين: شاب في مقتبل العمر تقاذفته قسوة الحياة وصعوبتها فجعلت منه«فريسة سهلة للتيارات المفسدة للهوية، -فعمل هو الآخر-حتى كانوا حقلا لزرع نبتة التطرف نحو
المغالاة في الدين حين اعتبروا كل إطارات الدولة الجزائرية مثل الدين واللغة وثورة التحريروغيرها من عناصر الهوية ودلالات شموخها. كما قد تمثل هذه الشخصية الفئة الشابة المنحدرة من الريف.»(12 ).
هذه الأسباب مجتمعة جعلت من شخصية صلاح الدين شخصية حقودة، مريضة، مسلوبة الإرادة ، ملوثة الأفكار، فانعكست حالتها النفسية والاجتماعية عليها بطريقة سلبية فأرادت الانتقام لذاتها بالثورة على الآخرين وضربهم في هويتهم بممارسة فعل الإرهاب ،ولعل ما فعله مع عبد الرحيم كاف لتأكيد شخصيته المريضة والمنتقمة ،هو لم يبال به رغم توسلاته «أنا أخوكم...أقسم أنني بريئ...أقسم أنني لم أظلم أحدا...أنا فقير...ارحموني يرحكم الله»( 13) ولكن قلب صلاح الدين لا يعرف الرحمة ولم يرحم منذ امتهن الإرهاب سلوكا وعملا...مبررا جواز قسوته على الطواغيت.
3- أمحمد الملمد:
تمثل هذه الشخصية بؤرة الفساد ومركز إفساد الهوية، فهو في نظرنا شخصية ناقصة في مرحلة الإثبات، أراد شراء الجميع بنقوده، الفقراء، السلطة، الدولة، الأمن، الكل غدا في حضرته مساوما بأثمان بخسة. اغتصاب فهو يرى في نفسه الحاكم، الآمر والناهي «أنا ما خلقت لأملك المال فحسب...؟ بل خلقت لأقود الناس وأتزعمهم وهذه سنة الله ولا تبديل لسنته... وظيفة الفقراء العمل عند أسيادهم والتصفيق لهم والائتمار بأمرهم لا غير»( 14).
و هذا تشويه آخر رهيب من نوعه للشخصية ومقصود، فكيف نتصور حاكما ينوي مسبقا حكم الناس من أجل إذلالهم من أجل التباهي وهو سجله حافل بأضخم الجرائم، ففي اغتصابه الحلوة اغتصاب للهوية وفي سجن منير خنق للثقافة ومن ثمة لهوية المثقف. وفي محاولته الزواج من الجازية ذلك حلم ظل يراوده لأنها الهوية ذاتها.
4- سي سليمان: مدير المشفى الذي أصبح فيما بعد وزيرا للصحة مارس هو الآخر لعبة تشويه الهوية قبل أن ينصب وزيرا.يقول عمي صالح في وصفه«مديرنا وطني ضرب الرقم القياسي في احترام وقت عمله...يدخل لمكتبه بعد العاشرة يتصفح الجرائد التي تشترى على حساب المشفى... يوقع الوثائق ...يطلع على المراسلات....يرشف قهوة...في الباب يلتف حوله العمال المخلصون كالكلاب المدربة يرقصون بلا إيقاع...يملأون له السيارة بخيرات المشفى...لحوم......أما المساكين...»( 15).
من خلال هذه الصورة التي قدمها عمي صالح لسي سليمان ، ندرك أنه شخصية لا تعمل إلا لحسابها الخاص دون الالتفات للآخرين، الذين ظلوا خدما لها ممزقي الهوية في ظلمتها والمشكلة أنها حضيت بمنصب وزير للصحة فكيف سيكون موقفها اتجاه الآخرين وهي تتقلد المسؤولية...؟ سنترك المجال لهذا الخطاب الذي ألقاه على الرعية يجيب على هذا السؤال «أمامنا عمل بزاف ومشاكل قد لجبال وزارتنا لازم نخطط ونشيد عمرانا باش نقضي على مشكل السكن الخطير ونسهل البسطاء السكن ولو بالأديان...»( 16).
يمثل هذا الخطاب «قمة العبثية »( 17) فسي سليمان وهو مدير أفسد الهوية...أما وهو وزير فقد شوهها ومزقها.
فمن خلال هذه النماذج الثلاثة، لاحظنا كيف عملت على العبث بهوية الذات، فقيرة كانت أم لا مبدعة كانت أم غير ذلك، امرأة كانت أم رجلا، فراهن الهوية راهن مشوه ذاك الذي زج بـكريم السامعي خلف سرادق السجن يتجرع آلام براءته، آلام ظلم القانون له، آلام جريمة لم يرتكبها، آلام نظرات الناس إليه صارخين في وجهه (مجرم، مجرم...) وحده كان يصدق براءته «يؤكد لصاحبه الجديد أنه بريء وأن العدالة لا معنى لها إذا كانت تتهم الأبرياء لمجرد دلائل لا يدري كيف دست له»( 18) والوحيدة المسؤولة هي عزيزة قطب النفوذ، المال، السلطة جعلت القضية في صالحها متهمة كريم بما ارتكبه المجرم الحقيقي فواز ولدها. وفي ذلك تشويه لهويته وسمعته.
