شهداء مجانين
نشرت جريدة النهار في العدد الصادر نهار الأحد التاسع والعشرين من شهر آذار الخبر الآتي:"أفاد بلاغ لشعبة العلاقات العامة في المديرية العامة لقوى الأمن الداخلي أمس أنه في تاريخ 28/3/2008، وقبالة صخرة الروشة عثر على جثة رجل مجهول الهوية في العقد الرابع، طول قامته حوالى 170 سنتيمتراً، ممتلىء البنية، أشيب وأسود الشعر، حليق الذقن والشارب، يرتدي قميصاً أزرقاً وباجاً وبنياً وسروال جينز أسود، ينتعل حذاء أسود، ويوجد وشم باسم "إيمان" على صدره الأيسر وآخر بعبارة "عذابي معك" على كتفه اليسرى. نقلت الجثة إلى براد مستشفى رفيق الحريري الحكومي.
وبناء على اشارة النائب العام الاستئنافي في بيروت القاضي جوزف معماري، تطلب المديرية العامة لقوى الأمن الداخلي من ذويه أو ممن يعرف عنهم شيئا، إبلاغهم الحضور إلى المستشفى للتعرف اليه والإتصال بفصيلة شرطة الروشة على الرقم: 797238/01 تمهيدا لتسلّمه."
قد يكون هذا الخبر، خبراً عادياً يشير إلى إنتحار شخص في لبنان، هذا البلد الذي تكثر فيه الدوافع للإقدام على فعل كهذا. فمن الوضع المعيشي المتأزم إلى تدهور الحالة الإقتصادية، وإزدياد نسب البطالة بشكل مضطرد بين الشباب، إلى تردي الأوضاع الأمنية، وإنحطاط الأفكار السياسية. كلها أسباب وجيهة وكافية لفقدان الأمل بالحياة واليأس من أهمية الوجود والبقاء.
لكن مهلاً، لعل هذا الخبر وما يحمله من توصيف دقيق لجثة الضحية -المنتحر- يثير العقل والخيال مفبركاً صوراً مختلفة، فتصل بنا الأفكار إلى مكانٍ أخر، أراد محرر الخبر، حكماً، إيصالنا إليه. ألا وهو أن هذا المنتحر، سئم من حياته لا بداعي تردي أوضاعه المعيشية أو الإجتماعية، بل لأسباب عشقية بحتة.
فالنص المنشور من قبل القوى الأمنية، يشير إلى وجود وشم بإسم "إيمان" على صدره الأيسر، أي من جهة القلب (الرمز الأول للحب). وعلى كتفه الأيسر عبارة "عذابي معك". إفتراضاً -لا جزماً- أن هذا المواطن المنتحر بالقرب من صخرة الروشة في بيروت، يعشق إمرأة تدعى "إيمان" فسجل إسمها على قلبه، بطريقة رمزية ليثبت مدى حبه لها، وقد مرت هذه العلاقة العاطفية في أزمة معقدة محطمةً إياها (أي العلاقة)، فإضطر بعد أن ضاق به حاله إلى السير بإتجاه الموت: فإما أن يكون معها، وإما لا يكون أبداً.. وهذا ما حصل فعلاً. لقد إنتحر من كان يحبك يا "إيمان".
الرجل، وكما يدل الخبر المنشور في الصحيفة، في الأربعين من العمر، أي في المرحلة الأخيرة الفاصلة بين الشباب والكهولة، وهذا ما يربك النص السردي للحكاية، حيث أن الأشخاص في هذا العمر، غالباً ما يكونوا قد قطعوا مرحلة الحب ودخلوا بيوت الزوجية. لكن هذه القاعدة غير ثابتة بتاتاً، فالحب وكما تشير التجارب الإنسانية، لا يفرق بين كبير وصغير.. وحتى قد تكون هذه العلاقة العاطفية قد إنهارت بعد الزواج، ولما لا؟
وفي ظل غياب، أي دليل ملموس عن سبب إنتحار هذا الإنسان، نسمح لأنفسنا أن نفترض أنه إنتحار من أجل الحب، ونجيز لخيالنا، من بعدها، أن يخط أفكاراً حول دواعي إنتهاء قصة الحب هذه.