5- الرؤية البرجوازية، وتأثيراتها على الشخصية:
دون إشكال يمكن أن نطرح انتماء شخصية عزيزة إلى الطبقة البرجوازية، ذلك أنها ورثت ثروة ضخمة عن عمتها «و ما كادت تبلغ الثامنة عشر حتى ورثت عن عمتها كل ما ورثت عن زوجها الثري من أراضي وأموال، فتحولت عزيزة فجأة من مضغة للشفقة إلى إعصار للرفض والتحدي، وخاضت في لجة الحياة حتى استوت سيدة للمجتمع، وخصوصا بعد اقترانها بسالم بوطويل وضمها الثروتين معا في قبضتها»( 19) فهي بذلك تمثل الطبقة البرجوازية في مجتمع عين الرماد، وقد كانت الرواية النوع الأدبي النموذجي للمجتمع البرجوازي، ذلك كونها كما يرى (لوكاتش) «استطاعت أن تصور تناقضات المجتمع البرجوازي النوعية أصدق تصوير وأكثر نموذجية»( 20).
لقد عمل الكاتب على تعرية واقع هذه الطبقة، فشخصية كشخصية عزيزة المركبة من تناقضات عدة لا غرابة في «أن نجدها تختار لنفسها الانتماء الأشد عفونة على الإطلاق وهو الانتماء البرجوازي الموغل في الجشع والاستغلال، وابتزاز كل شيء يدر عليه بفائدة مادية أو لذة عابرة حتى ولو كان هذا الشيء جريمة في حق الأخلاق-كحبها للرجل المفترض أن تتزوجه ابنتها-أو القانون –التستر على جريمة القتل- التي ارتكبها فواز ابنها-أو الوطن-باستغلال خيراته لصالحها ونهبه والاحتيال عليه-»( 21) فهي تمارس البرجوازية فعلا، من خلال إيمانها بالانقسام الطبقي في المجتمع وعدم تعاطفها مع الآخر(الطبقة الفقيرة) فكل مساعدتها كانت للآخر(الغرب) من خلال إعادة ترميم مقبرة النصارى.
و يمكن رصد جميع ردود فعلها على مجموعة كبيرة من القضايا لكشف توجهها وإحساسها وانتمائها البرجوازي الملخص في شكل توجهين:
أولا تحقيق الحلم: إنها عزيزة بحصولها على المال حصلت على القوة وامتلكت الجميع في قبضتها خصوصا (الرجل) فلطالما حلمت أن تتحدى هذا الأخير الذي كان يوما أبا قاسيا لم يرحم والدتها«فقدت عزيزة أمها في مأساة رهيبة حين تجرأ أبوها فقتلها شر قتلة...»( 22) فبانتمائها البرجوازي حققت حلم ثأرها من الرجل، والبداية كانت من زوجها سالم الذي مارست عليه كل عقدها النفسية وأذلته واحتقرته ولعنت معشر الرجال من خلاله«اللعنة على كل الرجال»(23 ).
– تحقيق حلمها من خلال الانتماء البرجوازي: فتح لها المجال بالظهور أمام الناس في كامل لياقتها أصغر سنا وأكثر تألقا، لذلك فهي حريصة كل الحرص على اقتناء أفخر الملابس وأرقى مواد التجميل كما تحرص على الذهاب إلى قاعات الحلاقة وممارسة الرياضة.
– تحقيق حلمها من خلال استعادة كرامتها التي فقدتها وهي طفلة تتقاذفها الدور، هاهي اليوم بانتمائها هذا تجلب اهتمام الجميع حولها « قطعت عزيزة الأشرطة معلنة عن نهاية ترميم المقبرة، وألقت كلمات ذكرت فيها بمجهوداتها الجبارة وبآمالها المستقبلية وشكرت الجميع .. وما كادت تنهي كلمتها حتى اهتزت المقبرة بالتصفيق »(24 )«و كم تسعد عزيزة لهذه الجلسات فكوثر تكثر من الحديث عنها، وعن مواقفها وذكائها وخضوع الناس لها وخوفهم منها وتحس عزيزة نشوة كبرى وهي تسمع ذلك»(25 ).
ثانيا: ممارسة السلطة: تفصح السلطة عن وجهها لأول وهلة من خلال لقب عزيزة الجنرال فلقب الجنرال يوحي بالدكتاتورية وممارسة فعل التسلط، وقد أسبغ عليها رهبة وسلوكا عنيفين لطالما شعر به من هم حولها، إضافة إلى امتلاكها المال الذي يشتري السلطة والمقطع التالي يعبر عن ذلك«إذا أردت قضاء مآربك فعليك بعزيزة الجنرال... هكذا يردد الجميع ... وهكذا يعتقدون أيضا... كلما ضاقت الدنيا بأحدهم هرع إليها، وهي تعرف الجميع، تمد خيوطها السحرية فإذا الحق باطل والباطل حق، وقد سماها الناس الجنرال لقوتها ولعلاقتها بالجنرال... والجميع يعرف أيضا أنها وراء وصول مختار الدابة ونصير الجان إلى كرسي البلدية لتسهل على نفسها تحقيق ما تريد هي أيضا كانت وراء سجن فاتح اليحياوي الذي حرض الناس ضدها وضد مختار الدابة بعد استيلائها على قطعة أرض وسط المدينة وعلى جزء من حديقة الأمير وعلى مدرسة ابتدائية صرح كذبا وزورا أنها مهددة بالسقوط»( 26)، من خلال هذا المقطع تتكشف خطوط عزيزة المتشابكة والمنثورة في كل مكان، وكلما أحست بخطر أحدهم عمدت على الإيقاع به وبشتى الوسائل، وكأن بالكاتب يشرح لنا طبيعة هذا الانتماء البرجوازي، بصفته فئة اجتماعية يجب الحذر منها، وفعلا كانت عزيزة كذلك «كان فاتح اليحياوي في سنواته الأولى وقد عين أستاذا لعلم الاجتماع بالجامعة يفيض حماسا ويتدفق حيوية، فألهب العقول والقلوب.. وكانت (عزيزة)العقبة الكؤود التي تحدته واعتبرته خطرا عليها ومازالت خلفه حتى زجت به في السجن»( 27) وكان تصرفها مع كريم السامعي حقيرا عندما اتهمته بالقتل زورا بدلا من ابنها فواز وسرعان ما شعرت بخطر السلطة على ولدها أرسلت خيوطها السحرية ليتغير كل شيء«لقد أطلق سراح فواز معززا مكرما ووصل الضابط سعدون أمر بالانتقال إلى الصحراء، بعيدا عن مدينته بمئات الأميال ...وأدرك سعدون أن يد عزيزة أطول مما يتوقع وأن القانون فعلا تحت بعض الناس»(1) والمقطع يعبر عن نفسه.
و قد تكرر هوس الانتماء البرجوازي عند شخصية امحمد الملمد عندما استغل كل ما يملك من أموال ونفوذ لضرب الآخرين وامتلاكهم والظهور بشخصية الحاكم، الآمر والناهي.فهو يصف دنيا البرجوازية بقوله«هذه هي الدنيا... المال يشتري كل شيء وتحول الأسياد عبيدا... محافظ الشرطة هذا حينما عين كان لا يملك حتى ثمن ثيابه التي يرتديها... ومن خير غدا من أعيان البلد، يمكنه أن يجلس مع الأسياد وينادمهم... أنت وسيلتي لتحقيق الكثير»( 28) هكذا هوا لمال وسيلة لأجل تحقيق غايات عدة تحت غطاء البرجوازية القائمة على «التحايل، رشاوى بالملايين، مخدرات...»( 29).
إلا أن البرجوازية أخذت منحى آخر في شخصية سالم فرغم انتمائها إلا أنها متمردة ،تمردا فرديا ، وفي بعض جوانبها نجد لديها تعاطفا مع الآخر(الطبقة الفقيرة) لفقدها الحب والاستقرار، فسالم يشعر بالآخرين ويثبت شعوره فعلا ،كوقوفه مع بدرة زوجة ابنه وهي في مرحلة المخاض، حنينه للأرض والطبيعة وحبه للجمال.
و يمكن رصد جميع ردود فعل هذه الشخصية على مجموعة كبيرة من القضايا لكشف توجهها وإحساسها، وانتمائها البرجوازي، أمام هذه القيم. لقد اكتفت الشخصية بردود الفعل التالية:
أ -إنكسار الحلم( 30):
سالم شخصية مسالمة، حساسة، محبة، فأيام كان في أسرته «لم تكن عنده دارة ولا سيارة ولا تلفزيون، ولم يكونوا يأكلون على الطاولات والكراسي، ولا ينامون على الأسرة، ولكن كان للحياة طعم ومذاق وكان الحب الذي يحملونه في مخازن قلوبهم هو رصيدهم الأكبر...ورث أبوه عن جده الأراضي الشاسعة، قطعان الغنم، والبقر، وبقدر ما كان جده يحب التوسع في المال كان خيرا يفتح بيته وقلبه للجميع...الفقراء والمساكين وأبناء القبيلة... وكان يلقب بأبي الفقراء»( 31) .
في هذا الجو المشع بالحب عاش سالم معززا مكرما، إلى أن قرر والداه تزويجه من عزيزة التي لم تتزوج إلا ثروته، فانكسر كل حلم جميل في حياته، رغم امتلاكه المال، فالمال والبرجوازية لم يعنيا له شيئا في ظل غياب الحب، حبه القديم ذهبية بنت الطاهر التي أضحت مجرد حلم يسترجعه من دنيا عزيزة ومضايقاتها له ليتلاشى كلما اصطدم بواقع عزيزة الحقيقي حيث لا يستطيع التعبير عن رأيه ولا التحكم في زمام الأمور، هو مجرد تابع، خاضع لها. إذن هو يرفض هذا الانتماء البرجوازي الذي لم يجن عليه إلا سوء الحظ ووحدة وحزنا «تمنى لو كان مجرد فلا ح فقير يرعى شويهات ، ويأكل كسرة شعير تصنعها أنامل زوجته ...تمنى لو لم يكن أصلا في هذا الوجود...ما معنى أن تملك المال والعقار والمزارع ثم أنت لا تملك نفسك؟ ما معنى أن تأكل كل ما لذ وطاب، وتلبس أجمل الثياب وتركب أفخر السيارات ثم أنت مضطرب الروح والنفس؟»( 32).
ب-الإغتراب:
كل هذه الأسباب مجتمعة ،أوصلت سالم لحالة من الاغتراب الداخلي، سببه حرمانه من الحب الذي ذاب بين طيات البرجوازية وحب المظاهر«فقطع كل علاقة له بالعالم الخارجي بل وقطع كل علاقة له بعزيزة وبأسرته وبكل ماضيه»( 33) وظل يعيش حالما إلى أن مات الحلم الذي كان يعيش من أجله«انطفأ القلب الذي طالما نبض له حبا، مات القلب الذي طالما منحه الحياة»( 34)، بذلك فالانتماء البرجوازي لم يعن لسالم شيئا طالما فقد أشياء.