تخيل الأحداث
كان الموعد، كما إتفقوا سابقاً، وكما جرت العادة، مساءً في المطعم المواجه تماماً لصخرة الروشة. وصل هو قبلها، وحجز تلك الطاولة على الجهة اليسرى، لأن الحب يتمركز على الجهة نفسها، ولأن هذه الطاولة تحديداً، جمعتهما سوياً في السنين العشقية السابقة، ويضاف إلى ذلك إنتماؤه السياسي، فهو يساري أباً عن جد. كل من في المطعم يعرفه، ويعرفون قصته، مع الجميلة "إيمان". حين يطل، يبتسمون، ويتغامزون وتسرح أفكارهم في قصة الحب تلك، التي طالت دون أن تصل، حتى الآن إلى خاتمتها السعيدة. دخل المطعم متوجهاً مباشرة إلى "طاولتهما معاً"، وفي يده وردةً حمراء، تاه أريجها وسط الروائح الإصطناعية التي يستخدمها الناس، لكنها ترمز، كما كانت وكما هي الآن وكما ستظل إلى الأبد، إلى العشق والهوى والوله الذي يعيشه.
كان مشغول الفكر، فهو إعتاد في كل لقاء منذ المرة الأولى، أن يبدأ الحديث بقصيدةٍ غزلية، يحضرها قبل أن يأتي، كأنها فرضاً واجباً. اليوم تحديداً، كان مشوش الذهن أو لنقل أنه كان محتاراً، بين أكثر من قصيدة، يراها مناسبة لهذا اليوم الممطر. لم ينتبه لوجود أحد، تناسى المكان، وظل ينظر في أفكاره وحيرته والباب في الآن معاً. حتى دخلت "إيمان" صاحبة القامة الممشوقة، والعينين الصغيرتين، والسمرة الهادئة. دخلت فدخل في قفص حضورها، أصبح كالأسير المقيد بسلاسل من غرام. وقف وحمل وردته الحمراء، وتلفت كل العاملين في المطعم إلى هذا المشهد، وكانت إيمان، لا تحمل ورداً، ولا قصائداً، بل إبتسامةً خافتة، كأنها مصطنعة. عيناها لا تلمعان: الملاحظة الأولى. تمشي في بطء مريب ومخيف: الملاحظة الثانية، قال في نفسه. العيون كلها كانت مشدودة نحوهما، العارفون وغير العارفين، فللعشاق جاذيبة لا تقاوم، تفضحهم دوماً.
تقدمت نحوه ببطء على غير عادتها، وبهدوء مثير وبلادة أخذت الوردة وجلست، وتجاهلت الطقس اليومي: القبلة. وهو أيضاً، تغاضى عنها، فربما تكون حبيبته في حالة نفسية سيئة فقد أحس صباحاً بذلك حين هاتفها، وعليه الآن أن يسرها بقصيدة إختارها لها سريعاً، بعد تردد طويل، فقال لها:"الأن يا حبيبتي، القصيدة اليومية، إنها لمن تحبين، إنها لنزار. وكأنه يعبر عن ما أحسست به البارحة فور إنتهاء لقاءنا تحت المطر، إسمعِ عقدة المطر إذن:أخاف أن تمطر الدنيا ولست معي/فمنذ رحتِ وعندي عقدة المطر/كان الشتاء يغطيني بمعطفه/فلا أفكر في برد ولا ضجر/كانت الريح/تعوي خلف نافذتي/فتهمسين تمسك هاهنا شعري...".
لم تأبه إيمان، لقصيدته، لم تحرك ثغرها مبتسمةً كعادتها، خارج المكان كانت، تضع عازلاً بينها وبينه لأول مرة منذ ذلك اليوم. توقف، ومد يده يتحسس فيها جسد حبيبته، تسحب يدها بسرعة، تهرب من ملامسته، ومن بعدها ترفع رأسها، وقد بان الشحوب على وجهها، وتهمس من خلف شفتيها:"أريد أن أقو.."، ثم توقف الحديث وتصمت من جديد. هاج غضباً وإستفزازاً "ما بكِ يا حبيبتي، قولي لي، ماذا يزعجك؟" قال لها. كانت شاردة العينين والتفكير، تنظر فقط في الطاولة، وتهرِّب عيناها من مواجهة عينيه.. خوفاً منهما. بدأ يستبيح عقله، هنالك أمر ما يمنعها من الكلام، أمر خطير يحزنها. ومن ثم قالت له سريعاً كمن يدفع الوقت مستعجلاً:"ما بيننا قد إنتهى، إلى متى سنبقى في هذا المطعم؟ أليس من حقي أن أمتلك منزلاً، بدلاً من طاولة؟ إلى متى؟ أوضاعك لن تتحسن، البلد يسير إلى الوراء بإستمرار، إنخفاض الأجور وإرتفاع الأسعار، وأنت كما أنت.. وأنا ما عدت أستطيع التحمل أكثر من هذا.. أنا أحبك، لكن ما الفائدة؟ دعنا ننفصل بسلام.. أرجوك". لم تنتظر الرد، لا يعنيها، لقد حسمت الأمر، وحملت نفسها، ومشت مسرعةً بإتجاه الشارع، ولم تلتفت مرةً واحدةً إلى الوراء. أما هو فلم يفهم ماذا قالت، إعتقد بدايةً أنه لم يفهم، لكنه فهم ماذا تقصد بعد أن عاد من قوة صدمة كلمة "ننفصل" التي قالتها. فكر جيداً وعرف ما قصدته بكلامها السريع المتداعي، لكنها رحلت. فوقف وخرج.
كان حزيناً بالطبع، لكن لا أحد يعرف إلى أين ذهب.. إختار لنفسه عزلة أبدية. جرب الإتصال بها، لم تجب، أقفلت الهاتف في وجهه مراراً، أرسل لها رسالة، يرجوها أن تعدل عن رأيها، ولم تعدل. عرف حينها أن كل شيء قد إنتهى.
ظل مستيقظاً حتى الصباح يمشي في الشوارع، وكان المطر يرافق وحشته وألمه المرير. في التاسعة صباحاً وإحدى عشرة دقيقة أرسل لها أخر رسالة عبر الهاتف قال فيها:"أنا أحبك يا إيمان، لا تفعلي هذا. أيعقل أن تتركيني بهذه السهولة؟ أعدك بالزواج الآن، عودي أرجوك". لم يأتِ الرد ولن. قبل ذلك، كان المنتحر قد أوقف سيارة أجرة في الواحدة بعد منتصف الليل وطلب من سائقها إيصاله إلى منطقة البسطة حيث تقطن إيمان. هناك وقف كثيراً ينظر في غرفتها المعتمة. فكر كثيراً بالصعود ولكنه خاف. فكر بالصراخ ليلعن حبه للملأ. لكن صوته إختفى فجأة، الحزن والبرد قد أفقداه صوته. "لا معنى لوجودي..بلا حبيبة، بلا صوت. لا فرق على أية حال، كانت صوتي والآن، رحلت، لكن لما؟ لم أفهم، بلى فهمت، لكني لم اقتنع" كان يقترب من باب البناية ومن ثم يتراجع سريعاً. حتى شعر الحاجب بحركات هذا الرجل الغريبة، في ليل بيروت الموحش منذ أعوام. فلقد أصبحت أي حركة تثير الشك. الخوف يتلبس الجميع هنا. حتى هذا المنتحر خاف من تأملات الحاجب، فهرب عائداً إلى منطقة الروشة سيراً على رجليه.
لم يعرف أين يذهب، ظل يمشي، ولا أحد يعرف أين ذهب، سوى صديقه سمير الذي إلتقاه صدفةً قبالة البحر، رأه وهو في سيارته، حدثه فلم يجب، وكان وجهه أصفر اللون وشاحب، وعيناه حمراوين. ندهه ليتوقف، ليسلم عليه، لكنه لم يجب. كأنه لا يسمع، لا يبصر. كان يسير وينظر إلى الأمام فقط. فتركه سمير، وأكمل طريقه بإتجاه عمله. كان ذلك في العاشرة إلا خمس دقائق، صباح نهار الجمعة الواقع في 27/3/2008.
وقف العاشق المقهور، أمام صخرة الروشة لمدة خمس دقائق، حكى كثيراً، قال في نفسه الكثير من الكلام، لكن لم يسمعه أحد، حتى هو نفسه لم يسمع. رأى نفسه وحيداً، ورأى المطر، ورأى الصخرة، ورأى البحر يهوج أمامه وفيهم جميعهم رأى تلك المرأة التي تدعى إيمان.. كل شيء إستحال إيمان وهي راحت. الطقس بارد، وقلبه وعقله باردان. فكر في نفسه، وفي إيمان، وكيف سيعيش منذ الآن من دونها؟ "لا يمكنني" قال. ثم إستدار ومش خطوة بإتجاه الشارع.