6- شخصية المرأة، زوجة، حبيبة، .... ومومسا:
يتجلى موضوع الصراع القيمي من خلال أعمال جلاوجي فتتسع وتتضح فكرة المرأة وكأن بالكاتب يبدي اهتماما خاصا بها فهي تتكرر في أعماله وهي ملهمته، إنه يقدم الأوجه المختلفة لها حتى لا يكون حكم القارئ عليها اعتباطيا ومجحفا وإن كانت«محفزا سرديا نحو التحول السالب والانقلاب ألقيمي والسلوكي»( 35) يقول الكاتب: «إلى متى تفتحين، ذراعيك للبلهاء...؟؟...إلى متى ترضعين الحمقى والأغبياء...؟؟ إلى متى أيتها (...)تمارسين العهر جهارا دون حياء...؟»( 36).
قد أخذت المدينة هنا صورة المرأة المومس وقد تمثلتها، كما تمثلت في شخصية الحلوة التي هامت « على وجهها تبيع جسدها مومس على قارعا ت الطرق»( 37) وهي لعلوعة الراقصة التي «ملكت على الجميع نفوسهم وقلوبهم، وشغلتهم بجمالها، فصارت حديث مجالسهم وسمرهم... وصارت محج الولاة والوزراء والجنرالات والأثرياء»( 38).
إلا أن لكل شخصية مبررات جعلت منها امرأة مومسا، وقلبت موازين الأخلاق، جعلت منها امرأة ضحية. أنظمة حكم فاسدة استغلتها لخدمة أغراضها الشخصية ، وانقسامات وتكتلات حزبية«و لكن لماذا سمح الغراب والسيد نعل أقصد لعن بهذه الجريمة النكراء؟ لقد كان وأتباعهما فارحين... وهم يقدمون شرف المدينة دون خوف أو وجل»( 39). ضحية انقسامات طبقية وظروف معيشية قاهرة «و تذكر لعلوعة ذلك الصباح الذي كانت برفقة أمها في السوق، تجمعان فضلات الخضر والفواكه...»( 40)أو ضحية عدم رقابة أبوية أو فقدان أحد الوالدين«لكن إبراهيم لم يستطيع فرض سيطرته على الحلوة إذ ما فتئت أن كسرت ذلك الطوق عليها وأصبحت تأخذ زينتها وتخرج متى شاءت متنقلة بين الحمامات والحلاقات والأعراس... وكثر الحديث عليها حقا وباطلا ... بل ورآها البعض تركب السيارات الفخمة مع الغرباء»( 41).
فكل هذه الظروف مجتمعة كانت بمثابة تمهيد لطريق غير سوي سرعان ما يدفع بالمرأة نحو الانحراف. ولأن (المرأة) مؤشر الخطيئة ليست النوع الغالب، مادامت الحبيبة الوفية الطاهرة النقية التي تسمو إلى درجة الحلم، فتبدد بلمسة منها كل ظلمة، وتمسح كل دمعة«كفكفي مني دموعي»( 42) وتشفي كل جرح «بلسمي مني الجروح»( 43) وتضمد كل قلب «ضمدي من قلبي القروح»( 44) وهي الأرض المحبوبة عندما تسمو بحبها وتتحد دلالاتها بالوطن وبكل غال ممثلة بشخصية الجازية . فلجازية في ذهن كل واحد منا جسدا وروحا مادامت تمثل التراث المحلي(الجازية الهلالية) في بعده الإستراتيجي الشعبي المتأصل، وهي المخلصة في حبها من خلال النص لخطيبها ذياب الذي ظلت تذكره في غيابه، رافضة زواجها بـمحمد لملمد رغم كل الإغراءات، هي مثال المرأة الصبورة رغم توالي الأزمات:
أنت يا الجازية في هذه الحارة كل شيء....قد تجف البحار ....قد ترتخي الجبال...قد تجبن الريح...لكن الجازية يجب أن تبقى أبدا كبرياء( 45)
وهي الأخت المساندة «ما أسعدني والأقدار تمنحيني هذه الأخت الرائعة»( 46) وزادت مكانتها الأخوية في قلب منير عندما وقفت معه موقفا مساندا، مواجهة لأعدائه«حين كسروا الباب ورحت أصرخ...»(47 ) بحدسها وذكاءها أدركت أن أعداء منير كثر ولابد من الحذر منهم«كان ظني في محله ... قصدت بيتك مساءا وأخذت ما اعتقدت أنه مهم لديك... حوائج نانا كراريسك صورك...رسائلك...