كان الطريق شبه خاليه، لم تفلح خطته الأولى، مشى بإتجاه الجهة اليمنى قبالة الصخرة، وهو ينظر فيها، يفكر بالوصول إليها. فكر بالطائرة، لكنه لا يملكها، ولا يملك أجنحةً. "أفكار طفولية سخيفة" سخر من نفسه. ظل يمشي، حتى رأى إنحداراً قوياً يوصله إلى الرمل والحصى القريب من البحر، نظر فيه جيداً، عرف أنها الطريق إلى هناك، نزل منها، وقع مرتين، لم يأبه، لم يجرح، لم يخدش.. فقد الحس والشعور، مشى على الحصى، كأنه يمشي على الإسفلت، لا فرق.
في تلك الساعة، عندما تأتي الساعة، يصير كل شيء هنا، في الوجود عدماً وتتلاشى الأبعاد والصور، تهزل وتضعف ويثبت الزمن عند تلك النقطة.. مشى، مشى بقوةٍ وسرعة، لم يرَ أحداً سوى الصخرة والبحر وإيمان. ظل يمشي، كان يمشي، وهو يمشي الآن. صارت خطوته تتثاقل، يخطو مئة خطوة، كي يتقدم قليلاً إلى الأمام. ثقل جسده كله، ما عاد يشعر، بنصفه السفلي، رأسه كان يتفجر، كان يصرخ.. يتوجع يتألم؟ لا. كان يصرخ ليندفع إلى الأمام، لكنه كان يعود إلى الخلف، كأن هناك شيء يدفعه إلى الوراء، كلما تقدم خطوة. فكر أن الله يمنعه من الوصول، ولكنه لم يلبث في التفكير في هذه النقطة حتى إرتطم بشيء، خال للوهلة الأولى، أنها الصخرة، شاهد الصخرة عكس حقيقتها ورأى البحر وقد طاف على كل الدنيا، ورأى إيمان على الصخرة وفي البحر وعلى قلبه تنقش روحها وجسدها، فقد سقط مغمياً عليه وغرق.
الحقيقة، أنه مشى في البحر، لا كالسيد المسيح، ذاك مشى على البحر، أما هو فمشى في البحر. لم يمشِ أبداً ومن ثم إرتطم بالجدار الذي يفصل الشارع عن البحر، وغرق في مائه، وتناقلته الأمواج القوية يومها. حتى رأته إمرأة كانت تمارس رياضة المشي السريع في صباح اليوم التالي وأبلغت رجال الشرطة بالأمر.. مات إذاً من كان يحبك يا إيمان.
كان عليه الآن فقط أن يكمل القصيدة التي بدأها مساء البارحة:"وألان اجلس والأمطار تجلدني/على ذراعي على وجهي على ظهري/فمن يدافع عني يا مسافرة/مثل اليمامة بين العين و البصر/كيف أمحوك من أوراق ذاكرتي/وأنت في القلب مثل النقش في الحجر/أنا احبك يامن تسكنين دمي".. هو الموت فقط، الذي يضمن للعاشق أن ينسى أساه ووجعه.
لكن هذا العاشق، ليس الوحيد أو الأول في العالم، الذي يقدم على هذه الخطوة الدرامية، فقد سبقه الكثيرون، وسيلحقه أيضاً العديد من العشاق.
روميو وجولييت
الحكاية تبدأ من صراع وعداوة بين عائلتين –آل كابيوليت وآل مونتيغيو- في مدينة فيرونا الإيطالية. وإلى هاتين العائلتين ينتمي كل من روميو وجولييت. اللقاء الأول بين الحبيبين يتم في حفلة تنكرية في قصر آل كابيوليت (عائلة جولييت) بعد أن إستطاع روميو دخول الحفلة خلسة مع صديقيه. وهناك رأى شابة مقنعة ترقص ببراعة. فأحبها دون أن يعرف من تكون. وفي نهاية الحفل وبعد أن تحادثا لبضعة دقائق علم أنها جولييت إبنة اللورد كابيوليت، وفي الليلة نفسها إلتقيا من جديد على شرفتها فأعلن لها حبه، وصارحته جولييت بحبها وتعهدت البقاء معه شرط الزواج منها.
وفي اليوم التالي تزوج روميو من جولييت بمساعدة الأخ فلورانس (رجل دين) ولكن الأمر بقية سراً بين هؤلاء الثلاثة إضافة إلى العجوز مربية جولييت. لكن هذا النهار أبى أن ينتهي، دون وقوع مجزرة في المدينة فقد أقدم تيبلت (إبن عم جولييت) على قتل مركوشيو (صديق روميو) بعد أن حاول قتل روميو إعتراضاً على حضوره الحفلة التنكرية، فتحشاه روميو مراراً، لكن بعد أن قتل صديقته دخل المعركة مواجهاً لـ تيبلت فصرعه وهرب مسرعاً نحو الأخ فلورنس لأن الأمير قد وعد بقتل أو نفي من يسبب المشاكل في المدينة من هاتين العائلتين.
وبعد مرور فترة من الزمن على نفي روميو عن المدينة، تقدم لجولييت كونت باريس طالباً الزواج منها فوافق أبوها ولكنها إعترضت فلجأت إلى فلورنس كي يساعدها على الهرب من قرار والدها، فقالت له:"أنا أفضل الإنتحار على الزواج منه"، وهنا خطرت على بال فلورنس فكرة إعطائها مهدئاً يدخلها في غيبوبة أشبه بالموت لمدة إثنين وأربعين ساعة، عندها يظن أهلها أنها ميتة، فتنقل إلى المدفن ويتولى الأخ فلورنس أمرها، وفي أثناء ذلك يرسل رسولاً إلى روميو ليعلمه بتفاصيل خطته. لكن خللاً طرأ على الخطة، فتأخر الرسول بالوصول إلى روميو، ووصل مكانه خادمه (خادم روميو) الذي أخبره بوفاة جولييت. فحزن وغضب وقرر الموت فإشترى السم وعاد إلى فيرونا كي يلقي نظرة أخيرة على حبيبته. وفي طريق عودته، إلتقى بعريسها المفترض الكونت باريس، فمنعه هذا الأخير من دخول القبر بسلام، فتحاربا وإستطاع روميو قتله، ولكنه تمنى وهو يزفر أنفاسه الأخيرة أن يوضع بالقبر إلى جانب جولييت فحمله روميو إليها. وصل إلى القبر ورأى الجميلة جولييت ترقد بسلام فقبلها وقال:"هنا سوف أبقى، سأجعله رقادي الأخير" وشرب السم الذي أحضره معه. وبعد أن أفاقت جولييت من غيبوبتها ورأت زوجها روميو ميتاً إلى جانبها ويحمل في يده زجاجة السم، فهمت أنه لم يشأ العيش بدونها وهي لن تعيش بدونه فعانقته للمرة الأخيرة، وأخذت خنجره وطعنت به نفسها. وأخيراً أمام هذه المذبحة الغرامية تصالحت العائلتان.
الأصمعي
هذه القصة لا تحتاج إلى أي تعليق أو تقديم لوضوح تعبيرها فقد رويَّ عن الأصمعي (123-216 هـ) قوله:"بينما كنت أسير في بادية الحجاز.. إذ مررت بحجر كتب عليه هذا البيت :
يا معشر العشاق بالله خبروا إذا حل عشق بالفتى كيف يصنع
فكتب الأصمعي تحت ذلك البيت :
يداري هواه ثم يكتم سره ويخشع في كل الأمور ويخضع
ثم عاد في اليوم التالي إلى المكان نفسه فوجد تحت البيت الذي كتبه هذا البيت:
وكيف يداري والهوى قاتل الفتى وفي كل يوم قلبه يتقطع
فكتب الأصمعي تحت ذلك البيت :
إذ لم يجد صبراً لكتمان سره فليس له شيء سوى الموت ينفع
قال الأصمعي : فعدت في اليوم الثالث إلى الصخرة فوجدت شاباً ملقىً وقد
فارق الحياة وقد كتب في رقعة من الجلد هذين البيتين :
سمعنا أطعنا ثم متنا فبلغوا سلامي إلى من كان للوصل يمنع
هنيئاً لأرباب النعيم نعيمهم وللعاشق المسكين ما يتجرع."