و بعض كتبك المفضلة.. »( 48) ومنير بصفته مثقف لا يهمه شيء سوى ما حملته الجازية وأنقذته من النيران، فهذا موقف جليل من طرفها ظل منير يذكره. وتتبادل الأدوار ليقدم الكاتب نموذج المرأة (الزوجة) ممثلا في شخص عزيزة الجنرال وهي تخوض صراع هامشيا ضد الآخر (الرجل) وفي الرواية زوجها سالم من هنا يتولد الإحساس بالفاجعة من الطرفين، فاحتقار الزوجة لزوجها رمز لقتل تلك القيم السلطوية التي طالما تمثلها الرجل، فتتسع الهوة بين الطرفين. وعكس الأخريات فلعزيزة الزوجة صورة واحد جلية، إنها صورة معكوسة على مرآة النفس، جسد خالي من الإحساس أو يكاد بلا رائحة بلا طعم، لا حب ينمو في قلبها، إنه دافع للاستغراب والدهشة، هذا ما يمكن استخلاصه من مواقف كثيرة جمعت عزيزة مع زوجها سالم علاقة فاترة وحوارات جارحة، إذلال متواصل وأشياء أخرى عبرت عنها المقاطع التالية«كانت عزيزة قد خرجت من السيارة بالمرآب... وكان زوجها وهو يجلس بجانبها كالتابع الأمين...»( 49) وهو المجروح في رجولته عندما تفضل عليه الطبيب فيصل «ركب سالم بوطويل في سيارة الإسعاف في حين ركب الطبيب مع عزيزة»( 50)و هو المهمش «أنت لا دخل لك»( 51). فعزيزة زوجة أوغلت في احتقار زوجها والحط من شأنه أمام مرأى أولاده وهي تعيره بالجبن من خلال ولدها«يجب أن أقطع من قلبك عرق أبيك... أنت جبان مثله إما أن تكون مثلي أو أقتلكم جميعا...»( 52) فهي ترى في نفسها الرجل والمرأة معا، وتسوء العلاقة أكثر وتتشوه صورة الزوجة وتتسع الهوة عندما تطلب منه الاعتراف للشرطة بدل ابنها المجرم«لا تضيع شباب ابنك يجب أن تعترف مكانه، أنت أنهيت عمرك وهو مازال في ربيع عمره»( 53)، عندها يدرك الزوج أن زوجته انتهازية، أنانية، فعزيزة مثلت نموذج الزوجة المتسلطة المحتقرة، المتكبرة، أحسن تمثيل وغيرت من وظيفة الأنثى التي طالما صودرت أنوثتها من جهة، ومن جهة ثانية المرأة الحنون المعطاء.
ليعود الكاتب ويختار نموذجا آخر للزوجة الصالحة المساندة لزوجها الواقفة معه في أصعب الظروف حتى لا يأخذ القارئ في ذهنه صورة وحيدة ومشوهة في نفس الوقت للمرأة الزوجة، ذلك النموذج هو نوارة زوجة كريم، تلك القلقة في غيابه وهو في مركز الشرطة ولم يلتحق بمنزله في الوقت المعتاد «وأعادت نوارة زوجة كريم الاتصال للمرة الثالثة دون جدوى»( 54) ويقودها قلقها لدرجة التفكير بالخروج للبحث عنه ليلا«و دار في خلد نواره أن تخرج للبحث عنه...»( 55) وهي السعيدة برجوعه«ما كاد كريم يلج الباب حتى ارتمت على صدره وقد سبقتها الدموع لتمنعها عن الكلام-و يبادلها الزوج نفس الشيء- ووقف هو يضمها إلى صدره...»(56 )، مشكلان بذلك أسمى آيات العلاقة الزوجية المبنية على أساس الحب، ويعلق الكاتب تعليقا يؤكد فيه على ضرورة توفر شرط الحب في الزواج «ما أصعب فراق دفء الحبيب ولو ليلة »( 57) وتمتن العلاقة أكثر ويزداد عنف الحب عند اشتداد المحن، فمحنة الزوج كبيرة وهو المتهم البريء الذي يدخل السجن ظلما لكن وقوف زوجته إلى جانبه بدد كل الصعاب«اهتم بنفسك لا تشتغل بنا، لا شيء ينقصنا»( 58)و يعظم الحب بجملة«و أنا مستعدة لكل تضحية من أجلك»( 59)و منه فقد مثلت نوارة نموذج الزوجة المحبة، والحبيبة المخلصة أروع تمثيل.
و هكذا نجد أن المرأة قد تقمصت أدوارا عدة تراوحت بيت السلبية والإيجابية أوردها الكاتب بكل تفاصيلها، مركزا في ذلك على تراكم عوامل عدة تدخل في بناء شخصية المرأة وتكوينها، مؤكدا بذلك أن الإنسان ينتمي إلى بيئته ويرتبط بها، وبالتالي فهي مصدر قيامه يؤثر فيها وتؤثر فيه.