لماذا ينتحر العشاق؟
إن "العشاق الذين ينتحرون كثيرون وليس من الصعب تفسير هذا الانتحار، فالعاشق الذي يتعرض لليأس في حبه، يسيطر عليه إحساس واحد بأن حياته من دون الحب لا معنى لها؛ فالحياة مرتبطة بالحب كل الارتباط، بل لعل الحياة عند هذا العاشق تكون هي الحب ولا شيء سواه... ولذلك فإن هذا النوع من العشاق عندما يصطدمون بعقبات تؤدي بهم إلى الحرمان من حبهم، فإنهم لا يترددون في التخلص من حياتهم." (الأديب الراحل رجاء النقاش). من جهة أخرى لا نستطيع أن ننفي دور العامل النفسي، الذي يحيط بحياة العاشق المنتحر، فإندفاعه للتخلص من حياته، يؤكد على أنه فاقد للقدرة على التفكير نتيجة الإحباط الذي يعيشه، وهذه الحالة يصاب بها العاشق، في لحظات إنفعالٍ أولية، تخرجه عن طوره، فينحرف في إتجاه الموت ببساطة..
يعتقد ربما، أن هذا الإنتحار، هو فعل وفاء. لكنه في الحقيقة فعل جنون. أن ترمي بنفسك في الموت، لأجل تجربة مهما كانت عنيفة ومؤلمة، فهذا قمة الفشل. هذا هو الفشل الأكثر فشلاً من فشل العلاقة العاطفية نفسها.
في مجتمعاتنا نستمتع بقصص الحب تلك، التي تنتهي بمأساة، التي تنتهي على جثث "شهداء الحب" لأنها الأروع والأكثر إثارة، لكننا في المقابل، نرى فيها "لحظة عبثية إنفعالية"، و"فهم خاطئ لمفهوم الحب الذي هو أساساً قيمة حياة لا موت، والإنتحار ما هو إلا نتيجة ضعف الثقة بالذات" أو "وسيلة جبانة أمام غريزة الحياة".
لا ريب أن الفشل العشقي، يشكل صدمة قوية للعاشق، ويضعه أمام هاجس الوحدة، التي كان قد تخلى عنها لمدة طويلة ماضية. هذا الهاجس المرعب، يجعله يتخبط بإشكاليات عن ماهية وجوده. البعض يتخطاها ويعود إلى رشده، إلى حياته الطبيعية، بحثاً عن حب جديد. والبعض الأخر، يرى قلبه أمام جدارٍ لا يمكن إختراقه فيسود الظلام القاتم، مسقطاً إياه في دوامة نفسية متأزمة، سوداء غريبة، توصله إلى حتفه.
اللحظات الأخيرة، قبل الإقدام على الفعل، مليئة بالأفكار والتصورات والخطط.. فيرسم بشحوب وجهه الأمل والرغبة والأهداف. فهو يهدف من موته الفظيع هذا، حسبما يفكر قبل إقدامه عليه، إلى تسجيل نقطتين خالدتين مؤثرتين على صفحات الحياة الدنيوية. الأولى: إثبات إخلاصه الأبدي لمحبوبته، أمام عائلته (وعائلتها) والمجتمع. والثانية: إدخال الشريك السابق (المعشوق) في محور عقدة الذنب الأبدية بإعتباره المسؤول الأول عن مصرعه. وهنا يبرز التناقض المرضي الواضح لدى العاشق-المنتحر، فكيف يمكن لمن أحب فعلاً، ويسعى إلى إثبات كِبَر وجده، أن يفكر مجرد التفكير في تعذيب معشوقته (أو معشوقه) إلى أبد الآبدين؟
أراء علمية حول الإنتحار
ويرى عالم الإجتماع دوركايم أن الإنتحار يشيع حيث يقل الإنسجام بين الفرد ومجتمعه. أما مؤسس مدرسة التحليل النفسي فرويد فيقول أن الإنسان تتجاذبه غريزتان تنصرف إليهما جميع قوى النفس الفطرية، هما غريزة الحب-الحياة (الإبداع، الخلق، والتعلم، والزواج، الإنجاب والسعادة) وغريزة الموت (التدمير، التضحية بالنفس والهرب من الواقع). والمنتحر –حسب المنطق الفرويدي- ليس سوى شخص ضعف رصيده من غريزة الحياة (الحب) فآثر الهروب إلى الموت. ويرى علماء آخرين أن الإنتحار يرجع إلى أن الشخص المنتحر يكون قد نظم حياته حول أمر بعينه جعله كل شيء بالنسبة إليه، كالمحب الذي يجعل حبيبه كل شيء في الوجود فإذا فقده ضاعت قيمة الحياة في نظره، وأصبحت لا تساوي شيئاً يستحق العيش من أجله، فيسرع إلى التخلص منها. وقد تكون النظرية الأخيرة الأقرب إلى المنطق الطبيعي، وإلى منطق قصتنا سالفة الذكر.