أما الجدول اللاحق فنحصي من خلاله أسماء كل الشخصيات النسوية التي وردت في كل الروايات ودور كل واحدة منهن، مشيرين في نفس الوقت انه يمكن لمرأة واحدة أن تتمثل أدوارا عدة:
5- شخصية المثقف، صوت بلا صدى:
إن تشظّي الهوية وتمزق الوحدة الوطنية، يؤديان بالذات إلى السقوط والاختلال ويقويان لديها الشعور بالعراء والغربة والضآلة«و أنا الغريب ... أجرع الفزع المرير ...»( 60)،«كن الغريب دائما عن نفسك»(61 )، «أنا في أمة تداركها الله غريب كصالح في ثمود»( 62) ففي ظل الصراعات الطبقية المحتدمة وصراعات الأنظمة الحاكمة وفسادها والنزاعات العقائدية ضد كل الشرائح الاجتماعية عاش المثقف. وفي أعمال جلاوجي يمثل المثقف الرأي الآخر المغايرو المشاكس وصوت العقل ومنظار الأفكار لذلك سيلاقي المتاعب يشرد ويضطهد، ويسجن ويهمل ويحقر ... ويترك في عزلته التي اختارها إما مجبرا أو مخيرا.مما يدعونا للتساؤل أين المثقف الذي« يحيا في البرج العاجي، ويسبح خياله حرا في الفضاءات الواسعة الرحبة، ويتوسد ندف الغيوم البيضاء. لم يعد قادرا على العثور على موطئ قدم يلاحق من الداخل أولا لأن الداخل هو الجحيم الأكبر ، هكذا يعرف (فوكو) الاضطهاد، إنه في الداخل. المضطهد لم يعد كائنا اجتماعيا لأنه انفصل عن المجتمع بل فصله المجتمع وهمشه وأهمله واستأصله كالزائدة الدودية. المثقف لا دور له في العالم الجديد العالم الجديد يتربع على عرشه (أفلاطونات) جدد»(63 )، لذلك فشخصيات جلاوجي المثقفة تشعر بالخواء الداخلي، فهي مستلبة الإرادة والحقوق والمشاعر وبالتالي فهي خاضعة و منصاعة، مستسلمة استسلاما يشل حركة الجسد ويخدر الروح «و المشكلة أنني لم أفعل شيئا حتى الآن... وفي الوقت ذاته لم أغير سير الأحداث أنا مجرد متفرج سلبي تسخر منه حتى الفئران»( 64) ومع ذلك فهي مكافحة ومسايرة لكل الظروف على الأقل هي لم تغادر وطنها وبقيت محافظة على إنسانيتها من كل مسخ قد يصيبها، وهي الموجهة المتحدية الصابرة رغم حدة الأعاصير متمثلة في شخصية منير، هذا الذي ظل يصرخ دون أن يجد من يلبي نداءه ونداء الثقافة، هو مثقف طالما حاول الدفاع عن فكرة مفادها ضرورة مسايرة الثقافي بالاجتماعي والسياسي، هذا ما تبلور في ذهنه وهو المثقف الملم بمختلف الثقافات العربية والغربية، عرف برأيه السديد، في صوته العادي نبرة مثقف، لطالما أدرك نظرة الناس إليه والتي توحي بالكثير من السخرية من أحلام المثقفين«يا منير متى تفطن لحالك، الناس يعيشون الواقع وأنت تحلم بحياة وسط الأوراق»( 65)و لا يجلب إلا التعاسة ولا يمتهن غير ذلك«هؤلاء الناس يلهثون خلف ما يملأ بطونهم ... لا ما يملأ عقولهم حول مكتبتك إلى محل لبيع المواد الغذائية وسترى كيف تتغير حالك أو أخرج من هذه الأرض الملعونة»( 66) فلا المثقف ولا ثقافته ولا كتبه يحتاجها الناس، خصوصا إذا كان فقيرا لا يملك حتى مهر زواجه، وهموم الآخرين تقف حائلا بينه وبين تحقيق حلمه إضافة إلى افتقاده الأمن والأمان في وطن يعيش مافيا الإرهاب، مافيا السلطة وذوي النفوذ والمال «إلى متى ونحن لا نحس في أرضنا في أعشاشنا بالأمان؟ لقد صرت أتلقى كل يوم رسالة أنهض صباحا وأنا على يقين أن رسالة تنتظرني بفارغ الصبر تحت الباب يتهمني أصحابها بالوقوف مع الطاغوت ومرة يتهمني كاتبوها بأنني إرهابي مناهض للسلطة والوطن والديمقراطية ويجب عليه أن أتوب»( 67)، وسط هذه النيران الملتهبة يقف المثقف تائها...
ماذا لو طرت مثل الحلاج
أمسك بطرف منديلي فقط ثم أطير لأفر من هذا الجحيم الذي أعيش فيه(68 )
إضافة إلى حالة نفسية متأزمة نترك لـمنير فرصة التعبير عنها«حالتي النفسية تكاد تنهار كانت أسناني تتساقط بشكل عجيب»( 69) ولا يتوقف الأمر عند هذا الحد في التعامل مع هذا المثقف الذي يسجن ظلما«تكومت في مكاني على البلاط البارد وسرحت بفكري ... ما معنى أن تنتهك حرمة إنسان ليلا، ويجر ليلا من بيته إلى الحجز ويرمى فوق بلاط بارد ...»( 70) وتقل حدة المعاناة كلما فكر المثقف«أن الكثير من السجون العربية تئن بآلاف المثقفين لعشرات السنوات... دول عربية عريقة بحجم بابل أفرغت من كل مثقفيها لأنهم أبوا أن يسبحوا للآمر الناهي فيها بكرة وأصيلا.. نطفة الحجاج التي زرعها مازالت معطاء ولودا وسيوفه يأبى أن يلثم..»( 71).
إذن رغم المواجهات والتحديات، مازال المثقف لم يتجاوز الإطار المرسوم له من طرف السلطة. ليبقى منير شخصية سلبية من جانب اكتفائها برصد «السلوكات والظواهر وعدم المباشرة والمساهمة في اقتراح حلول لها، وهي ميزة رسمت بها كل الشخصيات المثقفة في متوننا السردية»( 72).