ويشير تقرير لمنظمة الصحة العالمية-نقلاً عن إيلاف- أن شخصاً واحداً ينتحر-لعدة أسباب غير الحب أيضاً- كل أربعين ثانية، وأن نحو مليون شخص يموتون في العالم من جراء الانتحار سنوياً كما أن عدد حالات الانتحار في العالم ارتفعت منذ عام 1955 بمقدار 60 بالمائة، وأوضح التقرير إلى أن أكثر الناس ميلاً للانتحار هم سكان الدول المتقدمة ولاسيما الوسطين الأوروبي والآسيوي فيما تتراجع حالات الانتحار في أمريكا اللاتينية والإنتحار لدى الرجل أكثر منه لدى النساء، بإستثناء الصين حيث العكس.
شهداء مجانين
رغم كل ذلك، لا نستطيع إلا نعتهم بالشهداء. فلقد صرعهم ذلك الأحمر المجهول. الآسر، المتحكم، الأمر. كل هؤلاء، الذين قضوا إنتحاراً بالعشق، كانوا من ضحايا الحب، السر الأعظم-الأخطر-الأجمل في هذا الوجود. رغم عللهم المرضية البارزة للجميع، لا يمكننا أن نتجاهل بطولتهم وشهادتهم، فلقد قدموا أرواحهم وأجسادهم على مذبحه بكل جرأة، لأنهم آمنوا بأن هذه الحياة، إن خلت من الحب، تنتهي قيمتها-لا معنى لها، وأيقنوا أن الموت أفضل مئة مرة من العزلة والوحدة، وأن الجرح الذي يسببه الفراق والإنفصال والمجتمع والخيانة، لا تشفيه الأدوية ولا الكلمات مهما كثرت وإستفاضت، وأدركوا أن الحب هو واحدٌ ولذته لا تتكرر كيفما إتفق أو كلما رغبنا في ذلك.
ولا يمكننا، مهما قلنا، أن نكون أكثر إنصافاً وصدقاً من شاعر، في التعبير عن ذلك، فها هو نزار قباني، يرثوا شقيقته الشهيدة العاطفية فيقول: "في تاريخ أسرتنا حادثة استشهاد سببها العشق. الشهيدة هي أختي الكبرى "وصال" قتلت نفسها بكل بساطة وشاعرية منقطعة النظير لأنها لم تستطع أن تتزوج بحبيبها. صورة أختي وهي تموت في لحمي ولازلت أذكر وجهها الملائكي، وقسماتها النورانية، وابتسامتها الجميلة وهي تموت... كانت في ميتتها أجمل من رابعة العدوية، وأروع من كليوباترا المصرية. حين مشيت في جنازة أختي، وأنا في الخامسة عشرة، كان الحب يمشي إلى جانبي في الجنازة، ويشد على ذراعي ويبكي. وحين زرعوا أختي في التراب، وعدنا في اليوم التالي لنزورها، لم نجد القبر، وإنما وجدنا في مكانه وردة"(من كتاب قصتي مع الشعر). ويقول إبن حزم في كتابة طوق الحمامة:"من عَشِقَ فعفًّ فمات فهو شهيد"... إذاً تكرسوا شهداء.
هم شهداء وقبورهم ورد حبق وياسمين. أجسادهم سحب خفيفة الظل، نقية طاهرة، أجساد ملائكة بيضاء ساحرة. رمادهم ملح الحياة والبقاء لأنهم الحب، إنهم شهداؤه. شهداء مجانين. وأليس الحب هو الجنون بعينه؟ لما العجب إذاً، إن أقدم أحدنا على الإنتحار لـ و من أجله؟
أخيراً، لا يسعني إلا الإعتذار، من الشخص المنتحر الذي تناولته في بداية هذا النص، فمهما كان سبب إنتحاره، فقد إختار بشجاعة –حتى ولو كانت مرضية- نهايته وموته. أما نحن البشر الأحياء، فما زلنا نصارع في وجودنا، ننتظر من يأخذ لنا حياتنا ويقصر أعمارنا، سرقةً ونهباً، دون أن ننبس ببنت شفة.. فتحية لروحك، السابحة في بحرك يا بيروت.