و نمثل للنموذج الثالث للمثقف بشخصية فاتح اليحياوي المثقف الذي يقف منعزلا في مكان بعيد متحاشيا العالم الخارجي، بعدما اصطدم وانهزم بواقع مر«فالانعزال يشمل الذات المزدراة الذات المهزوزة وقد مورس عليها أعنف فعل ممكن ، إنه الإهمال والإقصاء وتحسيسها بالدونية واللاجدوى»( 73)و فعلا هذا ما حدث مع فاتح الشاب المثقف الذي كان «يفيض حماسا ويتدفق حيوية فألهب العقول والقلوب»( 74) وحده كان يدرك زيف القانون وظلم السلطة «كان يدرك جيدا أن سكان عين الرماد هم ضحية مؤامرة بين من يملكون الدينار ومن يملكون القانون»(75 )و الشيء الإيجابي الذي يسجل عليه أنه حاول إصلاح واقعه وتغييره بثورته على عزيزة لكن حدث ما لم يكن يتوقعه«لقد تدخلت القوات العمومية وفرقت المتظاهرين ليحاكم فاتح ويشهد بعض المتضررين على صحة ما وجه إليه من تهم»( 76) ويسجن فاتح ويعتزل الناس معلنا
« أن هذه الأمة قد قضى عليها القدر بالذل والهوان»( 77) لكنه خرج بشخصية أخرى بعد تجربة الاعتقال بشخصية« مفرغة من الداخل، بلا إيمان، بلا هدف فتحصد الجسد الضئيل في غرفة منزوية كتب على بابها غار حراء»( 78)عندها لزم « غرفته لا يبرحها»(79 ) حتى الوظائف الاجتماعية تصبح عبئا يثقل كاهل الذات (الزوجة، الرفيق) «ظل فاتح اليحياوي يرفض الزواج مخيبا آمال والديه ... مؤكدا مقولة أمه: فاتح تزوج الكتب»( 80).
هكذا هي حال المثقف في الاعتزال وقد تخلى عنه العالم ورفضه المجتمع، وقد تخلى هو عن هذا العالم وعن هذه الأمة، التي لا يجد سبيلا في خلاصها فهي لا تفهمه ولا تستحق أن يعاني من أجلها، بذلك فهروبه واعتزاله في نظرنا كان إيجابيين وهو مثقف إيجابي حتى وإن لم يسمع صدى لصوته، فيبقى فراره مبررا إلى أحضان الطبيعة «هذا مكانك الطبيعي يا فاتح، يجب أن تفر من تلك الكتل البشرية المريضة ومن مدنهم الموبوءة، ومن شعائرهم وطقوسهم الزائفة لست أنت الأول ولن تكون الأخير لقد فر أبو العلاء إلى عماه وإلى غرفته الضيقة، وفر حي ابن يقظان، وفر محمد ابن عبد الله، كل الفلاسفة والمفكرين والأنبياء، و.. ما يهمك أنت إن صلحوا أو فسدوا لا سبيل إلى إصلاحهم وتقويهم ... لقد قلت كلماتك في أدانهم ولم يسمعوا : الساكت عن الحق شيطان أخرس، وأنتم جميعا ساكتون عليكم اللعنة أيتها الشياطين الخرساء...»(81 ).
أخيرا، ومن خلال نصوص جلاوجي نكتشف أنه قدم لنا صورة للمثقف، تبدي ملامحها شدة الأزمة التي يمر بها ولازال يعاني الاضطهاد والظلم المسلط عليه من كل الجهات.
– ما زالت السلطة تقف في الطرف النقيض للمثقف، وتعاكسه في كل مبادئه وتكذبه في كل أفكاره، وتعلن جنونه في كثير من المواقف لتكون نهايته سجنا مريرا، قتلا مفجعا، منفى طويل خلف سرادق الفجيعة.
– ما زال المثقف مجرد صوت بلا صدى، ولازال المجتمع يمارس عليه لعبة التهميش والاحتقار.
– يقدم لنا الكاتب رسما بيانيا نتابع فيه مسار تطور المثقف، عبر الروايات الثلاث، فهو المتفرج المنصاع للأوامر ولكنه الصابر على المحن وهو صاحب الأفكار النابغة الحالمة بغد أفضل وهو المطبق لهذه الأفكار والمنفذ لها لكنه سرعان ما يصطدم بصخرة السلطة وسوط القانون وذوي النفوذ والمال، ويمكن أن نمثل بهذا الرسم البياني لتقريب الفكرة أكثر:
من خلال هذه الأعمال يتضح أن الكاتب ينئ عن رؤية استشرافية لحالة أمة لا تقدر مثقفيها، فهي أمة لن تنعم بطيب العيش وهي تقطع الصلة بينه وبينها، إنه-الكاتب-يخاطب فينا عقولنا محذرا باقتراب لحظات الانهيار مادمنا أمام عالم آيل للسقوط في أي لحظة، إنه يتوقع الكارثة قبل حضورها ويستشعر أزمة المثقف انطلاقا من كونه المثقف في حد ذاته، وفي نفس الوقت يطرح أسئلة تراوده وهي: متى سينعم المثقف بالراحة والاطمئنان في وطنه؟ متى تعود له هيبته ورهبته؟ ومتى يحق له القيام بدوره على أحسن وجه بعيدا عن التقرب زلفى إلى الحكام؟ متى يسقط قناع التصنع والتهريج … ؟؟؟.
خلاصة:
نخلص في الأخير أن تحليلنا لنماذج الشخصيات حسب ترتيبها في الروايات ناتج عن فهمنا الخاص للنص من خلال العلاقة التي نشأت بيننا وبينه، وبالتالي فهذا التحليل ليس نهائيا، لأن الاختلاف في فهم النص يعود بالدرجة الأولى إلى اختلاف العلاقة التي تربطه بالقارئ«فكل قارئ ينفعل انفعالا خاصا به مع أنه يسلك عين سبل القراءة التي يفترضها النص على جميع القراء وعليه فإن القراء يطلون على الأحداث الروائية من خلال وجهة نظر الشخصية ويتباهون معها ولكن ردود أفعال هؤلاء القراء أمام هذا التماهي الآلي الذي تثيره المعرفة المشتركة، تختلف اختلافا قد يكون كبيرا فمنهم من يرى في كل ذلك إثراء في معرفة الشخصيات وخبايا نفوسها ويوافق بالنتيجة على سلوكها أو يقبل بعض الشيء ولكن بعضهم يرى في ذلك مبررا لإدانة الشخصية أخلاقيا»(82 )، مثلا شخصية عزيزة ، شخصية امحمد لملمد، شخصية الغراب ومع ذلك فشخصيات جلاوجي تعيش صراعا نفسيا واجتماعيا وسياسيا وثقافيا، تعيش أزماتا ومحنا وتركن خلف سرادق الفجيعة، عبر عنها الكاتب بكل واقعية تمس كل الفئات وشرائح المجتمع وهذا أمر طبيعي، لأن الكاتب ابن مجتمعه وأمته ولا يكتب خارج إطارهما وبالتالي فالرواية ليس بمقدورها«قط أن تعرض كونا يختلف الاختلاف كله عن العالم الذي نعيش فيه»( 83 )، «فالنص الروائي يعجز عجزا كاملا عن إبداع شخصيات تختلف اختلافا كاملا عن الشخصيات الحية التي يحتك بها القارئ في حياته اليومية»( 84 ) ونحن نصادف الآلاف من شخصية عزيزة في حياتنا اليومية والآلاف من الشخصيات المضطهدة والمغمورة حقوقها، كشخصية عمي صالح وكذا العديد من الأشخاص الذين يقضون حياتهم مطاردين باحثين عن الراحة كالشخصية الرئيسية في السرادق. وغيرها من الشخصيات التي ما هي في الحقيقة إلا نماذج مصغرة لشخصيات موجودة حقيقة في حياتنا، بل إن أكثر المخلوقات غرابة كما ألفينا ذلك في رواية (س.ح.ف)حاكم المدينة السيد غراب، ونائبه السيد لعن إضافة إلى (الفئران، النخلة سنان الرمح...) فهي «تظل تحتفظ بصفات وخصائص يستعيرها المؤلف من تجربة العالم الحقيقي الواقعي»( 85) وليست هذه المخلوقات في نهاية المطاف إلا كائنات بشرية مشوهة ولنتأمل النص التالي عندما يصف الكاتب الغراب قائلا«كنت حدثتكم عن الغراب وهو طويل نحيل أطرافه ضعف جذعه المتكور ككرة مطاطية كبيرة...الامتداد فيها إلى الأمام والخلف أكبر بكثير من امتداده وعرضه، يرتدي في العادة لباسا أسودا صنع خصيصا من ريش الغربان، يظهر في بعض الأحيان جناحان يستطيع أن يطير بهما حيث يشاء ويريد كما يتحول فمه وذلك أمر نادر إلى منقار أبيض حاد خاصة في عيد الغربان... ويقال أن أظافر قدميه مخالب ولولا الحذاء ينتعله معكوسا لأنكشف أمره»( 86 )«هذه كلها صفات بشرية اكتفى الكاتب بتضخيمها مستعيرا من عالم الإنسان والحيوان وسبب ذلك أنه يستحيل على المؤلف أن يصف وصفا كاملا إنسانا حقيقيا»(87 )و حتى في توظيفه-الكاتب-في الشخصيات التاريخية (حي بن يقظان) لم يتوغل في وصفها أو لشخصيات شاركت في ثورة التحرير يشير «أنها شخصيات حقيقية نالت شرف الشهادة في سبيل الله أثناء ثورة التحرير المباركة ويضيف قائلا: أن الجميع يشهد بشجاعتهم الأسطورية»( 88 )، فالكاتب يترك المجال مفتوحا للقارئ لأنه يدرك أن «هؤلاء الأشخاص التاريخيون يستمدون كثافتهم وقوامهم من ثقافة كل قارئ عربي والتحامه بتاريخيه وهم يعيشون بكليتهم في ضميره وبما أن الرواية تعجز عن الإحاطة الشاملة بهم (فإن كل رواية من الروايات الثلاث) تسكن إلى معرفة قارئها في تاريخه ليكمل ما لا يذكره النص الأدبي»( 89)، إنها دعوة لضرورة توفر قارئ متشعب الثقافة، وحتى في وصفه -الكاتب-«للشخصيات الروائية أو إطارها الجغرافي أو الموقف الروائي وصفا كاملا فإن القارئ يكمل السرد من خياله حسب ما يظهر له أنه محتمل أو قريب الوقوع»( 90 )، كتركه لنهاية النصوص الروائية مفتوحة من خلال عدم إفصاحه على النهاية التي آلت إليها كل مدينة.
[1]